1 ـ قبل الفتح العربى الإسلامي كانت هناك حضارة مصرية امتدت لعدة آلاف من السنين ، ثم أعقبها وقوع مصر تحت حكم أجنبى ، منه ما كانت له خلفية حضارية مثل الأغريق والرومان استفاد بها المصريون . ومن هذا وذاك كان للمصريين قبل الفتح العربى معارف تاريخية منها ما كان مدونا مكتوبا على المعابد والاثار ، ومنها ما كان محفوظا فى البرديات ، هذا عدا التدوين الرسمى الادارى فى الدولة المصرية ـ أقدم دولة فى العاالم ـ فيما يخص الضرائب و تننظيم الرى والصرف وشتى أمور الحكم وإدراته ، وحفظ ذلك كله فى سجلات ، واستمرت هذه الادارة بسجلاتها أثناء حكم الإغريق ثم الرومان ، ثم ورث العرب ذلك كله ، وقاموا بتعريبه ، ولكن ظل فى يد المصريين ، أوالأقباط الذين احتكروا الكتابة فى الدواوين بعد الفتح العربى ، واضطروا الى تعلم اللغة العربية ليظلوا محتفظين بادارة الدولة المصرية من الداخل .
وهناك التراث الثقافي اليهودي المسيحي في التوراة والإنجيل وما تضمنه من أخبار تخص مصر وشعبها وخصائصها ، ولا يزال اسم مصر وتاريخها أساس القصص فى التوراة ،(ثم فى القرآن الكريم فيما بعد ) .
ثم كان لدى المصريين مؤلفات تاريخية متداولة باللغات القبطية والإغريقية والرومانية ، هذا إلى جانب التراث الشعبي عن القصص المتداولة عبر الأجيال وهي نوع وسط بين التاريخ الدقيق والخرافات الأسطورية وأن كانت تشي بالكثير من معتقدات المصريين وعاداتهم وتاريخهم الاجتماعي .
وبعد الفتح العربى الإسلامي أضيفت للعناصر التاريخية في مصر السيرة النبوية والمغازى ثم الفتوح وما يختص فيها بالذات بفتوح مصر ثم المغرب والأندلس ، حيث كانت مصر هى البوابة التى انطلقت منها فتوحات العرب الى شمال افريقيا ثم الأندلس .
2- وقد تكونت المدرسة المصرية التاريخية متأثرة بالشخصية المصرية والموقع الفريد لمصر حيث التاريخ التليد قبل الفتح والذي يمتد خمسين قرنا من الزمان ، وساعد على استقلالية المدرسة المصرية قلة الشخصيات العربية في مصر وقلة أعداد العرب من القبائل التي نزحت لمصر وإعراضها عن الاختلاط بالمصريين في هذه الفترة ، بالمقارنة بالشام والعراق حيث لا فواصل طبيعية بين الجزيرة العربية والشام والعراق ، وحيث عرف العرب التعامل مع الشام والعراق بل وتأسيس الأمارات على تخومهما قبل الإسلام .
وثمة عامل آخر حدد الشخصية المصرية في التاريخ وهي أن مصر كانت معبرا للفتوحات الإسلامية في المغرب والأندلس ، وقد قام بالفتوح فيهما العرب المسلمون الذين فتحوا مصر واستقروا فيها يديرون شئونها . وكان المشاركون فى تلك الفتوحات هم الرواة لما قاموا به من فتوحات ، وتكونت بهم مدرسة ربطت بين فتح مصر وفتوح المغرب والأندلس ، ووضعوا مؤلفات فى هذا الموضوع عرفت ( بكتب الرايات ) نسبة للرايات التي كانت تحملها فرق المسلمين في الفتوحات .
والعرب بعد أن استوطنوا مصر ارتبطوا بها وتغنوا بمآثرها فارتبط تأريخهم لها بتعداد مناقبها وفضائلها والإشارة بخيرها ونيلها وأثارها ، وأصبح ذلك عادة في كتب التاريخ لمصر وصلت الى أوجها فى كتابات المقريزى عن مصرورجالها وتاريخها وخططها العمرانية والاجتماعية ، وظلت إلى عصر متأخر كالسيوطي في كتابه (حسن المحاضرة فى تاريخ مصر و القاهرة ).
ووصل التغنى بمصر الى درجة وضع أحاديث على لسان النبى محمد تمدح مصر وأجنادها وتوصى خيرا بأقباطها وانها كنانة الله فى أرضه ، منها ما بلغ درجة من الحمق الفكاهى مثل ذلك الحديث الذى ذكره السيوطى (ت 911 ) فى كتاب ( حسن المحاضرة ج 1 ص 17 باب ذكر الآثار التى ورد فيها ذكر مصر : ) والسيوطى يروى ذلك الحديث بسنده يقول ( الجيزة روضة من رياض الجنة ..).. فبشرى لأهل بولاق الدكرور !!.
3- وقد امتزج في المدرسة التاريخية المصرية جانبا التراث الفرعوني مع الفتح الإسلامي ، وافرز هذا التمازج لونا خاصا تميزت به المدرسة المصرية ظهر إلى جانب أخبار الفتوحات لمصر والمغرب والأندلس ، وهو القصص الوعظي وما يتصل به من أساطير وتنبوءات مستوحاة من تأثير البيئة المصرية وغموضها وأسرارها لدي الفاتحين الذين شاهدوا الآثار الفرعونية والمنقوش عليها من لغة مجهولة ، ومع أن تلك الأساطير تدخل في إطار الخرافات ألا أنها ظلت محتفظة بمكانتها لدى العلماء والمؤرخين طالما لم يصلوا إلى رموز اللغة المصرية القديمة إلى أن وصلت لنا تلك الأساطير عن فراعين مصر في بداية التاريخ لمصر ومدنها في ( خطط المقريزي ) و (حسن المحاضرة ) للسيوطي وتاريخ ( ابن إياس ).
بل إن هذه الأساطير التى صنعها الرواة والقصاصون العرب عن التاريخ الفرعونى وجدت طريقها مبكرا الى كتب الحوليات التاريخية المكتوبة فى العراق وفى العصر العباسى ، كما فعل الطبرى والمسعودى فى الحديث عن فراعنة مصر واسمائهم العربية . وعلى أى حال فهذه الأكاذيب الأسطورية كانت تعبر عن عقلية واضعهيا وثقافتهم ، شأن كل الأحاديث المنسوبة زورا للنبى محمد عليه السلام.
4- ويمكن أن نميز من أعلام المدرسة المصرية فريقين : فريقا أهتم بالقصص يخلطه بالخرافات والأساطير وفريقا آخر كتب التاريخ ورواه .
فمن أصحاب هذه القصص ( أبو سلمة التجيبى ) ولاه معاوية القضاء وأوب من بمصر وقد كان القصص وظيفة رسمية في الدولة للدعاية للدولة ضد التشيع وأتباعه . ومنهم ( ابن وردان ) وهو أستاذ الليث بن سعد وابن لهيعة ، و ( أبو محجن ) ، و ( عقبة بن مسلم التجيبى ) و ( الجلاح الأموي ) و ( ابن سمعان ) ، و( ابن تعيم الحضرمي ) .
وكان أشهر القصاص في مصر ( المعافري ) ت 128 – وهو تلميذ ( عبد الله بن عمرو بن العاص ) وكان ( له علم بالفن والملاحم ) واستمرت مدرسته بمصر أكثر من قرنين .
5- ومن أصحاب التاريخ : كان جملة من رجال الفتح الإسلامي على رأسهم ( عبد الله بن عمرو ابن العاص ) ت 65 وقد شارك في فتح مصر، وتولاها سنتين بعد أبيه وشارك في فتوح أفريقيا وروى الحديث وأهتم بالتاريخ ، ويغلب على مروياته جانب الأساطير المتأثرة بالجو المصري .
ومنهم ( عقبة بن عامر الجهني ) ت 58 شهد فتح مصر وتولى أمرتها وروى أخبار فتوحها .
ثم تبعهم طبقة أخرى من التابعين منهم ( ابن ميمون الخضرمي ) و ( أبو خنيس ) و ( ربيعة بن يوسف ).
ثم تتابعت الطبقات فى الرواية الشفهية ليصل إلى أعمدة المدرسة التاريخية المصرية وأهمهم :-
*( يزيد بن حبيب ) ت 128 . وروى عنه ( ابن عبد الحكيم ) و ( الكندي ) من مؤرخي مصر المشهورين .
*( الحارث بن يزيد الخضرمي ) ت 130 . تتلمذ على يديه الليث وابن لهيعة والاوزاعي .
*( عبد الله بن أبي جعفر ) ت 135 مولي بن أمية عرف بالتاريخ والفقه والحديث .
*( جبر بن نعيم الخضرمي ) ت 137 قاض مصر وقاصها .
*( عمر بن الحارث الأنصاري ) ت 147 وهو عالم بالحديث والشعر والأخبار وقد تتلمذ لأولئك جميعا الليث بن سعد وابن لهيعة أكبر علماء مصر في هذه الفترة .
6 ـ ابن لهيعة :
( 79 – 174 ) تولى قضاء مصر للمنصور العباسي وعرف بالحديث والأخبار وكان مصدر الكثير من الروايات عن مصر من ( ابن عبد الحاكم ) إلى ( السيوطي ) ، وحفلت مرواياته بالكثير من الأساطير المنقولة من البيئة المصرية .
7 ـ الليث بن سعد :
( 94 – 175 هـ ) تفقه في الحجاز وأتم دراسته في بغداد وعاد الى مصر حيث اصبح علما فيها وصار له مذهب خاص بين الفقهاء يعبر عن السمة المصرية فى التسامح ، وله فتوى شهيرة وقف فيها ضد التطرف العباسى الرسمى الذى أراد النيل من الكنائس المصرية ، فاعلن الليث أن بناء الكنائس من العمران فى الاسلام ، ورفض أن يكون واليا لمصر للمنصور العباسي. وسمح له غناه الواسع بالاتصال بالعلماء والتراسل معهم وأن يكون أكثر معرفة بالحياة وأحوال مصر ، لذا كثرت الروايات التاريخية التي تنسب إليه ودخلت في كتب تلاميذه مثل ( ابن حبيب ) و ( ابن عبد الحكم )، ثم فيما بعد في العصر المملوكي ( كالمقريزي ) و( أبي المحاسن )و ( السيوطي) .
وكانت له مكانة لدى المصريين تظهر حتى الآن فى تسمية أبنائهم بالليثى ؛ نسبة الى الليث بن سعد . ومن أسف أن ضاع مذهبه الفقهى المعتدل بعد أن طغى عليه التطرف السنى.
وقد كان الليث أول من ألف في التاريخ ، واعتمد الكندي في كتابه ( ولاة مصر وقضائها) على ما أورده الليث بن سعد في كتابه .
وقد كون الليث بن سعد مدرسة من تلامذته في التاريخ والفقه وكان من أعلام مدرسته في التاريخ ( ابن وهب الفهري) ت 197 ، و ( ابن صفوان السهمي ) ت 219 و ( ابن رمح التجبيبي) و ( ابن أيوب الغافقي) و ( خالد المهري) و ( ابن المبارك ) و ( وابن مريم) وعنهم تكونت مدرسة أخرى كان أعلامها الكندي وابن عبد الحكم ومؤلفاتها وصلت إلينا .
8 ـ وحين حكم الفاطميون مصر وجعلوها خلافة فاطمية تنافس الخلافة العباسية السنية فى بغداد فان مدرسة مصر التاريخية دخلت بالتشيع مرحلة جديدة ، خصوصا مع بناء الأزهر معهدا علميا ودعويا للتشيع فى الداخل والخارج، وقد تم بناؤه مع بناء القاهرة نفسها عام 972 ميلادية . صحيح أن الخلافة الفاطمية ما لبث أن قضى عليها صلاح الدين الأيوبى الذى أرجع مصر الى النفوذ السنى إلا إن المدرسة المصرية التاريخية برموزها الشيعية ظلت حية خلال العصر الأيوبى وامتدت الى العصر المملوكى ، وهو العصر الذهبى فى التأريخ. وليس أدل على ذلك من قيام المقريزى أعظم مؤرخى مصر فى العصر المملوكى بوضع سفر ضخم فى تاريخ مصر الفاطمية هو (إتعاظ الحنفا )
9 ـ وبينما تضاءلت بالتدريج المدارس التاريخية في الشام واليمن والعراق فأن مدرسة مصر تطورت وتصدرت التأريخ للمسلمين منذ منتصف القرن السابع الهجري بعد سقوط بغداد وانتقال الخلافة العباسية للقاهرة حيث أصبحت القاهرة مركز الأضواء وعاصمة القوة والثقافة والحضارة في العصر المملوكي ؛ يفد اليها العلماء والفقهاء والمؤرخون وأرباب التصوف من الشرق ومن الغرب . وفي هذا العصر ظهر أعلام المدرسة التاريخية في مصر والعالم الإسلامي من الصفدى والغزى والنويرى والسبكى وابن خلدون والمقريزي وابن حجروالعينى وأبي المحاسن والسخاوي والبقاعي والصيرفى والسيوطى وابن اياس والعيدروس وابن زنبل الرمال.. وكثيرون ..
ثم جاء الحكم العثمانى بالجمود والظلام .. ومع ذلك أنجبت المدرسة المصرية أعظم مؤرخ فى وقته هو الجبرتى الذى كتب يؤرخ للحملة الفرنسية وما قبلها ومابعدها فى (عجائب الاثار ) و(مظهر التقديس ) .
هذه المقالة تمت قرائتها 247 مرة
التعليقات (1)
[25895] تعليق بواسطة واصل عبد المعطي - 2008-08-19
تابعي...تابعي هو بالتعريف تابعي!
الدكتور الأستاذ أحمد منصور
نعم لنتجاوز عن هل الزهري من التابعين أم من تابعي التابعين كما تريد!
أحب أولاً أن أوضح لك أنني هاجمتك دفاعاً عنك (ليس دفاعاً عنك كشحص فهذا ليس موقفاً شخصياً وإنما كمفكر وراسخ في العلم) أي أنني هاجمتك دفاعاً عن العلم وشهادة الدكتوراة التي تحملها، وأيضاً دفاعاً عن الحق:
أنت في مقالتك قلت حرفياً ما معناه أن الزهري كان يروي الحديث ويقول أنه سمعه بأذنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذه هي نقطة الخلاف الرئيسية معك وهي واضحة المعنى والدلالة فماذا تريدني أن أقرأ كي أفهم معنى كلامك وأي كلام بعد هذا الكلام الواضح سأحتاج كي أستوعب ما تقول وكي أحكم عليه بعد ذلك!؟ أنت بهذا الكلام تصور لنا السلف وكأنهم مجموعة من الحمقى والبلهاء وهذا أمر يناقضه ما كانوا عليه من الفطنة والدهاء وسرعة البديهة. أنت تعلم تماماً أن نصف أحاديث الزهري بسند ونصفها الآخر دون سند، ولكن الزهري في كلتا الحالتين لم يرد عنه أنه سمع الحديث من رسول الله لأنه تابعي...تابعي فكيف بالله عليك سيقول للناس: أنا تابعي ولدت بعد وفاة رسول الله بأربعين عاماً، ثم سيقول لهم: هذا حديث سمعته من رسول الله!؟ حتى لو إعتبرناه مزوراً أفاقاً فمن غير المعقول أن يفضح نفسه بمثل هذه الغباوات والتناقضات. فلماذا يا دكتور تتجاهل هذا الأمر وتذكر لنا حديثا رواه الزهري دون سند وتقول أنه مثال على أحاديث الزهري التي قال أنه سمعها من رسول الله؟ إختلافك مع علماء الحديث ومنهجك الذي تدافع عنه شيء نحترمه ونقدره مادام يعتمد العقل والمنطق والبحث المنهجي. ولكن إختلافك في الرأي مع الآخرين لا يتيح لك أن تقولهم ما لم يقولوا وأن تطلب من الناس أن يبصموا لك بالعشرة على صحة ما تقول، دون نقاش ودون محاكمة. وأختم فأقول: الأمانة العلمية هي سر نجاح صاحب الفكر والقلم وهي علامة من علامات الإيمان.
ولكم مني أطيب التحيات.