كيف تحولت بريطانيا إلى ملكية برلمانية لا تحظى فيها الملكة بالسلطة المطلقة؟ وما هو سر شعبية العائلة المالكة؟
ليس الشعب البريطاني وحده مَن يتعقب أخبار العائلة الملكية باهتمام، فأخبار مثل تخلي الأمير هاري وزوجته ميغان ماركل عن ألقابهما الملكية، أو زواج الأمير ويليام من كيت ميدلتون، أو وفاة الأميرة ديانا بحادثة سير مؤلمة، كلها أحداث تُصنف على أنها «عالمية»، تتصدر عناوين الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي في جميع أرجاء العالم.
فالعائلة المالكة البريطانية لا تزال تحظى بشعبية واسعة، لاسيما في بريطانيا التي يرفض قرابة الـ80% من شعبها استبدال النظام الملكي بالجمهوري، لكن لماذا؟
تعاقبت على البلاد في الماضي سلسلة من الأحداث التي أسهمت في الحد من صلاحيات الملوك الذين تربعوا على العرش في القرون الوسطى، واستمرت تلك الأحداث في التصاعد إلى أن تحوّلت بريطانيا إلى ملكية برلمانية في القرن التاسع عشر، ومنذ أن تسلمت عائلة الملكة إليزابيث الحكم سعت إلى توطيد أركانه بزيادة شعبيته لدى العامة بدلاً من استخدام القوة التي اعتاد الملوك اللجوء إليها.
فلنتعرَّف معاً على أبرز المحطات التاريخية التي مرت بها المملكة المتحدة لتغدو ملكية برلمانية لا تحظى فيها الملكة بصلاحيات مطلقة، ولنكتشف أسرار شعبية العائلة المالكة:
الخطوة الأولى لتقليص صلاحيات العائلة الملكية
منذ القرون الوسطى أبدى البارونات والوجهاء معارضة شرسة لاستبداد النظام الملكي، وقد حظيت تلك المعارضة بشعبية واسعة نظراً لما تبشر به من تقليص سلطات الملك وإخضاع قراراته وأفعاله للرقابة.
يشاع أن «الوثيقة العظمى» هي أول وثيقة وضعت حدوداً لصلاحيات ملك إنجلترا، إلا أن تلك الوثيقة ما هي إلا نسخة مطورة من ميثاق الحريات الذي أصدره هنري الأول ملك إنجلترا، عند الصعود إلى العرش في 1100.
وبالرغم من أن هذا الميثاق لم يقيد حرية الملك إلى درجة كبيرة، ولم ينص على التزامه بالقانون كسائر العامة، فإنه كان ملزماً للملك ببعض القوانين المتعلقة بمعاملة المسؤولين في الكنيسة والنبلاء.
الوثيقة العظمى
مع تزايد الاحتجاجات على صلاحيات الملك اللامحدودة، وتعاظم نفوذه من قبل البارونات والنبلاء، اضطر ملك إنجلترا جون لاكلاند إلى التنازل عن بعض صلاحياته، وذلك بالتوقيع على «الوثيقة العظمى» في العام 1215.
وقد نصت بنود الوثيقة على أن يعمل الملك وفقاً للقانون، فلا يحق له معاقبة أي «رجل حر» بناء على رغبته الشخصية فقط، كما سيمنح نطاقاً أكبر من الحريات للنبلاء وعامة الشعب، ولن تكون السلطة المطلقة بيده.
إذ يتوجب على الملك مشاورة حكومته والمجالس المحلية التي تشكّلت بناء على الميثاق، وشكَّلت نواة البرلمان البريطاني قبل اتخاذ أي قرار.
هنري الثامن
بقي العمل ببنود الوثيقة العظمى ساري المفعول حتى عهد هنري الثامن الذي ضرب بتلك الوثيقة عرض الحائط، ونصّب نفسَه قائداً روحياً لبريطانيا في العام 1534، واستولى على أملاك الكنيسة، وعاد الاستبداد ليكون النهج الحاكم الذي امتد لسنوات حتى بعد وفاة هنري الثامن.
إعدام الملك تشارلز الأول
اتَّبع الملوك الذين توالوا على حكم إنجلترا بعد هنري الثامن سياسته الاستبدادية ذاتها، ولم يتبع أي منهم ما جاء في بنود الوثيقة العظمى.
إذ توالى على العرش 6 ملوك، من بينهم الملكة ماري الأولى، التي عرفت بتعطشها للدماء واستبدادها، قبل أن يتولى تشارلز الأول الحكم، وتثور ثائرة الشعب والنبلاء على حد سواء.
ففي أواسط القرن السابع عشر، وتحديداً في العام 1649، اندلعت حرب أهلية طاحنة انتهت بمقتل الملك وانتصار خصومه، بقيادة اللورد «أولفيير كرومويل».
لم يكن اللورد كرومويل أحسن حالاً من الملوك الذين سبقوه، فقد اتبع كذلك نظاماً ديكتاتورياً دموياً كانت نتيجته ثورة شعبية انتهت بمقتل اللورد في العام 1658.
عهد ماري الثانية
بعد انهيار حكم اللورد كرومويل، خلفه ابنه ريتشارد، لكن سرعان ما عاد الحكم مرة ثانية لعائلة ستيورات، فتولى العرش تشارلز الثاني، ابن تشارلز الأول، الذي مات مقتولاً بعد ما يزيد قليلاً عن عقد على وفاة والده.
لم يكن عهد تشارلز الثاني مماثلاً لعهد والده، فقد أفسح المجال قليلاً أمام الحريات السياسية، فأوقف على سبيل المثال قانون التوقيف التعسفي.
وفي العام 1689، تم تتويج ماري الثانية ملكة على عرش إنجلترا، التي صادقت على الفور على قانون الحريات الذي يُقلص صلاحيات الملك بشكلٍ كبير، ويمنح سلطات واسعة للبرلمان، لتنتقل بريطانيا بذلك إلى عهد الملكية البرلمانية.
الملكية البريطانية «جمهورية سرية»
خلفت ماري الثانية شقيقتها آن، التي كانت آخر فرد يحكم إنجلترا من عائلة ستيورات، وتوالى على العرش بعد ذلك ملوك من عائلة هانوفر، باتت بريطانيا في عهدهم «جمهورية سرية»، كما وصفها البعض.
فقد وصلت محدودية صلاحيات الملك إلى الحدّ الذي لم يستطع فيه الملك اختيار رئيس وزرائه، وهذا ما حدث فعلاً في عهد الملك ويليام الرابع (1830-1837) والملكة فيكتوريا (1837-1901).
لكن ربما كان تأقلم العائلة المالكة مع هذه الصلاحيات المحدودة عبر التاريخ السر الأبرز في نجاتها وقدرتها على الحفاظ على التاج البريطاني إلى يومنا هذا.
ما هي الملكية البرلمانية؟
تعتمد الملكية البرلمانية على البرلمان في اتخاذ جميع القرارات المصيرية الخاصة بالمملكة، ومع ذلك يوجد تكامل ما بين الحكومة والبرلمان، فمن جهة يعتبر البرلمان مسؤولاً أمام الحكومة، ويخضع للمساءلة عن برنامجه السياسي، ومن جهة أخرى يحق للبرلمان حجب الثقة عن الحكومة إذا ما تحققَ النصاب القانوني لذلك وفق النصوص الساري العمل بها.
من ميزات الملكية البرلمانية أيضاً الفصل الكامل للسلطات، إذ تتمتع الحكومة والبرلمان باستقلال ذاتي لكل واحد عن الآخر.
أما الملك فيتمتّع بمكانته الرمزية بوصفه ممثل الدولة وضامن الدستور، وهو من يُكلف زعيم الأغلبية (حزب أو ائتلاف سياسي) بتشكيل الحكومة، ويُصادق على تسمية الوزراء وتعيين الحكومة، لكنَّ صلاحياته في هذا الصدد تتوقف عند هذه الحدود.
الصلاحيات التي تتمتع بها الملكة إليزابيث
تتمتع الملكة بصلاحيات سياسية رمزية، مثل صلاحية حلّ البرلمان عند الحاجة، وصلاحية التصديق على القوانين، إلا أن الملكة في الغالب لا تستخدم صلاحياتها السياسية، ومن الممكن أن ينوب عنها وزراء الحكومة في هذه الصلاحيات عند الحاجة.
كما لدى الملكة صلاحية تعيين رئيس الحكومة وإعلان الحرب والاستثناء من المقاضاة، وتتمتع بسلطات قضائية محدودة جداً، وتترأس الملكة الاح"> لماذا تمتلك الملكية الشعبية الواسعة؟
أظهرت الإحصائيات أن ما يزيد عن ثلاثة أرباع السكان في بريطانيا مؤيدون للنظام الملكي، فكيف استطاع التاج الملكي البريطاني الحفاظ على شعبيته في عصر الجمهوريات؟
تكمن قوة أفراد العائلة المالكة في أنهم على استعداد للتغيير عند الضرورة، بما فيهم الملكة إليزابيث التي تجاوزت عامها الـ90.
فالملكة تدفع الضرائب، وتنشر التغريدات التذكارية في المناسبات، وتشارك أحفادها هاري وويليام المزاح، ولا تفوت مناسبات مثل افتتاح حفل دورة الألعاب الأولمبية على سبيل المثال.
بمعنى آخر، تبذل العائلة المالكة جهداً لتبرهن أنها قريبة من الشعب، ومواكبة للتطور، وتستطيع التواصل بشكل فعال مع الجيل الشاب.
فبينما كانت حفلات الزفاف الملكية عبارة عن مراسم احتفالات خاصة لفترة طويلة قبل الحرب العالمية الأولى، باتت بعد الحرب احتفالات جماهيرية بامتياز.
كما أن العائلة المالكة على استعداد لتغيير تقاليدها وتقليص امتيازاتها عند الضرورة، في سبيل الحصول على المزيد من الشعبية، فهي تحاول أن تكون كما يريد لها الشعب البريطاني أن تكون.
وقد يكون التغيير في نبرة العائلة الملكية، الذي أعقب وفاة الأميرة ديانا، هو المثال الأفضل على ذلك، ويرى البعض أن الأميرة ديانا ربما تكون قد لعبت دوراً لم تقصده أبداً في إعادة تشكيل النظام الملكي.
فبينما أثبتت الضجة التي دارت حول حادث وفاة ديانا للمؤسسة الملكية أخيراً حاجتها إلى تعلم كيفية التكيف مع المتغيرات من حولها، منحت الشعب البريطاني أيضاً أفراداً ملكيين متمثلين في أبنائها وأحفادها، مهيئين بشكل أفضل لمنح المؤسسة قرناً واحداً وعشرين ناجحاً.