ثمة إجماع على أن الكون له بداية كما أن له نهاية، إذ تشير نظرية "الانفجار الكبير" إلى أن الكون كان كثيفا وساخنا وصغيرا، ثم وقع انفجار كبير منذ 13.8 مليار سنة أدى إلى توسع هذه النقطة الصغيرة في أقل من جزء من المليار من الثانية لتصبح أكبر من حجمها الأصلي بمليارات المرات فيما يسمى بظاهرة التضخم الكوني.
وترافق هذا التمدد الكوني مع انخفاض في درجات الحرارة، لكن بمعدل أقل بمراحل من المعدل البدائي. وظل الكون كثيفا طيلة السنوات الـ 380,000 اللاحقة، إلى حد لا يسمح حتى بعبور الضوء. وكان الكون حينها معتما وساخنا يتكون من جسيمات متناثرة.
وعندما بلغت درجات الحرارة حدا يسمح بتكوّن ذرات الهيدروجين الأولى، أصبح الكون شفافا. وانطلقت منه الإشعاعات في جميع الاتجاهات. وشيئا فشيئا تطور الكون ليصبح كما نعهده الآن، حيث تشغل فضاءه الشاسع كتل من الجسيمات والأتربة والنجوم والثقوب السوداء والمجرات والإشعاعات وأشكال أخرى من المادة والطاقة.
وتشير بعض النظريات إلى أن هذه الكتل من المادة ستبتعد عن بعضها إلى أن تتلاشى ببطء، وسيصبح الكون كتلة متجانسة وباردة من الفوتونات (جسيمات الضوء) المستقلة.
لكن بعض العلماء يفترضون أن الانفجار الكبير لم يكن البداية، بل كان نقطة تحول في دورة لا متناهية من التوسع والانكماش، وفقا لنظرية "الارتداد الكبير"، بينما يرى آخرون أن الانفجار الكبير كان مجرد نقطة انعكاس لكون مواز يتمدد في الجهة المقابلة لكوننا، ويمضي فيه الزمن عكسيا.وثمة نظرية أخرى تفترض أن الانفجار الكبير هو نقطة تحول في عمر الكون الذي كان وسيظل يتمدد للأبد. وكل هذه النظريات يؤيدها كبار العلماء المؤثرين.
غير أن هذه النظريات تدل على أنه ربما حان الوقت لإعادة النظر في الفكرة القائلة إن الانفجار الكبير هو بداية المكان والزمان، وحتى إن الكون قد يكون له نهاية.
وقد طور العلماء هذه النظريات البديلة للانفجار الكبير بسبب رفضهم التام لفكرة التضخم الكوني، ومنهم بول شتاينهارد، أستاذ العلوم بجامعة برينستون الذي ينعت فكرة التضخم الكوني بأنها فاشلة.
ويقول روجر بنروز، أستاذ الرياضيات المتقاعد بجامعة أكسفورد: "كنت دائما أعتبر نظرية التضخم زائفة، لكن السبب الوحيد في بقائها حتى الآن هو أنه لا يوجد تفسير آخر للتجانس في درجات حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي".
واكتُشف إشعاع الخلفية الكونية الميكرويّ لأول مرة في عام 1965، وهو إشعاع خافت يعود وجوده إلى اللحظة التي أصبح الكون فيها شفافا بما يسمح بنفاذ الاشعاعات. ويوجد هذا الإشعاع في كل مكان في الكون المرئي القابل للرصد.
وساعد إشعاع الخلفية الكونية العلماء في التكهن بشكل الكون في بدايته، لكنه أيضا ظل لغزا محيرا لعلماء الفيزياء؛ إذ لاحظ العلماء أن الخواص الفيزيائية لهذه الإشعاعات متماثلة إلى حد عجيب حتى في المناطق التي بدا مستحيلا أن تتلامس مع بعضها في أي مرحلة من مراحل تاريخ الكون.
وتقول كيتي ماك، عالمة كونيات بجامعة نورث كارولينا، إن درجة حرارة إشعاع الخلفية الكونية الميكروي في الجهتين المتقابلتين من السماء كانت متماثلة، وهذه الأجزاء من المستحيل أن تتلامس مع بعضها، إلا لو كان هناك شيء ما في الماضي عمل على توصيل هاتين المنطقتين ببعضهما".
وتسهم نظرية التضخم في تفسير إشكالية تجانس درجات حرارة هذا الإشعاع، بافتراض أن الكون توسع في فترة التضخم المهول بوتيرة استثنائية. إذ تمدد الكون المرئي من منطقة صغيرة متجانسة في فضاء ساخن وأنتج إشعاع الخلفية الكونية الميكروي متماثل الخواص.
وتقول ماك إن العلماء يأخذون بهذه النظرية لأنها مدعومة بالأدلة الكافية، ويجمع أكثر الناس على أنها نظرية مرجحة أكثر من غيرها.
غير أن هذه النظرية لا تخلو من العيوب، منها أنه لم تكتشف بعد الآلية التي حفزت تمدد الكون ولا يوجد تفسير محدد لكيفية توقفه. ويرى بعض المؤيدين للنظرية أن جسيمات ما ساهمت في تكوين شيء يسمى مجال التضخم الذي أدى إلى توسع الكون، ثم اضمحل هذا المجال وتحلل إلى الجسيمات التي نراها من حولنا اليوم.
وتفترض نظرية التضخم أن موجات الجاذبية البدائية التي ارتدت في الكون في أعقاب الانفجار الكبير ربما تكون أدت إلى إنحناء نسيج الزمان والمكان. لكن العلماء لم يرصدوا موجات الجاذبية البدائية التي بُنيت عليها هذه النظرية.
ووفقا لميكانيكا الكم، نادرا ما تحدث تقلبات بالحجم الذي ينبئ بحدوث تضخم يؤدي إلى تفكك الفضاء إلى عدد لامتناه من البقع متباينة الخواص، أو ما يسمى بالأكوان المتعددة، التي تفترضها نظرية التضخم.
وبينما ساهم شتاينهارد في وضع نظرية التضخم، إلا أنه أصبح من أشد المعارضين لها لأنها تطرح افتراضات لا يمكن التحقق من صحتها. ويقول شتاينهارد: "هل نحن في حاجة حقا لأن نتخيل وجود عدد لامتناه من الأكوان التي لم نرها من قبل ومن المستحيل أن نراها مستقبلا لتفسير نشأة هذا الكون البسيط الذي يمكننا رصده؟"
وتتفق نظرية الارتداد الكبير مع نظرية الانفجار الكبير في أن الكون الوليد كان ساخنا وكثيفا قبل 13.8 مليار عام، ثم فجأة بدأ في التمدد وأخذت درجة حرارته في الانخفاض، لكن الفارق أن نظرية الارتداد الكبير تفترض أن بداية التمدد كانت مرحلة انتقالية بعد مرحلة انكماش سابقة.
ويقول شتاينهارد إن الارتداد يتيح الوقت لأجزاء الكون المتباعدة للاتصال ببعضها وتكوين الكون الواحد الذي يمكن فيه أن يكون إشعاع الخلفية الكونية الميكروي متماثل الخواص.
ولا يستبعد شتاينهارد حدوث ارتدادات كبرى أخرى في المستقبل. فربما يبدأ كوننا المتمدد في الانكماش ليعود إلى حالته الكثيفة الأولى مرة أخرى.
ويستكشف نيل توروك، المدير السابق لمعهد بريميتر للفيزياء النظرية في كندا، تفسيرا لنشأة الكون بديلا لنظرية التضخم، وهو نظرية "الكون الموازي" التي تفترض أن هناك كونا آخر تغلب عليه المادة المضادة وتحكمه نفس القوانين الفيزيائية التي تحكم كوننا، لكنه يتمدد في الجهة المقابلة من الانفجار الكبير، أي أنه بمثابة كون مضاد.
ويرى توروك أنه لا ينبغي تفسير الظواهر المرصودة بافتراضات عن أكوان متعددة وأبعاد أكبر أو جسيمات جديدة. ويقول إن نظرية الكون الموازي قد تحل واحدا من أكبر ألغاز الكون، وهو المادة المظلمة، تلك المادة الغامضة التي تشكل نحو 85 في المئة من كتلة الكون.
وافترض العلماء وجود هذه المادة لأن جميع الكتل في المجرة، من نجوم وسُدُم وثقوب سوداء وغيرها مجتمعة لا يمكنها توليد الجاذبية الكافية لتفسير الحركة داخل المجرات وفيما بينها.
وتفترض نظرية الكون الموازي أن الانفجار الكبير تسبب في توليد كميات كبيرة من جسيمات تعرف باسم "نيوترينات يمينية الدوران"، ويجزم علماء فيزياء الجسيمات بوجودها رغم أنهم لم يروها بعد. وهذه الجسيمات، وفقا للنظرية، هي التي تشكل المادة المظلمة.
ولعل أبرز النظريات البديلة للتضخم والانفجار الكبير، هي نظرية "الكون الدوري المطابق"، التي طرحها روجر بنروز، وتفترض وجود كون قبل الانفجار الكبير، لكنه لم يمر بفترة انكماش، بل يتمدد فقط.
ويرى بنروز أن الانفجار الكبير لم يكن البداية، ويقول: "إن الصورة الكاملة التي نعرفها اليوم عن تاريخ الكون، هي مجرد حقبة طويلة وسط مجموعة من الحقب المتعاقبة".
ويرى بنروز أن ثقوبا سوداء هائلة ستلتهم الجزء الأكبر من الكون في النهاية. وعندما يتمدد الكون ويزداد برودة حتى يقترب من درجة الصفر، ستتلاشي الثقوب السوداء عقب ظاهرة يطلق عليها "إشعاع هوكينغ".
لكن بنروز يقول إن هذه التوقعات قد تحدث في سنوات تقاس بمليارات المليارات من السنوات، أو ما يطلق عليه "الغوغل"، أي واحد متبوع بـ 100 صفر، من السنوات، وخلال هذه السنوات ستتبخر الثقوب السوداء الكبرى، ثم تهيمن الفوتونات على الكون. وعندها سيعود الكون كما بدأ، ليؤذن ببداية حقبة جديدة.
وتشير نظرية بنروز إلى أنه ربما يحمل إشعاع الخلفية الكونية الميكروي آثارا للحقبة السابقة. إذ تطلق الثقوب السوداء عند اصطدامها ببعضها كميات هائلة من الطاقة في صورة موجات جاذبية. وعندما تتبخر الثقوب السوداء الضخمة تطلق طاقة هائلة في صورة فوتونات منخفضة التردد. ويقول بنروز إن كلتا الظاهرتين قويتان إلى حد أن آثارهما قد تظل محفورة في إشعاع الخلفية الكونية من حقبة لأخرى، كالصدى من الماضي.
ويطلق بنروز على الآثار التي خلفها تبخر الثقوب السوداء "نقاط هوكينغ". وهذه النقاط لم تكن ملحوظة في الكون في السنوات الـ 380,000 من الحقبة الحالية، لكن مع تمدد الكون أصبحت تبدو في صورة بقع في السماء.
غير أننا من المستبعد أن نتمكن من الكشف عن حقيقة ما حدث في اللحظات الأولى التي أعقبت الانفجار الكبير، ناهيك عما حدث قبله. لكن بعض الظواهر القابلة للرصد مثل موجات الجاذبية البدائية والثقوب السوداء الأولية، قد توفر لنا بعض الأدلة التي تساعد في تأييد بعض النظريات ودحض الأخرى.
وتقول ماك إن النظريات الجديدة التي نطورها عن الكون ربما لن تتيح لنا الفرصة لأن نرى اللحظات الأولى لميلاد الكون بوضوح، لكنها ربما تساعدنا بشكل غير مباشر في فهم أسس الفيزياء نفسها.
غير أن قصة الكون ونشأته ونهايته أو أبديته، ستظل محل جدل.