في الثاني عشر من أبريل (نيسان) عام 1984، تمكن أربع مقاومين فلسطينيين من احتجاز حافلة إسرائيلية تحمل رقم 300 في محطة الباصات المركزية في «تل أبيب» كانت في طريقها إلى مدينة المجدل المحتلة.
طالب المقاومون الأربعة بإطلاق سراح 500 أسير فلسطيني يقبعون في سجون الاحتلال، لكن سرعان ما قرر «جهاز الأمن العام الإسرائيلي(الشاباك)» عدم الانصياع لمطالب المقاومين، فطارد الحافلة برًّا وجوًّا، وتحت وابل الرصاص والقذائف توقفت الحافلة، وفيما قتل بعض الركاب الإسرائيليين أعلنت آنذاك إسرائيل عن مقتل المقاومين الأربعة أيضًا.
بعد مضى سنوات على الحادثة، أظهرت صورة مسربة حقيقة تنفي رواية «الشاباك»؛ فعندما سيطرت القوات الإسرائيلية على الحافلة كان اثنان من المقاومين الفلسطينيين على قيد الحياة، قُتلا بعد احتجازهما على يد «الشاباك» بعيدًا عن أعين الجميع، وفيما منح العفو لأفراد «الشاباك» في تلك القضية، يستمر مسلسل التعذيب في إسرائيل تحت طائلة القانون الذي يجرمه ظاهريًّا بحق الأسرى الفلسطينيين، بل يمكن القول إن إسرائيل أنشأت منظمة ممأسسة للتعذيب يحميها محققو «الشاباك» حتى من مجرد المسائلة.
«اغتصاب الفلسطينيات حلال!» ماذا تعرف عن جرائم إسرائيل الجنسية ضد الفلسطينيين؟
ركل الخصية والاغتصاب.. أشكال التعذيب في إسرائيل
في العام 1995 قتل الأسير الفلسطيني عبد الصمد حريزات بعد أن ثقب محققو «جهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك)» صدره بمفك، فيما تعرض أسير لبناني للاغتصاب من المحققين الإسرائيليين.
حوادث التعذيب في إسرائيل للمعتقلين الفلسطينيين والعرب لا تتوقف، حتى إن الأرقام تكشف كون 98% من الأسرى الفلسطينيين قد تعرضوا للتعذيب في إسرائيل بأشكاله المختلفة، سواء كانوا من الأطفال، أم النساء، أم الشبان، أم كبار السن، وقد تعرض هؤلاء للتعذيب في أثناء الاعتقال ووقت التحقيق، وفي أثناء المحاكمة، وفي السجن أيضًا، ولم يحدث التعذيب فقط بهدف نزع اعترافات من المعتقلين، بل من أجل إذلالهم والحط من كرامتهم وإنسانيتهم.
فلسطينيون يربطون أنفسهم تنديدًا بوسائل التعذيب في إسرائيل
وتتراوح أساليب التعذيب الإسرائيلية بين الاهتزاز العنيف، والصفع، والضرب على الرأس وضرب الرأس بالحائط، وتقييد المشتبه بهم في أوضاع مؤلمة لفترات طويلة، ثم يذهب الأسير بعد ثلاثين ساعة متواصلة من التعذيب في التحقيق إلى غرفته وعلى رأسه كيس نتن الرائحة، وفي غرفته يتواصل تعذيبه بحرمانه من النوم بتشغيل موسيقى صاخبة جدًّا.
وفي رصد لأهم أساليب التعذيب الإسرائيلية خلال التحقيقات، يعرف أسلوب جلوس الأسير مقيد اليدين والساقين على كرسي صغير مخصص للأطفال في «وضعية الموزة» لساعات طويلة، وقد وصف هذا الأسلوب بأنه أقسى بكثير من قلع الأظافر، كما يعرف من أساليب التعذيب الإسرائيلية أسلوب «السيارة»، الذي يوضع خلاله الأسير على كرسي منخفض بينما يجلس المحقق الإسرائيلي مقابله على كرسي مرتفع ويضع قدمه على خصيتي الأسير، وخلال التحقيق يقوم المحقق الإسرائيلي بالضغط على خصيتي الأسير بقدمه، ما يتسبب في ألم شديد للأسير.
وقد أفضت عمليات التعذيب إلى موت 73 فلسطينيًّا في سجون الاحتلال منذ عام 1967، بعد تعرضهم للتعذيب الجسدي والنفسي، كما أن المئات من الأسرى المحررين كان التعذيب في إسرائيل وسجونها سببًا رئيسيًّا في وفاتهم لاحقًا أو إصابتهم بأمراض وإعاقات خطيرة.
ويبين نادي الأسير الفلسطيني، وهو منظمة غير حكومية، في تقرير خاص أساليب التعذيب الجسدي والنفسي التي يستخدمها محققو الاحتلال خلال التحقيق مع المعتقلين الفلسطينيين، ويذكر منها: «الحرمان من النوم، وتقييد المعتقل في أثناء فترة التحقيق، وشد القيود لمنع الدورة الدموية من الوصول لليدين، والضرب، والصفع، والركل، والإساءة، اللفظية والإذلال المتعمد، التهديد بالاعتداء الجنسي على المعتقل أو أحد أفراد أسرته، أو التهديد بهدم المنازل أو التهديد بالقتل، وكذلك أيضًا تعريض المعتقل للبرد الشديد أو الحرارة، وكذلك للضوضاء بشكل متواصل، والإهانات والشتم».
ويضيف التقرير الذي صدر بمناسبة ما تعرض له الأسير الفلسطيني سامر العربيد من تعذيب، أن من أساليب التحقيق العسكري «الشبح لفترات طويلة، وهو إجبار المعتقل على الانحناء إلى الوراء فوق مقعد الكرسي؛ مما يسبب آلامًا ومشكلات في الظهر، أو الوقوف لفترات طويلة مع ثني الركب وإسناد الظهر إلى الحائط، كما يستخدم أسلوب الضغط الشديد على مختلف أجزاء الجسم، بالإضافة إلى الهز العنيف، والخنق بعدة وسائل، وغيرها».
هكذا حولت إسرائيل الفلسطينيين لفئران تجارب من أجل تطوير دوائها وتسويق سلاحها!
رحلة تقنين التعذيب في إسرائيل
في سبعينيات هذا القرن، توجه الإسرائيليون نحو الواجهة الليبرالية؛ رغبة منهم في الاصطفاف بجوار الدول الديمقراطية التي يتوجب عليها الظهور بمظهر كيان يحترم حقوق الإنسان، وضمن هذا النطاق لم تتوان إسرائيل عن التصديق على اتفاقية الأمم المتحدة لمناهضة التعذيب في عام 1986.
تلك الحكومة التي لم تجرم التعذيب في قوانينها ولجانها التي شكلتها بعد نشر عدة فضائح تعذيب بحق الأسرى الفلسطينيين، تورط فيها رجال «الشاباك»، شكلت في العام 1987 لجنةَ تحقيقٍ رسمية هي «لجنة لانداو» التي عرفت باسم قاضي «محكمة العدل العليا الإسرائيلية» موشي لانداو.
تولت اللجنة مهمة النظر في أساليب التعذيب المتّبعة لدى جهاز «الشاباك»، وللإفلات من الظهور بمظهر الدولة التي تستخدم التعذيب للحفاظ على أمنها، خلصت اللجنة إلى أهمية أن يكون التعذيب مقتصرًا على التعذيب النفسي الذي يستخدم الحيل والبراعة في الخداع، وعلى أن يصبح التعذيب الجسدي خيارًا أخيرًا تحت بند «مستوى معتدل من الضغط»، وعمليًّا أقرت اللجنة بأن التعذيب «مسموح في بعض الأحيان ضمن قائمة سريّة تُحدّد الأساليب المسموح بها».
بعد صدور قرار «لجنة لانداو»، اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، تلك المحطة الأولى التي ألقت بما أوصت به «لجنة لانداو» أدراج الريح، فسرعان ما انخرط محققو «الشاباك» في عمليات تعذيب واضحة ومُمنهجة بحق الأسرى الفلسطينيين.
وشكلت جملة قرارات اتخذتها «محكمة العدل العليا الإسرائيلية» العام 1996محطة جديدة في تقنين التعذيب في إسرائيل؛ إذ سمح بموجبها لمحققي أجهزة الأمن الإسرائيلية باستخدام الضغط الجسدي المعتدل، في حال أيقن المحقق أن المعتقل يخفي معلومات خطيرة من شأن الكشف عنها حماية أمن الدولة.
وعاودت الإجراءات الإسرائيلية الشكلية لمجابهة التعذيب في إسرائيل عام 1999، حين أصدرت «المحكمة العليا الإسرائيلية» قرارًا بالحدّ من التعذيب، وظهر القرار كمانع لاستخدام أساليب التعذيب الجسدي الأكثر وحشية، بيد أن القضاة ذاتهم لم يبرحوا القرار دون ترك فجوات كبيرة تبيح التعذيب، أولهما في بند يسمى حالة «القنبلة الموقوتة»، وهي التسمية التي أباحت التعذيب خلال التحقيقات العسكرية التي يكون هدفها منع العمليات الفدائية.
هذا الأسلوب الذي استخدم مع الأسير العربيد، وأفضى إلى وضعه في حالة الموت السريري، وكذلك خلق القرار ما عرف بـ«دفاع الضرورة» الذي تحوّل على يد المحقّقين إلى حيلة شكليّة تُتيح التعذيب في إسرائيل، بل تتيح استخدام سلسلة طويلة من ممارسات التعذيب دون أن يعاقب المحقق.
آخرها عملية «دوليف».. ماذا تعرف عن تاريخ المقاومة اليسارية ضد إسرائيل؟
وبعد 20 عامًا على قرار «المحكمة العليا الإسرائيلية» للحدّ من التعذيب في إسرائيل أصبح من الواضح إلى أي مدى وسع جهاز «الشاباك» هذه الثغرات واستفاد منها لإخفاء ما يفعله مطمئنًّا لتجنب الملاحقة القضائية من خلال التذرع بدفاع ضروري، بدليل أنه في عام 2001، حين حققت وزارة العدل الإسرائيلية في اتهامات التعذيب ضد جهاز «الشاباك»، قدمت المنظمات الحقوقية أكثر من 1100 شكوى تتعلق بالتعذيب، ولم تسفر الشكاوى سوى عن تحقيق جنائي واحد، ولم يكن مرتبطًا بالتحقيق ارتباطًا مباشرًا.
خلف جدران الشاباك.. مؤسسة التعذيب في إسرائيل
«منظومة التحقيق لدى جهاز الأمن العام (الشاباك) تشكّل تعاملًا وحشيًّا مهينًا عديم الإنسانية، يرقى إلى حد ممارسة التعذيب، ويجري هذا بمساعدة ودعم مصلحة السجون الإسرائيلية، والمستشار القانوني للحكومة، وقضاة محكمة العدل العليا».
حاول مركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان «تسليم» في قوله السابق أن يضع النقاط على الحروف، ويؤكد ما بات الأسرى الفلسطينيون يدركونه جيدًا، وهو أن اسرائيل الوحيدة في العالم ربما التي توفر غطاء قانونيًّا من أعلى سلطة تشريعية وقضائية للتعذيب، إذ باتت وسائل التعذيب سائدة ومنتشرة في أقبية التحقيق الإسرائيلية، ويشارك أطباء في عمليات التعذيب في إسرائيل.
على جانب آخر، يبيح القانون الإسرائيلي امتناع جهاز «الشاباك» عن الإدلاء بأي معلومات أو تفاصيل علنية حول التعذيب، أسوة بموقف جميع الأذرع السياسية والأمنية الرسمية المختلفة في إسرائيل، وكل ما يمكن فعله وبصعوبة كبيرة، أن يقدم هذا الجهاز في نطاق ضيق جدًّا «وثائق سرية» عنه، لا يجوز لمحامي الدفاع عن المشتبه بهم أو عن المعتقلين الاطلاع عليها في الغالب.
وبشهادة الحقوقيين الإسرائيليين فإن التعذيب ليس شأنًا ارتجاليًّا يقرره المحققون، وإنما هو نهج منظم ومنصوص عليه بتعليمات وضعتها لجنة وزارية، ترأسها القاضي موشي لاندوي، وأن هذه التعليمات دقيقة جدًّا، تتكتل تحت عنوان مطاطي هو «ضغط جسدي معتدل، تحول فيما بعد إلى تعبير اصطلاحي دارج» كما يقول المحامي أفيجدور فيلدمان، أحد أبرز المحامين الإسرائيليين وأهمهم.
ويضيف فيلدمان: «في قرارها في قضية أسعد أبو غوش (معتقل فلسطيني تعرض لتعذيب)، انتزعت المحكمة العليا لبّ القرار الذي صدر عنها في العام 1999، وشوّهت ما ورد فيه، وسوّغت التهرب من المسؤولية، الذي يؤدي إلى نشوء منظمة ممأسسة للتعذيب، ليعود التعذيب إلى سابق عهده، وتعود إلينا المنظومة البيروقراطية التي تحمي التعذيب بصورة أقوى، من خلال قرار الحكم الأخير الذي أصدرته المحكمة العليا».
في المحصلة، هناك منظمة ممأسسة تحمي التعذيب بصورة أقوى في دولة الاحتلال، وكما تقول القاضية ورئيسة للمحكمة العليا مريم ناؤور: «في منظومتنا القضائية، ثمة حظر مطلق على استخدام التعذيب. لا استثناءات لهذا الحظر ولا موازنات. إنه تصريح واضح وقاطع يعني: التعذيب في إسرائيل خارج اللعبة القضائية».