لا قدسية لأي شيء في الاحتجاجات التي تجتاح لبنان هذه الأيام. فالزعماء السياسيون، الذين كانوا يتمتعون قبل بضعة أسابيع بولاء ودعم أنصارهم المخلصين، على الرغم من سوء الأوضاع الاقتصادية، أصبحوا الآن هدفاً لغضب كثير من هؤلاء الناس.
ويمثل هذا الاستخفاف بالرموز الكبيرة، التي كانت تحظى بالتوقير منذ زمن طويل، كسراً للمحظورات، وهو ما يجعل هذه الاحتجاجات لا تشبه موجات الاحتجاج السابقة.
واستقال رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، الثلاثاء 29 أكتوبر/تشرين الأول 2019، تحت ضغط احتجاجات ضخمة أذكتها حالة الاستياء من الطبقة الحاكمة، التي يحمّلها الشعب مسؤولية الوضع الاقتصادي السيئ.
وأصبح وزير الخارجية جبران باسيل، زوج ابنة الرئيس ميشال عون، رمزاً لسخرية كثيرين في شوارع العاصمة بيروت.
لا أحد سلِم من احتجاجات اللبنانيين
ولم تَسلم جماعة حزب الله الشيعية، المدججة بالسلاح والتي يُنظر إليها على نطاق واسع باعتبارها أكبر قوة في البلاد، من هذه السخرية.
فترديد هتافات مناهضة لزعيمها حسن نصر الله، لم يكن ليخطر على بال أحد، الشهر الماضي. وأضحت هذه الهتافات شائعة الآن.
وفي النبطية، وهي مدينة شيعية بجنوب لبنان، ركز المحتجون أنظارهم على رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو أحد أكثر السياسيين اللبنانيين نفوذاً والذي تسيطر حركة أمل التي يتزعمها على المنطقة.
وقال معلم شيعي يدعى قُصي شرارة، كان بين ألوف المحتجين الذين احتلوا ساحة المدينة والشوارع المحيطة: «أنا أشارك في التظاهرات، لأجل إسقاط نبيه برى الذي يمثل رمزاً للفساد».
وعندما ردد مئات المحتجين هتافات ضد بري في أحد الشوارع الرئيسية بالمدينة، قال سكان إن مجموعات من الغوغاء الذين يحملون هراوات هاجموهم. وأشاروا إلى أنه يُعتقد أن المهاجمين ينتمون إلى حركة أمل وحليفها حزب الله.
وأُصيب ثمانية أشخاص على الأقل بجروح، نُقل بعضهم إلى المستشفى لتلقي العلاج. وفي أماكن أخرى بالنبطية وغيرها بالجنوب، أتلف محتجون غاضبون صوراً لبرّي كانت معلَّقة في مبانٍ حكومية.
وكان بري نفسه قد أعلن وقوفه إلى جانب المحتجين، حيث قال لأعضاء مجلس النواب عن حركة أمل، الأسبوع الماضي، إن المحتجين حققوا بعض التغييرات التي تطالب بها حركة أمل منذ عقود.
وقال مصدر من داخل حركة أمل إن عشرات الألوف من المحتجين في الشوارع لهم مطالب مشروعة، تتعلق بمزيد من الشفافية ومحاسبة المخطئين واتخاذ إجراءات ضد الفساد. وأضاف: «حركة أمل وزعيمها لم يفاجئهما الانفجار الاجتماعي الذي حدث».
وأدى هذا الانفجار إلى أن يتحرك الناس، الذين كانوا يوماً ما في فصيل واحد، بعضهم ضد بعض، وهو ما يزيد من الإحساس بالفوضى في البلدات والمدن اللبنانية.
وفي النبطية ردد المؤيدون لبرّي هتافات داعمة له، وقالوا: «بالروح بالدم نفديك يا برّي». ورُفعت صور لبرّي وهو مبتسم وكُتب تحتها «نحن معك».
الشمال والجنوب سواء
هاجم بعض أنصار حركة أمل وحزب الله، الذين يرتدون ملابس سوداء ويحملون هراوات، مخيم الاحتجاج المناهض للحكومة في بيروت، وألحقوا به أضراراً بالغة، معتقدين أن المحتجين يسيئون إلى زعيمهم نصر الله.
وهذا أخطر خلاف سياسي يقع في العاصمة اللبنانية منذ عام 2008، عندما سيطر مقاتلو حزب الله على الوضع في صراع مسلح لفترة قصيرة، مع خصومهم السياسيين الموالين للحريري وحلفائه.
وأولى المحللون أهمية خاصة لحركة الاحتجاج في جنوب لبنان؛ نظراً إلى الهيمنة السياسية التي يتمتع بها هناك حزب الله وحركة أمل منذ أمد بعيد.
وقال مهند حاج علي، الباحث في مركز كارنيغي للشرق الأوسط: «هناك أصوات أكثر جرأة بالجنوب. المظاهرات تكسر المحظورات السابقة في السياسة».
ولم يَسلم الشمال مما شهده الجنوب
ففي مدينة طرابلس التي يغلب السُّنة على سكانها، وهي واحدة من أفقر المدن اللبنانية، انقلب المحتجون على زعمائهم وأحرقوا إطارات السيارات قرب فيلا مملوكة لرئيس الوزراء الأسبق نجيب ميقاتي.
وهتفوا «أنت واحد منهم»، في إشارة إلى الطبقة الحاكمة التي يزدرونها.
وقال أستاذ جامعي سُني يدعى علي عمر، إن جولة قصيرة حول طرابلس فيها دليل كافٍ تماماً على أن البرلمانيين وزعماء السُّنة لم يفعلوا شيئاً للمدينة على مدى السنين.
وأضاف أن معدلات البطالة مرتفعة بالمدينة، فضلاً عن سوء حال الكهرباء وكذلك مكاتب الضمان الاجتماعي وحال الطرق المليئة بالحفر.
وشهدت طرابلس بعض أكبر وأنشط المظاهرات على مدى الأسبوعين الماضيين. فالناس يحتشدون يومياً بساحة المدينة، يهتفون ويرقصون حتى وقت متأخر من الليل.
وقال عمر إن الناس ملُّوا ضياع عُمرهم وهم يطلبون من المسؤولين تقديم خدمات لهم، أو يتسولون منهم حقوقهم الأساسية.
وتساءل: «أين تذهب كل هذه الضرائب؟ في حساباتهم المصرفية؟». وتابع قائلاً: «نحن نصرخ على مدى 30 سنة… إنَّ نصف الشبان عاطلون. ماذا يجب أن نفعل كي تسمعونا؟».