بين الحياد والتدخل.. كل ما تريد معرفته عن الجيش اللبناني ودوره الآن

في الأحد ٢٧ - أكتوبر - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

في مقطع فيديو قصير لا تتجاوز مدته الدقيقة الواحدة، يظهر جندي لبناني وهو يبكي متأثرًا بمشهد اصطدام الجيش بالمتظاهرين بسبب غلقهم للطرق، فيما أخذ المتظاهرون يربتون على كتفه، وهم ينشدون مقطعًا من النشيد الوطني اللبناني، ويرددون: «كلنا للوطن للعلى للعلم».

فعل هذا الجندي قد لا يتوافق مع ما يريده الفرقاء السياسيين في لبنان، إذ إن هؤلاء الذين يحركون الجيش اللبناني فعليًا، منهم من يدفع الآن لأن يكون الجيش أكثر فتكًا بالمتظاهرين، وعلى رأس هؤلاء وزير الخارجية وصهر الرئيس اللبناني جبران باسيل، وعلى نفس المنوال يرغب «حزب الله». إذ يريد هؤلاء أن تصمت حناجر المتظاهرين عن شتمهم وعن المطالب التي أهمها رحيل النخبة السياسية وإنهاء المحاصصة الطائفية، فما الذي تحمله الأيام القادمة من موقف للجيش اللبناني تجاه المتظاهرين.

«جيش ضعيف» من زمن الحلفاء إلى زمن ميشال عون

بدأت مسيرة تشكيل الجيش اللبناني في عام 1916، حين أنشأ الحلفاء (كانت بلاد الشام تقع تحت الإدارة العسكرية البريطانية الفرنسية) فرقة أطلق عليها اسم «فرقة الشرق» لمواجهة الدولة العثمانية، ثم بدأ التأسيس الفعلي لقوة عسكرية في عهد الانتداب الفرنسي تتسلّم مهام أمنية بعد انتهاء هذا الانتداب في لبنان.

وشكل عام 1926 محطة هامة في رحلة تأسيس الجيش اللبناني، فقد شكّل «فوج القناصة اللبناني» النواة الأولى لبدء تأسيس الجيش اللبناني، ثم تم في عام 1943 دمج عدة فرق عسكرية لتشكل جيشًا واحدًا بقيادة العقيد فؤاد شهاب، ليحصل لبنان بعد عامين أي في الأول من أغسطس (آب) 1945 على اعتراف من قبل كل من فرنسا وبريطانيا بتسلم لبنان كافة المسؤولية العسكرية للجيش اللبناني، ويسمى للبلاد آنذاك جيشًا وطنيًا مستقلًا.

سجل اندلاع الحرب الأهلية في لبنان عام 1975، محطة هامة لاختبار دور هذا الجيش، إذ إن فقدان القرار السياسي الموحّد للدولة؛ غيّب دور الجيش اللبناني فلم يتمكن من ردع الفتنة، بل أن بنيته تصدعت وقاد بعض ضباطه انشقاقات مستغلين ظروف تلك الحرب، ومع ذلك بقي الجيش متواجد ككيان على الساحة اللبنانية حتى أُعلن «اتفاق الطائف» في عام 1989، ذاك الاتفاق الذي عد بمثابة وثيقة الوفاق الوطني اللبناني، وقضى بإعادة توحيد الجيش اللبناني وحل «الميليشيات» المسلحة في لبنان.

لكن مع إلقاء الحرب الأهلية اللبنانية لأوزارها عام 1991، كان وجود الجيش السوري في لبنان منذ عام 1976 يلقى بالمزيد من ظلاله على المشهد الأمني اللبناني وأبرزه تهميش دور الجيش اللبناني، وهو الأمر الذي استمر حتى عام 2005 حين اغتيل رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري واتهم النظام السوري بالوقوف وراء عملية اغتياله، فأفضت الأمور إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان، لتتاح الفرصة أمام الجيش اللبناني لإعادة تسليح عناصره وتشكيل كيانه بمساعدات خارجية أهمها المساعدات الأمريكية.

ويضم الجيش اللبناني الآن نحو 80 ألف عسكري وإداري في المنشآت والمراكز التابعة له، بينهم 67 ألف عسكري مقاتل، يتوزعون على وحدات خاصة، وألوية وأفواج، ووحدات متخصصة.

وينفذ الجيش اللبناني أوامر القيادة العليا، التي يشرف عليها رئيس الجمهورية ميشال عون، إذ إن المحاصصة اللبنانية تجعل قيادة الجيش من «حصة الرئيس»، وهي المحاصصة التي جعلت القادة السياسيين في لبنان لا يرغبون فعلًا في وجود جيش وطني قوّي البنية؛ لأن ذلك يعني تعزيز مؤسسات الدولة من قيادة الجيش والذي يقابله إضعاف رجال السياسة.

وتساق عدة أدلة تظهر عدم جدية السلطة السياسية في تقوية الجيش؛ ومنها عدم معالجة الحكومة اللبنانية لمشكلة نقص تجهيزات الجيش اللبناني، وغياب موازنة شراء معدات خاصة بالجيش، إذ تُخصّص موازنة عسكريّة قيمتها أكثر من 800 مليون دولار للأجور، ويخصص 30 مليون دولار في السنّة لشراء العتاد العسكري، ويُنفق معظمه لشراء قطع الغيار والأمور اللوجستية، وليس التسليح.

مترجم: في 3 نقاط.. كيف يمكن أن تنجح احتجاجات لبنان؟

«صراع الديوك».. جبران ينافس قائد الجيش اللبناني

يعين قائد الجيش اللبناني من بين الضباط العاملين المجازين بالأركان، بمرسوم يُتخذ من مجلس الوزراء بناء على اقتراح وزير الدفاع الوطني الذي يرتبط مباشرة به قائد الجيش، وتوكل لهذا القائد عدة مهام، أبرزها قيادة العمليات العسكرية ورفع مستوى الجيش القتالي، وتحضير الخطط وأوامر القتال ووضع البرامج اللوجستية لها.

سفيرة الولايات المتحدة في لبنان، مع رئيس أركان الجيش اللبناني جوزيف عون

وبناء على ما سبق اختير القائد الرابع عشر والحالي للجيش اللبناني في الثامن من مارس (آذار) 2017، فأصبح قائد الجيش اللبناني هو جوزيف خليل عون العسكري الذي بدأ تدرجه في كنف الجيش اللبناني منذ عام 1983 حتى حصل على رتبة عميد ركن قبل أن يصبح الآن برتبة عماد.

ويمكن القول إن جوزيف عون ورث قيادة الجيش اللبناني مثقلة بالتحديات، وأهمها أزمة الوضع المالي التي فُرضت ضمن العقوبات الدولية على «حزب الله»، بينما أوقفت السعودية مساعداتها لتسليح الجيش اللبناني وقوة الأمن الداخلي اللبناني عام 2016؛ ما جعل عون يعتمد منذ تسلم منصبه سياسة تقشّفية، عبر تقليص مهمّات السفر والدورات الخارجية للضباط، والاستغناء عن أمور مكلفة.

بيد أن تحركات الرجل لم تمنع أن يُكشف للعامة أزمة حقيقة يعيشها الجيش اللبناني، بدأت بالموازنة والمسّ بحقوق العسكريين في الخدمة الفعلية وفي التقاعد، حتى أدت في سبتمبر (أيلول) الماضي، إلى وقف متعهدي تغذية الجيش تقديم المواد الغذائية المطلوبة للجيش، بسبب عدم دفع مستحقات المتعهدين منذ شهر أكتوبر (تشرين الأول) عام 2018 من قبل وزارة المالية.

الأزمة السابقة التي حاول بعض القادة السياسيين أن يظهروا أن لا علاقة لهم بأية تجاذبات سياسية داخلية، تبعتها هزة أخرى ناجمة عن حملة تشّن ضد شخص قائد الجيش جوزيف عون، إذ سربت صورة للرجل مع العميل عامر فاخوري (القائد العسكري السابق لمعتقل الخيام في جيش أنطوان لحد الموالي لإسرائيل اللبناني) بهدف هزّ صورته أمام الرأي العام. فيما قالت قيادة الجيش إن فاخوري التقط الصورة مع جوزيف الذي لا يعرفه خلال زيارته إلى الولايات المتحدة الأمريكية في أكتوبر عام 2017، في حفل استقبال عام أقامته السفارة اللبنانية على شرف العماد عون.

ويتضح أن قيادة الجيش اللبناني تعيش صراع خفي حول الصلاحيات داخل المؤسسة العسكرية، لكن من يقف وراء هذا الصراع؟ أنه أحد أركان الطبقة السياسية الحاكمة في لبنان، وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، الطامح في الوصول لكرسي الرئاسة اللبنانية في 30 أكتوبر 2022 (موعد الانتخابات الرئاسية اللبنانية) ذاك الطموح المبارك من الرئيس اللبناني ميشال عون لصهره ووريثه في رئاسة «التيار الوطني الحر».

فثمة إجماع أن باسيل ومعه ميشال عون يقفا وراء إرباك حسابات قائد الجيش وإفقاده شعبيته. فباسيل الذي تخطى المتنافسين الجديين على الرئاسة، كرئيس «حزب القوات اللبنانية» سمير جعجع ورئيس «تيار المردة» سليمان فرنجية، يشكل وجود جوزيف عون في قيادة الجيش اللبناني منافسة كبيرة له، لكون قائد الجيش في لبنان مرشحًا طبيعيًا لرئاسة الجمهورية، الذين آخرهم الجنرال ميشال عون، فجوزيف منافس قوي داخليًا وخارجيًا، وتمكن من نسج علاقة مميزة مع الإدارة الأمريكية، وكذلك مع السعودية التي لا  ترضى على أداء الوزير باسيل بالتحديد.

يعمل باسيل من أجل الإقامة في قصر بعبدا (مقر الرئاسة اللبنانية) على الإمساك بكامل المفاصل الأمنية في لبنان للوصول إلى الاستحقاق​ الرئاسي ​ كمرشح أوحد، ومن أجل ذلك يدعم فكرة إحداث تغيير كبير داخل قيادة الجيش، بما في ذلك تشجيع ضباط كبار على الاستقالة مقابل إعطاء الدور لضباط أصغر عمرًا ورتبة لاعتقاد باسيل أنه يقدر على الإمساك بهم بصورة أفضل.

وتذكر صحيفة «الأخبار» اللبنانية، وتضيف: «باسيل يتصرف مع قيادة الجيش وفق اعتبارين: الأول أنها جزء من المؤسسات التي يجب أن تخضع للقيادة السياسية المسيحية، والثاني أنه يريد إقفال مكتب الترشيحات الرئاسية في نادي قادة الجيش، لكن باسيل يبدو أكثر توترًا، مع ملاحظته أن قائد الجيش ينتزع منه التأييد الغربي كلاعب مركزي في لبنان. وهذا ما يجعل الباب مفتوحًا أمام مشكلة جديدة وجدية بين المتنافسين على الرئاسة الأولى من المرشحين الموارنة».

تعامل الجيش مع المظاهرات.. حزم شديد أم تدخل بسيط؟

خلال الساعات الماضية، أصيب نحو سبعة أشخاص من جراء إطلاق نار خلال محاولات الجيش اللبناني تفريق متظاهرين أغلقوا الطرقات في منطقة البداوي بمدينة طرابلس شمالي البلاد، ففي الوقت الذي يظهر فيه الجيش اللبناني ضمنيًا مؤيدًا للحراك الشعبي اللبناني،  تعقد دوره منذ تكالبت اعتداءات عناصر الثنائي الشيعي «حزب الله» و«حركة أمل» على المتظاهرين في أكثر من منطقة؛ الأمر الذي عرضه لانتقادات من المحتجين أسوةً بالسياسيين الآخرين في البلاد.

عناصر الجيش اللبناني يحاولون فتح الطرق ودفع المتظاهرين

تحدثنا إلى الخبير العسكري والإستراتيجي اللبناني ناجي ملاعب، فقال إن الجيش اللبناني يعمم في كل مناسبة أو حدث ما يعرف بـ«أمر اليوم» ويتضمن هذا الأمر الذي يذاع على الجند دور الجيش في حماية «السلم الأهلي» وقد ترجم هذه الاستراتيجية في مرات كثيرة كان أهمها -و هو مماثل لتظاهرات اليوم- ما حدث عام 2005 عندما أعلن قائد الجيش أنه لا يمكن للجيش قمع التجمع الكبير أو التدخل في تدفق الجموع الى ساحة الشهداء يوم 14 مارس.

فقد قال حينها عبارة شهيرة: إن «الجيش هو حامي الدولة والدستور، وليس السلطة»، ويعقب ملاعب: «أعتقد أن الجيش يطبق هذه الإستراتيجية اليوم لا سيما وأنه لم يتدخل سوى في أماكن محدودة، وكأنها نزولًا عند رغبة السلطة، إذ إن سوء استخدام قوى الجيش يدخله في زواريب السياسة، ولكن حكمة القيادة في عدم الاستجابة لمطالب السلطة وانحيازه إلى دور حماية التجمعات يدخله في موقف الحياد الايجابي».

ويعقب ملاعب على حادثة اطلاق النار من قبل الجيش على متظاهري طرابلس، فيقول: «ما أظهره الجيش من الشدة في طرابلس بشمال لبنان لم يؤدي إلى النتيجة المتوخاة في فتح الطريق بالعنف، وذلك مخالف لأبسط معايير التدرج في استعمال القوة، فأن يبدأ إطلاق النار ولو إرهابًا من دون إنذار الناس؛ طريقة لإفشال المهمة قبل البدء بها».

ويستدرك القول: «ولكن أن عدم نجاح المهمة يخدم منطق عدم زج الجيش في الداخل وضد فئة من لون وانتماء معين يعتبرها رئيس التيار الوطني مناهضة له».

فيما يقول السياسي اللبناني أنطوان حداد خلال حديثه لـ«ساسة بوست» إن صنع القرارات العادية يتم عادة داخل قيادة الجيش، إذ يُعد دور وزير الدفاع تقريبًا دور هامشي، فيما الحكومة هي من تأخذ قرار تدخل الجيش من عدمه في الأحداث الداخلية، ويضيف: «الجيش ينفذ مطالب السلطة السياسية في لبنان، ولا يوجد لديه قرار مستقل بالتدخل، التدخل البسيط أو الشديد يعود للسلطة السياسية وليس لقيادة الجيش».

تحدثنا أيضًا إلى رجل أمن متقاعد اشترط عدم الكشف عن هويته، فقال: «لا شك أن بعض الفرقاء السياسيين يدفعون ليكون الجيش أكثر فتكًا بالمتظاهرين وعلى رأس هؤلاء رئيس التيار المسيحي جبران باسيل، وكذلك «حزب الله»، فعلى الرغم من الثقل الشيعي في الحراك وهو ما يؤرق نصر الله، فللحزب اليد الطولي في الجيش ولا سيما مع وصول عون للرئاسة، وهو يميل للبطش إنما حجم المظاهرة وعدم تمركزها يحول دون الامر»، ويضيف: «ثمة همس أن هناك خلافات في قلب قيادة الحيش بين الحزم الشديد أو التدخل البسيط ويبدو أن التوجه حتى الآن لليونة، وليس البطش».

اجمالي القراءات 2370