إنَّ نُذُر الحرب التي تلوح على نحو كبير في منطقة الشرق الأوسط تبدو أنها حرب لا يريدها أحد؛ فقد ندَّد دونالد ترمب خلال حملته الانتخابية بمسألة تورّط الولايات المتحدة في حروب الشرق الأوسط، ولم تتغيّر لهجته حول الأمر حتى بعد تولّيه منصبَ الرئاسة. أمّا إيران، من جهتها، فليس لديها مصلحة في اندلاع نزاع واسع النطاق لا تستطيع الانتصار فيه. في حين أنَّ إسرائيل، رغم رضاها عن تنفيذ عمليات محسوبة في العراق ولبنان وسوريا وغزة، تبدو متخوّفة من اندلاع مواجهات أكبر تُعرِّضها لاستقبال الآلاف من الصواريخ. والسعودية بدورها مُصمِّمة على التصدي لإيران لكن دون أنْ تضطر إلى مواجهتها عسكريا. وعلى الرغم من هذه المواقف، يمكن القول إنَّ اندلاع حرب شاملة في الشرق الأوسط ما زال مستوفيا لشروطه أكثر من أي وقت آخر في التاريخ الحديث.
إنَّ النزاع في أيِّ واحدة من المناطق المذكورة يمكن أنْ يقع لأي سبب من الأسباب، فلو نظرنا في هجوم 14[1]سبتمبر/أيلول على المنشآت النفطيّة السعودية يمكن القول نظريا إنه هجوم نفَّذه الحوثيون، الجماعة اليمنية المتمردة، في سياق حربهم مع المملكة. وربما تكون إيران هي التي قامت بالهجوم ردا على العقوبات الأميركية المرهقة، أو قامت به ميليشيّات شيعيّة في العراق مدعومة من إيران. بناء عليه، لو أرادت واشنطن القيام بعمل عسكري ضد إيران فإنه سيؤدي بدوره إلى انتقام إيران من حلفاء الولايات المتحدة الخليجيين، وقد يتسبّب في هجوم حزب الله ضد إسرائيل أو قيام الميليشيات الشيعية بعمليات[2]ضد موظفي الولايات المتحدة في العراق.وبالقدر نفسه، فإنَّ عمليات إسرائيل ضد حلفاء إيران، في أيِّ مكان في الشرق الأوسط، من شأنه أن يُفجِّر سلسلة ردود على مستوى الإقليم بأكمله. ولهذا السبب فإنّ أيَّ نزاع في أيٍّ من بلدان المنطقة سيمتد أثره على كل المنطقة، الشيء الذي يجعل مسألة احتوائه في نطاق ضيّق عملية عديمة الجدوى.
عندما يتعلَّق الأمر بمنطقة الشرق الأوسط فإنَّ تب أونايل، السياسي الديمقراطي الشهير، يرى أنَّ مقاربة الأوضاع في بلدان هذه المنطقة يجب أن تُفهم على عكس المنطق السائد؛ بمعنى أنَّ كل سياسات المنطقة، وبخاصّة السياسة على المستوى المحلي، تُمارس بمنطق السياسات الدولية. في اليمن، نجد أنَّ الحرب التي يخوضها الحوثيون مَثَّلت إلى وقت قريب نزاعا داخليا لم يستأثر باهتمام العالم، على اعتبار أنه نزاع تخوضه جماعة متمردة عادية ضد حكومة ضعيفة في واحدة من أفقر دول المنطقة. إلّا أنَّ هذه الحرب -ذاتها- أصبحت في الآونة الأخيرة ساحة للتنافس الإيراني السعودي، وباتت سببا إضافيا لتعميق التدخل العسكري الأميركي. قمع النظام السوري للانتفاضة الشعبيّة الذي اتسم بوحشية تفوق عمليات القمع التي شهدتها البلاد في وقت سابق، ليس الأول من نوعه لا في المنطقة ولا حتى في تاريخ سوريا الحديث، فقد تحوّل هذا القمع مؤخرا إلى ساحة مواجهة دولية استقطبت عددا من الدول، وأسفرت عن وقوع أكبر عدد من القتلى الروس على يد الولايات المتحدة، كما دفع دولا كتركيا وروسيا وإيران وإسرائيل إلى شفا الحرب. والأمر نفسه بالنسبة للصراع الداخلي في ليبيا[3]، حيث لم يقتصر على مصر وقطر والسعودية وتركيا والإمارات فحسب، وإنما سحب إلى دائرته كلًّا من روسيا والولايات المتحدة.
هناك تفسير رئيسي لفهم مثل هذه المخاطر، فقد أصبح الشرق الأوسط المنطقة الأكثر استقطابا في العالم، وللمفارقة، أكثرها تكاملا. فهذه المزاوجة، إلى جانب وجود هياكل دولة هشة تنشط فيها أطراف فاعلة من خارجها، وفي ظلِّ حدوث تحولات عديدة في الوقت نفسه، جعلت الشرق الأوسط أكثر منطقة مضطربة في العالم. وهو يعني أيضا أنه ما دام موقف الولايات المتحدة الإقليمي باقيا على حاله، فإنها لن تتعدى كونها ضربة درون حوثيّة سيئة التوقيت خطيرة الهدف، أو عملية إسرائيلية فعّالة على نحو خاص ضد ميليشيا شيعية، بعيدا عن تورّطها الإقليمي القريب المُكلِّف. في المحصّلة، السؤال الأساسي هنا لا يتعلَّق بضرورة انسحاب الولايات المتحدة من عدمه من المنطقة، وإنما يتعلَّق بالكيفية التي ينبغي أن تنخرط بها، فهل يكون تدخُّلا دبلوماسيا أم عسكريا؟ أو هل يكون من خلال مضاعفة الانقسامات أم عبر التخفيف من حدّتها؟ أو هل يكون من خلال التأييد المطلق لطرف أم من خلال السعي إلى تحقيق قدر من التوازن بين الأطراف؟
تَتَكشّف في التاريخ الحديث للشرق الأوسط سلسلة من النزاعات المتعاقبة، فكل نزاع جديد يتبوّأ مكان سلفه، وبعضه يحظى بأهمية مؤقتة على حساب النزاعات الأخرى، لكن المشترك بينها جميعا هو أنَّ كل هذه النزاعات لم يتم حلّها على نحو حقيقي وكامل. في الوقت الراهن، يظهر من النزاعات الثلاثة الرئيسية في الشرق الأوسط التي تجري بين إسرائيل وخصومها، وبين إيران والسعودية، وبين الكُتل السنيّة المتنافسة، أنها تتشابك بصورة خطرة تُنذر بالانفجار.
فخصوم إسرائيل -فيما يُعرف بمحور المقاومة- يتمثّلون حاليا في إيران وحزب الله وحماس وسوريا. والمعارك تُدور في الميادين التقليدية للحرب في الضفة الغربية وغزة، وفي سوريا حيث تشنُّ إسرائيل غارات روتينية تستهدف القوات الإيرانية والقوات الموالية لها. إلى جانب ذلك، هناك معارك في الفضاء الإلكتروني ومعارك في لبنان، حيث تُواجه إسرائيل قوات حزب الله المسلّحة تسليحا ثقيلا والمدعومة من إيران. وحتى في العراق تُواصل إسرائيل ملاحقة خصومها هناك، بل قيل إنها بدأت باستهداف القوات الموالية لإيران. إنَّ غياب السواد الأعظم من الدول العربية من خطوط المواجهة جعل من هذه المعارك أقل بروزا في المشهد وإن كانت ليست الأقل خطورة.
وقد جرى تهميش الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في هذه الدول العربية بسبب انشغالها بمعاركها الأخرى؛ فالسعودية تُعطي الأولوية لمسألة ندّيّتها مع إيران، الطرف الآخر من الصراع الشيعي-السني الذي يستغلِّه البلدان، ويُحشد له الأتباع في ميدان المنافسة القائمة بينهما. وفي الحقيقة فإنَّ الصراع بين البلدين ليس مذهبيا، بل هو صراع مدفوع بسياسات القوة والمنافسة على النفوذ الإقليمي الذي ظلّت تتكشّف فصوله في العراق وليبيا وسوريا واليمن ودول الخليج.
وهناك أخيرا الصراع السنِّي-السنِّي، الذي تتبارى فيه كلٌّ من مصر والسعودية والإمارات مع قطر وتركيا. وكما أوضحنا -شخصي وحسين آغا- في مقال نُشر في صحيفة النيويوركا،[4] في شهر مارس/آذار، أن هذا الصراع يُعَدُّ أخطر انقسام تشهده المنطقة، فهو صراع يجري فيه الرهان على من يفرض سيادته على العالم السني، ويُحدِّد دور الإسلام السياسي في المنطقة. وسواء تعلّق الأمر بالمنافسة في مصر وليبيا وسوريا وتونس أو ببلدان بعيدة مثل السودان، فمن شأن هذا الصراع أنْ يُحدِّد مستقبل المنطقة بشكل كبير.
تفتقر المنطقة -إضافة إلى قضية الاستقطاب- إلى سُبُل تواصل فعّالة بين الخصوم، وهو الأمر الذي بات يُعقِّد الأوضاع أكثر. فلا وجود لقنوات تواصل بين إيران وإسرائيل، وتنعدم قنوات التواصل الرسمي بين إيران والسعودية، وحتى جهود التواصل القائمة بين الكُتل السنية المتصارعة لا تعدو أن تكون مجرد تباهٍ خطابي أكثر منها تواصلا دبلوماسيا حقيقيا.
إلى جانب هذه الانقسامات، التي تتفاعل فيما بينها بصورة مُعقَّدة، تنزع المجموعات في بعض الأحيان إلى توحيد جهودها حول القضايا وفي أوقات أخرى تلجأ للمنافسة. على سبيل المثال، عندما تعلق الأمر بقضية الإطاحة بالرئيس السوري، بشّار الأسد، اتخذت السعودية والإمارات موقف قطر وتركيا نفسه من قضية دعم الثوار السوريين، في حين أنَّ كل طرف منهما دعم مجموعات مختلفة تُبيِّن اختلاف توجّهاته من الدور المنوط بالإسلاميين في الثورة. ولهذا السبب اتخذت هذه الدول نفسها مواقف متعارضة حيال المسألة المصرية، فدفعت قطر وتركيا بقوة في اتجاه دعم حكومة يقودها الإخوان المسلمون، في الوقت الذي كانت الرياض وأبوظبي تحاولان فيه الإطاحة بها (سقطت الحكومة في 2013، ليحلّ محلها الحكم الاستبدادي لعبد الفتاح السيسي). إنَّ قطر وتركيا تهابان إيران بالطبع ولكنهما تهابان السعودية أكثر. والشيء نفسه بالنسبة إلى حماس، فهي تقف مع سوريا ضد إسرائيل، لكنها مع ذلك ساندت المعارضة السورية والإسلاميين ضد نظام الأسد. وبطبيعة الحال، فإنَّ الانقسامات الداخلية في الشرق الأوسط يمكن أن تتغيَّر لكن مع ذلك يصعب أن يجد المرء منطقة أخرى في العالم تجري فيها مثل هذه الانقسامات بصورة دقيقة وشاملة كما هو الحال في الشرق الأوسط.
إضافة إلى ما سبق، يصعب على المرء أن يجد منطقة متكاملة كالشرق الأوسط، وهذا هو في الحقيقة العامل الثاني وراء وضعها غير المستقر؛ وهي الخلاصة التي ستفاجئ العديد من الناس باعتبارها خلاصة غريبة. فالشرق الأوسط من الناحية الاقتصادية يُعَدُّ من بين أقل المناطق تكاملا في العالم، أما من الناحية المؤسسية فالجامعة العربية تُعتَبر أقل تماسكا من الاتحاد الأوروبي وأقل فعالية من الاتحاد الأفريقي وأكثر اختلالا من منظمة الدول الأميركية، بل لا وجود لأي كيان إقليمي يجمع الدول العربية مع الجهات غير العربية الأكثر نشاطا في المنطقة مثل إيران وإسرائيل وتركيا.
جامعة الدول العربية |
لكن في مجالات أخرى عديدة ينفرد الشرق الأوسط بوصفه فضاء موحّدا، فالأيدولوجيات والحركات منتشرة عبر حدوده. في الماضي شاعت فيه العروبة والناصرية، واليوم ينتشر فيه الإسلام السياسي والحركات الجهادية. إذ تمتلك حركة الإخوان المسلمين فروعا نشطة في مصر والعراق والأردن والأراضي الفلسطينية وسوريا وتركيا وفي دول الخليج وفي شمال أفريقيا. والشيء نفسه بالنسبة إلى الحركات الجهادية مثل القاعدة والدولة الإسلامية أو داعش، فهي الأخرى تتبنّى أجندات عابرة للحدود تنبذ فكرة الدولة القُطرية والحدود القائمة عليها بالكامل.
أما أتباع المذهب الشيعي الإيراني فيتوفّرون بأعداد مختلفة في بلاد الشام والخليج، وغالبا ما يكونون في هيئة ميليشيات مسلحة تتطلّع نحو إيران من أجل استلهام التجربة والحصول على الدعم. والسعودية بدورها سعت إلى تصدير الوهابية، المذهب الإسلامي المتشدد، وإلى تمويل السياسيين والحركات السياسية في جميع أنحاء العالم. ينطبق الأمر ذاته على المنابر الإعلامية المدعومة من أحد أطراف النزاع السني-السني، مثل الجزيرة القطرية وقناة العربية السعودية؛ فهذه المنابر لها قدرة على الوصول إلى جميع الناس على مستوى المنطقة. ولا تزال أصداء القضية الفلسطينية -وإن بدت أنها تراجعت- تتردّد في جميع المنطقة، بل يمكن القول إنّ لها القدرة على تعبئة الناس بطريقة ليس لها ما يُعادلها في جميع أنحاء العالم. وحتى الحركات شبه القومية، مثل الحركة القومية الكردية التي يمتد تأثيرها في أربعة بلدان، تُشجِّع الأجندات التي تتخطّى الحدود القُطرية.
يبدو هذا التدخُّل الخارجي بوضوح في مآلات الانتفاضات العربية التي بدأت في أواخر عام 2011. يُستثنى من ذلك تونس، التي مَثَّلت شرارة تلك الثورات، فقد جرت فيها عملية الإطاحة بالرئيس بسرعة شديدة وبشكل مفاجئ في هذا البلد الذي كان يُعَدُّ على هامش السياسة الإقليمية، وبالتالي لم تتح الفرصة للدول الأخرى لتتجاوب مع ذلك التحوّل في الوقت المناسب. غير أن التدخُّل الخارجي سرعان ما عثر على موطئ قدم في الثورات التي جرت في وقت لاحق في المنطقة، فأصبحت تحظى بأهمية إقليمية ودولية. وقد تجلّى هذا التدخُّل في تجربة مصر، عندما وضعت الثورة مصير الإخوان المسلمين والإسلام السياسي على المحك، الشيء الذي سمح بتدخل قطر والسعودية وتركيا والإمارات. وحصل الشيء نفسه في ليبيا، حيث انخرطت مصر في المعارك الدائرة هناك بعد أن سادت الغلبة للسيسي وتخلّص من الإخوان المسلمين. وفي سوريا أيضا، اجتذبت الحرب الأهلية هناك النزاعات الإقليمية الثلاثة: النزاع الإسرائيلي مع محور المقاومة، والنزاع الإيراني-السعودي، والنزاع السني الداخلي. وجرى -كذلك- تنفيذ سيناريو مماثل في اليمن.
إضافة إلى عاملَيْ الاستقطاب والتكامل، يُعاني الشرق الأوسط من حالة اختلال في هياكل الدولة، حيث نجد هياكل بعض دوله أشبه ما تكون بهياكل الجهات الفاعلة غير الحكومية. ولهذا نجد الحكومات المركزية في ليبيا وسوريا واليمن تعوزها السيطرة على مساحات شاسعة من أراضيها. وبالنتيجة، تقوم الجهات الفاعلة غير الحكومية، مثل حماس والحركة الحوثية والأكراد والدولة الإسلامية (قبل الإطاحة بها)، بتولّي مهام الدولة الافتراضية. وفي المقابل، يتعيّن على هذه الجهات نفسها أن تتعايش مع مُخرّبين فاعلين من نوع خاص؛ فحماس تتصارع في غزة مع المجموعات الجهادية التي تتصرّف أحيانا بصورة تضر سلطتها أو تتعارض مع أهدافها. وحتى في الدول التي تمتلك هياكل وظيفية فاعلة، ليس من الواضح دائما معرفة الجهة المسؤولة عن وضع سياساتها، فالميليشيات الشيعيّة في العراق وحزب الله في لبنان يقومان بأنشطة لا تستطيع الجهات السيادية في البلدين السيطرة عليها، ناهيك بأن يكون بمقدورها غضّ الطرف عن أنشطتها.
فضلا عما سبق، فإن الدول الضعيفة التي تنشط فيها الجهات الفاعلة غير الحكومية تهيئ الظروف المثالية للتدخُّل الأجنبي. ومع أن عملية التدخُّل هذه تعمل وفقا لمسارين، مسار تسعى فيه الدول الأجنبية إلى استغلال المجموعات المسلحة [من الجهات الفاعلة غير الحكومية] من أجل تعزيز مصالحها، ومسار آخر تلجأ فيه المجموعات المسلحة إلى الدول الأجنبية من أجل تقوية وضعها، إلا أنها في المجمل علاقة لا تخلو من سوء تفسير. في حالة إيران مثلا، بات من شبه المؤكّد أنها تساعد الحوثيين والميليشيات الحوثية، لكن هل يعني ذلك أنها تتحكّم فيهم؟ الشيء نفسه بالنسبة لوحدات حماية الشعب، حركة المقاتلين الأكراد في سوريا، فهي الأخرى مرتبطة بحزب العمال الكردستاني في تركيا، لكن هل تتلقّى منها التوجيهات؟
ومما يُفاقم من سوء التفسير لطبيعة هذه العلاقة أن الجهات الفاعلة غير الحكومية تعمل كجهات مستقلة، وفي الوقت نفسه تعمل بالوكالة عن أطراف خارجية؛ ما يجعل من مسألة التثبُّت من مسؤولية ارتكابها للعنف أو ردعها من البداية أمرا صعبا. ولهذا السبب تفترض إيران بالخطأ أنها لن تكون مسؤولة عن هجوم الحوثيين بالطائرات المسيّرة على السعودية، أو عن هجوم حركة الجهاد الفلسطينية على إسرائيل، أو هجوم الميليشيّات الشيعيّة في العراق على أهداف أميركية. والسعودية من جهتها قد تلجأ إلى إلقاء اللوم على إيران عند أي هجوم حوثي تتعرّض له، شأنها في ذلك شأن إيران التي قد تلوم السعودية عند أي حادثة عنف ترتكبها المجموعات المعارضة على أراضيها. أما الولايات المتحدة فهي بدورها تكاد تكون مقتنعة بأن كل الميليشيّات الشيعيّة ما هي إلا ميليشيّات تُنفِّذ عمليات بالوكالة عن طهران. إسرائيل من جانبها قد تُحمِّل حماس مسؤولية أي هجوم يصدر من غزة، أو تُلقي اللوم على إيران في أي هجوم يصدر من سوريا، أو تَعتَبِر لبنان مسؤولا عن شنّ حزب الله لأي هجوم عليها. وفي كل الأحوال، سيكون سوء التفسير لأي حالة من الحالات السالفة أمرا باهظ الثمن.
إنَّ هذا الذي نُقرِّره ليس مجرد تمرين فكري، فقد أعلن الحوثيون مباشرة بعد الهجوم على المنشآت النفطيّة السعودية في سبتمبر/أيلول عن مسؤوليتهم عن الهجوم، ربما أملا في تعزيز موقفهم؛ في حين أنكرت إيران أيَّ دور لها في الهجوم، سعيا منها ربما لتفادي أي رد فعل أميركي تجاهها. في المحصلة، فإن أي جهة تُنفِّذ الهجوم ويتم عقابها -أيًّا كانت هذه الجهة- سيُفضي عقابها إلى تداعيات واسعة النطاق.
وفي الدول التي تمتلك هياكل وظيفية جيدة للدولة باتت مراكز صناعة القرار غير معروفة؛ ففي إيران -على سبيل المثال- تبدو الحكومة والحرس الثوري الإسلامي، الذي يتلقّى التوجيهات مباشرة من المرشد الأعلى، في بعض الأحيان وكأنهما يعملان بصورة منفصلة ومستقلّة عن بعضهما بعضا. فهل تُعتَبر هذه الاستقلالية قرارا واعيا لتقسيم العمل بينهما أم أنها تعكس صراعا حقيقيا؟ الإجابة عن هذا السؤال قابلة للنقاش بالطبع، شأنها شأن السؤال المُتعلِّق بمَن منهما يتحكّم في السلطة.
في الواقع، هناك جملة تحوّلات دوليّة وإقليميّة ومحليّة ساهمت في تعقيد التفاعلات آنفة الذكر، لا سيما التحوّلات الدوليّة المُتمثِّلة في بروز الصين واستعادة روسيا لنفوذها تزامنا مع تراجع نسبي لمكانة الولايات المتحدة على المسرح الدولي. أما على مستوى التحوّلات الإقليمية، فهناك تأثير الانتفاضات العربية، خصوصا التأثيرات المتصلة بتفكّك النظام الإقليمي وتفشي ظاهرة الدول الفاشلة. كما ساهمت التغيّرات المحلية أيضا في تفاقم الأوضاع، خصوصا بعد وصول قيادة جديدة حازمة على غير العادة في السعودية، بالتوازي مع وصول قيادة جديدة استثنائية في الولايات المتحدة. كل هذه التطوّرات أجّجت المنطقة وساد فيها الشعور بأنَّ كل شيء صار متاحا، وأن الفرصة التي لا تُنتهز في ظلِّ هذه الظروف ستضيع إلى الأبد.
لقد دفعت هذه التحوّلات حلفاء الولايات المتحدة للشعور بالقلق حيال قدرة البلاد في المحافظة على مكانتها وباتوا يحسون في الوقت نفسه بالسرور إزاء سياسات إدارة ترمب، لا سيّما بعد أن جعل من أولوياته إصلاح العلاقة مع مصر وإسرائيل والسعودية والإمارات التي كان قد اعتراها الضعف في فترة سلفه. وبالمثل فقد كان ترمب واضحا في إحجامه عن استخدام القوة شأنه في ذلك شأن تخليه عن حلفاء أميركا القدامى في أنحاء أخرى من العالم.
الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" |
هذا المزيج من الغبطة والتوجس يساعدنا في الحقيقة في فهم جملة متغيّرات على الساحة المحليّة، مثل سلوك المغامرة غير المعهودة التي انتهجتها السعودية تحت قيادة ولي عهدها الأمير محمد بن سلمان، المعروف اختصارا بـ "مبس". وقد شملت تلك المغامرة الاستمرار في حرب اليمن، وحصار دولة قطر، واختطاف رئيس الوزراء اللبناني، وقتل المعارض جمال خاشقجي[5]. فمن وجهة نظر الأمير محمد بن سلمان يُمثِّل التوافق الحاصل الآن مع واشنطن فرصة لن تتكرر؛ إذ لا ضمان لفوز ترمب بإعادة الانتخاب، ولا ضمان لترمب نفسه، فقد يُغيِّر فجأة توجّهه ويتخذ سياسة يتوصل بها إلى صفقة مع إيران، إضافة إلى أن الولايات المتحدة لديها رغبة قديمة للتخلُّص من أعباء الشرق الأوسط. وفي إسرائيل يسود شعور مماثل، في حين يسعى بقية شركاء الولايات المتحدة في المنطقة إلى الاستفادة من حكم ترمب ويحتاطون من احتمال انتهاء حكمه بفترة رئاسية واحدة.
في غضون ذلك، منح بروز روسيا والصين شيئا من الشجاعة لإيران لكنه لم يرقَ إلى الثقة الكاملة. والحال كذلك، هل ستقف موسكو إلى جانب إيران في حالة تزايد التوتر بين طهران وواشنطن، أم أنها ستبقى على الحياد أملا في الاستفادة من الاضطراب الإقليمي؟ وهل تتجاهل الصين تهديد أميركا بالعقوبات وتشتري النفط الإيراني، أم أنها قد تمتثل لمطالب واشنطن على أمل إبرام صفقة تجارية معها؟ والأكثر خطورة في الأمر هو عدم تأكّد الأطراف من نيّات أميركا، فإيران تشعر بنفور ترمب من الحرب ولذلك تحاول تجاوز القواعد وتضغط على واشنطن على أمل الحصول على قدر من المكاسب التي من شأنها أن تُخفِّف عنها العقوبات. غير أن جهل إيران بقواعد اللعبة الأميركية يجعلها تتمادى في المخاطرة إلى أقصى درجة مُمكنة وإن قادها ذلك إلى دفع الثمن.
لعله من المفيد لفهم كيفية تفاعل هذه التحوّلات في المستقبل أن ننظر في الكيفية التي جرت بها تفاعلات مماثلة في الماضي القريب في سوريا. نتذكّر في هذا السياق أن السعودية والدول الأخرى في المنطقة انتهزت فرصة أحداث الانتفاضة السورية المحلية الرامية إلى الإطاحة بنظام الأسد، فاعتمدت على المعارضة من أجل إحداث تغيير في توازن القوى الإقليمي وإنهاء تحالف دمشق منذ أمد طويل مع طهران. وتحسُّبا لمغبة هذه النتائج، سعت كلٌّ من إيران وحزب الله إلى ضخ مواردهما في خوض حرب بالوكالة عن النظام في سوريا أفضت إلى كلفة بشرية فادحة[6].
كما تدخَّلت إسرائيل بدورها في هذه الحرب تحت ذريعة دحر الوجود الإيراني المتنامي على مشارف حدودها. أما قطر وتركيا فقد دعمتا مجموعات معارضة ذات ميول إسلامية، في حين دعمت السعودية وحلفاؤها مجموعات أخرى. ورأت روسيا من جانبها في تحوّلات النظام السوري فرصة للتدخُّل تستعيد من خلاله مكانتها خصوصا بعد أن شعرت بتردّد أميركا، وهو الأمر الذي أدّى في النهاية إلى اصطدامها مباشرة مع الولايات المتحدة ومع تركيا لبعض الوقت. أما تركيا نفسها فشعرت بالانزعاج من احتمالات حصول الفصائل الكردية المدعومة من الولايات المتحدة على ملاذات آمنة في شمال سوريا، وبالتالي انخرطت في الحرب ودعمت في الوقت نفسه مجموعات المعارضة السورية العربية لمحاربة الأكراد[7].
ومنذ أن أصبحت سوريا ساحة توتر إقليمي، بات خطر إمكانية أن تتحوّل المناوشات هناك -حتى وإن كانت غير مقصودة- إلى بؤر توتر لمواجهات أكبر يتعاظم مع الوقت. فتركيا على سبيل المثال، أسقطت طائرة روسية مقاتلة (واتهمت موسكو إسرائيل بإسقاط طائرة أخرى)، والقوات الأميركية قتلت المئات من أفراد مجموعة روسية خاصة شبه عسكرية في شرق سوريا. إضافة إلى ذلك، هاجمت تركيا الأكراد المدعومين من الولايات المتحدة، وكاد أن يؤدّي ذلك إلى وقوع مواجهة عسكرية أميركية-تركية. الشيء نفسه بالنسبة إلى إسرائيل، فقد قامت بشن ضربات على إيران، أو العناصر الموالية لها في سوريا، لمئات المرات.
بالإضافة إلى ما سبق، تكشف التجربة السورية عن الصعوبة البالغة التي تكتنف خيار تقييد مشاركة الولايات المتحدة في صراعات الشرق الأوسط؛ ففي ظل إدارة أوباما دعمت واشنطن الفصائل الثورية التي حاربت نظامَيْ الأسد وداعش، ولكنها ادَّعت أنها لا تسعى إلى تغيير النظام (على الرغم من دعمها لقوات تسعى لتحقيق هذا الأمر تحديدا)، وأنها لا تسعى إلى إعادة التوازن الإقليمي (رغم وضوح تأثير سقوط الأسد على نفوذ إيران)، وأنها لا تسعى إلى تقوية خصوم تركيا (رغم دعمها لحركة كردية مرتبطة بأعداء تركيا)، وأنها لا تسعى إلى إضعاف روسيا (مع علمها بالمودة التي تبديها موسكو تجاه الأسد). وبالطبع، لا يمكن للولايات المتحدة أن تدعم الفصائل المعارضة في الوقت الذي تنأى فيه بنفسها عن أهدافهم، أو تزعم أنها مجرد مطالب محليّة في حين أنَّ كل الأطراف التي شاركت رأت الأزمة في سياق أوسع من المحلي. هكذا أصبحت الولايات المتحدة لاعبا رئيسيا في منافسة إقليمية ودولية تدَّعي أنها لا تريد أن يكون لها أي علاقة بها.
في اليمن جرت أحداث مماثلة لتلك التي حدثت في سوريا، فمنذ عام 2004 تحوّل الجزء الشمالي من البلاد إلى ساحة نزاع مسلّح متكرر بين الحوثيين والحكومة المركزية. كما اتُّهمت إيران في مرحلة مبكرة من هذا النزاع بالمسؤولية عن دعم المتمردين الحوثيين ماليا وعسكريا، في حين اتَّهم الحوثيون بدورهم السعودية بالتدخل في النزاع. وعندما استولى الحوثيون على العاصمة وتوجّهوا نحو الجزء الجنوبي من البلاد، في الفترة 2014-2015، جاء ردّ السعودية عليهم تحسبا من مغبة سيطرة ميليشيات مسنودة من إيران على جارتها الجنوبية. ومما زاد من حدة ردّ فعل السعودية أنّ الأحداث جاءت متزامنة مع بروز الأمير محمد بن سلمان "مبس"، ليس لأنه لم يَرْتَبْ من موقف الولايات المتحدة المساند له فحسب، بل أراد أيضا أن يُظهِر لإيران انتهاء العهد القديم بالإضافة إلى وضع بصمته في الداخل السعودي.
ولي العهد السعودي "محمد بن سلمان" |
في مواجهة هذا الضغط السعودي المُكثَّف، تزايد توجّه الحوثيين إلى إيران بصورة متكررة طلبا للدعم العسكري. إيران من جهتها، تلقّفت الدعوة ووجدتها فرصة مناسبة لتُعزِّز نفوذها في المنطقة وإغراق السعودية [في مستنقع الحرب]. أما الولايات المتحدة التي كانت في وقتها لا تزال في خضم مفاوضات الملف النووي مع إيران -ندّ السعودية الألد-فقد شعرت بأنها في غنى عن إضافة أزمة جديدة إلى ملف علاقاتها الهشة مع حلفائها الخليجيين. وعلى الرغم من مخاوف واشنطن من الحرب فإنها وضعت ثقلها خلف التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، فشاركتها في عملية تبادل المعلومات الاستخباراتية وزوّدت التحالف بالأسلحة والدعم الدبلوماسي.
وبسيناريو شبيه بما حصل في سوريا، عندما عملت إدارة أوباما على تحجيم مستوى المشاركة الأميركية في الحرب، اكتفت أميركا بمساعدة السعودية في الدفاع عن سيادة أراضيها لكن دون مشاركتها في الحرب على الحوثيين أو التورّط في الصراع الإيراني-السعودي. ومثل ما حدث في سوريا، فقد ذهب هذا المجهود سدى، إذ ليس بمقدور الولايات المتحدة أن تختار جانب أحد طرفي الحرب، فلو وقفت مع السعودية فهذا يعني أنها ضد الحوثيين وبالتالي ضد إيران.
إنَّ جهود الرئيس باراك أوباما الرامية إلى تحجيم مشاركة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لم تكن غير مثمرة فحسب، بل إنها -في الواقع- تكشف عن ناحية أخرى، تكشف عن العروة الوثيقة التي تربط مختلف صراعات الشرق الأوسط بعضها ببعض، وعن الخيارات المتاحة أمام الولايات المتحدة [في هذه المنطقة]. فالرئيس أوباما (الذي عملت ضمن إدارته) كان يُفكِّر في تخليص الولايات المتحدة مما كان يُطلق عليه "مأزق الشرق الأوسط الكبير"، وبناء على هذا التوجُّه سحب القوات الأميركية من العراق، وحاول تسوية النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، وعبَّر عن تعاطفه مع الانتفاضات العربية الشعبية، كما نأى بنفسه -لبعض الوقت- عن الحُكَّام المستبدِّين، وتجنَّب خيار التدخُّل العسكري المباشر في سوريا، وتوصَّل إلى اتفاق مع إيران يمنع برنامجها النووي من إشعال فتيل الحرب في المنطقة.
وهذا الموقف ذاته التزمه في تجربة ليبيا، التي لم تتماشَ مع هذا التوجّه، حيث عمل أوباما وفقا لقناعة مفادها أن تدخل الناتو في عام 2011 سيكون تدخُّلا محدودا وصارما. وحينما تبيّن له عدم صواب هذا التصور، جدَّد رغبته في خيار الابتعاد عن صراعات الشرق الأوسط. وقد كان الهدف النهائي من وراء هذا التوجّه هو مساعدة المنطقة على تحقيق توازن أكثر ديمومة يجعلها أقل اعتمادا على تدخُّل أميركا المباشر أو طلب حمايتها. ولهذا، كان أوباما يتحدَّث حول ضرورة توصّل طهران والرياض إلى صيغة تفاهم "لتقاسم" المنطقة، الشيء الذي ظلَّ يُثير سخط السعوديين.
إلى جانب ما سبق، كان أوباما يتّبع أسلوبا متدرِّجا في سياساته انطلاقا من إيمانه بأنَّ الولايات المتحدة لا يمكن أن تُغيِّر مسار سياساتها بصورة مفاجئة أو راديكالية، فمن شأن ذلك الإضرار بعلاقاتها الإقليمية التي بُنيت على مرِّ العقود. وقد قال لنا مرة في المجموعة التي كنّا نعمل فيها معه في البيت الأبيض إنَّ إدارة السياسة الأميركية يُشبه إدارة مركبة ضخمة، وأن تغيير المرء لمسار سير مثل هذه المركبة لبضع درجات قد لا يظهر لحظتها إلا أنه سيُؤثِّر بشكل كبير على الوجهة النهائية للمركبة. لهذا السبب، اتَّسمت كل السياسات التي سلكها بالاعتدال، بل حتى عندما سعى إلى إقناع السعودية لفتح قنوات حوار مع طهران، فعل ذلك بلطف وبدافع الحرص على تحقيق الاستمرارية والتغيير في سياسات الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. ورغم سعيه هذا، لتجنُّب التورط في التدخل العسكري في شؤون المنطقة، فإن فترة رئاسته شهدت عدة تدخُّلات عسكرية مُكلِّفة، شملت تدخُّلا عسكريا مباشرا في ليبيا وتدخُّلا غير مباشر في سوريا واليمن.
يُعَدُّ مشروع إدارة أوباما، بمعنى من المعاني، مشروعا تجريبيا توقَّف في منتصف الطريق، فقد كانت مقاربته للشرق الأوسط تقوم على قناعة مفادها بأن شخصا ما سيأتي بعده يُكمل عمله من حيث توقَّف، شخصا مثل هيلاري كلينتون مثلا، ولكن بالتأكيد ليس شخصا مثل دونالد ترمب.
على النقيض، عندما وصل ترمب إلى السلطة اتّخذ مسارا مغايرا تماما لتلك السياسات (مدفوعا في الغالب برغبة اتّباع مسلك يُخالف ما قام به سلفه في السلطة). فبدلا من السعي إلى تحقيق شيء من التوازن في علاقاته بالأطراف المختلفة، انحاز ترمب تماما لطرف في النزاع؛ فضاعف الدعم لإسرائيل، ومنح تأييده الكامل لـ "مبس"، والسيسي، والزعماء الآخرين الذين كانوا يشعرون بازدراء أوباما لهم، وانسحب من الاتفاق النووي مع إيران، والتحق بحماسة شديدة للمحور المعادي لإيران في المنطقة. إضافة إلى ذلك، اختارت واشنطن المواجهة مع إيران وإضعافها على كل الجبهات وبكل السُّبُل، بما في ذلك جبهة الاتفاق النووي والاقتصاد، وجبهة سوريا حيث برَّر المسؤولون الأميركيون وجودهم هناك صراحة بمسألة التصدي لإيران، وجبهة العراق حيث طلبت الولايات المتحدة من الحكومة الهشّة التي يعتمد بقاؤها على علاقاتها الوثيقة مع إيران قطع تلك العلاقات، وفي جبهة اليمن حيث ضاعفت إدارة ترمب هناك دعمها للتحالف الذي تقوده السعودية ولم تلتزم بموجِّهات الكونغرس، وفي جبهة لبنان حيث زادت الإدارة الأميركية العقوبات المفروضة على حزب الله.
الرئيس الأميركي "دونالد ترامب" والرئيس المصري "عبد الفتاح السيسي" |
إيران من جهتها، اختارت أن تتعامل مع المنطقة كساحة خاصّة بها، فإلى جانب تحرُّرها من التزاماتها الخاصة بصفقة النووي، فإنها احتجزت شاحنات نقل في الخليج وأسقطت طائرة درون أميركية. وإذا صحّت المزاعم الأميركية، فإنها استخدمت الميليشيات الشيعيّة لتهديد الأميركيين في العراق، وهاجمت السفن التجارية في مضيق هرمز، وضربت حقول النفط السعودية. وعندما فكَّر ترمب في يونيو/حزيران من هذا العام[9]في احتمال الرد العسكري، سارعت إيران إلى تحذير قطر والسعودية والإمارات بأن المعركة ستطولهم في حال لعبت أي واحدة منها دورا في تمكين الهجوم الأميركي عليها (وبالطبع، ليس هناك ما يجعلنا نعتقد أنَّ تداعيات الحرب ستقتصر على تلك الدول، وإنما ستشمل دولا كالعراق وإسرائيل ولبنان وسوريا).
أما في اليمن، فقد كثَّف الحوثيون هجومهم على المناطق السعودية، وقد يكون ذلك بتحريض من إيران وقد لا يكون، لكن من المؤكَّد أنها لا تعترض عليه. غير أن القيادات الحوثيّة التي تحدّثت إليها مؤخرا في العاصمة صنعاء أنكروا أن يكونوا يعملون بأوامر من إيران، لكنهم أشاروا إلى أنهم سينضمّون بلا شك إلى جانب إيران في الحرب مع السعودية في حالة استمرار حربهم معها. خلاصة القول، إنَّ سياسات إدارة ترمب التي ادَّعت واشنطن أنها ستؤدي إلى تهذيب سلوك إيران وتعمل على تحقيق اتفاق نووي أكثر توازنا، دفعت طهران إلى تكثيف أنشطتها الإقليمية وجعلتها تتجاهل قيود الاتفاق النووي القائمة حاليا. إنَّ هذه التطورات في الحقيقة تضرب في صميم سياسات الرئيس ترمب تجاه الشرق الأوسط وتُضاعف من إمكانية حدوث المواجهة العسكرية التي يُصِرُّ على تفاديها.
إنَّ اشتعال حريق في المنطقة ليس أمرا حتميا، فليس هناك طرف في النزاع يريد الحرب، بل سعت معظم الأطراف حتى الآن إلى ضبط النفس لتفادي التصعيد. لكن بالنظر إلى التفاعلات الجارية في المنطقة، يمكن أن يترتَّب على الأفعال التي يحرص الناس على ضبطها عواقب وخيمة غير مقصودة. على سبيل المثال، تخيّلوا لو حصل هجوم إيراني آخر في الخليج[10]، أو حصلت ضربة إسرائيلية في العراق تتجاوز الخطوط الحمراء الإيرانية، أو تخيّلوا صواريخ حوثية تقتل أعدادا كبيرة من السعوديين والأميركيين، أو الرد الذي قد يستهدف مصدر تلك الصواريخ في إيران، أو قتل الميليشيّات الشيعيّة لعساكر أميركيين في العراق، أو أن يتجاوز برنامج إيران النووي -بعد تحرر من قيود الاتفاق- النطاق الذي تتسامح فيه إسرائيل وأميركا. من السهولة أن يتخيّل المرء كيف يمكن لأيٍّ من هذه الأحداث أن تتّسع عبر الحدود، وكيف سيتصرّف كل طرف لتأمين مساحة بمزايا تنافسية أكبر لصالحه.
والحال هذه، فإنَّ النقاش حول إمكانية أن تنأى الولايات المتحدة بنفسها من المنطقة، بخفض مستوى وجودها العسكري، يبقى نقاشا مهما ولكنه خارج سياق منطق أحداث المنطقة؛ لأنه في حالة حدوث أي واحد من السيناريوهات السالفة، ستجد الولايات المتحدة نفسها بكل تأكيد داخل هذه الحرب، سواء اتخذت قرار الانسحاب الإستراتيجي من الشرق الأوسط أو لم تتخذه.
تبعا لذلك، فالسؤال الأكثر أهمية في هذا النقاش يتصل بنوع الشرق الأوسط الذي تريد الولايات المتحدة أن تبقى مشاركة فيه أو تنسحب عنه. هل تريد منطقة مستقطبة بالصراعات المتداخلة وتأخذ فيها النزاعات المحلية دائما دلالة أوسع من نطاقها؟ أم هل تريد منطقة تعيش في ظل خطر دائم قابل للاشتعال وبالتالي تتورّط معها الولايات المتحدة في نزاعاتها بصورة مُنهِكة عديمة الجدوى؟ بالطبع، إنَّ قضية تخفيض التصعيد ليس أمرا يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة لوحدها، لكن على الأقل يمكن أن تتوقَّف عن مفاقمته بدون أن تضطر إلى التخلي عن دورها في فض هذه النزاعات أو تجنُّب التدخُّل فيها. والسبيل إلى ذلك يكون من خلال تجنُّب منح شركائها تفويضا مطلقا أو تمكينهم لممارسة أعمالهم العدوانية. وإن حصل ذلك، فهو يعني وقف دعمها للحرب في اليمن والضغط على حلفائها لوضع نهاية للنزاع هناك. كما يعني تعليق جهودها الرامية إلى تدمير اقتصاد إيران والانضمام مجددا إلى الاتفاق النووي ومن ثم التفاوض بشأن إبرام اتفاق شامل.
كما يعني من جانب آخر إيقاف حملاتها العقابية بحق الفلسطينيين والبحث عن سُبُل جديدة لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي. وفي حالة العراق، يعنى أن تكفَّ الولايات عن إجبار بغداد لاختيار أحد الطرفين إما طهران أو واشنطن. أما فيما يتعلَّق بالتنافس الإيراني-السعودي، فإنه يجب على الولايات المتحدة أن تُشجِّع الطرفين للعمل في تدابير بناء ثقة أولية كالتعاون في مجال الأمن البحري وحماية البيئة والأمان النووي والشفافية في التدريبات العسكرية، قبل الانتقال إلى مهمة أكثر طموحا مثل تأسيس كيان إقليمي يكون شاملا للجميع، كيان من شأنه التعاطي مع المخاوف الأمنية للبلدين.
في الحقيقة، فإن الإدارة الأميركية التي تعتزم اتّباع هذا النهج لن تبدأ من الصفر، فهناك بعض الدول الخليجية -على رأسها الإمارات- بدأت باتخاذ الخطوات الأولية في التواصل مع إيران في محاولة لخفض التصعيد. فقد توصّلوا إلى أنَّ المخاطر المتزايدة لأزمة المنطقة قد تخرج عن السيطرة، مما يترتَّب عليها تبعات مُكلِّفة. الشيء نفسه بالنسبة إلى الولايات المتحدة، عليها أن تعترف بهذه المخاطر قبل فوات الأوان.