مئات المليارات من الجنيهات تدور خارج موازنة الحكومة المصرية فيما يعرف باسم الصناديق الخاصة»،ورغم الجدل المحاط حولها فإنه حتى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي لم يستطع أن يضمها للموازنة العامة للدولة.
والصناديق الخاصة، أو الصناديق السوداء كما يسميها البعض، هي صناديق مالية أُسست داخل العديد من المؤسسات الحكومية، تحصل على إيراداتها في الأغلب من رسوم إضافية تفرضها هذه المؤسسات نظير تقديمها خدماتها للشعب، ولكنها ليست جزءاً من الموازنة العامة للدولة، وذلك في مخالفة لمبدأ وحدة وعاء الموازنة العامة.
وبعد أن كان يُتوقع من الرئيس عبدالفتاح السيسي الذي عُرف عنه فتح العديد من الملفات الشائكة، بأن يستجيب لطلبات متكررة من اقتصاديين وسياسيين وخبراء بضم هذه الصناديق للموازنة العامة للدولة، ويرى البعض فيها حلاً لمشكلات عجز الميزانية الضخم ووقف الهدر والفساد.
ولكن المفاجأة أن السيسي أصدر قانوناً يكتفي باستقطاع جزء من أرصدة هذه الصناديق لتؤول إلى خزينة الدولة، وخلال الفترة الماضية وافقت لجنة برلمانية على قانون مماثل، وهو ما اعتبره البعض تقنيناً لوضعها الشاذ والاكتفاء بالجباية منها.
لماذا أثار القانون مزيداً من الجدل بدلاً من حلِّ المشكلة؟
وافقت لجنة الخطة والموازنة في البرلمان المصري، الأسبوع الماضي، على مشروع قانون حكومي يسمح بأن تؤول نسبة من أرصدة الصناديق والحسابات الخاصة وفوائض الهيئات إلى الخزانة العامة للدولة، وهو على ما يبدو استكمال أو تأكيد للقانون السابق الذي أصدره السيسي.
وزاد هذا القانون من التساؤلات بشأن سبب عدم المساس بعددها وحجم أرصدتها وطريقة إدارتها.
وتجنَّب القانون سَن أي مواد تتعلق بإخضاعها للرقابة كاملة، والتعامل عليها بشفافية، واكتفى بطلب توريد نسب تتراوح بين 5 و15% من أرصدتها، رغم سابقة الرئيس عبدالفتاح السيسي في التعامل مع العديد من الملفات الشائكة.
وفي يونيو/حزيران 2017، أصدر السيسي القانون رقم 83 لسنة 2017، بأن تؤول نسبة من أرصدة الصناديق والحسابات الخاصة والوحدات ذات الطابع الخاص إلى الخزانة العامة للدولة، وهو ما اعتبره مراقبون «تقنيناً للفساد» و «حماية لها» وليس «فتحَ ملفات الفساد».
وانخفض سقف التوقعات لدى كثيرين من إصدار قانون لضم الصناديق الخاصة للموزانة العامة، ووضعه كمادة في قانون الموازنة، باعتبارها موارد مهدرة وعرضة للفساد، إلى توريد جزء من أرصدتها سنوياً.
مَن يقف وراء الصناديق الخاصة؟
وبات السؤال الأكثر أهمية، في شِقه الأول، هو لماذا توقفت حملة السيسي على «الصناديق الخاصة»، التي أثيرت في أعقاب ثورة 25 يناير/كانون الأول 2011، والتي كان يُنظر لها على أنها «مغارة علي بابا والأربعين حرامي»، بإصدار قانون وُصف «بالجباية» في أفضل أحواله.
وشقه الثاني هو ما علاقة الجهات السيادية في الدولة باقتصار التعامل مع الصناديق الخاصة عند هذا الحد، دون المساس بطبيعتها الخاصة وأوجه إنفاقها، والقائمين عليها والمستفيدين منها، وإخضاعها لقانون موحد ووضعه في قانون الموازنة.
وأرجع العديد من الخبراء والباحثين السبب إلى امتلاك العديد من الجهات الأمنية والسيادية في البلاد لعشرات الصناديق الخاصة، التي تُدرّ مبالغ طائلة على المستفيدين والقائمين عليها، على الرغم من أنها أنشئت في الأساس لتخفيف العبء عن الدولة.
تعرف على الجهتين اللتين تملكان أكبر صندوقين أسودين في البلاد
ورأى الخبير الاقتصادي، ورئيس قسم الدراسات الاقتصادية بأكاديمية العلاقات الدولية بإسطنبول، أحمد ذكر الله، أن السيسي لم يستطع، أو لم يُرد كسر أقفال الصناديق وإخراج العفريت من «القمقم» لعدة اعتبارات.
وقال ذكر الله لـ «عربي بوست» إن «من وصفهم بـ «قياصرة الفساد» يتصدون لأية محاولة لتقنين أوضاع تلك الصناديق، ويساعدهم على ذلك تراخي الدولة عن الإفصاح والشفافية حول الأرقام الحقيقية الموجودة فيها، وكذلك تراخي الدولة في إصدار التشريعات المنظمة لعملها والرقابة عليها، وكيفية استحقاق الإنفاق منها».
وانتقد نهج السلطات مع قضية الصناديق الخاصة قائلاً: «لم تواجه السلطة مشكلة الصناديق الخاصة، وكل ما استطاعت فعله هو فرض نسب مئوية كضريبة على حصيلة الأموال السنوية لهذه الصناديق».
وكشف أن «الصناديق التابعة لوزارتي العدل والداخلية هي الأكبر وزناً بين بقية الصناديق، ورغم أن الجميع لا يعلم ما هي المبالغ التي توجد في هذه الصناديق على وجه التحديد، إلا أن المبالغ الكبيرة التي تُصرف كحوافز للقضاة في المناسبات المختلفة، والتي تمول عبر تلك الصناديق ربما تدل على موازنات هذه الصناديق الكبرى».
لا يمكننا فحص صناديق هذه الوزارة السيادية
في سبتمبر/أيلول 2014، أكد رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات، المستشار هشام جنينة، أن وزارة الداخلية لديها أكثر من 60 صندوقاً، والجهاز لا يستطيع فحص سوى خمسة صناديق فقط.
وطالب جنينة حينها بإصدار مرسوم بقانون يُلزم كافة أجهزة الدولة بالإفصاح عن الصناديق الخاصة لديها، وأوجه إنفاقها، والسند القانوني لعمل هذه الصناديق.
وتتوقع الحكومة أن تحصل على موارد مالية للخرانة العامة تصل إلى 5 مليارات جنيه سنوياً، تزيد بزيادة نسب التوريد من قبل الصناديق والحسابات الخاصة.
مَن بدأ هذه البدعة المالية؟
تأسَّست الصناديق الخاصة بقرار جمهوري رقم 38 لسنة 1967، في عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر، ثم بقرار في عهد الرئيس الراحل أنور السادات رقم 53 لسنة 1973، وفقاً لاعتبارات معينة، وبغرض تحقيق أهداف محددة، وتتبع الوزارات والهيئات العامة والمحافظات والمجالس المحلية.
وتوسَّعت جميع الجهات في إنشاء صناديق وحسابات خاصة، سواء بقرار جمهوري أو من دون، في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، حيث صدرت قوانين تعطي الحق للعديد من الجهات فى إنشاء صناديق خاصة، وسط غياب الرقابة على معظمها.
وتحصل الصناديق الخاصة على مواردها المالية من عامة الشعب، من حصيلة الدمغات والغرامات والرسوم التي تفرضها كل جهة ووزارة على حدة.
ثم جاءت ثورة يناير ففتحت هذا الملف
ولاحقت الشبهات وتهم الفساد «الصناديق الخاصة»، وأثيرت تساؤلات عدة حولها مثل «كم عددها، وكم أرصدتها، وأين تذهب، ومن المستفيد منها أمام سلطة القائمين عليها داخل مفاصل الدولة».
وأثيرت قضية «الصناديق الخاصة» في أعقاب ثورة 2011 في مصر، وباتت مدار حديث الناشطين، والصحافة والإعلام، وفي أروقة البرلمان.
وأقرّ أول برلمان مصري بعد ثورة يناير، قانوناً للموازنة العامة 2013/ 2014 نصّ على اقتطاع 10% من عائدات الصناديق الخاصة المعروفة لصالح الدولة قبل أن يتم حل البرلمان لاحقاً.
كم عدد الصناديق وأرصدتها؟
وقدرت وزارة المالية المصرية عدد حسابات الصناديق والحسابات الخاصة في البنك المركزي المصري بـ7306 حسابات، بواقع 1021 حساباً بالعملة الأجنبية و6285 حساباً بالعملة المحلية، بمجموع أرصدة 66 مليار جنيه، وفق آخر حصر في فبراير/شباط 2017.
في المقابل، تشير تقارير وإحصاءات غير رسمية إلى وجود أكثر من 10 آلاف صندوق، تزيد حساباتها عن تريليون جنيه (61.7 مليار دولار) لا تدخل في موازنة الدولة.
وفي ديسمبر/كانون أول 2016، أكد رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق، المستشار هشام جنينة، أن حديث حكومة المهندس شريف إسماعيل عن فتح ملف الصناديق الخاصة، أمر صعب.
وأضاف جنينة، في تصريحات لـ «موقع مصر العربية«، أن «الصناديق الخاصة ملف شائك جداً، ويصعب الاقتراب منه؛ ﻷن هناك جهات سيادية ليس من صالحها فتحه».
صناديق متلبسة بالفساد
تحت عنوان «مقابلة حول الصناديق الخاصة«، نشر مركز «كارنيغي»، في يوليو/تموز 2015 نتائج تحقيق واسع النطاق أجراه الصحفيان نزار مانيك وجيريمي هودج في عام 2014 حول الأجهزة الحكومية والمصرف المركزي في مصر، وقد كشف التحقيق عن وجود «صناديق خاصة» ملتبسة تشغّلها الدولة وتحتوي على مبالغ قدرها 9.4 مليار دولار أمريكي.
وتابَعَا: «لا تخضع هذه الصناديق لإدارة شفافة، لأن الفساد والمحسوبيات تتفشى على نطاق واسع في أعلى مستويات السياسة المصرية. فالأشخاص الذين يملكون القدرة على كبح التجاوزات هم أنفسهم الأكثر استفادةً منها».
وكشفا أنه «بحلول نهاية السنة المالية 2012/ 2013، تُظهر السجلات الرسمية التي اطّلعا عليها عن وجود صناديق خاصة تضم مبالغ قدرها 3.5 مليار دولار موزَّعة على 644 حساباً مودَعة بصورة غير قانونية في مصارف تجارية مملوكة من الدولة، وتبيّن وجود مبلغ 5.9 مليار دولار موزّعة على 5729 حساباً قانونياً في المصرف المركزي».