على أطراف مدينة إسطنبول، يسكن الشاب حسين بصبوص. هو ناشط يعمل على متابعة أوضاع اللاجئين السوريين. يقول لرصيف22: "لا أستطيع الذهاب إلى وسط مدينة إسطنبول. أخشى من الترحيل، فالأمر يتم فعلياً على مزاج رجال الأمن أكنت تمتلك بطاقة الحماية المؤقتة أو لا تمتلكها".
ويضيف: "في بداية الحملة، أي في أوائل تموز/ يوليو تحديداً، كان الترحيل يتم إلى سوريا مباشرة"، واصفاً هذه الحملة بالعشوائية وبأنها تنتهك المعايير الدولية، "فالسوريون بشر وليسوا أغناماً"، بحسب تعبيره.
أزمة السوريين في إسطنبول
تجاوز عدد اللاجئين السورين المتواجدين في تركيا الثلاثة ملايين و605 ألفاً و615 شخصاً، بحسب التقارير الرسمية الصادرة عن الجهات الحكومية التركية، ويتوزعون على مختلف الولايات التركية.
ووفقاً لإحصاءات المفوضية السامية لشؤون الاجئين، يشكّل السوريون قرابة ثلث إجمالي عدد اللاجئين في العالم، وتستضيف تركيا 63.4% منهم.
مؤخراً، وعقب خسارة الحزب الحاكم التركي ولاية إسطنبول أمام المعارضة، في الانتخابات البلدية الأخيرة، تضاعفت حملات التحريض ضد السوريين، وتزامن ذلك مع إجراءات أمنية وقانونية بحق السوريين في إسطنبول.
هذه الإجراءات وصفتها الحكومة التركية بأنها لإعادة ترتيب الأوضاع القانونية الخاصة بالأجانب المخالفين. لكن مراقبين يصفون العملية بأنها تأتي ضمن التنافس بين الحكومة التركية والمعارضة على المطالبة بترحيل السوريين، وهي الدعاية التي استخدمتها الأحزاب المعارضة للفوز في الانتخابات البلدية.
تستضيف ولاية إسطنبول وفقاً لدائرة الهجرة التركية قرابة نصف ميلون لاجئ سوري، لكن على أرض الواقع العدد أكبر فكثيرون انتقلوا إلى إسطنبول لأن فرص العمل فيها أفضل.
هناك مناطق داخل المدينة التركية الأشهر صارت تسمى "منطقة السوريين" أو "منطقة العرب" مثل الفاتح وأكسراي وإسانيورت، لكثرة العرب والسوريين فيها. في هذه المناطق لا ينفذ أحد من التفتيش والتدقيق في إقامته من قبل رجال الأمن التركي، فعند كل مدخل مترو أو محطة للنقل العام هنالك رجل شرطة يقوم بالدقيق بالأوراق الثبوتية.
في 20 آب/ أغسطس، انتهت المهلة المحددة لبدء تطبيق الإجراءات والقوانين الجديدة المتعلقة بأوضاع اللاجئين السوريين في تركيا بشكل عام وخصوصاً في ولاية إسطنبول، وكان الأساس انتقال مَن يمتلكون بطاقات إقامة في ولايات أخرى إلى تلك الولايات كي يخف الضغط عن إسطنبول.ولكن قبل فترة، أعلن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو تمديد المهلة حتى نهاية شهر تشرين الثاني/ أكتوبر، مع تقديم وعود بضبط الحملة التي شابها الكثير من التجاوزات.
يقول الكاتب والمحلل السياسي السوري غزوان قرنفل لرصيف22 إن هناك عدة أسباب للحملة الأخيرة لترحيل بعض السوريين من إسطنبول: الأول متعلق بإعادة ضبط وتنظيم الحالة القانونية للاجئين السوريين في المدينة حيث ارتفعت كثيراً أعداد المخالفين فيها، ممن لا يحملون "كيمليك" (بطاقة الحماية المؤقتة) أبداً أو يحملون "كيمليك" صادرة عن مدن أخرى ويفترض إقامتهم فيها.
وبرأيه، انعكست كثافة اللاجئين في إسطنبول سلباً على شعبية حزب العدالة والتنمية الحاكم الذي غض الطرف طويلاً عن الأمر فدفع نتيجة ذلك، ولأسباب سياسية أخرى، الثمن في انتخابات بلديتها.
أما السبب الثاني، برأيه، فهو محاربة الهجرة غير الشرعية التي كانت إسطنبول واحدة من أهم محطاتها، وهو التزام على الحكومة التركية بموجب الاتفاق الأوروبي التركي الذي قضى بوقف تدفق الهجرة غير الشرعية من تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي مقابل منح أنقرة مساعدات مالية.
ولكن حسين بصبوص يشير إلى أنه لا يوجد تنظيم لحملة "ترتيب أوراق" اللاجئين السوريين. "هذا فقط حديث للإعلام"، يقول. ومع ذلك، سُجّلت حالات قليلة لأشخاص حصلوا على إقامات في ولايات أخرى.
عدا ذلك هنالك صعوبات تقنية كثيرة. يلفت بصبوص إلى أن الروابط الإلكترونية المتعلقة بترتيب الأوراق والتي قامت الحكومة ببرمجتها خصيصاً للسوريين لا تعمل، والمكان المخصص للبصم وتقديم الإثباتات الشخصية، وهو "سلطان بيلي"، مزدحم و"كأنه يوم الحشر"، وفي اليوم يتم إدخال من 5 إلى 10 أفراد من أصل ألف يتوجهون إلى هنالك.
© عمر غبرة
ترحيل بالإكراه
يقول أحد الشباب المرحّلين من إسطنبول إلى الشمال السوري، وفضّل عدم ذكر اسمه، لرصيف22: "الأمن التركي اعتقلنا من السوق في منطقة إسنيورت بشكل عشوائي ولم يبلغنا بأننا سنُرحّل إلى سوريا. أكرهونا على التوقيع على ورقة العودة الطوعية، وهنالك أشخاص رفضوا التوقيع فقام أفراد من الأمن التركي بالتوقيع بدلاً منهم. ونقلونا من إسطنبول في باص قديم فيه قرابة 36 شخصاً إلى سوريا"، ويضيف: "لم أراجع أية دائرة حكومية في ما يخص العودة الطوعية ولم أفكر في هذا الأمر يوماً، لأنني أسست حياتي في تركيا ولا أريد العودة إلى سوريا".
وأفادت مصادر على صلة بعاملين في معبر باب الهوى ومطلعين على ما يجري عليه لرصيف22 بأن العشوائية في عملية الترحيل أو الإعادة إلى الولايات تسببت في ترحيل ثلاثة مصريين إلى الشمال السوري قبل أن يُعالَج الأمر من قبل الجهات المختصة ويعادوا إلى إسطنبول مجدداً، وذلك نتيجة لعدم التدقيق بأوراقهم الثبوتية، وهنالك أفغان وفلسطينيون من اليرموك رُحّلوا إلى الشمال السوري أيضاً.
عبد الله (اسم مستعار) هو شاب سوري يبلع 19 سنة من العمر، تحاول أسرته تهريبه من سوريا إلى تركيا. يقول شقيقه لرصيف22 إن ابنها يحمل بطاقة الحماية المؤقتة لولاية إسطنبول وكان يعمل في ورشة خياطة، ولكنه أوقف عن عمله بحجة عدم حيازته على إذن للعمل.
وبعدما مكث قرابة الشهر بدون عمل، حاول الهجرة إلى اليونان، فقبض عليه "الكومندو الألماني" العامل مع القوى الأمنية اليونانية، في إطار ترتيبات أوروبية ذات صلة بالهجرة غير الشرعية، وأعيد إلى تركيا وسُلّم إلى "الجندرمة التركية"، أي الأمن التركي.
ومع أنه لم يكن ينبغي ترحيله إلى سوريا لأنه يمتلك بطاقة حماية من إسطنبول، قام الأمن التركي بإجباره على التوقيع على ورقة العودة الطوعية ورُحّل إلى شمال سوريا، بحسب العائلة التي تدعو اللجنة المشتركة السورية-التركية التي يتمثل فيها السوريون عبر الائتلاف السوري إلى العمل على إعادة ابنها.
وتشير العائلة إلى أنها ما زالت تنتظر الرد. ويقول شقيق الشاب عبد الله: "في حال لم يعد أخي، لا يوجد شيء أخسره في الدنيا ولا أحد يتوقع ما سأفعله من أجله".
ترحيل أثناء مراجعة المستشفى
عبيدة العمر صحافي سوري (26 عاماً) رُحّل إلى سوريا وهو يمتلك بطاقة الحماية المؤقتة التركية. يقول لرصيف22: "أعمل في مجال الصحافة وأنا ناشط إعلامي كنت أقيم في ولاية هاتاي التركية جنوب البلاد، وعام 2015، طلبت العودة إلى الشمال السوري وسلّمت بطاقتي لمركز الأمن على المعبر، ولكن لم أكن أتوقع أن تؤول الأمور إلى ما هي عليه الآن".
ويضيف: "في شهر تموز/ يوليو الماضي، هربت من إدلب متجهاً إلى غازي عنتاب وفي الطريق تعرضت لوعكة صحية نُقلت على أثرها إلى المستشفى الحكومي لكنه لم يستقبلني بسبب عدم امتلاكي بطاقة الحماية، فذهبت إلى مستشفى خاص لكن التكاليف كانت باهظة وبعد شهر ولمتابعة العلاج ذهبت إلى مركز الأمنيات في غازي عنتاب لإصدار هوية تعريفية جديدة وعند الكشف عن اسمي وهويتي تم ترحيلي بشكل مباشر إلى سوريا".
قصة أخرى هي قصة محمد حجازي، وهو أب لأربع أطفال وتعرض للترحيل. يقول لرصيف22: "ذهبت في 1-7-2019 من ولاية تيكيرداغ المسجل فيها أنا وأولادي إلى إسطنبول لعلاج ابني الصغير الذي يعاني من عيب خلقي. كنت أحمله وأتجه به إلى الطبيب في منطقة إسنيورت، فتفاجأت ونحن في السوق برجال الشرطة التركية يوقفونني. أخذوا ابني مني وأعطوه لأمه وأدخلوني إلى باص الترحيل بعدما وجدوا أن إقامتي ليست صادرة من إسطنبول، ورحّلوني إلى الشمال السوري".
ويضيف: "حاولت الدخول عن طريق التهريب وكل مرة كانت الشرطة تلقي القبض علي وتقول لي إن إقامتي مزورة. وقبل أسبوعين دخلت عن طريق التهريب ووصلت إلى ولايتي ووجدت أبنائي بحالة يرثى لها. ابني يحتاج إلى العلاج ولا أستطيع معالجته هنا، ففي إسطنبول هنالك جمعيات ومؤسسات كثيرة تساعد، ولا أستطيع الذهاب إليها إلا بأذن سفر من الولاية، ووزارة الداخلية أوقفت إصدار أذون السفر إلى إسطنبول بشكل نهائي".
ويتابع: "يريدون منا استخراج إذن عمل وأنا لاجئ ودخلي الشهري لا يكفي لإيجار الشقة وإذن العمل يرفع عني بطاقة المعونة من الهلال الأحمر، وسأكون مطالباً بدفع ضرائب للدولة وأنا لا أستطيع تأمين أي من هذه المتطلبات".
"لا خيارات أمامي"
الحاج عمار حيدر، أبو مروة (56 سنة)، المعتقل السابق في سجون النظام السوري، يروي لرصيف22 قصته متحفظاً على بعض أجزائها المأساوية. يقول: "اعتُقلت قبل بداية الثورة السورية من بلدة مصياف وأطلق سراحي في الشهر العاشر من عام 2011، وذهبت إلى بيتي على الفور ولكن لم أجد زوجتي وابنتي. فرّتا من الحرب إلى الأردن. وكنا على أمل بانتهاء الأزمة سريعاً وبأن التغيير قاب قوسين لكن خاب ظننا".ويضيف: "بعد خروجي من السجن، أصبحت مطلوباً للنظام أيضاً بتهمة نشر أخبار كاذبة. اختبأت في سوريا وبقيت متوارياً عن الأنظار لمدة أربعة أعوام، أي حتى عام 2014، إلى أن اعتُقلت وخرجت بعد ذلك بعملية تبادل، ثم انتقلت للعيش في بيروت لمدة عام وبعدها دخلت إلى تركيا بواسطة مركب عن طريق البحر واستحصلت على بطاقة تعريفية في ولاية الريحانية التركية".
ويتابع: "كنت آمل الاستقرار في تركيا، مع العلم أني لم أرَ زوجتي وابنتي منذ عشر سنوات. ذهبت إلى إسطنبول بحثاً عن فرصة ولم أجد شيئاً هنالك بسبب كبر سني والسلطات التركية لا تقدم شيئاً للاجئين، وواجهتني في إسطنبول ضغوطات وصعوبات جمة. ولأنني غير مسجل فيها، لا أستطيع تلقي العلاج ولا استلام المال أو السفر أو التنقل بين الولايات، فأصبحت أعيش على إعانة الأصدقاء".
حاول أبو مروة الهجرة إلى أوروبا. يقول: "حاولت الهجرة بشكل غير شرعي إلى أوروبا لكنّي فشلت في 4 محاولات، ثم تقدّمت بطلب لجوء إلى القنصلية الكندية في إسطنبول ومضت عليه سنتان وبعدها أقدمت على الاعتصام لفترة بين نيسان/ أبريل وأيار/ مايو أمام مبنى القنصلية الكندية في إسطنبول لمعالجة طلب لجوئي ولم شمل عائلتي، وحتى اللحظة لم تستجب القنصلية الكندية لطلبي".
ويتابع: "مع القرارات الأخيرة للحكومة التركية، أصبحت مُعرّضاً لخطر الترحيل القسري إلى سوريا إذا قبض عليّ وأنا أحمل بطاقة من غير ولاية إسطنبول، لذلك أنا الآن في مدينة إزمير هارب من الأمن التركي وأنوي الهجرة إلى أي مكان عن طريق البحر ولا أريد العودة إلى تركيا".
ويشير أبو مروة إلى أنه "في بداية الأمر فتح الأتراك اللجوء للسوريين بدون أي إعاقات أو شروط وشعر السوري الهارب من الحرب بأريحية معينة، وسمحوا للسوريين باختيار الأماكن التي فيها مصادر الرزق وكانت إسطنبول أكثر المدن حيوية، ولكن فجأة صدمنا بقرار عودة كل شخص إلى ولايته".
قصة من ملجأ أيتام
الطفلة ع. ج. (15 عاماً) أكرهها والدها على الزواج من رجل يكبرها في السن وهي تبلغ من العمر 13 عاماً. هربت من زوجها قبل عام إلى إسطنبول وألقي القبض عليها ونقلتها السلطات التركية إلى ملجأ للأيتام بعد رفضها الإفصاح عن هويتها.
عانت الطفلة داخل الملجأ من سوء المعاملة وساءت حالتها النفسية، فهربت مجدداً إلى أحد أحياء إسطنبول.
يروي الشخص الذي عثر عليها واحتضنها وفضّل عدم ذكر اسمه، وهو أب لخمسة أطفال، لرصيف22: "وجدت الطفلة نائمة في الشارع وعليها آثار ضرب وخدش وأخذتها إلى بيتي ثم ذهبت أنا وزوجتي إلى مركز الأيتام لتبنيها بشكل رسمي، فاتصل المركز بالشرطة فجاءت وأخذتنا، وبسبب عدم إثبات هوية الفتاة قامت الشرطة بوضعها في سجن انفرادي، وأنا تعرّضت للضرب المبرح والإهانة".
الآن، لا يزال الرجل ينتظر المحامي الذي وعده بإصدار بطاقة تعريفية للفتاة، لأنه يخشى في ظل هذه الظروف من ترحيلها أو إرجاعها إلى الملاجئ.
"ممارسات خاطئة"
ويشير الكاتب والمحلل السياسي السوري غزوان قرنفل إلى أن الحملة تخللتها بعض "الممارسات الخاطئة وغير القانونية"، ولكن قامت بعدها الحكومة، وبعد أن عرّت منظمات حقوقية سورية وتركية تلك الممارسات، بتصويب وتصحيح السلوك ومعالجة آثاره.
ويؤكد أنه لا يوجد هدوء في الشمال السوري وهو منطقة غير آمنة للعيش فيها.
ويضيف قرنفل لرصيف22 أن تركيا تغاضت في تعاملها مع السوريين عن الكثير من الموجبات القانونية واتّبعت سياسة غض الطرف تقديراً لأوضاعهم لكنها وجدت نفسها الآن مضطرة لإعادة ضبط الحالة تحت ضغط الرأي العام الداخلي الذي أطلق حملات ضد تواجد السوريين واستغل بعض الثغرات للتجييش ضد السوريين وضد الحكومة معاً.
وبرأيه، فإن التراخي في إعمال القانون في مرحلة ما لا يمنح الطرف الآخر حقاً مكتسباً بمخالفة القانون، و"بالتالي علينا كلاجئين سوريين هنا احترام تلك القوانين لنحافظ على علاقة أكثر توازناً وموضوعية مع المجتمع المضيف".
وكشف والي إسطنبول، علي يرلي قايا، في مؤتمر صحافي في 27 آب/ أغسطس عن خمس حالات لا يشملهم قرار الترحيل وهم الطلاب وأسرهم، والعائلات التي يتوزع أفرادها على عدد من الولايات، والأرامل وزوجات الشهداء، والأطفال اليتامى، فضلاً عن رجال الأعمال والمستثمرين الذين تؤمن مشروعاتهم فرص عمل، شريطة أن تكون منشآتهم مفعلة قبل ثلاثة أشهر.
وفي وقت سابق، وصف رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية، فخر الدين ألطون، مزاعم قيام تركيا بترحيل السوريين خارج أراضيها بـ"الهراء"، وقال إن بلاده تحترم مبدأ عدم الإعادة القسرية وستواصل التمسك به، مشيراً إلى منح بلاده الجنسية لـ102 ألف لاجئ سوري، وإنفاقها 40 مليار دولار على ضحايا الحرب، وذلك في مقال نشره في مجلة فورين بوليسي في 24 آب/ أغسطس، أشار فيه إلى أن اللاجئين القادمين إلى تركيا يستفيدون مجاناً من الخدمات العامة مثل الصحة والتعليم.