لطالما مثّل الدماغ البشري سرا حيّر العلماء طويلا، إذ يتميز هذا الجزء من الجسم الذي يقع داخل جمجمة محصنة بقدرات هائلة تُمكّنه من القيام بأعمال حسابية فذة، ومن الإبداع والفهم بطرق لم يسبق لها مثيل في الكون المعروف، وكل ذلك باستخدام قدر من الطاقة يكفي لتوهج مصباح كهربائي بقدرة 20 واطا.
تمكّن الإنسان من تحقيق طفرات كبيرة في فهم الدماغ البشري. ففي السنوات الأخيرة، اكتشفنا أن خلايا الدماغ يمكن أن تتجدد وحددنا ما يحدث في الدماغ عند البدء في الحديث قبل معرفة ما نريد قوله. ومع ذلك، كلما تعلمنا أكثر، أدركنا أن ثمة الكثير مما لا نعرفه. في هذه السطور سنحاول أن نستطلع معا أكبر الأسئلة المحيرة حول الدماغ للكشف عن آليات وأسرار هذه الكتلة العجيبة دقيقة الصنع.
يتسم الدماغ البشري، كما نحب أن ندّعي، بقدرات هائلة. فالحيوانات الأخرى يُمكنها أن تستخدم الأدوات أو أن تخرج من المتاهات، ولكن هل يمكنها أن تخترع أجهزة الحواسيب أو أن تكتب القصائد الشعرية مثلما يفعل البشر؟ إلا أنه على الرغم من براعتنا العقلية الاستثنائية، فليس من السهل تفسير ما يجعل الدماغ البشري مميزا لهذه الدرجة. إذ يصل وزن دماغ الإنسان إلى نحو 1.5 كجم، أيّ ما يعادل نحو ثُلث وزن دماغ الفيل وخُمس وزن دماغ حوت العنبر.
ومع ذلك، إذا أخذنا حجم الجسم في الاعتبار، فإن أدمغتنا كبيرة بشكل غير عادي، إذ يتجاوز حجم الدماغ البشري ما بين سبعة وثمانية أضعاف ما يمكن توقعه للثدييات في حجمنا نفسه. ولكن هذا القياس البدائي لا يكفي لتفسير ذكائنا. فعلى سبيل المثال، نسبة حجم الدماغ إلى الجسم القرد الكبوشي أعلى من الغوريلا، ومع ذلك تعتبر الغوريلا أكثر ذكاء.
من الواضح أن الحجم ليس كل شيء إذن، بل قد يكون المقياس الأكثر أهمية هو عدد الخلايا العصبيّة، وهي وحدات المعالجة في الدماغ. فقد ذكرت أخصائية الأعصاب البرازيلية، سوزانا هيركولانو-هوزيل من جامعة فاندربيلت، بولاية تينيسي الأميركية، التي استحدثت طرقا جديدة لحساب عدد الخلايا العصبيّة، أن لدى البشر نحو 86 مليار خلية عصبيّة.
في الواقع، تحتوي أدمغة الرئيسيات على عدد كبير من الخلايا العصبيّة يفوق عددها في أدمغة الثدييات الأخرى ذات الحجم المماثل. وبما أن البشر لديهم أكبر حجم للدماغ بين جميع الرئيسيات، فإن لديهم أيضا أكبر عدد من الخلايا العصبية، وربما بين الحيوانات الأخرى كافة. ومن المحتمل أن ذلك تحقق من خلال اختراع الطبخ، الذي يطلق المزيد من السعرات الحرارية من الطعام لتغذية هذا العضو الذي يعتبر أكثر الأعضاء استهلاكا للطاقة في جسم الإنسان.
على الرغم من ذلك، قد لا يكون عدد الخلايا العصبيّة فقط هو العامل الأهم، بل أيضا أماكن وجودها. تشير هيركولانو-هوزيل إلى أن قدراتنا الرائعة تنبثق على الأرجح من وجود عدد كبير من الخلايا العصبيّة في القشرة الدماغية -وهي الطبقة السطحية من المخ التي تتكون من الأخاديد والتلافيف التي تساعد على زيادة مساحة القشرة بشكل كبير- أكثر من الحيوانات الأخرى. يتيح لنا هذا البناء الهيكلي تطوير سلوكيات أكثر تعقيدا بدلا من مجرد الاستجابة للمحفزات. لذا تقول هيركولانو-هوزيل: "إذا كان لديك قشرة دماغية، فأنت لم تعد عبدا لما يحدث من حولك. إذ تتمتع بمرونة تُمكّنك من اختيار فعل أشياء أخرى".
علاوة على ذلك، اكتشف فريقها مؤخرا أنه على مستوى جميع الحيوانات ذوات الدم الحار، يرتبط عدد الخلايا العصبيّة في القشرة الدماغية بطول العمر. كما تعتقد هيركولانو-هوزيل أن ذلك أيضا يُمثّل عاملا رئيسيا في تفوقنا المعرفي، فالبشر يستغرقون سنوات للوصول إلى مرحلة النضج. وتفسر ذلك بأن "الإنسان يستغرق وقتا طويلا للغاية لبناء الدماغ، وأثناء ذلك الوقت، يقوم باكتساب واستيعاب المعلومات من العالم حوله". قد لا يعزو ذلك فقط إلى الخلايا العصبيّة وحدها، يوجد أيضا نوع آخر من الخلايا يُسمى الخلايا النَجمِيَة تضطلع بدور مهم في تطور الذكاء البشري. لكن القدرة الحاسوبية الهائلة التي تقدمها الخلايا العصبيّة الموجودة في القشرة الدماغية والتي يصل عددها إلى 16 مليار خلية من المحتمل أن تكون العامل الذي يساهم بشكل حاسم في هيمنتنا المعرفية.
يُمكن تصور العقل الواعي على أنه موقد. لذا عندما يكون الإنسان غارقا في النوم بعمق، يتراجع لهب الوعي إلى مستوى منخفض ولكن ثابت. بينما في مرحلة نوم حركة العين السريعة، وبالنظر إلى أن الأحلام تحدث في هذه المرحلة تحديدا، تتصاعد حدة اللهب ويشتعل بسطوع لكن بشكل غير منتظم. أما في حالة الغيبوبة، يبدو اللهب وكأنه جذوة متوهّجة.
بعبارة أخرى، يوجد الوعي في عدد من الحالات. أحد التفسيرات لذلك هو أن الوعي الكامل يظهر عندما تبث العديد من أجزاء الدماغ المعلومات إلى شبكة من الخلايا العصبيّة تُعرف باسم "منطقة العمل الشاملة". عندما لا يحدث هذا البث، يظل الإحساس في حالة اللا وعي. وفي حالة عدم اكتمال هذا البث، تشعر بمستويات مختلفة من الوعي، مثلما يحدث عندما تحلم أو تتلقى ضربة في الرأس.
عبر دراسة هذه الحالات، ينبغي أن نكون قادرين في يوم من الأيام على تحديد آليات عمل الدماغ التي ينشأ عنها الوعي. لماذا إذن تُوصف محاولات تفسير الوعي بـ "المعضلة الصعبة"؟، إذ كيف يُمكن لمجموعة من الخلايا العصبيّة يصل وزنها إلى 1 كجم أو نحو ذلك أن تقوم باستحضار سلسلة من الأفكار والمشاعر التي تُشكّل تجربتنا العقلية؟ أحد هذه الأسباب هو تركيز الفلاسفة على تفسير كيفية إدراك التجارب. يصف مصطلح "الكيفيات المحسوسة" الذي صاغه الفلاسفة خواص التجارب التي نتعرض لها، الحالة التي يُنظر فيها إلى صفات الأشياء من منظور ذاتي في حالة الوعي، مثل اللون الأحمر الذي تتميز به الفراولة أو الشعور بطعم النبيذ. بيد أن محاولة التوصل إلى تفسيرات للكيفيات المحسوسة تسبب حيرة لا نهاية لها بين علماء الأعصاب.
أحد الحلول لهذه المعضلة هو ببساطة تجاهلها. تقول أستاذة الفلسفة في جامعة كاليفورنيا بمدينة سان دييغو، باتريسيا تشيرتشلاند، إن "مصطلح "الكيفيات المحسوسة" هو مصطلح فني قدمه الفلاسفة الذين يريدون جعل التساؤلات حول طبيعة الوعي خاضعة فقط للتفسيرات الغامضة التي لا تستند إلى أدلة بيولوجية". ففي نهاية المطاف، نحن لا نتحدث عادة عن كيفياتنا المحسوسة، بل نتحدث عن أشياء مثل شعورنا بالتعب، والحاجة إلى تناول الطعام أو حتى الوقوع في الحب، وجميعها مشاعر لها أصل بيولوجي مباشر وليست غامضة
الدماغ لا يقدم إلى وعينا سوى الأمور التي تشغل حيزا كبيرا من اهتمامنا، ويفعل ذلك بطريقة يمكننا فهمها
أوضح الفيلسوف دانيال دينيت من جامعة تافاتس، ماساتشوستس، أن معظم الناس قد لا يدركون كيفياتهم المحسوسة إلى أن يدفعهم الفلاسفة للتفكير في ذلك. والأدهى من ذلك أن دينيت لا يعتقد أنه لا توجد معضلة صعبة فحسب، بل يعتقد أن الوعي نفسه هو نوع من الوهم. وقد فسر ذلك بقوله: "يتطلب الأمر بعض الإقناع الموضوعي والمداهنة لجعل الناس "يلاحظون" كيفياتهم المحسوسة، وعندما يؤمنون أنهم لاحظوا ذلك بالفعل، يقعون في وهم آخر".
يتمثّل ذلك الوهم، وفقا لما ذكره دينيت، في أن كل واحد منا يعتقد أنه يتمتع بامتياز خاص يُمكّنه من الوصول إلى بعض الخصائص الرائعة من حالاتنا العقلية، التي نظن أننا على دراية وثيقة بها ونعتبرها بمنزلة خبرات مكتسبة. لكن الدماغ لا يقدم إلى وعينا سوى الأمور التي تشغل حيزا كبيرا من اهتمامنا، ويفعل ذلك بطريقة يمكننا فهمها. على سبيل المثال، هذا هو السبب الذي يُعزى إليه رؤيتنا للأشياء بألوان معينة. ففي حين أن العالم الحقيقي قد لا يبدو بهذه الطريقة، يُخصص نظامنا البصري بفاعلية رمزا لونيا للعالم من حولنا، من أجل تبسيطه.
يدعي دينيت أنه بقدر ما يُمكن اعتبار اللون مجرد وهم أوجده الدماغ للتأقلم مع العالم، كذلك يُمكن اعتبار الوعي. وفسر ذلك بأن "الوعي هو وسيلة لـ "وهم المستخدم" نشأ نتيجة التطور لتسهيل حياة الدماغ الذي يجب أن يقود الجسم خلال حياة محفوفة بالمخاطر".
يطلق مصممو الهواتف الذكية على شاشة الهاتف مصطلح "وهم أو خداع المستخدم". إذ تعتبر الشاشة واجهة الحاسب الموجود أسفلها، ولكن الأيقونات التي تظهر عليها، مثل أيقونة الظرف التي ترمز إلى تطبيق الرسائل، هي دلائل رمزية، لا تربطها أي علاقة بالمكونات المادية والبرمجيات الفعلية المسؤولة عن عمل نظام الرسائل في الهاتف. إذا تصورنا أن أدمغتنا مثل الهواتف الذكية، فإن الوعي يُمثّل الشاشة، التي تعمل بمنزلة الواجهة لأدمغتنا. بيد أن تلك الاستعارة ليست دقيقة حسبما تقول تشيرتشلاند. فعلى سبيل المثال، عندما نشعر بالدوار أو نحدد من أين يأتي صوت ما، فإن ذلك يحدث نتيجة لعمليات مادية تحدث في الدماغ. لعل الوعي أشبه بشاشة الهاتف الذكي التي تعرض تطبيقات مختلفة وفقا لمقدار الطاقة المتبقية في البطارية أو مقدار اهتزاز الهاتف. بعبارة أخرى، يُمكن القول إن الوعي هو وهم جزئي، يُمثّل صورة يجمع الدماغ أجزاءها معا كنتيجة لجميع المدخلات التي يتلقاها واكتمال بث المعلومات من أجزاء الدماغ إلى شبكة الخلايا العصبيّة.
الجواب المختصر عن هذا التساؤل هو نعم. يتفاوت الناس في ذكائهم، ولذا كيف يمكننا تفسير هذا الاختلاف إن لم نعزُه للاختلافات في بنية أو وظيفة الدماغ؟ غير أن هذه الاختلافات تحديدا هي محل بحث متعمق. أول ما يمكن ملاحظته هو أن الأشخاص ذوي الأدمغة الكبيرة غالبا ما يكون لديهم بالفعل معدل ذكاء أعلى، ولكن ثمة المزيد من العوامل التي تتحكم في ذلك أكثر من مجرد الحجم. لمعرفة المزيد حول هذا الأمر، نحن بحاجة إلى تدقيق النظر في المادة البيضاء والمادة الرمادية التي تُشكّل دماغنا. تتكون المادة الرمادية من الأجسام الرئيسية للخلايا العصبيّة، في حين تتكون المادة البيضاء بشكل أساسي من المحاور العصبيّة التي تنقل الإشارات الكهربائية. اكتشف روجير كييفيت وزملاؤه من وحدة الإدراك وعلوم الدماغ التابعة لمجلس البحوث الطبية في كامبريدج، المملكة المتحدة، أن حجم المادة الرمادية في الفص الجبهي مرتبط بالذكاء المائع، وهو القدرة على التفكير المنطقي وحل المشكلات الجديدة دون معرفة سابقة، عن طريق التعرف على الأنماط والعلاقات واستخدام الاستنباط لحل المشكلات. ووجدوا أيضا أن ذلك مرتبط بمقدار روابط المادة البيضاء الموجودة بين نصفي الجزء الجبهي من الدماغ.
بيد أن الأمر لا يعتمد فقط على كمية الأنسجة. فواحدة من السمات الأكثر إثارة للدهشة التي تتميز بها أدمغة الثدييات هي وجود الأخاديد والتلافيف العميقة من المادة الرمادية على سطحها، مما يعطيها مظهرا يشبه حبات الجوز. بالإضافة إلى أنها تساعد على زيادة مساحة سطحها بشكل كبير، مما يقرب الخلايا من بعضها البعض ويسمح لها بالتواصل بشكل أسرع. ومن المؤكد أن مقدار تلك الأخاديد يرتبط بسرعة التفكير والذاكرة العاملة، فالأشخاص الأكثر ذكاء تتسم أدمغتهم بالمزيد من التلافيف.
ليس من السهل إيجاد المركز المسؤول عن الذكاء، الذي يعتبر أغنى سمة بشرية موجودة في الدماغ، الذي يُعد بدوره أعقد الأشياء المعروفة في الكون وأكثرها غموضا
ومع ذلك، ما زلنا لا نعرف أين يقبع الذكاء في الدماغ. لاستكشاف ذلك، يمكننا الاعتماد على واحدة من أشهر الأفكار حول موقع الذكاء، وهي نظرية تُعرف باسم "نظرية التكامل الصدغي الجبهي". تقترح هذه النظرية أن الأساس البيولوجي للذكاء هو شبكة تربط بين مناطق الدماغ النشطة المختلفة. يمكننا العثور على أدلة على هذه المناطق النشطة في الدراسات القائمة على تصوير الدماغ. فقد تمكّنت الباحثة أولريكي باستن وزملاؤها في جامعة غوته في فرانكفورت، في ألمانيا، من تحديد شبكة تصل ما بين 20 منطقة مختلفة في المناطق الجبهية والصدغية التي ترتبط بالذكاء، وذلك من خلال دراسة الكيفية التي تنشط بها أجزاء من الدماغ أثناء تأدية المهام المعرفية. وقد توصلوا إلى أن كثافة المادة الرمادية أو قوة النشاط العصبي في هذه المناطق ينمّ عن معدل ذكاء مرتفع.
يبدو أننا أوشكنا على الوصول إلى نتيجة، ولكن هذه الأدلة لا تعني أن الأشخاص الأكثر ذكاء لديهم أدمغة مختلفة من الناحية التشريحية فقط، بل يبدو أن لديهم أدمغة تعمل بكفاءة أكبر أيضا. يفسر إميليانو سانتارنيكي من مدرسة طب هارفارد ذلك قائلا: "حتى لو اتسم الدماغ بهيكل خارجي مناسب لتحقيق مستويات أداء عالية، لن يكون للأمر أهمية دون وجود جهاز حاسوب داخلي لتنظيم طرق توفير الطاقة، ومتى تُخصص الموارد في كل لحظة". تشير دراسة سانتارنيكي إلى أن التحفيز المغناطيسي قد يزيد من كفاءة معالجة الدماغ، ويؤكد أيضا أهمية المرونة، أو القدرة على التغيير. ربما يمتلك بعض الناس أدمغة أكثر مرونة بطبيعتها وأقدر على التعلم.
هذا ناهيك بالجانب الوراثي. فعلى الرغم من أننا نعرف أن مئات الجينات تساهم في الذكاء، فقد يستغرق الأمر وقتا طويلا لاكتشاف الفروق الدقيقة في تأثيرها. ولكن حتى حينها لن يكون من السهل إيجاد المركز المسؤول عن الذكاء، الذي يعتبر أغنى سمة بشرية موجودة في الدماغ، الذي يُعد بدوره أعقد الأشياء المعروفة في الكون وأكثرها غموضا.
فكّر في عملية التفكير، ولن يمر الكثير من الوقت حتى يصاب عقلك بحالة من الارتباك. تأتينا الأفكار عادة بشكل طبيعي، لكن تحديد ماهية تلك الأفكار بالضبط عملية أكثر تعقيدا. في السابق عُدّت الأفكار كيانات غير مادية منفصلة عن المادة البيولوجية للدماغ. أما الآن، نعرف أن جميع أفكارنا، سواء كانت بسيطة أو أفكارا مجردة، هي نتيجة إشارات كهربائية تسير في شبكة الدماغ التي تتكون من 86 مليار خلية عصبيّة. حاول الباحث إيثان سولومون من جامعة بنسلفانيا تبسيط مفهوم التفكير بقوله: "ما تُمثّله عملية التفكير بالنسبة لي أنها ببساطة عملية تحويل المدخلات إلى نتائج بواسطة الدماغ".
ولكن إذا سألت مئة عالم أعصاب عن تعريف عملية التفكير، فستحصل على مئة إجابة مختلفة، كما تقول الباحثة أفجستس شستيج من جامعة كاليفورنيا في بيركلي. إذ تعتقد أن "التفكير مصطلح شامل يندرج تحته العديد من العمليات المعرفية المختلفة". فبعض الأفكار تأخذ شكل الصور، وبعضها الآخر تتكوّن من الكلمات، والكثير منها يولد في مستوى اللا وعي، دون حتى أن ندرك ذلك.
أتاحت لنا أحدث الدراسات العصبيّة الفرصة لالتقاط الإشارات الكهربائية التي تكمن وراء التفكير. وأظهرت أنه حتى الأفكار البدائية البسيطة تنطوي على كمية هائلة من النشاط، حيث تُثار مناطق الدماغ المختلفة وترسل المعلومات إلى المناطق الأخرى، وتعمل بعض المناطق "المركزية" على توجيه حركة سير تلك المعلومات.
كلما صعبت عملية التذكر، زاد نشاط القشرة أمام الجبهية، وطال أمد الاستجابة، بسبب الوقت الذي تستغرقه تلك المنطقة في تنشيط مناطق دماغية أخرى مثل الشبكات التي تُخزن فيها الذكريات
في العام الماضي، على سبيل المثال، تمكّنت شستيج وزملاؤها من تسجيل الرحلة التي تقطعها الأفكار الفردية في الدماغ عن طريق قياس إشارات كهربائية معينة عندما طُلب من الأشخاص المشاركين في الدراسة تذكّر وقول إحدى الكلمات. وقد كانت المناطق الأولى التي أظهرت نشاطا كهربائيا هي القشرة البصرية والسمعية، التي تستقبل الإشارات من العينين والأذنين. وبعد ذلك، بدأ مركز قيادة الدماغ -القشرة أمام الجبهية- في النشاط.
كلما صعبت عملية التذكر، زاد نشاط القشرة أمام الجبهية، وطال أمد الاستجابة، بسبب الوقت الذي تستغرقه تلك المنطقة في تنشيط مناطق دماغية أخرى مثل الشبكات التي تُخزن فيها الذكريات. وأخيرا، تنشط القشرة الحركية لتوليد استجابة منطوقة. ومن المدهش أن ذلك يحدث قبل أن تقرر القشرة أمام الجبهية الاستجابة. كما تقول شستيج: "لهذا السبب نبدأ الحديث في بعض الأحيان قبل أن نعرف ما نريد أن نقوله".
وعلى ذلك، تساعد القشرة أمام الجبهية على تنسيق عمليات التفكير، ولكن الإشارات المعنية تحتاج أيضا إلى التنسيق. هذه هي وظيفة الموجات الدماغية، وهي موجات النشاط العصبي التي تتذبذب بترددات مختلفة عبر الدماغ. وقد كشف البحث الذي أجراه سولومون أنه أثناء اختبار الذاكرة، تصبح موجات ثيتا ذات التردد المنخفض في مختلف مناطق المخ المعنية متناسقة، وهذا التزامن ربما يسمح بتوصيل المعلومات بين المناطق.
تعني قدرتنا الجديدة على مراقبة الأفكار الفردية أن أجهزة قراءة الأفكار لم تعد مجرد أمور خيالية. وفي مطلع هذا العام، استخدمت الأقطاب الكهربائية المثبتة على الدماغ لترجمة الموجات الدماغية إلى كلمات ينطق بها الحاسوب. قد تساعد مثل هذه التقنيات الأشخاص الذين يعانون من متلازمة المُنْحَبِس، وهي الحالة المرضية التي يكون فيها المريض في حالة استيقاظ ووعي ولكنه غير قادر على التواصل الشفهي مع الآخرين بسبب كونه في حالة شلل كامل لكل عضلاته الإرادية عدا عضلات العينين. كل ذلك بفضل قوة التفكير.
ربما اعتقدت من قبل أنك شخص يميني أو يساري الدماغ، أي يغلب عليك السمات العقلانية والمنطقية، أو الإبداعية والحيوية. ورغم جاذبية هذا المفهوم، فإنه أيضا محض خرافة. من السهل معرفة سبب نشوء هذه الفكرة. ففي حقبة الستينيات من القرن العشرين، اكتشفنا أن بعض الوظائف تحدث فقط على جانب واحد من الدماغ. إذ إن معظم الناس يعالجون اللغة في النصف الأيسر من الدماغ، بينما يضطلع النصف الأيمن من الدماغ في معالجة العواطف. وسرعان ما قيل إن النصف الأيسر يسيطر على المهام التي تشمل المنطق، واللغة، والتفكير التحليلي. في حين أن الجانب الأيمن من الدماغ هو المسؤول عن التحكم في العواطف، والذوق الموسيقي، والميل للتصرف باندفاع. ومنذ ذلك الحين ظهرت المقولة الشهيرة إن شخصيتك يُمكن أن تتحدد من خلال أي جانب من دماغك يهيمن على أفعالك.
بيد أن الحقيقة مختلفة بعض الشيء. فعلى سبيل المثال، على الرغم من أن النصف الأيسر من الدماغ هو المسؤول عن إصدار الكلمات التي قد تتسم بالتعقيد، يسمح النصف الأيمن بفهم المحتوى العاطفي والمجازي لتلك الكلمات، إذ إنه يمنحك بعض المهارات اللغوية. ومن ناحية أخرى، يُنشط التفكير الإبداعي شبكة واسعة من الخلايا التي لا تحفز أيًّا من نصفي الدماغ.
علاوة على ذلك، لا يوجد دليل على أن أحد جانبي الدماغ أكثر نشاطا من الآخر. فقد أجرى جيفري أندرسون من جامعة يوتا فحوصات شملت أدمغة أكثر من ألف شخص، أثناء قيامهم بأداء مهام مختلفة، وكشفت النتائج أن أيًّا منهم لم يظهر هيمنة لجانب واحد من الدماغ على حساب الآخر.
إننا جميعا نستخدم كل أجزاء أدمغتنا طوال الوقت، لكن هناك من يعتمد أكثر على الأنظمة الدماغية العلوية أو السفلية بعض الشيء، ويؤثر هذا بالتبعية على سلوكياتنا
ثمة أفكار أخرى سائدة حول طريقة عمل الدماغ. إذ ترى "نظرية الأنماط الإدراكية" التي وضعها ستيفين كوسلين من جامعة هارفارد أن طريقة تفكيرنا تتحدد بما إذا كانت أدمغتنا أمامية أم خلفية (مخطط صفحة 37). جدير بالذكر أن الأجزاء العلوية من أدمغتنا مسؤولة عن إعداد وتنفيذ المخططات وإعادة النظر فيها إذا سارت بشكل خاطئ. أما الأجزاء السفلية فهي مسؤولة في معظمها عن معالجة مُدخلات الحواس وتصنيف الأشياء والوقائع وإضفاء معنى عليها
ويقول كوسلين إننا جميعا نستخدم كل أجزاء أدمغتنا طوال الوقت، لكن هناك من يعتمد أكثر على الأنظمة الدماغية العلوية أو السفلية بعض الشيء، ويؤثر هذا بالتبعية على سلوكياتنا. فالشخص الذي تهيمن الأنظمة الدماغية العلوية على دماغه سيكون أكثر إبداعا وأكثر ميلا إلى المغامرة، لكنه يصبح غير كفء أحيانا لأنه لا يُحدث خططه بناء على الظروف الراهنة. في المقابل، يفكر الشخص الذي تهيمن الأنظمة الدماغية السفلية على دماغه كثيرا في تفاصيل خططه، لكنه أقل ميلا لبَدء المشاريع والمخططات المعقدة.
مع ذلك، يفترض أندرسون أن شخصياتنا تتكوّن على الأرجح من الطريقة التي تتصل بها الأنظمة الدماغية المختلفة ومدى ثراء الروابط بينها. فعلى سبيل المثال، غالبا ما يتأثر الأشخاص المنفتحون على خوض تجارب جديدة للغاية (وتنتابهم القشعريرة) عند مراقبتهم لغروب بديع للشمس. ويُظهر التصوير العصبي للدماغ أن لدى هؤلاء الأشخاص روابط كثيرة بين الأجزاء المسؤولة عن معالجة المعلومات الحسيّة والأجزاء المسؤولة عن الوجدان أو الضمير.
يبدو أحيانا وكأن دماغك قد توقف عن العمل عندما تستريح. لكن ذلك ليس صحيحا. فطالما أنك حي، ستستمر خلاياك العصبية في العمل بنشاط
ويقول أندرسون إن بمقدورنا الاستفادة من هذه المعلومات بتوظيفها في آليات التعلّم العميق والذكاء الاصطناعي التي يمكنها تقديم تنبؤات دقيقة حول السمات الشخصية للمرء استنادا إلى التصوير العصبي للدماغ. مضيفا: "لا يتعلق الأمر بما إذا كان المرء يستخدم الجزء الأيسر أم الأيمن من الدماغ أكثر، وإنما بالفوارق الدقيقة في الروابط التي تصل بين جميع أجزاء الدماغ".
يبدو أحيانا وكأن دماغك قد توقف عن العمل عندما تستريح. لكن ذلك ليس صحيحا. فطالما أنك حي، ستستمر خلاياك العصبية في العمل بنشاط. يقول دنيز فاتنسيفر، وهو عالم أعصاب إدراكي في جامعة فودان الصينية: "يعالج دماغك الكثير من الأشياء، حتى عندما لا تفعل ظاهريا أيّ شيء على الإطلاق". لا يمكن بأيّ حال تصور إمكانية توقف الدماغ. فقد كان الاستعداد الدائم في كل اللحظات مسألة حياة أو موت عند أجدادنا. ربما حاليا لا يشغل بال معظمنا هجمات الفهود المفاجأة من بين الشجيرات، لكن ما زال علينا البقاء في حالة تأهب حتى لا نتعرض للخطر أو تضيع علينا الفرص، ويتطلب هذا عقلا يعمل على الدوام.
في التسعينيات، لاحظ علماء الأعصاب أنه رغم تمدد الأشخاص في سكون مغلقين أعينهم عند إجراء التصوير العصبي، أظهرت أدمغتهم مستويات مفاجئة من النشاط. وسرعان ما حدد الباحثون أجزاء الدماغ الأكثر نشاطا خلال فترات الراحة، وأطلقوا عليها اسم "شبكة الوضع الافتراضي" أو (Default Mode Network). تُظهر هذه الشبكة نشاطا ضعيفا عندما نقوم بمهام تتطلب انتباهنا، لكنها تنشط للغاية عندما لا نفعل أيّ شيء على الإطلاق، سامحة لعقولنا بالشرود.
تُشير بعض الأدلة إلى أن "شبكة الوضع الافتراضي" مسؤولة عن التفكير في التجارب السابقة والتخطيط للمستقبل. ومن هذا المنطلق، تعد تلك الحالة ضرورية لأن أحلام اليقظة واحدة من القدرات التي تميزنا عن باقي الحيوانات. لكن مهام "شبكة الوضع الافتراضي" تتجاوز ذلك بكثير. أثبت فاتنسيفر وزملاؤه في عام 2017 أنها السبب وراء قدرتنا على أداء الأمور الروتينية دون انتباه منا، مثل ربط شريط الحذاء أو القيادة على طول طريق مألوف، أيّ إنها تُمثّل "وضع الطيار الآلي" لدينا.
يتحوّل الدماغ إلى خلية من النشاط خلال النوم أيضا. وبمجرد فقدان الوعي، يبدأ الدماغ العمل على جميع المهمات مثل طرد الجزيئات السامة (الفضلات) وتنظيم مستويات الهرمونات وبناء الأحلام، والتي يُعتقد أنها توفر بيئة آمنة لمحاكاة سلوكيات جديدة من شأنها مساعدة المرء خلال فترة يقظته. كما يقوم الدماغ النائم بأرشفة بعض التجارب لاستحضارها في وقت لاحق.
حتى عندما يكون شخص ما في حالة إنباتية وفاقدا للوعي وغير متجاوب بوضوح لفترة طويلة، تواصل دماغه العمل بقدر معين. فعلى سبيل المثال، عندما يُطلب من أشخاص في تلك الحالة تخيل أنفسهم وهم يلعبون التنس، يزداد تدفق الدم في أجزاء الدماغ المسؤولة عن المهارات الحركية، وهو ما يعني أن الخلايا العصبية في تلك المناطق في حالة نشاط كبير. في إحدى الحالات، نشطت تلك الأجزاء عند مريض طُلب منه الرد على مجموعة أسئلة إجاباتها بنعم أو لا.
لا تتوقف الخلايا العصبية تماما عن العمل إلا عند الموت. وحتى في تلك الحالة الاستثنائية، توجد دفعة نهائية من النشاط تنتجها الدماغ البشرية، كما أظهر جيد هارتنغز وزملاؤه بجامعة سينسيناتي في أوهايو مؤخرا لأول مرة في البشرية. فعندما يتوقف القلب عن ضخ الدم إلى الدماغ، حارما إياه من الأكسجين، تعتمد الخلايا العصبية على طاقة احتياطية مخزنة لمواصلة العمل لمدة تصل إلى ثلاث دقائق قبل أن تنتج دفعة أخرى أخيرة من الطاقة الكهروكيميائية، وعندها فقط يتوقف الدماغ نهائيا عن العمل.
غالبا ما ننسى أن الأمعاء جهاز استقبال حسيّ، حيث يستكشف العناصر الغذائية والسموم ومسببات الأمراض الداخلة إلى الجسم، ويرحّل هذه المعلومات إلى أدمغتنا
نشعر في بعض المواقف بألم في أمعائنا، يدفعنا إلى اتخاذ قرارات بناء على هذا الإحساس. وربما يكون هذا الأمر أكثر واقعية مما نتصور. فعلى سبيل المثال، يرتبط الإحساس بالغثيان بالحكم القاسي على بعض الانتهاكات الأخلاقية [فهو كناية عن الشعور بالاشمئزاز]. وما هذه إلا واحدة من الطرق العديدة التي تؤثر بها الأمعاء على ما يدور في رؤوسنا.
غالبا ما ننسى أن الأمعاء جهاز استقبال حسيّ، حيث يستكشف العناصر الغذائية والسموم ومسببات الأمراض الداخلة إلى الجسم، ويرحّل هذه المعلومات إلى أدمغتنا. وتحتوي الأمعاء على نحو 500 مليون خلية عصبية تنسق عملية الهضم. كما أن الأمعاء موطن لنحو 2 كيلوجرام من البكتيريا، التي تُنشئ ميكروبيوم أمعائنا، والتي تؤثر على كل عضو في الجسم بما في ذلك الدماغ. كما أظهرت مجموعة كبيرة من الدراسات التي أُجريت على الفئران أن تغيير بكتيريا الأمعاء يمكن أن يُغير السلوك. وهو ما جعل الفئران منعزلة وغير اجتماعية في بعض الحالات.
تزداد أهمية الميكروبيوم في مرحلة الطفولة تحديدا، حيث يكون الدماغ ما زال في طور النمو. فعلى سبيل المثال، تكون الفئران التي تفتقر إلى وجود نوع من البكتريا يسمى "بِيفيدوباكتيريوم" في أمعائها خلال فترة الرضاعة سيئة في اكتساب وتعلُّم الخبرات الجديدة. كما تتزايد الأدلة على ذلك عند البشر أيضا. خلصت إحدى الدراسات التصويريّة إلى أن استهلاك الحليب المُختمر الذي يحتوي على أنواع مختلفة من البكتيريا الحية كان له تأثير كبير على نشاط الدماغ لأشخاص مستريحين، وعلى ردود أفعالهم عند رؤية وجوه تُظهر عواطف معينة. ووجدت دراسة أُجريت هذا العام في بلجيكا وشارك فيها 1054 شخصا أن هناك أنواعا معينة من البكتيريا المعوية يندر وجودها عند الأشخاص الذين يعانون من الاكتئاب.
كما أن هناك دلالات مثيرة على أن بعض الحالات العصبية مثل التوحد ومرض ألزهايمر قد يكون منشأها الأصلي في الأمعاء. ففي مرض باركنسون، تبدأ الألياف السينوكليينية (أو "synuclein fibres" وهي نوع من البروتينات يوجد بكثرة في هذا المرض وإحدى السمات المميزة له) في الظهور أولا بالأمعاء قبل أن تنتشر في الدماغ. ما زلنا لا نعرف ما يُسببها، لكن قد يكون ميكروب أو توكسين (سم حيوي بروتيني) غير معروف. وفي مرض الصرع، ربما تفسر التغيّرات في الميكروبيوم سبب كون الأنظمة الغذائية مرتفعة الدهون (مثل الكيتو) تمنع حدوث النوبات عند بعض الأشخاص.
ما زال البحث حول العلاقة بين الأمعاء والدماغ في بدايته، لكنه أثار فكرة تطوير العقاقير التي تستهدف الميكروبيوم لتحسين صحتنا العقلية، التي يطلق عليها اسم "سَيكوبايوتكس". يعتقد جون كرايان من كلية كورك الجامعية في أيرلندا أن هذا احتمال مثير، ولكن ما زلنا في حاجة إلى عمل كثيف لمعرفة البكتيريا المفيدة لكل حالة تحديدا وكيفية زراعتها في الأمعاء.
ما زالت أيضا الكيفية التي تؤثر بها البكتيريا فعليا على الدماغ محل غموض، لكن الصورة باتت أوضح الآن. إذ تُشكّل عشرات التريليونات من البكتيريا في أمعائنا خلية من النشاط الأيضي، والتي تُنتج كمًّا هائلا من المواد الكيميائية التي يمكن لأجسامنا امتصاصها. ترتكز الأبحاث الحالية على معرفة أيها تحديدا يصل إلى الدماغ ويؤثر فيه. فهناك بعض البكتيريا التي تتغذى على (غابا) أو حمض الغاما-أمينوبيوتيريك، وهي مادة كيميائية موجودة في الدماغ لها تأثير على الاكتئاب.
ربما من المستغرب أن تتأثر أدمغتنا بما يوجد في أمعائنا، لكن لن يكون الأمر بهذه الغرابة إذا أخذت في اعتبارك أن هذه الميكروبات كانت دائما معنا، مثلما يقول كريان. مضيفا: "أعتبرهم أصدقاء ذوي منافع اجتماعية لأنهم يؤثرون فعليا على الدماغ الاجتماعي خلال مرحلة الطفولة والنمو. كما أن هذه علاقة مهمة للغاية وأعتقد أنها كانت أداة تطورية".
منذ سنوات قليلة مضت، أخذ العلماء خلايا من الدماغ البشريّ ولقّحوا بها الفئران. بعد عام تضاعفت تلك الخلايا وأصبحت الفئران أذكى، وصارت تتعلّم بصورة أكثر كفاءة من الفئران ذات الأدمغة العاديّة. ربّما لا يثير هذا دهشتك حتّى تعرف أن خلايا الدماغ تلك لم تكن خلايا عصبيّة. مع تواصل عمليّات بناء خلايا الدماغ يكون للخلايا العصبيّة نصيب الأسد. هناك نحو 86 مليارا من تلك الخلايا النحيلة التي تحمل النبضات الكهربيّة في الدماغ، لتساعدنا على التحكّم في أجسادنا ومواصلة التفكير. إلّا أنّ هناك العديد من خلايا الدماغ غير نشطة كهربيًّا؛ وهي الخلايا الدِّبْقيّة التي يصل عددها إلى عدد الخلايا العصبيّة نفسه على الأقل. لُقّحَت أدمغة الفئران بالنوع النجميّ من الخلايا الدِّبْقيّة، وهذا ما يشير إلى أهمّيتها في عمليّات التعلّم، وهذه ليست المرة الأولى التي يصل فيها العلماء إلى تلك النتيجة.
تهتم الخلايا الدِّبقية النجميّة بالبيئة المحيطة بالخلايا العصبيّة، متحكّمة في مستويات المواد الكيميائيّة المعروفة باسم "النواقل العصبيّة"، وتساعِد أيضا في إصلاح التلف
عُدّت تلك الخلايا الدِّبْقيّة فيما سبق محض حشو للفراغات، ولكن تغيّر هذا الأمر اليوم. تقول آن كووك، المديرة التنفيذيّة لجمعيّة العلوم العصبيّة البريطانيّة، إنّ "هناك أدلّة متزايدة ترجّح أنّها أكثر من مجرّد مادة لاصقة. هذه الخلايا هي جنود مجهولة داخل الدماغ". هناك عدّة أنواع من هذه الخلايا: بعضها مثلا صغير يُدعى "الخلايا الدِّبقية الصغيرة" (microglia)، وتتجوّل في الدماغ ملتهِمة المواد الغريبة، لتحمي الخلايا العصبيّة.
تهتم الخلايا الدِّبقية النجميّة أيضا بالبيئة المحيطة بالخلايا العصبيّة، متحكّمة في مستويات المواد الكيميائيّة المعروفة باسم "النواقل العصبيّة"، وتساعِد أيضا في إصلاح التلف. هنالك أدلّة متزايدة على أنّ لهذه الخلايا دورا أيضا في تطوّر الذكاء البشريّ؛ فنحن نعرف أنّ الأطفال الصغار ينطلقون مع وجود العديد من الروابط بين خلاياهم العصبيّة، وأنّ تلك الروابط يتم تشذيبها تدريجيّا لخلق أعداد أقل من مسارات أقوى للإشارات؛ ويبدو أنّ الخلايا الدِّبقية النجميّة لها دور في عملية التشذيب هذه.
يقول إد لاين، من معهد ألين لعلوم الدماغ في سياتل، إنّه "رغم أنّ الخلايا العصبيّة ما زالت مهمّة جدّا، فإنّه يبدو هناك دور للخلايا الدِّبقية في تحديد الكسب الكهربائي في نظام الدماغ". ليس الأمر متعلّقا بالخلايا فحسب، فالفراغات لها دور أيضا. في أعماق الدماغ هناك غرف صغيرة تُدعَى "البُطينات"، تُنتِج سائلا يغمر خلايا الدماغ. ينتج يوميّا ما مقداره 500 ملليلتر من ذلك السائل النخاعيّ الذي يُحافِظ على دوام عمل الأمور واستقرارها من خلال توفير دعامات ومغذّيات وطرد النفايات بعيدا.
لا شكّ أنّ هناك المزيد ليُكتشف. في العام الماضي، حدّد الباحثون نوعا جديدا من خلايا الدماغ سمّوها "خلايا عصبيّة من نوع وردة المسك"، لأنّها تشبه شكل فاكهة "وردة المسك" (rosehip)؛ وذكروا أنّها قد لا تكون موجودة سوى في الدماغ البشريّ. هناك أسرار أخرى قد تكشف عنها جهود لاين لإنشاء خريطة لجميع أنواع خلايا الدماغ، وهو عمل كشفيّ مُضنٍ يتابع الجينات التي تعبّر عنها كلّ خليّة بمفردِها. فقد بدأ مؤخّرا دراسة القشرة الحديثة (neocortex) من القشرة المخّيّة، وهي الجزء الخارجيّ من الدماغ البشريّ، والتي تتعامل مع العمليات العليا وتُشكّل نحو 80٪ من كتلة الدماغ، واكتشف 75 نوعا مختلفا من الخلايا في تلك القشرة وحدها.
هناك حقيقة صادمة من حقائق الحياة، مفادها أنّك كلما تقدّمت في السنّ بدأت قدراتك الإدراكيّة في التراجع. فما السبب الذي يجعل البعضَ يصلون سنَّ الشيخوخة وهم لا يعانون سوى من "لحظات خرف عابرة" فيما يُعاني آخرون من تراجع عقليّ وذهنيّ كبير؟
يبدأ الدماغ في الانكماش عند سنّ الأربعين، مع تدهور الخلايا بشكل أسرع في الفصّ الجبهيّ والنواة المُخطّطيّة والحُصَيْن. وهي مناطق لها دورُها في تشكيل أعقَدِ أفكارنا وحركاتنا والذاكرة. من الراجح أن ترتبط قدرتك على مقاومة آثار هذا التدهور بالاحتياطيّ المعرفيّ/الإدراكيّ لديك. وهذا شيء أشبه بالحاجز الذهنيّ الذي يسمح للدماغ بتحمّل أكبر قدر من التلف قبل أن تبدأ في ملاحظة التغيّرات في قدراتك الإدراكيّة.
ليس الاحتياطيّ الإدراكيّ هو مجرّد امتلاك المرء خلايا عصبيّة أكثر من غيره، ولكنّه يعني أيضا مدى ارتباط تلك الخلايا ببعضها البعض عبر شبكات مختلفة في الدماغ. يسمح هذا للدماغ بتعويض النقص حين يحدث ذلك التدهور المرتبط بالتقدّم في العمر أو عند الإصابة بمرض ما، ويساعد في إعادة توجيه المعلومات لكي يستطيع الدماغ مواصلة العمل على أكفأ وجه. يشبه هذا إلى حدٍّ ما زيادة طاقة المعالَجة في الحاسوب، إذ يمكن أن تسوء أحوال العديد من الأشياء قبل أن تلحَظَ تباطؤها.
قد تؤثّر البيئة أيضا على الاحتياطيّ الإدراكيّ. فالمستويات الأعلى من التعليم توفّر للمرء واحدة من أكبر درجات زيادة ذلك الاحتياطيّ؛ في حين تخفّضه الظروف الصحيّة السيئّة مثل أمراض السِّمنة وحالة مقاومة الإنسولين "IR". تساعدنا أيضا العديد من الجينات في مقاومة التدهور الإدراكيّ. ترتبط الاختلافات الوراثيّة الصغيرة بقابليّتنا للتأثر بمرض ألزهايمر، وأيضا بكيفيّة توظيف الدماغ لاحتياطيّات الطاقة وتفاعله مع الإصابات ومسبّبات الأمراض.
هناك طرق لتحسين الاحتياطيّ الإدراكيّ. ومن أفضل تلك الطرق مواصلتك التعليم طوال حياتك
يبدو تقلّص الدماغ مع مرور الزمن أمرا مثيرا للغمّ؛ غير أنّ هناك بعض الأخبار السارّة. فرغم أنّ معظم خلايا الدماغ تنشأ وتتكوّن بُعَيد الولادة، فإنّ بإمكان أدمغتنا توليد أنواع معيّنة من الخلايا العصبيّة حتّى سنّ التسعين والعقد العاشر من العمر. قد تشرح هذه القدرة إلى حدٍّ ما سبب كون أدمغة البعض تنجح في مقاومة ويلات الشيخوخة.
هناك طرق أخرى لتحسين الاحتياطيّ الإدراكيّ. من أفضل تلك الطرق مواصلتك التعليم طوال حياتك؛ غير أنّ هناك أمورا أخرى تساعد على ذلك، منها العزف على آلة موسيقيّة، والتفاعل الاجتماعيّ، والحصول على قسط وافر من النوم، وإتقان أكثر من لغة. رغم هذا، لا تركن إلى هذا وتعتمد عليه كثيرا؛ فقد اتّضحت صحّة المثل القائل "العقل السليم في الجسم السليم".
يقول ستيف هاريدج، مدير مركز العلوم الفسيولوجيّة الإنسانيّة والتطبيقيّة في كينغز كولدج لندن (كلية الملك بجامعة لندن)، إنّك "لو كنت تتطلّع إلى الحفاظ على صحتك العقليّة فأنت بحاجة إلى التدريب والتمرين". يُحدِث التدريب المنتظم تحسينات ملحوظة في الذاكرة والانتباه وسرعة المُعالَجة والوظائف التنفيذيّة مثل التخطيط وتعدّد المهام.
لا تترك الأمرَ حتّى فوات الأوان. اكتشف ريتشارد هينسون وزملاؤه في جامعة كامبريدج البريطانيّة أنّ الأشياء التي نفعلها في منتصف العمر –خارج إطار العمل والتعليم– تسهم مساهمة فريدة في تحسين صحّة الدماغ عند تقدّم العمر. إلّا أنّ الأنشطة التي يزاوِلها المتقاعدون في آخر عمرهم لها تأثير أقلّ. يقول هينسون إنّ "منتصف العمر يبدو وقتا مناسبا للتدخّل؛ من أجل دفع الناس إلى المساهمة في المزيد من الأنشطة –الجسديّة والفكريّة/الذهنيّة والاجتماعيّة– التي قد تكون لها آثار مبشّرة لهم بعد 20 أو 30 عاما".