لم يمر وقت طويل على وفاة الرسول في العام الحادي عشر من الهجرة، حتى اتسعت الدولة الإسلامية بشكل مطرد، فأضحت يثرب، المدينة المنورة، قبلةَ المسلمين الجدد الذين قدموا إلى عاصمة الإسلام من كل حدب وصوب.
الكثير من اليهود اليمنيين أعلنوا إسلامهم، ونالوا حظوة ومكانة في الدولة الناشئة، بما خبروه من حكايات الأنبياء وقصص الكتب المقدسة، ومن بين هؤلاء كان كعب الأحبار، صاحب الشخصية الغامضة والنبوءات المستقبلية والمسؤول الأكبر عن حدوث التداخل الإسرائيلي في التراث الإسلامي المبكر.
كيف تم تقديم شخصية كعب الأحبار في المصادر التاريخية الإسلامية؟
بحسب ما تتفق عليه المصادر التاريخية الإسلامية، فأن كعباً كان من اليهود الذين يسكنون في اليمن، وكان من الأحبار والعلماء المعروفين بدرايتهم الواسعة في قراءة ودراسة الكتب المقدسة عند اليهود، ولكنه تحول إلى الإسلام، وأصبح واحداً من كبار التابعين.
الاسم الشائع في معظم المصادر التي ترجمت له، هو كعب بن ماتع الحميري، ولكن مع ذلك فأن مجموعة من الكتابات قد عملت على تفصيل نسبه، فقالت إنه "كعب بن هينوع أو هيسوع أو عمرو بن قيس بن معمر بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن عوف بن حمير بن قطف بن عوف بن زهير بن أيمن بن حمير بن سبأ الحميري"، وذلك بحسب ما يذكر النووي في كتابه تهذيب الأسماء والصفات.
يرجّح الدكتور إسرائيل ولفنسون في كتابه المهم "كعب الأحبار ... مسلمة اليهود في الإسلام"، أن ذلك النسب مختلق ومكذوب، لكونه لم يَرِد في أي من المصادر المتقدمة عن النووي الذي عاش في القرن السابع الهجري، هذا بالإضافة إلى أن أسماء مثل ماتع وهينوع وهيسوع لم تكن معروفة أو متداولة في المحيط الجغرافي العربي اليمني في تلك الفترة.
تفسير إسلام كعب أيضاً مُحاط بهالة من الغموض والضبابية، ذلك أن بعض القصص تحاول أن تُكسبه بعداً غيبياً، فتذكر أن أباه قد أعطاه مجموعة أوراق من التوراة قُبيل موته، وأوصاه ألا يقترب من غيرها من كتب اليهود المقدسة التي توجد عنده، فلما ظهر الرسول وذاعت دعوته، قرأ كعب تلك الكتب، ووجد فيها خبر الرسول، ومن ثم فقد سارع لاعتناق الإسلام.ما لا شك فيه، أن كعباً كان صاحب تأثير عميق على المجتمع الإسلامي الذي اختلط به بعد إسلامه، ويؤكد ولفنسون على ذلك الطرح بقوله "يُعدّ كعب الأحبار في نظرنا أعظم من اعتنق الإسلام شأناً في القرن الأول للهجرة، من اليهود وأقواهم أثراً في المحيط الجديد الذي اختاره لنفسه..."، ومما يشهد على ذلك، اجتماع المصادر التاريخية على القول بقربه من مجموعة من كبار الصحابة، ومن بينهم عمر بن الخطاب، وأبو هريرة، وأبو الدرداء، ومعاوية بن أبي سفيان، وعبد الله بن العباس.
في الحقيقة، يوجد رأيان متعارضان، فيما يخص توصيف علاقة كعب بالصحابة وبالإسلام، الأول، يراه مسلماً عالماً انخرط في المجتمع الإسلامي، فصار واحداً من جماعة المؤمنين الموحدين المدافعين عن قيم الإسلام ومبادئه الأصيلة.
هذا الطرح، يستند إلى بعض الأقوال التي وردت على ألسنة مجموعة من الصحابة، فعلى سبيل المثال، يذكر أبو الدرداء فضلَ كعب، فيقول "إن عند ابن الحميرية لعلماً كثيراً"، أما معاوية بن أبي سفيان فيقول "ألا إن كعب الأحبار أحد العلماء إن كان عنده لعلم كالبحار وإن كنا فيه لمفرطين".
في السياق نفسه، فأن المصادر التاريخية قد أشارت إلى العلاقة الوطيدة التي نشأت بين كعب وأبي هريرة، فقد ورد أن الثاني قد سافر خصيصاً إلى الطور ليقابل كعباً، وهناك، تبادل الاثنان المعارف المُستقاة من أحاديث الرسول وكتب اليهود المقدسة، بحسب ما يذكر الدكتور مصطفى بوهندي في كتابه "أكثر أبو هريرة".
أبو هريرة لم يكن الصحابي الوحيد الذي ارتبط بصداقة وطيدة مع كعب، بل أيضاً نجد أن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب قد حرص على تقريب كعب إليه، حتى أنه أمره بمصاحبته في رحلته إلى فلسطين، أثناء تسليم بيت المقدس للمسلمين في العام السادس عشر من الهجرة، ويفسر ولفنسون ذلك الأمر بأن الخليفة قد أراد أن يجعل من كعب وسيطاً بينه وبين يهود بيت المقدس، وربما أراد عمر أن يكون كعب مرشده ودليله إلى قصص الأنبياء التي تذخر بها أرض المدينة المقدسة.
على الجهة المقابلة، فأن هناك رأياً أخر، يرى أن كعباً لم يكن سوى أحد اليهود الذين ادّعوا الإسلام في الظاهر، غير أنهم عملوا بشتى الطرق على تخريبه وتحريفه، من خلال نشر الخرافة والروايات المكذوبة.
يستند أصحاب هذا الرأي لمجموعة من الروايات التي أكدت على إنكار بعض الصحابة وتكذيبهم لمقالات كعب، ومن ذلك ما أورده ابن جرير الطبري في تاريخ الرسل والملوك، من أن عبد الله بن العباس قد غضب غضباً شديداً لما جاءه رجل يخبره بأن كعباً قد أخبره أن الله سوف يأتي بالشمس والقمر يوم القيامة ويقذف بهما في جهنم، حيث رأى ابن العباس في ذلك مخالفة صريحة للآيات القرآنية التي تذكر أن الشمس والقمر طائعان لله، فكيف يعذبهما الله وهما طائعان له؟
أيضاً، يستند أصحاب هذا الرأي لما روي عن عمر بن الخطاب، من أنه قد عنّف كعباً في عدد من المواقف، ومنعه من الرواية، فقال له "لتتركن الحديث أو لألحقنك بأرض القردة"، وضربه بعصاه، وذلك بحسب ما يذكر ابن كثير في البداية والنهاية.
من أهم الباحثين المعاصرين الذين قالوا بذلك الرأي، الشيخ اللبناني محمد رشيد رضا، في تفسير المنار، حيث وصف كعباً بأنه "بطل الإسرائيليات الأكبر"، وبأنه كان يضع الروايات الخرافية "ليغش المسلمين، وليفسد عليهم دينهم وسنتهم، ويخدع بها الناس لإظهاره التقوى...".
أما الباحث المصري محمود أبو رية، فقد اتهم كعب بأنه "الصهيوني الأول"، في مقال بالعنوان نفسه نشره في مجلة الرسالة عام 1946م، وبرر هذا الوصف بمجموعة من الأحداث التي تناقلتها المصادر التاريخية، والتي تؤكد على أن كعباً قد حاول تغيير قبلة المسلمين إلى بيت المقدس بعدما فتحها عمر، ليس ذلك فحسب، بل إن أبو رية قد خطا خطوة أبعد، عندما جادل في مقاله بأن كعباً كان واحداً من المشاركين في المؤامرة التي قُتل فيها الخليفة الثاني.من السمات المهمة التي تلفت الانتباه في تناول المؤرخين المسلمين لشخصية كعب الأحبار، أنهم قد نقلوا على لسانه العديد من النبوءات المستقبلية ذات الطابع الغيبي، والتي تقترب كثيراً من حدود الخوارق والمعجزات.
من أشهر تلك النبوءات المستقبلية التي نسبها مؤرخو الإسلام لكعب، ما ذكره كل من ابن أبي شيبة في مصنفه وابن حجر العسقلاني في الإصابة، من أن كعباً قد ذهب إلى عمر بن الخطاب يوماً ما، وأبلغه أنه سوف يُقتل بعد ثلاث أيام، فلما اندهش عمر من هذا الخبر، وسأل كعباً عن مصدره، قال له بأنه قد عرف ذلك من التوراة، ولما سأله عمر هل كُتب اسمه في التوراة، رد عليه كعب "اللهم لا، ولكني أجد صفتك وحليتك وأنه قد فني أجلك".
نبوءات كعب المُستقاة من التوراة بحسب زعم المؤرخين المسلمين، أضحت بمثابة الإرهاص الذي لا يخيب لما سيستجد من أحداث سياسية، فكعب هو الذي توقع وصول الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو الذي توقع خروجها من يد العلويين
نبوءات كعب المُستقاة من التوراة بحسب زعم المؤرخين المسلمين، أضحت بمثابة الإرهاص الذي لا يخيب لما سيستجد من أحداث سياسية، فكعب هو الذي توقع وصول الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، وهو الذي توقع خروجها من يد العلويين، بحسب ما يذكر البلاذري في أنساب الأشراف.
أيضاً، بقي كلام كعب مهماً بعد موته، وذلك من خلال الأحاديث التي نقلها لبعض الصحابة والتي تحققت فيما بعد، فعلى سبيل المثال، يذكر ابن حجر العسقلاني في الإصابة، أن عبد الله بن الزبير لما أرسل له أخوه مصعب برأس المختار بن عُبيد الله الثقفي، قد تعجب واندهش، وقال "ما وقع في سلطاني شيء إلا أخبرني به كعب، إلا أنه ذكر لي أنه يقتلني رجل من ثقيف، وهذه رأسه بين يدي"، طبعاً، من المعروف أن النبوءة المزعومة لكعب سوف تثبت صدقها فيما بعد، عندما يتم قتل ابن الزبير على يد رجل أخر من ثقيف، وهو الحجاج بن يوسف الثقفي في 73هـ.
كل تلك النبوءات الغيبية التي نسبها المؤرخون لكعب الأحبار في مدوناتهم ومصنفاتهم التاريخية، جعلته يشغل مكانة تكافئ مكانة هرمس رسول الآلهة في الميثولوجيا الإغريقية، فهو الذي ينذر ويبشر، ويوجه رسائله للأبطال فيرشدهم إلى ما سيجري لهم، وما ساعد في إسباغ شخصية العرّاف على كعب، سنه الكبير وأصوله المجهولة والغموض الذي يتسربل به معظم الوقت، وكلها سمات مهمة في تشكيل وصياغة شخصية العرّاف في الثقافة الشعبية.
فاتح باب التفسير أمام الإسرائيليات
سمح المسلمون لكعب بالمشاركة في تفسير بعض الآيات القرآنية ذات الصلة بسير الأنبياء والرسل المتقدمين، اعتماداً على خلفيته العلمية اليهودية، الأمر الذي نتج عنه فيما بعد، فتح أبواب واسعة للإسرائيليات والروايات الكتابية المنحولة للدخول والاندماج والتماهي مع التفسيرات المبكرة للنص القرآني، بحيث أضحى الفصل بينهما من الصعوبة بمكان.
أخذت استعانة كعب بالتوراة وبكتب اليهود في تفسير النص القرآني العديدَ من الصور والطرق، منها تلك التي تلتزم بضوابط المنهجية التاريخية، فعندما قرأ البعض أمامه ما ورد في سورة مريم "يا أخت هارون، ما كان أبوك امرأ سوء وما كانت أمك بغياً"، فأن كعباً قد قال أن هارون المذكور في الآية لم يكن هو نفسه النبي هارون أخو النبي موسى، فلما كذبته أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر، رد عليها "يا أم المؤمنين، ان كان النبي قال هذا فهو أعلم وأخبر وإلا فإني أجد بينهما ستمائة سنة"، وذلك بحسب ما يذكر ابن جرير الطبري في تاريخ الرسل والملوك.
يرتبط الأثر الأهم والأعظم لكعب الأحبار في تفسير القرآن، بقصص الأنبياء وبعض الوقائع المتقدّمة التي ورد ذكرها بشكل مختصر في القرآن الكريم، مثل قصة هاروت وماروت، وقصة بناء الكعبة، وتحديد عدد الأنبياء، وفضائل بيت المقدس والشام، وفي هذا السياق تحديداً، نقل عنه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان في تأويل آي القرآن، وهو من أهم التفسيرات القرآنية في القرن الثالث الهجري، 114 رواية، بحسب ما يذكر الدكتور خليل إسماعيل إلياس في كتابه "كعب الأحبار وأثره في التفسير".
أيضاً، كانت أقوال وروايات كعب الأحبار من بين المصادر الرئيسة والمهمة التي اعتمد عليها مجموعة المؤلفين المهتمّين بتدوين سيرة الأنبياء وقصصهم، ومن أبرزهم الثعلبي في عرائس المجالس، والكسائي في قصص الأنبياء.
في كتابه، ينقل الثعلبي 35 رواية عن كعب، ورد فيها قصص الخضر وصالح ويحيى وزكريا وعيسى، هذا بالإضافة إلى خبر مدينة إرم ذات العماد "المبنية بالذهب والفضة، وعمدها من زبرجد وياقوت"، وهو الخبر الذي دخل في قصص ألف ليلة وليلة واستطاع أن يشغل مكاناً مهماً في الأدب الشعبي.
كل تلك الروايات والقصص المنقولة على لسان كعب، ساهمت في إثراء شخصيته في الثقافة الإسلامية الجمعية، ويظهر ذلك في تسميته كعب الأحبار، والتي يُقصد بها كعب المُقدّم على جميع الأحبار، بحسب ما يذكر ولفنسون في كتابه.
أيضاً يمكن القول إن تعاظم وتضخيم الروايات المنسوبة لكعب الأحبار على مدار السنين، كان بسبب شخصيته ذات الملامح الغامضة والأسطورية، والتي جعلته الخيار الأول للكثير من الوضّاعين والكذّابين الذين زيفوا الروايات ثم وضعوها على لسانه، لتجد بعد ذلك سبيلاً للانتشار والذيوع من خلال المدونات الحديثية والتاريخية والتفسيرية.