أصدر تنظيم داعش، لأول مرة، هذا الأسبوع شريط فيديو يظهر مجموعة من أعضائه في تركيا يعلنون بيعتهم لزعيم التنظيم أبو بكر البغدادي. يأتي هذا بعد ثلاثة أشهر من ظهور البغدادي في شريطه الأخير (بعد خمس سنوات من الغياب) وهو يحمل ملفا باسم "ولاية تركيا".
ورغم أن وجود داعش في تركيا يعود إلى فترة طويلة، إلا أنها المرة الأولى التي يَصدر فيها شريط رسمي عن "ولاية تركيا".
يستعرض هذا التقرير ملامح وتاريخ علاقة ملتبسة بين تركيا وداعش ابتدأت بـ"غض النظر" أو حتى التواطؤ، كما يرصدها باحثون، وانتهت بـ"حرب مفتوحة"!.
العلم الأسود
في الواقع، فيديو "ولاية تركيا" هو الثامن ضمن سلسلة فيديوهات متواصلة يُصدرها داعش منذ فترة بعنوان "العاقبة للمتقين"، وتتضمن بيعات لمقاتلي التنظيم في مناطق مختلفة من أنحاء العالم، بعضها لأول مرة، مثل الكونغو ومالي وبوركينا فاسو وأذربيجان والهند وإيران.
تهدف هذه السلسلة، كما هو معلن من عنوانها (العاقبة للمتقين) والمقدمة التي تسبق تلاوة البيعات، إلى تأكيد استمرارية داعش وثبات مقاتليه في مواجهة الدول "التي تزعم القضاء على دولة الخلافة".
لا يتعدى فيديو "ولاية تركيا" خمس دقائق. ويظهر خمسة مقاتلين ملثمين يبايعون أبو بكر البغدادي، وخلفهم علم داعش الأسود.
ويظهر في الشريط شخص باسم أبو قتادة التركي (اعتمد تنظيم داعش صيغة واحدة تقريبا للمتحدثين في سلسلة "العاقبة للمتقين": أبو مصعب الليبي، أبو طلحة الهندي، أبو عبد الله القوقازي..)، متوعدا تركيا ورئيسها طيب رجب أردوغان الذي وصفه بـ"طاغوت تركيا المتكبر" والولايات المتحدة.
تركيا.. نقطة عبور
وجود داعش في تركيا ليس جديدا بالتأكيد. فحتى قبل إعلان "الخلافة" في نهاية يونيو 2014، كانت تركيا نقطة عبور رئيسية لمقاتلي التنظيم إلى داخل الأراضي السورية والعراقية. وعمليا صارت داعش، باحتلال مناطق شاسعة في محافظتي دير الزور والحسكة بسوريا ومحافظة نينوى بالعراق، هي الجار الجنوبي لتركيا حينها.
تحولت داعش خلال تلك الفترة إلى عدو رئيسي للنظام السوري ولحزب العمال الكردستاني الذي كانت أذرعه تنشط في شمال شرقي سوريا، لتختار أنقرة سياسة عدم التدخل. وهي السياسة التي سهلت مرور أكثر من 25 ألف مقاتل أجنبي إلى داخل الأراضي السورية والعراقية.
في أبريل الماضي، حصل فريق من مجلة "دير شبيغل" الألمانية على وثائق تتضمن أكثر من 100 جواز سفر لعناصر من داعش ينحدرون من 21 دولة تم أسرهم على يد مليشيا وحدات حماية الشعب الكردية. أغلب جوازات السفر تشير إلى دخول أصحابها إلى الأراضي السورية عبر تركيا في بداية سنة 2014.
وداخل الأراضي التركية، تمتعت داعش بوجود مكثف عبر مئات الخلايا والملاذات الآمنة، خاصة في مدن إسطنبول وأنقرة وقونية وأضنة وإزمير وغازي عنتاب وأورفا. تؤكد هذا الأعداد الهائلة من عناصر داعش والمتعاطفين معها الذي أعلنت تركيا اعتقالهم خلال سنتي 2016 و2017 (2936 شخصا سنة 2016، و820 شخصا في شهر فبراير 2017 وحده).
واستطاع تنظيم داعش سريا بناء شبكة واسعة من العلاقات داخل تركيا . وصار بواسطته قادرا على شراء مواده الحيوية ونقلها إلى أراضيه. وتعاقد، عبر أطراف ثالثة، مع مصانع لإنتاج مواد أولية لصناعة المتفجرات. وحصل على المواد الكيماوية، والأجهزة الإلكترونية للقنابل بدائية الصنع، والسيارات رباعية الدفع، والملابس والغذاء...إلخ.
من "عدم الاعتداء" إلى الحرب
كان هجوم الجيش التركي، في أغسطس 2016، على مدينة الباب السورية هو نقطة التحول في العلاقة بين تركيا وداعش. فردا على الهجوم، أعلن أبو بكر البغدادي الحرب المفتوحة على أنقرة، خاصة أن عملية "درع الفرات"، التي دعمت فيها تركيا فصائل من الجيش السوري الحر، انتهت بخسارة داعش لمدينة الباب الحدودية.
تزامنت عملية درع الفرات في سوريا مع انطلاق معركة الموصل في العراق، وهو ما دفع البغدادي إلى إصدار شريط صوتي في نوفمبر 2016، بعد أكثر من عام من الغياب. هاجم زعيم داعش تركيا، ودعا مقاتليه إلى نقل المعركة إلى الأراضي التركية: "لقد دخلت تركيا اليوم في دائرة عملكم ومشروع جهادكم، فاستعينوا بالله واغزوها واجعلوا أمنها فزعا ورخاءها هلعا ثم أدرجوها في مناطق صراعكم الملتهبة"، قال حينها.
وبعد يومين فقط من كلمة البغدادي، فجر مقاتلوه سيارة ملغومة في مدينة ديار بكر في جنوب شرقي تركيا، تسببت في مقتل ثمانية أشخاص وإصابة أكثر من 100 آخرين. وكان هذا هو أول هجوم يتبناه داعش رسميا في تركيا.
قبل هذا، مرت علاقة داعش بتركيا بمراحل مختلفة: طيلة سنة 2014 والأشهر الأولى لـ2015، اتبعا الطرفان سياسة أشبه بـ"عدم الاعتداء". ولم ينفذ التنظيم أي هجوم داخل الأراضي التركية، باستثناء تبادل لإطلاق النار بين ثلاثة من عناصر داعش (غير أتراك) والشرطة التركية داخل نقطة تفتيش مرورية. ورغم أن الحادث تسبب في مقتل ثلاثة من رجال الشرطة، إلا أن أنقرة اعتبرت أنه اندلع بشكل عفوي ولم يكن مخططا له.
خلال هذه الفترة (2014 وبداية 2015)، لم تبد تركيا نشاطا يذكر في محاربة داعش رغم أنها كانت تصنف التنظيم جماعة إرهابية منذ 2014. كانت تنظر إلى داعش حينها كأداة لهزيمة قوات الأسد وللحيلولة دون إنشاء حزام كردي في شمال شرقي سوريا الذي خرج عن سيطرة النظام لصالح الميليشات الكردية. لذا ظلت ترفض لأكثر من شهر السماح بمرور قوات برية من خارج سوريا لدعم مقاتلي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني تحت الحصار خلال معركة كوباني (سبتمبر 2014- مارس 2015).
ولم تستجب أنقرة للمطالب الكردية إلا تحت الضغوط الدولية (صارت كوباني حينها رمزا للمعركة ضد داعش)، واشترطت أن تكون هذه القوات من قوات البشمركة التابعة لإقليم كردستان العراق (يتمتع مسعود بارزاني بعلاقات جيدة مع تركيا).
ومع انقلاب موازين القوى وتقدم المقاتلين الأكراد في كوباني وباقي شمالي سوريا، شرع تنظيم داعش ابتداء من ربيع 2015 في تنفيذ هجمات مروعة ضد الأهداف الكردية داخل الأراضي التركية. وبين مايو وأكتوبر 2015، نفذ التنظيم سلسة هجمات ضد الأكراد في مدن أدنة ومرسين وديار بكر وسروج وأنقرة تسببت في مقتل 150 شخصا.
كانت هذه العمليات الاستعراضية هي ما دفع تركيا إلى أن تخطو الخطوة الأولى في المعركة ضد داعش: عملية برية على الحدود السورية ضد مقاتلي داعش (والأكراد أيضا)، السماح لطائرات التحالف باستخدام قاعدة أنجرليك العسكرية، تنفيذ أول ضربة جوية ضد أهداف لداعش داخل الأراضي السورية.
في هذه الفترة أيضا (يونيو 2015)، شرع تنظيم داعش في إصدار مجلة خاصة باللغة التركية باسم "القسطنطينية"، وصعد من نبرة العداء تجاه أنقرة. أما تركيا فزادت من حدة الإجراءات الأمنية لتأمين حدودها وشنت حملات أمنية مكثفة لضرب شبكة داعش على أراضيها، خاصة بعد سلسلة الهجمات التي شنها التنظيم في مناطق مختلفة في أوروبا (باريس، بروكسيل، نيس، برلين...إلخ) في نهاية 2015.
في العام التالي (2016)، نفذ داعش سلسلة هجمات داخل الأراضي التركية، استهدفت هذه المرة مواطنين أتراكا وسياحا أجانب (سابقا كانت العمليات تركز على المصالح الكردية)، قبل أن تعلن أنقرة عن عملية "درع الفرات" للدخول إلى مدينة الباب السورية. وهو ما رد عليه أبو بكر البغدادي بإعلان الحرب المفتوحة.