بما لا يعلم كثيرون أن الإسلام هو ثاني أكبر ديانة في روسيا الاتحادية بعد الأرثوذكسية، حيث يصل عدد المسلمين إلى حوالي 25 مليون شخص. ويتوقع رئيس «مجلس المفتين»، راوي عين الدين، أن تنمو نسبة المسلمين في البلاد خلال الأعوام 15 القادمة لتصل إلى 30% من مجموع السكان.
هذا ما يتوقعه «المختصون الذين لا يشك رئيس مجلس المفتين في كفاءتهم»، وحسب معاينته، خلال عمله في مسجد موسكو الكبير، للزيادة المستمرة في عدد مرتاديه. ولا غروَ، فالمناطق ذات الأغلبية المسلمة في روسيا، بما في ذلك شمال القوقاز وجمهورية تتارستان، تتمتع بأعلى معدلات للمواليد في البلاد، ما يعكس اتجاهات مماثلة في أنحاء العالم.
وحتى لو حجزت التقديرات التي نشرتها صحيفة «موسكو تايمز» تعداد المسلمين عند سقف 14 – 20 مليون، أي: 10-14% من إجمالي سكان روسيا البالغ عددهم 146.8 مليونًا في عام 2018، أو حتى هبطت تقديرات موقع «روسيا اليوم» بالنسبة إلى 7% فقط؛ فهذا لا يغير شيئًا من واقع أن عدد المسلمين في روسيا الاتحادية يشهد نموًا يتعذر وقفه، بشهادة رئيس أساقفة الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، دميتري سميرنوف، حتى أنه قال: «لن يبقى أي روسي في عام 2050».
لكن برغم هذا النمو الملحوظ، يشكو كثيرون – حتى «رئيس مجلس المفتين» الذي يخضع لإشراف الرئاسة الروسية – من وجود «حواجز مصطنعة في روسيا؛ لإعاقة انتشار الإسلام، وينبغي القضاء عليها».
جذور الوجود الإسلامي في روسيا
برز الوجود الإسلامي في روسيا خلال القرن السابع، مع انتقال المسلمين من منطقة القوقاز إلى روسيا. وازدهر الإسلام بسرعة في الأراضي الروسية إلى حد أن أجزاء من البلاد خضعت لاحقًا لإمبراطوريات إسلامية سنية وشيعية يحكمها الصفويون والقاجاريون والعثمانيون.
امرأتان من مسلمي روسيا
يعيش غالبية المسلمين في روسيا اليوم في منطقتي داغستان والشيشان، ومع زيادة عدد المسلمين في جميع أنحاء روسيا، من المتوقع أن يصل عددهم بحلول عام 2020 إلى خُمس تعداد السكان. ونظرًا للاعتراف بالإسلام كدين رسمي، فضلاً عن التعداد الكبير للجالية المسلمة في البلاد، يوجد تنظيم عالي المستوى لشؤون الجالية المسلمة، تمثله ثلاثة مراكز فيدرالية.
عاش المسلمون تحت الحكم الروسي لقرون، لكنهم عانوا من فترات اضطهاد، وصلت ذروتها في القرن 16. ومنذ أوائل القرن 19، شكل المسلمون تحديا فريدا للإمبراطورية الروسية.
صهر المسلمين داخل بوتقة روسيا الأرثوذكسية
تبنت الإمبراطورة كاترين الثانية (1762- 1796م) سياسة انتقاء رجال الدين المسلمين، بهدف السيطرة على عموم المسلمين واستيعابهم داخل روسيا الأرثوذكسية؛ تحت مظلة التسامح الديني.
وعلى مدى أجيال، دعم القياصرة شخصيات مسلمة بعينها؛ لضمان السيطرة على أشكال الإسلام التي ترى الدولة أنها قد تزعزع استقرار البلاد. وكان مسلمو الإمبراطورية الروسية (1721-1917) يتعهدون أمام الله ورسوله، ويقسمون على الإنجيل والتوراة والمزامير والقرآن، بأن يكونوا موالين لجلالة الإمبراطور، بحسب القسم الذي يعود تاريخه إلى عام 1908.
أضفى هذا النموذج طابعًا مؤسسيًا على الإسلام داخل روسيا الحديثة، كركيزة قوية للحكم ووسيلة لتعبئة الدين لصالح الحكام. يعود ذلك إلى إدراك الكرملين لطبيعة الولاءات التاريخية للتتار المسلمين الروس، وعلاقات خانات القرم بالخلافة العثمانية والدولة الصفوية. مع الوضع في الاعتبار الحروب المتقطعة التي خاضتها روسيا لمدة 200 سنة ضد مسلمي شمال القوقاز، وقمعها مسيرة الشيشان نحو الاستقلال بين عامي 1994 و2000.
هذه الاشتباكات والتوترات المستمرة في شمال القوقاز، كما في داغستان والشيشان، عززت الصورة النمطية للمسلمين بأنهم «متطرفون إسلاميون». وأصبح النظرة الحكومية السائدة إلى المسلمين الروس هي أنهم «أصوليون إسلاميون محتملون» يمثلون «تهديدًا وشيكًا على وحدة الاتحاد الروسي».
وإذا كانت موسكو تعتبر الإسلام بمثابة «تحدٍ عابر للحدود يهدد بتطويق روسيا»، فما المانع أن تشجع هذا الجدل؛ حتى يتسنى لها أيضًا توظيف التهديد الإسلامي المتصور كذريعة لسحق المعارضة في الداخل.
«روسيا ليست كافرة»: كيف تحول التدخل الروسي في سوريا إلى معركة مقدسة؟
«الإسلام التقليدي».. أداة هلامية موالية للسلطات
في السنوات القليلة الماضية، استخدم الكرملين على نطاق واسع مصطلح «الإسلام التقليدي» لتصميم شكل جديد من أشكال الإسلام يصعب تعريفه على وجه الدقة بسبب دلالاته المتعددة، حتى أربك المسلمين بهلاميته في تحديد هوية هذا الإسلام المعتدل، الموالي للسلطات، المرضيّ عنه في التاريخ الروسي.
في البيئة الدينية الإسلامية، كان المفتي الأعلى طلعت تاج الدين هو أول من اقترح مصطلح «الإسلام التقليدي» في أوائل التسعينيات؛ استجابة لـ«الحقائق الجديدة التي تهدد استقرار روسيا وساحة ما بعد الاتحاد السوفيتي عمومًا».
وصرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن «الإسلام التقليدي» جزء لا يتجزأ من القانون الثقافي الروسي، ومكون أساسي من مكونات روسيا الكوزموبوليتانية. لكنه شطح فعرّف الحجاب بأنه ليس جزءًا من «الإسلام التقليدي»، بل مستعار فقط من تقاليد غريبة، وهي «الفتوى» التي أثارت استغراب المسلمين وقلق المسلمات.
«تدجين» المسلمين في روسيا بسيف القانون
لا توجد ضمانات تمنع استخدام القوانين والخطابات التي تحدد معايير الأشكال المقبولة للإسلام في روسيا في اضطهاد المسلمين الروس، حسبما تحذر أروكي أوران كيزي، الباحثة في مركز «تي آر تي وورلد». حيث سهلت القوانين الأخيرة المتعلقة بالتطرف، والمعروفة باسم «تشريعات ياروفايا –أوزيروف» على السلطات الروسية وصف أي معتقد أو فرد أو كتابة أو جماعة بأنها «متطرفة».
وحذر رئيس مجلس حقوق الإنسان الروسي، ميخائيل فيدوتوف، من أن حزمة قوانين مكافحة الإرهاب تتضمن «العديد من التناقضات الداخلية والتناقضات مع الوثائق القانونية الأخرى في بلادنا. ويمكن أن تسبب الكثير من المشاكل، بدلا من توفير أدوات حقيقية لمكافحة الإرهاب».
تتيح هذه القوانين للمسؤولين الحكوميين حظر نشاط أي جمعية دينية تنتهك النظام العام أو تنخرط في «نشاط متطرف» تبشيري. بموجب هذا التشريع، تداهم الشرطة المنازل وأماكن العبادة حيث تنعقد التجمعات والأنشطة الخاصة.
كل ما لا يدخل تحت مظلة الإسلام «التقليدي» في روسيا يُنظر إليه على أنه «أصولي، وهابي، سلفي، متطرف»، بل يشكل تحديًا مباشرًا للكرملين. ويمكن لأي محكمة روسية أن تعلن أي مادة (كتاب، نشرة، أغنية، شعار، فيديو، موقع إلكتروني، صفحة ويب) «متطرفة» أو تتعارض مع «الإسلام التقليدي». ثم تُفَوَّض وزارة العدل بإدراج هذه الأعمال العمل على قائمتها الفيدرالية للمواد المتطرفة، حتى لو كانت أعمالًا تاريخية مثل كتاب «الأربعون النووية» أو كتب أبو حامد الغزالي.
في 21 يناير (كانون الثاني) 2019، حظرت محكمة في مدينة سمارة الروسية ترجمة لمعاني لقرآن، وأدرجتها في القائمة السوداء؛ لأنها متطرفة؛ مما أثار غضب العديد من المسلمين الروس. الغريب أن هذه النسخة التي ترجمها الدكتور إلمير كولييف كانت تستخدم لأكثر من 10 سنوات في المؤسسات التعليمية الإسلامية.
ووفقًا للكرملين، فإن جميع المسلمين الأجانب هم العامل الرئيسي وراء تطرف المسلمين في روسيا، ومن الأسلم وصم أي فكرة أو كتاب أو منظمة إسلامية تتأثر بأي شيء خارج روسيا بأنها «إسلام غير تقليدي».
هذا في الواقع لا يعدو كونه محاولات حثيثة لـ«تدجين» المسلمين في روسيا – على حد وصف الباحثة كيزي – وإجبارهم على السير في ركاب السلطات العلمانية، وتعميم مفهوم «الإسلام التقليدي» حتى يسهل على السلطات قمع المجتمعات الدينية التي قد تفكر في تحديها، وخنق المعارضة السلمية التي قد تجرؤ على رفع صوتها.
تعزيز أمن روسيا داخليًا ومكانتها الجيوسياسية عالميًا
هذا الاهتمام الروسي المتزايد ببناء منصة رسمية لتعريف الإسلام التقليدي «السائد» سمح للكرملين في توظيف الدين لمصلحته من أجل التأثير على الجماهير المسلمة محليًا ودوليًا، وكما عززت هذه الدبلوماسية الدينية أمن روسيا داخليًا، فقد عززت أيضًا مكانتها الجيوسياسية في العالم الإسلامي.
بينما يتركز الانتباه على الجوانب العسكرية والاقتصادية من التواجد الروسي في الشرق الأوسط، يسلط حسن في مجلة «ذي أتلانتك» الضوء على ترويج موسكو نسختها الخاصة من «الإسلام المهادن»، بالتزامن مع الحملة التي تشنها بعض الدول العربية لمكافحة الإسلاموية.
المبعوث الروسي التي يرأس هذا الجهد هو: رمضان قديروف، رئيس جمهورية الشيشان، الذي يعتبر مكافحة التطرف الإسلامي امتدادًا لحرب الشيشان التي حارب فيها لصالح موسكو ضد الحركة الانفصالية. وأحد الأمثلة المبكرة للتحالف الديني الروسي – العربي هو المؤتمر الدولي الذي استضافه قديروف في العاصمة الشيشانية جروزني في سبتمبر (أيلول) 2016، بمشاركة زعماء دينيين مسلمين على صلة وثيقة بالحكومات في مصر والإمارات – الدولتين المعاديتين للإسلام السياسي – إلى جانب رجال دين من سوريا.
الرئيس الشيشاني رمضان قديروف
في أكتوبر (تشرين الثاني) 2017، أثناء لقاء مع فلاديمير بوتين في موسكو، ذكرت التقارير أن العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز ناقش ملف الدعوة الإسلامية في روسيا. وأخبر مسؤولون سعوديون وروس الخبير الروسي في واشنطن، ثيودور كاراسيك، أن الملك وافق على سحب تمويل المساجد ووقف الجهود الدعوية في روسيا في فبراير (شباط) الماضي، اتخذت الرياض خطوة مماثلة عندما رفعت يدها عن أكبر مسجد في بلجيكا.
استقبلت السعودية قديروف مثل الملوك، رغم الاختلافات الفكرية الواسعة بينهما، وشفعت العلاقة الروسية – السعودية القوية للرجل الذي يعتنق الطريقة الصوفية كي يصبح صديقًا شخصيًا لكثير من القادة العرب، بمن فيهم الحلفاء المقربون للولايات المتحدة، مثل: ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وولي عهد أبوظبي محمد بن زايد.
3 دوافع وراء رغبة روسيا في التواصل مع المسلمين
هذا التواصل الروسي – الإسلامي مدفوعٌ بعدة عوامل:
- المخاوف الداخلية حيث يشكل المسلمون حوالي 15% من السكان الروس، وخاضت موسكو صراعًا ضد متمردين دينيين وقوميين في منطقة شمال القوقاز ذات الأغلبية المسلمة. وزاد صعود تنظيمي الدولة والقاعدة في سوريا من مخاوف موسكو بشأن التهديد المتطرف، خاصة بالنظر إلى الدور الكبير للجهاديين من شمال القوقاز داخل التنظيمين. وبعد ثلاثة أسابيع من تدخل الروس لأول مرة في سوريا، في سبتمبر (أيلول) 2015، حث بوتين الزعماء الإسلاميين الروس على الوقوف ضد التطرف، وقال: «إن أيديولوجيتهم مبنية على الأكاذيب، وعلى التحريف السافر للإسلام.. إنهم يحاولون تجنيد أتباع في بلدنا أيضًا».
- تحاول روسيا أيضًا مواجهة التصور السائد بأن موسكو معادية للإسلام (بسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان) أو للإسلام السني على وجه الخصوص (لأن البلاد مرتبطة بإيران ووكلائها). ويقول يوري بارمين، المحلل السياسي المتخصص في سياسة روسيا تجاه الشرق الأوسط: «على الصعيد الدولي، تستخدم موسكو العامل الشيشاني لمواجهة الانتقادات بأن روسيا جزء من التحالف الشيعي.. الشرطة العسكرية الشيشانية في سوريا هي مثال على ذلك. كما يعيد الشيشان بناء المسجد الكبير في حلب، كمحاولة لجذب السكان السنة في سوريا».
- هناك عامل محفز آخر يتمثل في رغبة موسكو في تمييز نفسها عن الولايات المتحدة. يقول محلل سياسي من أصول شيشانية: «تستثمر روسيا عمومًا في فكرة أنها ليست أمريكا، وأنها ليست ضد الإسلام، فهي تقدم بديلًا معتدلًا، وأداتها في ذلك: رمضان قديروف والنموذج الشيشاني».
قد لا تقبل الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى مبدأ أن الإسلاميين والسلفيين يشكلون خطورة مثل الجهاديين المتشددين – كما يقول حسن حسن – لكن يمكن لروسيا، من خلال الترويج لشكل معين من الاعتدال الإسلامي المنسجم مع القوى العربية، أن تعزز موقعها في المنطقة بعمق أكثر من الاكتفاء بالوسائل الاقتصادية والعسكرية وحدها.