نضال طويل لم ينتهِ.. قصة الدساتير المصرية من الاستعمار حتى الضباط الأحرار!

في السبت ٢٠ - أبريل - ٢٠١٩ ١٢:٠٠ صباحاً

عندما تقلد محمد توفيق باشا الخديوية في يونيو (حزيران) 1879، كانت مصر آنذاك تجتاز مرحلة من أدق المراحل في تاريخها القومي، فالشعب يئن من المظالم والضرائب الفادحة التي ورثها من عهد سلفه الخديوي إسماعيل، ويتطلع إلى حكم جديد ينتهي فيه عهد الإسراف والظلم وطغيان الخديوي، والتدخل الأجنبي الذي تعددت أشكاله؛ من إنشاء صندوق للدين، إلى فرض الرقابة الثنائية الإنجليزية الفرنسية على مالية مصر، وتغلغل نفوذ الأجانب في البلاد. في أواخر عهد إسماعيل.

كانت ثورة الأفكار والتطلع إلى الحرية والنظم الدستورية، قد بدأت وتأصلت في نفوس الطبقة المثقفة من الأمة المصرية، ومع ولاية توفيق؛ شعر المصريون ببعض الارتياح، بفعل سيرة الرجل من الاستقامة والانصراف عن التبذير والظلم. هذه الظروف الدقيقة الغاية في الصعوبة، رافقت لحظة ميلاد أول المبادئ الدستورية المصرية على الطراز الحديث عام 1879، وإذا ما ذُكرت هذه النهضة الدستورية ذُكر معها محمد شريف باشا، المعروف تاريخيًا بأبو الدستور المصري، فمن هو وما قصته؟

محمد شريف باشا.. أبو الدستور المصري

عُرف شريف باشا بأنه أحد أهم رجال الجماعة الوطنية المصرية لبروز اسمه في عدد من المواقف الوطنية، التي لا لبس فيها، فهو الذي ألف الحكومة الوطنية الخالية من العنصر الأجنبي في عصر الخديوي إسماعيل؛ وزارة أعلنت نفسها مسؤولة أمام مجلس شورى النواب المصري، ليكون للأخير بذلك سلطة المجالس النيابية الحديثة في أوروبا من المراقبة والمساءلة. وعلى يده أيضًا تقرر المبدأ الدستوري الأول في مصر، والذي على أساسه تشكلت أول الدساتير المصرية الحديثة 1882، وله يدٌ في الثورة العرابية وحماية مطالبها الوطنية.

ولد محمد شريف باشا بالقاهرة في عام 1826، في الوقت الذي كان فيه محمد علي يسعى لتوطين العلوم في مصر، والنهوض بالتعليم والثقافة المصرية، ليأخذ بيدها إلى مصافِ الدول المستقلة. في هذا الوقت كان أبوه شريف أفندي قاضي قضاة مصر، ومعلوم أن قاضي القضاة يُختار في منصبه لعام أو عامين، فلما انقضت مدة شريف أفندي عاد إلى الأستانه ومعه ولده. وبعد سنوات عُين قاضيًا للحجاز، فمر بمصر في طريقه إلى الحجاز، ونزل عند محمد علي باشا، فأحسن إليه وأكرم وفادته. تفرّس محمد علي باشا في ابنه محمد، ورأى فيه النباهة والذكاء، فطلب من الأب أن يدع ولده، وأن يتكفل محمد علي بتعليمه وتثقيفه، فقبل الأب.

ذهب محمد شريف ليتلقى تعليمه في مدرسة الخانكة، وهي المدرسة العسكرية التي تأسست بأمر محمد علي سنة 1826، وما أن أتم محمد شريف دراسته بالمدرسة حتى انتظم في البعثات التي أوفدها الوالي محمد علي إلى أوروبا، وهناك نبغ والتحق بالجيش الفرنسي لفترة تدريبية.

محمد شريف باشا

عُهد إليه بنظارة (وزارة) الخارجية عام 1857، وظل زُهاء 30 عامًا في أرفع المناصب السياسية؛ إذ عهد إليه الخديوي إسماعيل بوزارة الداخلية إلى جانب الخارجية، وكانت وزارة الداخلية في ذلك الوقت أرفع الوزارات وأهمها، لكن محمد شريف باشا مع كل تلك الألقاب التي ارتبط بها اسمه، حافظ على مبادئه برفض التدخلات الخارجية في الشأن المصري، وضرورة الشورى، والانحياز للشعب ضد استبداد الخديوي. وكانت اللحظة الأهم في مسيرته السياسية، لما أذعن الخديوي إسماعيل للدول الأوروبية وشكل لجنة التحقيق الأوروبية سنة 1878؛ للنظر في المالية المصرية بعد الاستدانة الكبيرة التي مُنيت بها إدارة إسماعيل، واستدعت اللجنة محمد شريف باشا لتسمع أقواله، فرفض المثول أمامها وآثر الاستقالة من الوزارة، فرفعه هذا العمل في أعين المصريين، وجعله رمزًا للضمير المصري والاستقلالية.

اجتمع الأحرار (مجموعة من أعيان مصر ناضلوا لأجل الاستقلالية وإضعاف سلطة الخديوي) عام 1879، وأجمعوا أمرهم على رفع بعض المطالب الدستورية إلى الخديوي، والتي كان من ضمنها أن يرأس محمد شريف باشا وزارة من الوطنيين، فاستجاب لهم الخديوي وشكل محمد شريف أول حكوماته، وأقصى الوزيرين الأوروبيين، وعلاوة على ذلك أقر مبدأ المسؤولية الوزارية أمام مجلس شورى النواب، فأقام البناء الأساسي في صرح الدستور.

صحيح أنه لا يمكن اعتبار وثيقة حكومة شريف باشا، التي قدمها إلى مجلس شورى النواب دستورًا لعدة أسباب؛ منها عدم صدور مرسوم بها من الخديوي، وإنما أقرها مجلس شورى النواب بعدما عرضتها الوزارة عليه؛ وأنها لم تأت على ذكر الحقوق الأساسية للمواطن، وإنما عمدت إلى إقرار بعض أنماط التفاعل بين مؤسسات الدولة، لكنها وضعت اللبنة الأساسية لدستور 1882، أول وثيقة دستورية مصرية على الطراز الأوروبي الحديث.

الثورة العرابية وقصة الدستور الأول للبلاد

كانت البلاد قبيل الثورة العرابية قد عرفت شيئًا من النظام الدستوري، إذ أنشئ مجلس شورى النواب لأول مرة في عهد الخديوي إسماعيل 1866، لكنه كان بلا سلطة حقيقية، ولم يكن له أثر في رفع المظالم عن الناس، إلا أن روح المعارضة قد بدأت تدب في نفوس أعضائه أواخر عهد إسماعيل وتطلعت أفكار النواب والأعيان إلى إصلاح نظامه وتوسيع اختصاصاته، وحقق لهم شريف باشا هذه الآمال في المبادئ الدستورية التي أقرتها حكومته الأولى 1879، لكن خلع إسماعيل حال دون إصدار هذه المبادئ بمرسوم خديوي والعمل بمقتضاها كما أسلفنا.

وبينما كانت الطبقة المثقفة تتوق لإصدار الدستور في أول عهد الخديوي توفيق؛ فإذا بهم يرون حكومة شريف باشا تُقدم على الاستقالة في أغسطس (آب) 1879، لمعارضة الخديوي توفيق مسار الحكومة الدستوري الراغب في توسيع صلاحيات مجلس النواب وتحجيم سلطة الخديوي، وكُلف رياض باشا بتأليف حكومة جديدة تقوم بالأساس على الحكم المطلق والاستبداد، وحتى مجلس شورى النواب الذي كانت صلاحيته محدودة جدًا ظل معطلًا زهاء سنتين، لكن الناس لم ينسوا ما كان لهذا المجلس من مآثر طيبة أواخر عهد إسماعيل، فكان لزامًا عليهم أن يستأنفوا الجهاد الدستوري، وأن يستجيبوا لأول داعٍ يدعوهم إلى الثورة على النظام المستبد، فكان ذلك أحمد عرابي، وعلى هذا فإن الحركة العرابية إنما هي امتداد للحركة الوطنية التي ظهرت أواخر عهد الخديوي إسماعيل.

عرابي بعد هزيمته أمام الاحتلال الإنجليزي

ورغم أن الحركة العرابية كانت في الأساس تمردًا عسكريًا من مجموعة من أفراد الجيش يقودها أحمد عرابي باشا، رفضًا للتمييز الذي مارسه ناظر الحربية عثمان باشا رفقي ضد الضباط المصريين، فكان يفضل الأتراك والألبان في الترقيات ويُبعد المصريين، لكن الحركة العرابية سرعان ما توسعت في مطالبها حتى وصلت إلى حد إسقاط حكومة رياض باشا، وتكليف شريف باشا بتشكيل وزارته الثالثة.

تردد شريف باشا في قبول الوزارة أيامًا لخوفه من تدخل الجيش في الحياة السياسية، وكان ذلك متوقعًا لأن الجيش هو من أتى به، واقترح اسمه للخديوي بديلًا عن رياض باشا، لكنه في النهاية قبل الوزارة بعدما تعهَّد له عرابي بألا يتدخل الجيش في السياسة.

سرعان ما عملت حكومة شريف باشا على التجهيز للانتخابات النيابية، وانتخب مجلس شورى النواب في ديسمبر (كانون الأول) سنة 1881، ثم أعدت الوزارة دستورًا للبلاد، مقتبس بشكل كبير من الدستور الذي كان شريف باشا قد وضعه سنة 1879، بأن يكون المبدأ الأساسي فيه توسيع قاعدة الشورى وإشراك المصريين في حكم بلادهم وإلزام الحكومة بالخضوع لمراقبة البرلمان وعدم فرض أي ضريبة أو إصدار أي قانون دون تصديق المجلس عليه، وألا تُقر الميزانية قبل أن تُعرض على المجلس، وهذه المبادئ في أغلبها هي المبادئ الدستورية الحديثة التي يجري العمل بها في يومنا هذا.

قدم شريف باشا مشروعه للدستور إلى مجلس النواب في يناير (كانون الثاني) 1882، فأحيل إلى اللجنة الدستورية، التي عكفت على دراسته حتى قدمت ملاحظاتها إلى الحكومة بعد 10 أيام، وقد أقرت اللجنة أغلب مواده مع تعديلات طفيفة، عرض شريف باشا التعديلات على وزرائه وكادت الحكومة تصل مع مجلس النواب إلى الشكل النهائي للدستور المصري لولا تدخل فرنسا وإنجلترا، اللتين عارضتا المسار الدستوري في مصر، وأسقطا حكومة شريف باشا.

كانت البلدان تعارضان سلطة الشعب على الميزانية، وأن يطلع عليها مجلس النواب أو يتدخل فيها، فعرض شريف باشا على مجلس النواب المفاوضة مع الإنجليز والفرنسيين بهذا الصدد لكن المجلس رفض وأصر على أن يُصدق على هذه المادة مع المواد الأخرى، وهنا تجدر الإشارة إلى أن الموقف المتعنت من قبل النواب كان مدفوعًا بموقف الجيش (عرابي وأصدقائه) الذي كانت وزارة شريف قد عملت بمعزل عنهم، وهو ما ساءهم، وانتصر الحزب العسكري في نهاية المطاف فاستعفى شريف باشا وعُين محمود سامي البارودي رئيسًا للوزارة برأي النواب ومن ورائهم ضُباط الجيش.

عُنيت وزارة البارودي (الوزارة العُرابية) بمشروع الدستور فأنجزته وصدر به المرسوم الخديوي في السابع من فبراير (شباط) 1882، لكن ذلك لم يرق لبريطانيا وفرنسا اللتين رأيتا فيه نهاية لنفوذهما ورقابتهما المالية على مصر، فكانت مظاهرة الأسطول الفرنسي والإنجليزي في مياه الإسكندرية مقدمة الحرب على مصر واحتلالها في يوليو (تموز) 1882، والحقيقة أن الغاية الأوروبية تلاقت مع غاية الخديوي توفيق المحب للاستبداد وحكم الرجل الفرد أكثر من حبه للحكم التشاركي الذي أقره الدستور، فكان تعاون الخديوي والاحتلال هو السمة الغالبة.

ثورة 1919 ودستورها الذي فتح للمصريين باب الحرية

إن كانت حياتي قصيرة فإن حياة الأمة طويلة، يجب على الآباء أن يلقنوا هذه المبادئ وهذه الحقائق لأبنائهم. *سعد زغلول – الإسكندرية 1924

لما تحرك الجيش الإنجليزي لوأد الثورة العرابية، والاصطفاف إلى جانب الخديوي توفيق عام 1882، لم تشأ المملكة العظمى إثارة الدول الضامنة لمعاهدة 1840 بهذا الخرق (معاهدة تمت بين الوالي محمد علي والدولة العثمانية، للحد من توسعات الأوَّل والإقرار له بالولاية على مصر وأبنائه من بعده مع التبعية الإسمية للباب العالي في الأستانة)، فصدّرت بريطانيا للعالم شرعية مزيفة استندت إلى طلب الخديوي (صاحب الشرعية القانونية) للنجدة الإنجليزية، ليبقى وجودهم في مصر متشحًا بهذا الوشاح، ودليل على ذلك لم يكن الجيش الإنجليزي الموجود في مصر يؤدي عملًا إلا بأمر الخديوي.

ولم يكن وضع المعتمد البريطاني يختلف عن وضع غيره من القناصل الأجانب في مصر، إذ لا يعبر عن إرادته السياسية إلا من خلال قرارات الحكومة المصرية، التي كان يسعى دائمًا لاسترضائها، وخلال السنوات الأولى للاحتلال البريطاني تمكَّن المحتل شيئًا فشيئًا من التغلغل إلى رؤوس الإدارات الحكومية، وكان على رأس كل وزارة أو إدارة حكومية خبيرًا بريطانيًا، وهي الفترة التي عرفت ما سُمي تاريخيًا بـ«النصائح الملزمة»، إذ كانت نصائح الخبراء البريطانيين واجبة النفاذ لكن بقرار مصري، كما يذكر المستشار البشري في كتابه «سعد يفاوض الاستعمار».

سعد زغلول زعيم ثورة 1919

هذه التقدمة نستفيد منها لاحقًا في تشريح الحالة المصرية المعاصرة لتلك الفترة، إذ نؤكد من خلالها أن الجهاز الإداري للدولة كان مصريًا بامتياز، ولم تكن  مهمة البريطانيين على رؤوس الإدارات، إلا التوجيه والمحاسبة، أشبه ما يكون بالحكم الخفي. الأمر الذي تغير كليةً فور اشتعال الحرب العالمية الأولى 1914، وأعلنت بريطانيا الحماية على مصر، ونفت عنها التبعية (التي كانت إسميةً فقط) للدولة العثمانية، وخُلع الخديوي عباس حلمي الثاني، واستبدل به الإنجليز السلطان حسين كامل (الابن الثاني للخديوي إسماعيل)، صاحَبَ ذلك إعلان الأحكام العرفية وتعيين حاكم عسكري بريطاني له صلاحيات مطلقة.

يذكر المؤرخ المصري عبدالرحمن الرافعي، أن الانقلاب الذي حدث من جانب بريطانيا في 1914، لم يثر إلا احتجاجات يسيرة بالرغم من أنه قوبل بكثير من الأسى والحزن في نفوس المصريين، مُرجعًا ذلك للأحكام العرفية التي أُعلنت (وكانت أول أحكام عرفية تعرفها مصر في عصرها الحديث)، وزيادة أعداد الجند في البلاد. انفجرت ثورة 1919 فور نفي سعد زغلول وأصحابه في 8 مارس (آذار)، لكن سرعان ما أُفرج عنهم لاحقًا في 17 أبريل (نيسان) بضغط الثورة، وأُذن لهم بالسفر من منفاهم في مالطة إلى باريس لعرض مطالب مصر على مؤتمر السلام المنعقد هناك، لكن مساعيهم خابت وبدلًا من أن يحققوا لمصر أيًا من مطالبها، اعترف الرئيس الأمريكي ويلسون وبعده الزعيم الألماني بالحماية البريطانية على مصر.

تشكلت حول شخصية سعد زغلول نواة جماعة وطنية، حرضت الشعب على الثورة على المحتل، ولأول مرة في تاريخ مصر نظم الموظفون العموميون إضرابًا لأغراض سياسية، فشُلّت به حركة البلاد، ونجحت هذه الثورة في أن تفرز لنا نظامًا استمر 30 عامًا، كانت فيه السيطرة سجالًا بين الملك والوفد، وانتزعت الثورة تصريح 28 فبراير (شباط) 1922 باستقلال مصر، وأن يكون للاحتلال فقط حق حمايتها ضد أي استعمار خارجي، ثم أخيرًا دستور 1923.

وعلى خلاف دستور 1882، الذي لم يُعن بالحقوق الفردية واكتفى بتنظيم العلاقة بين المؤسسات الحاكمة، عجّ دستور 1923 بالكثير من المبادئ التي تتعلق بحقوق المصريين وواجباتهم، وإقرار مبدأ دولة القانون القائمة على السلطات المقيدة مع كفالة حرمة المنازل والرسائل السرية وحرية الاعتقاد والرأي وحرمة الملكية الخاصة وحظر مصادرة الأموال.

كان هذا على الصعيد الفردي؛ لكن وضع الحرية الجماعية في هذا الدستور كان معيبًا، كما كان استقلال مصر في ذلك الوقت معيبًا كما أسلفنا، وبقيت الرقابة على الصحافة والاجتماعات مشددة بحكم مواد الدستور، وأبدى الاحتلال والملك تعنتًا شديدًا إزاء الأمرين، وحتى لما حاولت وزارة الوفد سنة 1928 تعديل هذا الأمر فوجئت بمظاهرة عسكرية تتقدمها البوارج البريطانية في مياه الإسكندرية؛ في مشهد مشابه للتدخل البريطاني سنة 1882، فتراجعت وزارة الوفد حفاظًا على الأرواح وضياع المكتسبات.

1953: دستور إبعاد العسكريين عن السياسة.. وُئِد في مهده

ضمن هذا الدستور صراعًا على السلطة في ظل محددات واضحة لمدة 30 سنة تقريبًا، حتى عطله الضباط الأحرار بعد ثورة يوليو (تموز) 1952، وفي يناير (كانون الثاني) 1953 أعلنت قيادة الثورة تشكيل لجنة من 50 عضوًا لوضع دستور جديد للبلاد، والحقيقة أن عمل اللجنة كان الجزء الأكبر منه منصبًا على تنقيح دستور 1923، لسد الفراغ الدستوري الناجم عن عزل الملك، وكان الدستور الجديد ديمقراطيًا لدرجة أنه لم يترك لضباط يوليو مجالًا لممارسة السياسة والنفوذ، مؤسسًا لنظام برلماني تكون فيه السلطة للأمة، ويختار البرلمان رئيس الجمهورية، عنيَ المشاركون في هذا المشروع بإبعاد العساكر من الحياة السياسية، غير أن المفاجأة كانت وأد هذه المشروع جنينًا في مهده، واعلنت قيادة الثورة في فبراير 1953 دستورًا مؤقتًا للبلاد.

تشكل الدستور المؤقت من 11 مادة، ستة منها تحدثت عن المبادئ الدستورية العامة، والخمسة الأخرى اختصت بتنظيم السلطة في البلاد؛ واحدة أطلقت يد قائد الثورة في اتخاذ ما يراه من تدابير لحماية الثورة والنظام القائم، وتخوله تعيين الوزراء وعزلهم، ومادتان تخولان مجلس الوزراء أعمال السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية.

مجلس قيادة الثورة في يناير (كانون الثاني) 1953

من خلال الدستور المؤقت لم تفقد السلطة التشريعية استقلالها فقط كما كانت أول أمرها في عهد الخديوي إسماعيل كما أسلفنا، بل فقدت وجودها من الأساس واندمجت في السلطة التنفيذية، التي كان لقائد الثورة منفردًا حق تعيين أفرادها وعزلهم، وحتى السلطة القضائية نص الدستور على أن «لا يكون لأحدٍ عليها سلطان بغير قانون» بدلًا من «لا يكون لأحد عليه سلطان، لغير القانون»، فصار عليها السلطان بالقانون، والقانون تشرعه الوزارة، والوزارة يعينها قائد الثورة.

أُلغي العمل بالدستور المؤقت بعد انتهاء الفترة الانتقالية وأُعلن في يناير 1956 عن دستور جديد للبلاد يقر النظام الرئاسي، وجرى الاستفتاء الشعبي عليه، لكنه له يدم طويلًا حتى أُلغي مع الوحدة المصرية مع سوريا سنة 1958.

وتجدر الإشارة إلى أن أكثر الدساتير المصرية بقاءً هو الدستور الذي أُقر سنة 1971، في عهد الرئيس السادات، إذ وقف العمل به مع ثورة يناير 2011 (جرى العمل به زُهاء 40 سنة).

وأهم ما يمكن الخلوص إليه من هذا السرد الطويل أن الدساتير المصرية أبدًا لم تعرف الاستقرار، ورغم نضال المصريين الطويل للوصول إلى دستور يحفظ لهم الحرية الخاصة والعامة ويقر نظامًا تكون فيه السلطة للأمة، إلا أنهم دائمًا ما وُضعوا بين خيارات حدّية، كأن يدق الاستعمار بابهم أو يستلب العسكر قرارهم، شكلت فترة ما بعد ثورة 1919؛ الاستثناء لأن الجيش المصري كان في السودان، والمحتل البريطاني كان يفضل خوض المعارك السياسية مع النخبة المصرية بدلًا من اللجوء للعنف. أمّا بعد أن وأد الضباط الأحرار دستور يناير 1953، فقد دخلت مصر نفقًا لم تخرج منه حتى الآن.

اجمالي القراءات 2341