(3 ) (ا )
ردّ على القضايا المثارة على المقالة السابقة

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ٢٤ - ديسمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

(3 ) ( أ )
ردّ على القضايا المثارة على المقالة السابقة : (العمل ) أو (السلوك) بين الايمان والكفر

أولا :
1 ـ يسعدنى الرد فى موقعنا (أهل القرآن ) على النقاش الجاد الذى يثيره الأحبة من أهل القرآن وأصدقائهم ، خصوصا ما يكون منها تعليقا ونقدا لمقالاتى.
الاستاذ أنيس صالح علّق على مقال ( وهم من فزع يومئذ آمنون ) قائلا : (ومع إستمتاعي كثيرا بما تكتبونه مشكورين, إلا إنني أجد نفسي مضطرا أحيانا للتعليق, من واقع عبارتكم أعلاه (فظلم الناس وظلم رب الناس. . ), اؤكد أخي الدكتور منصور, إن عبارتكم أعلاه ( ظلم رب الناس ) برأيي الشخصي ليست دقيقة وليست قرآنية, ولست مضطرا لتبيان ذلك قرآنيا لإدراكي إنكم تعلمون ذلك. )
وأقول للأستاذ النابه أنيس صالح إننى سأرد بالتفصيل موضحا وجهة نظرى فى مقال قادم بعنوان ( إن الشرك لظلم عظيم )

2 ـ الاستاذ سالم الجابرى قال تعليقا على مقال ((العمل ) أو (السلوك) بين الايمان والكفر) : (فإن ما يسيمه الدكتور أحمد صبحي منصور بالكفر السلوكي ، يسمى قرآنيا بالفسق وليس كفرا ، فعندما يقوم شخص أو مجموعة من الناس بمخالفة تعليمات الله سبحانه وتعالى وبضمن ذلك اضطهاد المؤمنين من اتباع الرسالات السماوية فهذا يسمى فسوق وليس كفرا سلوكيا والله أعلم ). وأقول له أيضا أن هناك حلقة قادمة من تلك السلسلة تتعرض لمرادفات الكفر والشرك مثل الفسق والظلم والاعتداء والبغى و الاجرام والاسراف ..الخ .

ثانيا:
وأتوقف بالرد على رأى الاستاذ عمار نجم فى نقده لنفس المقال.
يرى الاستاذ عمار نجم إنه يجب مواجهة الشخص الكافر بأنه كافر ، أى ليس التكفير للصفات ولكن للاشخاص . وأن هذا ما كان يفعله الرسول عليه السلام .
1 ـ وأقول : إن الأمر ليس بالهوى ولكن بالطاعة للقرآن الكريم . بمعنى إن شيخا عريقا مثلى أتى عليه حين من الدهر كان يفتى بتكفير الأشخاص طبقا لعادة الشيوخ ، وهى عادة أصبحت وظيفة تجلب لأصحابها جاها ورهبة ، وحين كنت أخطب فى المساجد أصرخ فى الناس بالتكفير كنت أرى الفزع و الهلع فى عيون الناس خصوصا عندما أقرن تكفيرى لهم بالكلام عن أنواع العذاب يوم القيامة ، وكنت أرى هول الآيات يتحول الى رهبة منى ، ورغبة فى التماس الرضى منى .. كان ممكنا أن أستمر متبعا لهواى مستمتعا بهذا الجاه ولكن ماذا يساوى هذا فى لحظة عذاب يوم القيامة ، وهو عذاب خالد لا فرار منه ولا تخفيف فيه ولا أرجاء له ؟.

2 ـ تعلمت من القرآن أن التكفير ليس للأشخاص ولكن للصفات . أقول كقاعدة ، لأن لتلك القاعدة استثنائين هما غاية فى الأهمية ، وأقصد بذلك تكفير بالاسم و الشخص لأبى لهب عم النبى محمد و آزر والد النبى ابراهيم عليهما السلام . أهمية هذين الاستثنائين التاكيد على أن القرابة لا تجدى و لا تنفع ، وأن كل إنسان مسئول عن عمله ، وأن النبى ـ أى نبى ـ لا ينفع أقرب الناس اليه ، سواء كان ابن نوح أو أب ابراهيم أو عم محمد عليهم السلام أو زوجة لوط أو نوح .
3 ـ تعلمت من القرآن الكريم أن الله جل وعلا لم يتحدث عن أشخاص أو نوعيات المنافقين والمشركين والمنافقين ، فلم يقل ابدا ( يا كفار قريش ) أو ( يا مشركى العرب ) ولكن قال ( الذين كفروا ) ( الكافرون ) ( المنافقون ) ( الذين نافقوا ) ( الذين أشركوا ) أى صفات تنطبق على من يستحقها الى يوم القيامة ، وليحذّر من يتصف بها فيبادر بالاقلاع عنها والتوبة منها حتى لا يموت مشركا كافرا منافقا .
وبالنسبة للمؤمنين قال ( الذين آمنوا ) ولم يقل يا ابا عبيدة أو يا أبا بكر أو يا عمر أو يا على ..وحتى زوجات النبى لم يذكر إسم واحدة منهن حتى فى الخطاب لهن بل قال ( يا نساء النبى ).
لم يذكر أسماء الأشخاص مطلقا حتى فى القصص القرآنى الذى كان يعقب عن أحداث وقعت ، ولقد تكلمنا عن منهج القرآن الكريم فى القصص واختلافه عن الروايات التاريخية ، فالقرآن لا يهتم بذكر أسماء الأشخاص فى الحادثة أو زمنها أو مكانها ليحولها من حادثة تاريخية مقيدة بالمكان والزمان والأبطال الى موعظة تعلو فوق الزمان والمكان ليستفيد بها الناس الى قيام الساعة . بل وصل الأمر الى أن الحديث عن شخص معين فى موقف معين وفى مكان معين لم يأت فيه تعيين إسم ذلك الشخص ، ينطبق ذلك على حديث القرآن الكريم عن صاحب النبى محمد عليه السلام فى الغار ، إكتفى الله تعالى بوصفه بالصاحب (لاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ) (التوبة 40 ) كما ينطبق على عدو النبى محمد ، وقد جاء بالوصف دون الاسم فى حادث الافك (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ( النور 11 ) . ناهيك عن المجموعات من الأشخاص من الصحابة كقوله تعالى فى الآية السابقة (إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ) فلم يذكر الله جل وعلا أسماءهم ، ويتكرر هذا فى مواقف جماعية كثيرة مذكورة فى سور مدنية نزلت فى المدنية تعلق على أحداث جرت فيها كالتوبة والأنفال والأحزاب والحشر والنساء والمائدة وآل عمران والبقرة ، وتكرر قبلها نفس الحال عن مشركى مكة فى السور المكية .
المهم هنا أن الذى لم يذكر أسماء الناس هو الله جل وعلا الذى يعلم عقائد أولئك الناس .. فما بالنا نحن ، ونحن نحكم بالظاهر ؟
4 ـ وبمناسبة الحكم بالظاهر فهناك مشركون بالعقيدة يمارسون عبادات تعبر عن عقائد كافرة شركية ، وينطقون بعبارات تعتبر كافرة شركية طبق توصيف القرآن الكريم. ليس هنا أمر يتعلق بالقلب والعقائد المخفية فى القلب ولكن نحن أمام تعبير ظاهر عن تلك العقائد بعبادات مؤسسة عليها .. هل يجوز أن يقال هنا للشخص الذى يفعلها :أنت كافر ؟
تعلمت من القرآن الكريم أنه لا يجوز لى أن أقول لشخص من الناس (أنت كافر) لأن كلمة ( أنت كافر ) جملة اسمية تفيد الثبوت ، أى هو كافر أمس و هو كافر اليوم وسيظل كافرا الى أن يموت ويلقى الله عز وجل . أى لو قلت هذا لزعمت لنفسى علم الغيب . يجوز أنه قال أمامى كفرا أو فعل كفرا ولكن من يدرينى بمستقبله وكتاب أعماله مفتوح يقبل الحسنة والسيئة ، وهو مرشح لأن يتوب وممكن أن أيضا ألا يتوب. وكل ذلك غيب عنى لا أعلمه وليس لى أن أحكم عليه .
ولكن واجبى أن أعظ بما جاء فى القرآن الكريم من صفات المشركين وعقائدهم وأحوالهم ، وأن أقول بلهجة عامة طبقا لما جاء فى القرآن فان من يفعل كذا يكون كافرا ،أو فقد كفر، وذلك للتذكير وليس للتكفير،أملا فى أن يلتفت القارىء الى ما كان غائبا عنه ويتذكر، فان لم يفعل فقد انتقلت اليه المسئولية بعد أن سمع وعرف .
إن ملامح الكفر ممكن أن يقع فيها الجميع ، ولكن المهم من هو الذى يراجع نفسه قبل الموت، ومن يمتحن عقيدته ، ومن يبحث عن الهداية ، ومن يضبط عقيدته على وقع آيات القرآن الحكيم . ولقد أوضحنا فى المقال السابق أن الايمان يزيد وينقص وان الكفر يزيد وينقص ، وأن الانسان طالما هو حى يسعى فايمانه عرضة للتغير زيادة ونقصا تبعا لعمله و إرادته هذا الطريق أو ذاك أو تبعا لغفلته وإعراضه أو أهتمامه بالحق وتحرى الطريق له .
5 ـ هذا عن الكفر العقيدى الذى يصدر من الأحياء ، والذين يوجد أمل فى إصلاحهم فماهو الأمر بالنسبة لمن مات ؟
من مات على نوعين : منهم الأكثرية التى ماتت دون أن يكون لها ذكر فى الأجيال اللاحقة ،بأن لم يتركوا خلفهم كتبا يتحدثون فيها عن عقائدهم أو يكتبون فيها عن الدين بالحق أو بالباطل ، وهنا نتكلم عن القسم الكبر من الناس من آبائنا وأجدادنا .. أولئك العلم بهم وبحالهم لله جل وعلا وحده، وليس لنا أن نتحدث عنهم ..الصنف الآخر هم الذين خلفوا آثارا لا تزال بين أيدينا يتعلم منها الناس ، ومنها ما ينصح بالحق ، ومنها ما ينضح بالباطل .. هذا الذى يفترى منها على الله جل وعلا ورسوله بالكذب هل نصف المؤلف بالكفر ؟
تعلمت من القرآن الكريم أن أتكلم فيما أعرف دون أن أخوض فى الغيب . فمن الغيب أن أتحدث عن شخص المؤلف ولكن عن الكتاب الموجود بين يدى . أنا شاهد على الكتاب الموجود فى يدى، أبحثه وأعرض ما فيه على القرآن الكريم لأوضح ما فيه من تناقض مع القرآن الكريم . على سبيل المثال كتاب ( البخارى ) : لاشأن لى بالمؤلف ابن برزويه ، وهو الاسم الأصلى للبخارى، ولكن لى شأن بالبخارى الكتاب . وحين أحكم بكفر البخارى فلا أقصد شخص البخارى ولكن اٌقصد ما جاء فى الكتاب نفسه من إفتراء وكذب و تكذيب لآيات الله جل وعلا فى القرآن وطعن فى رسول الاسلام عليه السلام . أما المؤلف فيدخل ضمن الغيب غير المعروف. من يدرينى أنه هو ابن برزويه ؟ ولو كان هو فربما تاب وأناب بعد أن كتب كتابه ، وربما تدخل آخرون فى كتابه بعد موته بالحذف والاضافة ، بل ربما لا يكون هناك وجود أصلا لشخص البخارى أو ابن برزويه ، ويكون هناك أناس مجهولون كتبوه ونشروه فتداوله الناس بعده بالتقديس الى عصرنا. كلها احتمالات لا يعرف حقيقتها الاعالم الغيب و الشهادة ، ولا تعنينا . الذى يعنينا هو ذلك الكتاب نفسه ، والذى تم تحقيقه وطبعه ونشره عبر القرون فى ملايين النسخ من القرن الثالث الهجرى حتى الآن .
6 ـ هذا عن الكفر العقيدى و ما يتأسس عليه من تراث مكتوب وعبادات وطقوس فى تقديس البشر و الحج الى قبورهم وتقديس كلامهم وآثارهم . فما هو الحال بالنسبة للكفر السلوكى أو الشرك السلوكى بمعنى الاعتداء ؟ هنا يكون الانسان نفسه شاهدا على الاعتداء و الظلم و الفساد ، ومن حقه أن يحكم على الجرم بما يستحقه ، خصوصا إذا كان ضحية لهذه الظلم ، فهو هنا شاهد من الدرجة لا يروى عن آخرين بل يسجل معاناته من الظلم ، ويشير بالاتهام الى الظالم ويطلب شهادة الاخرين على ما يقع عليه من ظلم الظالم . وله أن يستشهد بالقرآن الكريم وبنصوص القانون الدولى والمحلى. بل لهذا المظلوم أن يعلو صوته بالسيىء من القول طبقا لقوله جل وعلا : (لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ) ( النساء 148)
7 ـ وخلافا لما يقوله الاستاذ عما نجم فما تعلمته من السنة الحقيقية لخاتم النبيين عليه السلام ـ وهى فى داخل القرآن الكريم ـ أنه عليه السلام حين حكم بكفر أعدائه المحاربين له جاءه التأنيب من ربه جل وعلا ، قال له ربه سبحانه وتعالى : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( آل عمران 128 : 129). المستفاد من ذلك أن النبى محمدا عليه السلام حكم على بعض أعدائه الأحياء بناء على اعتدائهم وصدهم عن سبيل الله جل وعلا ، وجاء الرد من الله جل وعلا بأنه ليس للنبى محمد عليه السلام من الأمر شىء فيما يخص الحكم بقبول الله توبة هذا أو ذاك ، أو دخول هذا الجنة أو النار . ذلك لله وحده جل وعلا ، فهو الذى يعلم المستقبل ، وهل سيموت فلان كافرا أم يتوب و يئوب لربه جل وعلا قبل الموت .
ثالثا :
1 ـ وقال الاستاذ عمار نجم : (فأنت تقول العمل الصالح يمكن أن يصدر عن الكافر، و تقول العمل الصالح بلا إيمان لن يجدي يوم القيامة .هذا الكلام غير صحيح لأن العمل الصالح هو نتيجة تالية للإيمان ،فلا عمل صالح دون إيمان ، فالمؤمن يعمل العمل الصالح و يعمل العمل السيء ، أما الكافر فلا يمكن أن يعمل صالحا ،الكافر يمكن أن يعمل أعمالا نستحسنها و نراها مفيدة للمجتمع و الحضارة ، لكن الله لا يعتبرها أعمالا صالحة ، و كما ترى لم يرد في القرآن أن كافرا عمل صالحا ،و لم يقترن العمل الصالح بالكفر أبدا، قال تعالى ((وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا))، لاحظ أن الله لم يقل قدمنا إلى ما عملوا من عمل صالح فجعلناه هباء منثورا ، لأن العمل الصالح لا يمكن أن يجعله الله هباء منثورا، أن العمل الصالح يفهم من إسمه أنه عمل يصلح لإدخال صاحبه الجنة، وقد أشرت حضرتك في غير موقع من هذه المقالة إلى أن العمل الصالح هو عمل صالح لدخول الجنة ، أي أنت تعلم و توافق معي على إستحالة الجمع بين الكفر و العمل الصالح، لهذا فالله لم ينسب العمل الصالح إلا للمؤمنين . ) .

2 ـ وأقول : إننى أتحدث أيضا عن العمل الصالح ظاهريا الذى يفعله المؤمن والكافر ، ثم يتحول عمل الكافر الى ضياع بأن يحبط الله تعالى ذلك العمل الصالح فيصير هباءا منثورا،وهذا ما تكرر فى المقال .
نحن هنا فى الدنيا نحكم بالظاهر ،نرى أعمالا صالحة فى بناء المستشفيات والمدارس وملاجىء للأيتام وتبرعات للمنكوبين وضحايا المجاعات والأوبئة والكوارث الطبيعية والحروب والمذابح الجماعية وفى الدفاع عن ضحايا القمع والطغيان ورعاية اللاجئين والمعوقين . هذه أعمال صالحة طبقا للظاهر الذى نراه ، وبهذا الظاهر نحكم عليها فى الدنيا ، أما حقيقة ثمرتها يوم القيامة فهى لله جل وعلا الذى سيحكم ليس فقط عن طبيعتها ولكن قبل كل شىء عن طبيعة الاعتقاد الذى صدرت عنه تلك الأعمال . فإن صدرت عن عقيدة مؤمنة ضاعفها الله جل وعلا وأنعم على صاحبها بالجنة ، وأن صدرت عن عقيدة فاسدة أحبطها الله جل وعلا ، وأدخل صاحبها فى النار خالدا مخلدا.

3 ـ وهناك بحث لم ينشر بعنوان ( من إعجاز الايجاز فى النسق القرآنى) تعرضت فيه الى موضوعات الايجاز فى القرآن الكريم فى التشريع وفى القصص ..الخ ، وانواع الايجاز كالايجاز العام المفتوح والايجاز الجزئى المتفرق . ومن الايجاز الجزئى المتفرق نوعان : الايجاز بالاختصار ، والايجاز بالحذف . ومن أنواع الايجاز بالحذف هناك ايجاز بحذف الفعل التام ، وبحذف (كان ) واسمها ، وبحذف خبر أنّ ، وبحذف الفاعل ، وبحذف المفعول ، وبحذف المبتدأ ، وبحذف الموصوف ..الخ .
وفيما يفيد موضوعنا هنا قلت الآتى ضمن عنوان : الايجاز بحذف الصفة :
(حذف وصف عمل المشرك الذى أحبطه الله جل وعلا: )
(يأتى الناس يوم القيامة بعقيدة وعمل . قد تكون العقيدة إيمانا صحيحا وقد تكون عقيدة فاسدة يعنى كفرا وشركا. وكل انسان مهما بلغ عتوه وفساده لا يخلو من القيام بعمل صالح ، وبالتالى فان الذى يحدد قبول العمل هو العقيدة الصحيحة ، فصاحب العقيدة الصحيحة يغفر الله تعالى له أعماله السيئة ويكفرها عنه ، فلا يبقى إلا عمله الصالح الذى يضاعفه له ربه أضعافا مضاعفه . وبالتالى يدخل الجنة ، ويكون قد صلح لها بايمانه الصالح وعمله الصالح.
اما صاحب العقيدة الفاسدة الذى يعتقد فى البشر والحجر والذى يرفع البشر الى مستوى رب العزة ، فهو أيضا لا يخلو من عمل سيىء وعمل صالح . ولأن الله تعالى لا يغفر جريمة الشرك ولأن الله جل وعلا يحبط أى يضيع ثمرة الأعمال الصالحة التى عملها ذلك المشرك فى الدنيا ، فلا يبقى للمشرك فى ميزان أعماله سوى السيئات ، وتكون تلك السيئات هى أساس تعذيبه يوم القيامة ، تعذيبا ماديا ، أما تعذيبه المعنوى فمنه الخزى ومنه الحسرة. وتتجلى حسرة المشرك فى النار وهو يرى أعماله التى كانت صالحة فى الدنيا وقد ضاعت ، وتحولت الى حسرة أبدية له تزيد من آلامه وهو يتقلب فى عذاب السعير .
ومن إعجاز الإيجاز فى القرآن الكريم حذف صفة ( الصلاح ) لعمل المشرك فى الآخرة ، والتعويض عنها بصفة جديدة ، بعد التاكيد فى آيات سابقة على إحباط عمل المشرك ، والمفهوم أن المقصود هو عمله الصالح .
ونتوقف بالشرح :
يقول جل وعلا( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ )( الزمر 65 ). أى هو وحى تكرر فى كل الرسالات السماوية وقيل لكل الأنبياء أن من يقع منهم أو من بقية البشر فى الشرك ويموت عليه فان الله جل وعلا سيحبط عمله الصالح ، وسيكون فى الاخرة من الخاسرين ، فطالما ضاعت أعماله الصالحة فلن يبقى له سوى أعماله السيئة فيخسر ويستحق جهنم.
هنا قوله جل وعلا (لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ ) مقصود به ( ليحبطن عملك الصالح )ولكن حذف الوصف أى كلمة ( الصالح ) لأنه مفهوم من السياق فالعمل الصالح وحده هو الذى له ثمرة مرجوة ولكن أضاعها الوقوع فى الشرك والموت عليه. أما العمل السيىء فلا يتم حبطه أو تضييع ثمرته الصالحة لأن العمل السيىء لا ثمرة له أصلا .
إن الحبط هو تضييع ثمرة العمل الصالح فلا يتبقى منه سوى الحسرة عليه . ولنتخيل المشرك وهو يتقلب فى النار وهو يتذكر ما قدمه فى الدنيا من أعمال خير، نتخيله مثلا وهو يتذكر عدد المدارس والمستشفيات والتبرعات التى قدمها والتى نال بها شهرة فى الدنيا وإزداد بها ثروة فى الدنيا وزاد جاها ، ولكن كل ذلك ضاع فى الآخرة ، ولم يبق له فيها سوى الحسرة على أنه أضاع كل ذلك العمل الصالح بسبب تمسكه بعقائد فاسدة ما كان أسهل وأيسر عليه لو أقلع وتاب عنها قبل الموت . حسرة ذلك المشرك لا تعدلها حسرة ، يقول سبحانه وتعالى : (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) ( البقرة 167 ). المحذوف إيجازا هنا هو ( الصالحة ) أى ( كذلك يريهم الله أعمالهم الصالحة حسرات عليهم ).
تلك الأعمال التى كانت صالحة فى الدنيا قد صارت فى الاخرة هباءا منثورا ، يقول جل وعلا : (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا ) ( الفرقان 23 ). السياق العادى يقتضى أن يقال ( وقدمنا الى ما عملوا من عمل صالح فجعلناه هباءا منثورا ) فحذف كلمة ( صالح ). وبضياع العمل الصالح لا يبقى له السيئات التى يتعذب بها ماديا فى النار.
وفى البلاغة القرآنية تصوير لاحباط الأعمال الصالحة للمشرك الكافر . فهو يعقد الآمال على تلك الأعمال الصالحة وهو يرائى بها بين الناس ،أو هو يقدمها نذرا لله تعالى وللأولياء ويتصور أن جزاءه عظيم فى الآخرة طالما أرضى فى نظره الأولياء الأحياء والمقبورين فى المشاهد والأضرحة . ولكن فى الآخرة يجد أمانيه قد تحولت الى سراب ، أو تتحول أمنياته المضيئة فى الدنيا الى ظلمات مركبة فى الاخرة ، إقرأ قوله جل وعلا : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ ) ( النور 39 : 40 ). السياق العادى يقتضى أن يقال ( والذين كفروا أعمالهم الصالحة ) . الإشارة معجزة هنا فى التشبيه بالظلمات ، فالسيئات التى تتبقى للكافر المشرك يتحول بها وجهه الى سواد مظلم يصير به معذبا ووقودا فى النار، بينما يتحول وجه المؤمن الفائز الى نور (يصلح ) به لنعيم الجنة . وللتذكرة إقرأ قوله جل وعلا : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) ( آل عمران 106 : 107 )
وفى تشبيه تصويرى تمثيلى آخر يصور الله جل وعلا العمل الصالح للمشرك وقد تحول الى رماد أضاعه الريح العاصف بحيث لا يستطيع المشرك الامساك به ، يقول ربى جل وعلا: (مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ) ( ابراهيم 18 ). السياق العادى يقتضى أن يقال ( مثل الذين كفروا بريهم أعمالهم الصالحة ..). ولكن تم حذف الصفة ( الصالحة ) تبعا لاعجاز الايجاز فى الكتاب العزيز .

أخيرا:

كل عام وانتم بخير .. وهدانا الله جل وعلا الى الصراط المستقيم .





اجمالي القراءات 15504