-1-الحداثة تيار كهربائي، ينير الزوايا المظلمة، ولا يتحقق إلا بوجود طرف سالب هو السلطان، وطرف موجب هو المثقف، أو العكس.
فلا حداثة بدون سلطان، وبدون مثقف.
ولنعلم، أن الحسم الحداثي لن يتم إلا بسلطان مكين. فمجيء نابليون إلى الشرق في العام 1798، حسمَ مسألة الحداثة مبدئياً. وكذلك، فإن مجيء محمـد علي باشا والياً على مصر في العام 1805، كان قد حسم جانباً من الحداثة العربية، في ذلك الوقت، والتي كانت حداثة بمقاييس القرن التاسع عشر. ونابليون ومحمد علي باش&Ccl;شا عندما جاءا بالحداثة، لم يأتيا بها من خلال قرار إمبراطوري، أو مرسـوم أميري، أو فرمان سلطاني عثماني، ولكنهما جاءا بها من خلال مجموعة من الأفعال الشجاعة، وحزمة من الإجراءات القاسية.
-2- ولهذا، فالأصوليون المتشددون، يكنّون البغضاء كلها لحملة نابليون على مصر، ويكرهون أشد الكراهية عهد محمد علي باشا العلماني، الذي تجلّى بحرمان رجال الدين الكثير من امتيازاتهم، وحدَّ الكثير من تدخلاتهم في شؤون الدولة، وألزمهم مساجدهم، وكنائسهم، ومعابدهم. وهو الذي استولى على أموال الأوقاف، وعقاراتها، وأراضيها، وجعلها مُلكاً للدولة، رغم معارضة رجال الدين الشديدة لهذه الإجراءات، وذلك حرصاً من محمد علي باشا على الحدِّ من سلطة رجال الدين، وقطع الموارد المالية عنهم، والتي كانت تمثل قوة اجتماعية وسياسية لهم. كما كان اهتمام محمد علي باشا بإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، لإيجاد جيل من الخبراء والعَلْماء بالعلم الحديث، مقابل رجال الدين الفقهاء، بمثابة محاولة جادة منه، للحدِّ من سلطة رجال الدين على مرافق الدولة، وإيجاد نُخب عالمة ومتعلمة في الغرب، لإدارة الدولة التي كانت تدار في السابق بأغلبية رجال الدين ذوي الآفاق والعقلية المحدودة، كما هو الحال في إيران الآن. بل إن الباشا أرسل عدداً من رجال الدين الأزهريين إلى أوروبا في بعثات علمية، وكان على رأس هؤلاء الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي سبقه إلى أوروبا شيوخ كثيرون قبله. وكانت هذه الإجراءات من علامات العَلْمانية في الدولة العربية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، وفي عهد محمد علي باشا، والذي قام بتصفية حركة علماء الدين، والقضاء على الأساس الاقتصادي - الاجتماعي لقوة علماء الدين السياسية، وذلك بتجريدهم من التزاماتهم، ومصـادرة ثرواتهم، وتدمير الطوائف الحرفية والتجارية التي كانـوا أرباباً لهـا.
-3- انتهت مرحلـة من تاريخ مصر، كان فيها رجال الدين هم قادة المجتمع (عادوا الآن من جديد) وأكثر فئات المجتمـع ثراءً وسطوة وسلطة. وقال المفكر المصري والناشط السياسي رفعت السعيد في كتابه (التيار الديني والتيار العَلْماني في الفكر المصري الحديث، ص60): "استحسن المصريون ما فعله محمد علي باشا بهؤلاء العلماء، لأن هؤلاء العلماء كانوا في وضع اجتماعي واقتصادي متميز، بل ومتناقض مع باقي أفراد المجتمع". ولو امتد الزمان بمحمد علي باشا، ووافقت أوروبا على خططه، لحوّل العالم العربي إلى دولة عَلْمانية على غرار أوروبا الآن. ومن المعروف أن محمد علي باشا كان أول زعيم في العالم العربي يحارب السلفية المتشددة والمتطرفة وجهاً لوجه، وذلك من خلال حملاته العسكرية المتكررة (1811-1818) على الجزيرة العربية، وعلى نجد خاصة، والدولة السعودية الأولى بقيادة ابنه الأمير طوسون، ثم ابنه إبراهيم باشا.
-4-هل لنا أن نتخيّل، لو لم يولد كمال أتاتورك في تركيا، والحبيب بورقيبة في تونس ماذا سيكون حال الحداثة والليبرالية في هذين القطرين. ونحن هنا، لا نريد أن نربط بين الثورة الأتاتوركية الدينية/السياسية، والثورة البورقيبية الدينية/الثقافية. فرغم إعجاب بورقيبة الشديد بأتاتورك، إلا أن فوارق كثيرة كانت بين ثورة أتاتورك (1923-1934) وثورة بورقيبة (1956- 1987)، أبرزها أن ثورة أتاتورك كانت قومية، تنطلق من خلفية المفهوم الألماني للقومية، الذي تبناه حزب البعث في دعوته العروبية القومية، منذ عهد العروبي السوري زكي الأرسوزي، والعروبي اليمني/العراقي ساطع الحصري. وأن تركيا ذات انتماء أوروبي لوجود العرق الآلبي ذي الملامح الديناريّة في تركيا (كما في أوروبا الشمالية والغربية). كما كانت ثورة أتاتورك، بمثابة قطيعة مع الإسلام، واجتثاث "هستيري" للإسلام في تركيا، من حيث إلغاء الخلافة الإسلامية، وتنقية اللغة التركية من المفردات العربية، وتحويل بعض المساجد إلى متاحف، ومنع الحج لمدة أربع سنوات.. الخ. في حين أن ثورة بورقيبة، كانت من داخل الإسلام، وليس من خارجه، بل إن بورقيبة استعان بالإسلام بمقدار كبير، من أجل إنجاح مشروعه النهضوي، كما يشرح لنا الباحث التونسي لطفي حجّي في كتابه المهم (بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة،2004). وقد بدأت ثورة بورقيبة بعد الاستقلال مباشرة عام 1956، مُفتتحةً أولى خطواتها الحداثية الليبرالية بمجلة الأحوال الشخصية، التي منحت المرأة حقوقاً كثيرة مميزة، والتي كان لها صدىً واسعاً في العالم العربي، اضطر بعض كبار شيوخ الدين في مصر (القرضاوي) والسعودية (ابن باز) وغيرهما إلى تكفير بورقيبة، كما اتهمه بالكفر والإلحاد بعض خصومه من الزيتونيين التونسيين كالحبيب بوقطفه، ويوسف الرويسي وغيرهما. ثم خطا بورقيبة الخطوة الحداثية الأخرى في مجال التعليم، وذلك بإصلاح التعليم الديني، في جامعة الزيتونة (الأزهر التونسي).
وهكذا استطاع بورقيبة السياسي، أن يُحقق لتونس شوطاً كبيراً من الحداثة التي كان ينادي بها النهضويون العرب في نهاية القرن التاسع عشر، وطوال القرن العشرين.
السلام عليكم.
فلا حداثة بدون سلطان، وبدون مثقف.
ولنعلم، أن الحسم الحداثي لن يتم إلا بسلطان مكين. فمجيء نابليون إلى الشرق في العام 1798، حسمَ مسألة الحداثة مبدئياً. وكذلك، فإن مجيء محمـد علي باشا والياً على مصر في العام 1805، كان قد حسم جانباً من الحداثة العربية، في ذلك الوقت، والتي كانت حداثة بمقاييس القرن التاسع عشر. ونابليون ومحمد علي باش&Ccl;شا عندما جاءا بالحداثة، لم يأتيا بها من خلال قرار إمبراطوري، أو مرسـوم أميري، أو فرمان سلطاني عثماني، ولكنهما جاءا بها من خلال مجموعة من الأفعال الشجاعة، وحزمة من الإجراءات القاسية.
-2- ولهذا، فالأصوليون المتشددون، يكنّون البغضاء كلها لحملة نابليون على مصر، ويكرهون أشد الكراهية عهد محمد علي باشا العلماني، الذي تجلّى بحرمان رجال الدين الكثير من امتيازاتهم، وحدَّ الكثير من تدخلاتهم في شؤون الدولة، وألزمهم مساجدهم، وكنائسهم، ومعابدهم. وهو الذي استولى على أموال الأوقاف، وعقاراتها، وأراضيها، وجعلها مُلكاً للدولة، رغم معارضة رجال الدين الشديدة لهذه الإجراءات، وذلك حرصاً من محمد علي باشا على الحدِّ من سلطة رجال الدين، وقطع الموارد المالية عنهم، والتي كانت تمثل قوة اجتماعية وسياسية لهم. كما كان اهتمام محمد علي باشا بإرسال البعثات العلمية إلى أوروبا، لإيجاد جيل من الخبراء والعَلْماء بالعلم الحديث، مقابل رجال الدين الفقهاء، بمثابة محاولة جادة منه، للحدِّ من سلطة رجال الدين على مرافق الدولة، وإيجاد نُخب عالمة ومتعلمة في الغرب، لإدارة الدولة التي كانت تدار في السابق بأغلبية رجال الدين ذوي الآفاق والعقلية المحدودة، كما هو الحال في إيران الآن. بل إن الباشا أرسل عدداً من رجال الدين الأزهريين إلى أوروبا في بعثات علمية، وكان على رأس هؤلاء الشيخ رفاعة الطهطاوي، الذي سبقه إلى أوروبا شيوخ كثيرون قبله. وكانت هذه الإجراءات من علامات العَلْمانية في الدولة العربية الكلاسيكية في القرن التاسع عشر، وفي عهد محمد علي باشا، والذي قام بتصفية حركة علماء الدين، والقضاء على الأساس الاقتصادي - الاجتماعي لقوة علماء الدين السياسية، وذلك بتجريدهم من التزاماتهم، ومصـادرة ثرواتهم، وتدمير الطوائف الحرفية والتجارية التي كانـوا أرباباً لهـا.
-3- انتهت مرحلـة من تاريخ مصر، كان فيها رجال الدين هم قادة المجتمع (عادوا الآن من جديد) وأكثر فئات المجتمـع ثراءً وسطوة وسلطة. وقال المفكر المصري والناشط السياسي رفعت السعيد في كتابه (التيار الديني والتيار العَلْماني في الفكر المصري الحديث، ص60): "استحسن المصريون ما فعله محمد علي باشا بهؤلاء العلماء، لأن هؤلاء العلماء كانوا في وضع اجتماعي واقتصادي متميز، بل ومتناقض مع باقي أفراد المجتمع". ولو امتد الزمان بمحمد علي باشا، ووافقت أوروبا على خططه، لحوّل العالم العربي إلى دولة عَلْمانية على غرار أوروبا الآن. ومن المعروف أن محمد علي باشا كان أول زعيم في العالم العربي يحارب السلفية المتشددة والمتطرفة وجهاً لوجه، وذلك من خلال حملاته العسكرية المتكررة (1811-1818) على الجزيرة العربية، وعلى نجد خاصة، والدولة السعودية الأولى بقيادة ابنه الأمير طوسون، ثم ابنه إبراهيم باشا.
-4-هل لنا أن نتخيّل، لو لم يولد كمال أتاتورك في تركيا، والحبيب بورقيبة في تونس ماذا سيكون حال الحداثة والليبرالية في هذين القطرين. ونحن هنا، لا نريد أن نربط بين الثورة الأتاتوركية الدينية/السياسية، والثورة البورقيبية الدينية/الثقافية. فرغم إعجاب بورقيبة الشديد بأتاتورك، إلا أن فوارق كثيرة كانت بين ثورة أتاتورك (1923-1934) وثورة بورقيبة (1956- 1987)، أبرزها أن ثورة أتاتورك كانت قومية، تنطلق من خلفية المفهوم الألماني للقومية، الذي تبناه حزب البعث في دعوته العروبية القومية، منذ عهد العروبي السوري زكي الأرسوزي، والعروبي اليمني/العراقي ساطع الحصري. وأن تركيا ذات انتماء أوروبي لوجود العرق الآلبي ذي الملامح الديناريّة في تركيا (كما في أوروبا الشمالية والغربية). كما كانت ثورة أتاتورك، بمثابة قطيعة مع الإسلام، واجتثاث "هستيري" للإسلام في تركيا، من حيث إلغاء الخلافة الإسلامية، وتنقية اللغة التركية من المفردات العربية، وتحويل بعض المساجد إلى متاحف، ومنع الحج لمدة أربع سنوات.. الخ. في حين أن ثورة بورقيبة، كانت من داخل الإسلام، وليس من خارجه، بل إن بورقيبة استعان بالإسلام بمقدار كبير، من أجل إنجاح مشروعه النهضوي، كما يشرح لنا الباحث التونسي لطفي حجّي في كتابه المهم (بورقيبة والإسلام: الزعامة والإمامة،2004). وقد بدأت ثورة بورقيبة بعد الاستقلال مباشرة عام 1956، مُفتتحةً أولى خطواتها الحداثية الليبرالية بمجلة الأحوال الشخصية، التي منحت المرأة حقوقاً كثيرة مميزة، والتي كان لها صدىً واسعاً في العالم العربي، اضطر بعض كبار شيوخ الدين في مصر (القرضاوي) والسعودية (ابن باز) وغيرهما إلى تكفير بورقيبة، كما اتهمه بالكفر والإلحاد بعض خصومه من الزيتونيين التونسيين كالحبيب بوقطفه، ويوسف الرويسي وغيرهما. ثم خطا بورقيبة الخطوة الحداثية الأخرى في مجال التعليم، وذلك بإصلاح التعليم الديني، في جامعة الزيتونة (الأزهر التونسي).
وهكذا استطاع بورقيبة السياسي، أن يُحقق لتونس شوطاً كبيراً من الحداثة التي كان ينادي بها النهضويون العرب في نهاية القرن التاسع عشر، وطوال القرن العشرين.
السلام عليكم.