خلال السنوات التي لحقت الثورات العربيّة، عاد إلى السطح مصطلح «شيوخ السلاطين»، فالملايين من الشباب العربي تعرّضوا لصدمة في كثير من الشخصيات الدينيّة والشيوخ الذين لطالما استمعوا إلى مواعظهم وإرشاداتهم، وتفاجأوا بهم يبرّرون للسُلطة مشروعيّة استخدام العنف – أو حتّى القتل – ضد المتظاهرين، كما اصطدمت إرادة الفئات الشبّانية الواسعة بمطالبها بالديمقراطية والعدالة الاجتماعيّة بفتاوى بعض الشيوخ التي تسفّه هذه المطالب وتحرّم الخروج على الحكّام وتأمر الناس بالطاعة والخضوع لـ«وليّ الأمر» والتزام البيوت. وهنا ظهر الفارق بين المُثُل والقيم التي لطالما تغنّى بها هؤلاء المشايخ في خطبهم ومواعظهم وحديثهم عن العدل والإحسان وحُرمة الدماء، والتي فشلت في أوّل امتحان واقعيّ لها عندما تعلّق الأمر بالاعتراض على السُلطة السياسيّة، هذا بالطبع مع بعض الاستثناءات.
لكن ظاهرة «شيوخ السلاطين» شهدت تجلّيات أخطر من مجرّد شرعنة السلطة السياسيّة القائمة وتحريم انتقادها أو الاعتراض عليها، بل قد جرى استغلالها من طرف الاستعمار الأوروبي للبلدان الإسلاميّة خلال القرن 19، من أجل تثبيت أركانه وتسهيل مهمّته في السيطرة على السكّان المسلمين وقطع الزخم الشعبي عن المقاومات الشعبيّة المسلّحة التي حاربته، وذلك تحت غطاء الدين ومن خلال استغلال شيوخ الزوايا، وباقي المؤسسات الدينيّة لرمزيّتهم لدى الناس، لإقناعهم بالامتناع عن محاربة الاستعمار، كما حدث في عدّة بُلدان.
وخلال الحملات الاستعماريّة الأوروبيّة للبلدان الإسلاميّة، كثيرًا ما لعِب الدين عاملاً محفّزًا لمقاومة الاحتلال الأجنبيّ من أراضي المسلمين، وقد لعبت في ذلك الزوايا الصوفيّة والشيوخ التقليديّون أدوارًا رائدة في المقاومة المسلّحة في القرنين 19 و20، ولعلّ الشواهد على هذه النقطة لا تنتهي، أبرزها مقاومة الأمير عبد القادر الجزائري المنتسب إلى الزاوية القادرية، وعُمر المختار الليبي والحركة السنوسيّة، ومحمد ابن عبد الكريم الخطّابي في المغرب، ومشاركة الأزهر في مقاومة الاحتلال الفرنسي لمصر، وغيرها.
إلاّ الاحتلال عرف أيضًا كيف يستخدم رمزيّة الدين ويسخّرها لخدمته من أجل محاربة هذه المقاومات التي خرجت من المساجد والزوايا الصفيّة الكتاتيب القرآنية بنفس سلاحها، وذلك من خلال شراء ذمم بعض الشيوخ والشخصيات الدينيّة وإقناعها بالعمل لمصلحته، مُقابل حمايتها أو من خلال الإغراءات الماديّة كالأموال والإعفاءات الضريبيّة وضمان الحفاظ على سُلطتهم على السكّان.
لكن أبرز إحدى أكثر الحيل مكرًا التي عرف الاحتلال الفرنسيّ في الجزائر كيف يستغلّها تمثّلت في استصدار فتوى من المؤسّسات الدينيّة الكبرى في تلك المرحلة، ممثّلة في كلّ من جامع القيروان، والأزهر، وعلماء مكّة والمدينة؛ إذ استدرجهم الاحتلال لإصدار فتوى تمّت استخدامها لشرعنة الاحتلال الفرنسي وتجريم قتاله وتعتبر المقاومة «إلقاءً بالنفس إلى التهلُكة».
تونس.. الطرق الصوفيّة «شُرطي الحراسة» للاحتلال الفرنسي
شهدت تونس دخول الاحتلال الفرنسي إليها سنة 1881، لكنه احتاج لتجنيد رجال من قلب المجتمع التونسي لخدمته وتسهيل مهمّته وتطويع السكّان وثنيِهم عن مقاومة الاحتلال وإطفاء الانتفاضات التي اندلعت عليه من كل جهة، فوجد في بعض شيوخ الزوايا الرجال المناسبين لهذه المهمّة. فاستطاع الفرنسيّون استغلال العاطفة الدينيّة للطُرق الصوفيّة في تثبيت أركانه من خلال ضمان ولاء بعض شيوخها، كون أنّ هذه الطرق كانت المؤسسات الشعبيّة الوحيدة التي تؤطّر المجتمع المحليّ في الساحة التونسيّة ، في ظلّ غياب الأحزاب أو التشكيلات السياسيّة من أيّ نوع أو اتجاه.
أعضاء من المقاومة التونسية
يذكر الدكتور التليلي العجيلي، في كتابه «الطرق الصوفية والاستعمار الفرنسي في تونس» الدور الذي لعبته الزاوية القادريّة في منطقة الكاف الواقعة بالشمال الغربي لتونس في تمهيد لدخول الفرنسيين وحضّ المجتمع المحليّ على طاعتهم، من خلال الدور الذي لعبه سيدي قدور، شيخ الزاوية القادرية هناك؛ إذ أعلن تقرّبه من القيادات الفرنسيّة وأعلن طاعته لهم، واستغلّ نفوذه الروحي والاجتماعيّ من أجل التنفير عن المقاومة المسلّحة، ودعا المقاومين إلى ترك الجهاد. كما يشير المؤلّف إلى أنّ محمد بن شعبان، شيخ مشايخ القادرية وإمام جامع باردو آنذاك كان ممن نسّقوا مع الاحتلال؛ إذ تشير مصادر إلى أنّه «شوهد يرحّب بالقوّات الفرنسية عند دخولها إلى تونس».
ويؤكّد المؤلّف أن تلاعب الفرنسيّي بشيوخ الزوايا لم يقتصر على طريقة دون الأخرى، بل تورّطت الكثير منها في هذه الممارسات، من بينهم أتباع الطريقة الشابيّة، الذين لعبوا دورًا مهمًّا في تسليم المقاومين للاحتلال الفرنسي. وقد استفاد من الدور الذي لعبته بعض الطرق في تهدئة الشرائح الشعبيّة وثنيِها عن الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي، وهو ما ساهم في توغّل القوّات الفرنسية وإحكام سيطرتها على تونس، بل إنّ بعضها تورّط في القبض على الثائرين والمقاومين وتسليمهم للاحتلال، ولعبوا دور شُرطي الاحتلال للتحكّم في السكّان المحلّيين. ويرى المؤلف أنّه يصعب القول بوجود طرق صوفية ناضلت الاحتلال فعلًا في تلك المرحلة، فأقصى ما فعلته بعض الطرق هو رفض التعامل أو عدم التواطؤ، ما عدا بعض المجهودات القليلة كالزاوية الرحمانيّة، والتي شاب مواقفها بعض التردّد
وقد عُرف عن الزاوية القادرية في الكاف موالاتها للاحتلال الفرنسي وعلاقات شيوخها الوطيدة بالقيادات الاستعمارية الفرنسية، إذ تكشف المراسلات بين الطرفين عن إعفاء سيدي قدور (شيخ الزاوية) من بعض الضرائب، وفي المقابل عمل على تسليم المقاومين وكشف مواقعهم للاحتلال وإعطاء أسمائهم. ويظهر تأثير الزوايا الصوفية واستغلال الاستعمار الفرنسي لها من أجل وقف الاضطرابات والانتفاضات ضدّه في أحداث الجنوب التونسي، تلك المنطقة الجغرافية التي بقيت عصيّة على الاحتلال، وشهدت مقاومة عنيفة من أبنائها.
وفور اندلاع الحرب العالمية الأولى، استغل المقاومون في الجنوب فُرصة انشغال الفرنسيّين في الحرب مع الألمان وعمّت الانتفاضات ضد الاحتلال الفرنسيّ، فشهد الجنوب معارك عنيفة ضد الاحتلال، لكن الزاوية التيجانيّة في المنطقة تدخّلت، وحاولت ثني الجموع الشعبيّة عن الانتفاضة، فقد جمع سعد بن الحاج ناصر القاضي – مقدَّم التيجانية – أتباعه «وأوصاهم بأن يكونوا إلى جانب فرنسا، حيث قرأ عليهم رسائل – في نفس الغرض – واردة عليه من الزاوية الأم».
ولم يكن الحال بأحسن منه في الجارة الجزائر؛ إذ عمل شيوخ الصوفيّة على ضمان انقياد المجتمع للاحتلال الفرنسي، وإطفاء القلاقل والثورات، وكذلك فعل البشير بن محمد بن سي العيد شيخ التيجانية الأكبر بتماسين بالجنوب الجزائري، فخلال انتفاضة الجنوب بتونس والجزائر، عمل الشيخ على «تهدئة الخواطر ونشر الهدوء، والانقياد لفرنسا» كما يشير المؤلّف.
الجزائر.. شيوخ الصوفية من حمل السلاح إلى التبليغ عن المقاومين
حملت الطرق الصوفيّة في الجزائر لواء المقاومة المسلحة ضد الاستعمار خلال سنوات طويلة، واستطاعت تجنيد الفئات الشعبيّة ضده، وخرّجت من كتاتيبها ومساجدها عدّة قادة للمقاومة، أبرزهم الأمير عبد القادر ابن الزاوية القادريّة، بالإضافة إلى عدّة مقاومين آخرين، كأولاد سيدي الشيخ، والزعاطشة، والزواوة، وأحمد بن سالم وغيرهم.
لكن هذه العلاقة اتجاه الاستعمار الفرنسي شهدت تغيّرًا دراماتيكيًّا في ما بعد؛ إذ انتقلت الصوفيّة من عامل حشد واستنهاض لهمم الشرائح الشعبيّة من أجل المقاومة العسكريّة للاحتلال، إلى وسيلة من وسائل تحكّمه في القبائل المختلفة وإخضاعها بسُلطة الدين والنفوذ المعنويّ لشيخ الزاوية ومكانته الاجتماعيّة، فقد استطاع الاحتلال الفرنسيّ دراسة هذه الزوايا ونسج العلاقات معها، والتقرّب إلى شيوخها، فتحوّلت الكثير منها من مقاومة الاحتلال إلى الدفاع عن مصالحه والوقوف ضد المقاومين، بل اعتباره صاحب رسالة تنويريّة.
الأمير عبد القادر
ولعلّ رسالة الشيخ ابن عليوة، شيخ الطريقة العلاويّة يلخّص نظرة بعض الزوايا للاحتلال الفرنسي حينها ومقاربتهم الفكريّة اتجاهه في الرسالة التالية: «فكم هذا والقطر الجزائري متسربلًا بالراية الفرنسوية، متجمّلًا برونقها، والكل يعترف من أنها دولة من أسرع الدول سيرًا في سبيل الإصلاح، ومع هذا لم نستفد من ذلك الإصلاح، إلا ما نراه، كاللازم من عمارة السجون بسفهائنا، والطرقات بأبنائنا الفارغين من أعمال الدنيا والآخرة، ومع هذا فلست بقائل إن الحكومة (الفرنسية) تعمّدت ترك الإصلاح، كلا، إنما أقول: جهلت الطريق الموصلة إليه فأتت البيت من غير بابه».
ليون روش.. الجاسوس الذي استصدر فتوى لشرعنة الاحتلال
استخدم الاحتلال الفرنسيّ في الجزائر إحدى أكثر الحِيل دهاءً من أجل استغلال العاطفة الدينيّة للسكّان وثنيِهم عن مقاومته؛ إذ عمد إلى استصدار فتوى من طرف كبار المؤسسات الدينيّة حينها تُفيد بحُرمة قتال الاحتلال، وقد أوكل الحاكم العام الفرنسيّ لهذه المهمّة إحدى أكثر الشخصيّات إثارة للجدل في تاريخ الاحتلال الفرنسي للجزائر، وهو ليون روش، العسكري والمترجم الذي علم في الجيش الفرنسي في الجزائر.
ذكر ليون روش في مؤلّفه «32 سنة في رحاب الإسلام» التي ترجمها وعلّق عليها محمد خير محمود البقاعي أنّ والد ليون روش قد شارك في الاحتلال الفرنسي للجزائر سنة 1830، ثم التحق به ابنه ليون بعدها بسنتين، واستطاع تعلّم العربية واندمج في المجتمع من خلال التعامل مع الجزائريين ومخالطتهم في المقاهي وحضور جلسات المحاكم الشرعية، كما أصبح مُترجمًا لدى الإدارة الفرنسية. وخلال الهدنة بين فرنسا والأمير عبدالقادر المعروفة بـ«معاهدة التافنة» استطاع إقناع الأمير عبد القادر بأنّه دخل الإسلام وغيّر اسمه إلى «الحاج عمر»، وأنه قد حسن إسلامه ويريد الانضمام إلى دولة الأمير، ليتّخذه الأمير مترجمًا وكاتبًا خاصًّا له، إلاّ أنّه بعد انتهاء الهدنة بين الأمير عبد القادر والفرنسيي، هرب ليون روش وأعلن أنه لم يكن مسلمًا، لينكشف أمره كونَه جاسوسًا من طرف الفرنسيين.
ليون روش
بعد نهاية مهمّتة مع الأمير عبد القادر، سيكون روش على موعد مع أخطر المهام التي كُلّف بها، والتي كاد يفقد حياته خلالها؛ إذ أمره المارشال الفرنسي بوجو (الحاكم العام للجزائر حينها) في عام 1841 برحلة إلى الحجاز لمُقابلة شريف مكّة، واستصدار فتوى تحرّم الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي واعتبار حمل السلاح ضدّهم «إلقاءً بالنفس إلى التهلُكة» كون أن المقاومة «غير مجدية» وطلب منهم قبول السيطرة الفرنسية مقابل أن تتعهد فرنسا باحترام مؤسساتهم الدينية والقضائيّة»، حسب ما كتبه الرحّالة جيرفيه كورتلمون.
كان الفرنسيّون يعانون من المقاومات المسلّحة التي اندلعت في كلّ جهات الجزائر، وأبرزها مقاومة الأمير عبدالقادر، كما عانوا من الهجرات الجماعيّة التي لجأ إليها السكّان بعد احتلال أراضيهم، إذ كانوا يرفضون الإقامة في الديار التي يحتلّها الفرنسيّون باعتبارها «ديار كُفر» تخضع لحاكم كافِر لا يجوز التعامل معه أو طاعته، وتشير إحصاءات إلى أنّ العاصمة الجزائرية قد غادرها أكثر من ثُلثي سكّانها بعد احتلالها من طرف الفرنسيين، خصوصًا مع التضييق الفرنسي على العبادات، وإغلاقه المساجد، وسياسة القمع التي انتهجها، وهو ما لا يخدم مصالحهم كونهم لا يجدون العمالة اللازمة والتجّار والفلاّحين الذين يستخدمونهم.
لذلك لعب الفرنسيون على وتر الدين من أجل إخماد هذه الثورات وإجبار السكّان على التوقّف عن الهجرة من خلال استصدار فتوى من طرف الطُرُق الصوفية في الجزائر، أبرزها الطريقة التيجانيّة التي كان شيخها محمد الصغير على خلاف مع الأمير عبد القادر، والمصادقة عليها من طرف كُبرى المؤسسات الاسلاميّة في ذلك الوقت التي تمتلك نفوذًا وشرعيّة دينيّة عند المسلمين، وأكبرها القيروان في تونس والأزهر في مصر وعلماء مكّة والمدينة المنوّرة في الحجاز واستصدروا فتوى بحُرمة محاربة الفرنسيين كما صادق عليها مشايخ من الاسكندريّة، وكانت الإنجاز الأكبر بالنسبة لليون روش والاحتلال الفرنسيّ باستصدار الفتوى من طرف شريف مكّة وعلمائها.
وقد أكّد روش للمارشال بوجو أهميّة تخصيص مبلغ محترم من المال من أجل رشوة شيوخ الدين هؤلاء، لتسهيل مهمّته في استصدار الفتوى. ولم يذكر روش في مذكّراته أسماء علماء الأزهر، ولكن ذكر أن الاجتماع ترأسه إمام جامع الأزهر، كما لم يذكر أسماء علماء الحرمين الذين أصدروا الفتوى، لكنه قضى زيارته إلى الحجاز بمباركة وحراسة شريف مكّة حينها محمد بن عبد المعين بن عون، وهو الذي أنقذه من الموت بعد أن تعرّف عليه الحجّاج الجزائريون هناك، وكاد ذلك يودي بحياته.