(3 ) (العمل ) أو (السلوك) بين الايمان والكفر

آحمد صبحي منصور في الخميس ١٨ - ديسمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
1 ـ كان المفترض أن أكتب مقالة وحيدة فى التفريق بين الكفر السلوكى و الكفر العملى ، توجهت للقرآن الكريم لأتعلم منه المزيد فاتسع أمامى الموضوع لأن ألفاظ الكفر و الايمان و الشرك والنفاق وسياقاتها الأصلية و الفرعية هى معظم ما جاء فى القرآن الكريم ، وهكذا فكلما بحثت إزدادت التفاصيل اتساعا ، وبضمير الباحث لا بد من التعرض لها واستقصائها ، وبالتالى لم أعد أكتب ردا على تساؤل ولكن لاستكمال بحث قرآنى هو أساس فى العقيدة ودخول الجنة أو النار.
هو بحث يخاطب الأحياء الذين لديهم الفرصة لمراجعة النفس قبل الموت ، دون أن يفرض رؤيته على أحد ، فكل انسان لديه حرية الاختيار وهو مسئول عن اختياره أمام الله جل وعلا يوم القيامة . ولا بد من إعادة التاكيد أننى ـ كالعادة ـ لا أحكم بكفر احد بشخصه ، ولكن أذكر حقائق القرآن البينات الواضحات فى موضوع الكفر العقيدى و السلوكى طبقا لسياقاتها فى القرآن الكريم ، وفى كل ما أكتب أكون مسئولا عن كل ما أقول يوم العرض على الله جل وعلا يوم القيامة ، ولهذا يستوى عندى أن يقتنع الناس أو يرفضوا .. فالباحث القرآنى يهتم أساسا بقول الحق القرآنى لكى ينجو بنفسه من عذاب يوم القيامة.

2 ـ وهذا المقال يتوقف مع العمل والكفر والعمل والايمان الصحيح .
المصطلح القرآنى يذكر ( العمل ) صراحة أو ضمنا ،ولكن كلمة ( الكفر العملى ) بعيدة عن استهلاكنا اللغوى و استعمالنا الثقافى ، لذا اخترت مصطلح ( الكفر السلوكى ) لأنه الأقرب لنا . وفى النهاية فالسياق هو الفيصل فى تحديد الكفر السلوكى والكفر العقيدى ، وهو سياق غزير وفير فى القرآن الحكيم استدعى أن نتوقف معه بهذه السلسلة الممتدة.
وسبق الاشارة الى وجود (إيمان ) ولكنه (قليل) فى الكفر مقابل الايمان (الخالص ) الذى يتطلبه الاسلام العقيدى والايمان الحق .

3 ـ وهناك علاقة متداخلة بين الايمان الصحيح والعمل الصالح ، وبين الكفر والعمل السىء ، وتمتد هذه العلاقة من الدنيا الى الاخرة ، فلنا أن نحكم على الايمان والكفر من حيث الظاهر من العمل ومن السلوك ، أما المعرفة النهائية و اليقينية التى تنفذ الى حقيقة العمل ونية صاحب العمل من إخلاص أو رياء ، وحقيقة الايمان فلن تكون إلا يوم القيامة يوم يلقى كل إمرىء حسابه عن عمله وايمانه.
كما أن الانسان نفسه يستطيع ـ إذا أراد ـ أن يتعرف على حقيقة ايمانه وعمله فى محاسبة شفافة وحقيقية لسلوكه و معتقداته ، إذا إحتكم مخلصا الى الميزان وهو القرآن الكريم ، طالبا الهداية. وهو مقال آخر قادم بعونه جل وعلا.

أولا ـ ارتباط العمل بالايمان أو بالكفر :

1 ـ من يدخل الجنة ليس فقط المؤمنون ولكن (الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) أى لا بد من إيمان خالص وعمل صالح ، لا ينفع أحدهما دون الآخر.

2 ـ العمل الصالح بلا ايمان لن يجدى يوم القيامة ، هناك من يموت على الكفر العقيدى وقد عمل الكثير من الصالحات ، وهو شأن معظم المسالمين من البشر الذين لا يؤمن أكثرهم بالله تعالى إلا وهم مشركون ( يوسف 106 ). يوم القيامة وهم فى النار سيقال لهم على سبيل التأنيب : (ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) ( غافر 12 ).
هذه الأغلبية من البشر لا تتصور الله جل وعلا وحده الاها . يكفى فى اعتقادهم الايمان بالله الاها ولكن معه وحوله باقة من البشر المقدسين ، على رأسهم هذا النبى أو ذاك الولى أو ذلك القديس ، يقيمون لهم تماثيل وأنصابا وقبورا مقدسة ومعابد يحجون اليها ويتقربون لها بالقرابين والنذور ، ويجعلونها شريكة لله جل وعلا فى المساجد والمناسك و شهادة الايمان.
لا وقت لديهم لتصحيح العقائد لأنهم عن ربهم غافلون وعن الآخرة لاهون .
ترى بعضهم غاية فى الذكاء و المهارة فيما يخص الدنيا ولكن يرضى بجهله فى الدين ، يكون متعذرا أن تخدعه فى أمور الدنيا بائعا أو شاريا ، ولكنه يسهل خداعه بل يرضى بأن يكون مخدوعا بيد مرتزقة الأديان الأرضية ، يقيم لهم المساجد والمعابد ، ويتبرع لهم بالنفيس و يتوجه لهم بأخلص التقديس طالما ينفعه ذلك فى تحقيق مصالحه الدنيوية .وعلى هامش انكبابه على الدنيا يقوم بأعمال صالحات مثل رعاية الأيتام و مساعدة المرضى و المحتاجين والدفاع عن المظلومين . باختصار :هم يقدسون البشر و الحجر ، ويقتصر اهتمامهم على الدنيا ولقمة العيش دون الاضرار بأحد من الناس ، الغنى منهم يزداد شهرة بما يتبرع به ، والفقير منهم غاية همه ( الستر ) فى الدنيا ، وكلهم مطمئنون الى دخول الجنة ، وقد ضمن لنفسه النجاح فى اختبار الآخرة مقدما طالما سيشفع فيهم هذا النبى أو ذاك الولى أو ذلك القديس.
أولئك ماتوا بعقائد شركية كافرة ، فما هو مصير أعمالهم الصالحة؟
هى الى الضياع فقد أحبطها الله جل وعلا ، وهذا ما جاء فى كل الرسالات السماوية تحذيرا لكل الأنبياء و الرسل :أن من يموت مشركا فان الله تعالى يحبط عمله ( وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) ( الزمر65 ) . ولنلاحظ أن الخطاب هنا موجّه لخاتم الأنبياء رأسا ، وسبق توجيهه لمن سبقه من الأنبياء ، عليهم جميعا السلام . فاذا كان هذا ما يقال الى صفوة البشر فكيف بنا نحن ؟
ولنعد الى المشرك بعقيدته صاحب العمل الصالح أو السلوك الصالح : فإن من عدل الله جل وعلا انه يجزيه خيرا بعمله الصالح فى الدنيا فقط ، فقد انصب اهتمامه بالدنيا وعمل من أجلها ليكسب رضى الناس ، وغفل عن الآخرة ، فمن حقه الجزاء الحسن فى هذه الدنيا مقابل الخير الذى قدمه ، وليس له حظ فى الآخرة ، فلم يعمل لها ولم يأبه بها،أو نظر اليها من خلال معتقدات فاسدة كالشفاعة بالبشر ، فلم يقدر فيها الله جل وعلا حق قدره.
فى هذا يقول رب العالمين سبحانه وتعالى :(مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) ( هود 15 : 16 ). هذا الانسان وضع الدنيا نصب عينيه وجاهد فى سبيلها طيلة عمره يريد الاستحواذ على أكبر قدر فيها من الزينة ، وفى سبيلها عمل الصالحات ، فالجزاء أن الله تعالى سيوفيه عمله الصالح فى هذه الدنيا دون أن يبخسه أو يظلمه حقه ، ولكن سيحبط الله جل وعلا عمله الصالح ويبطله فلا يبق له فى الاخرة سوى النار.
3 ـ الايمان وحده بلا عمل صالح لن ينفع ، فهذا الايمان الذى عجز عن انتاج عمل صالح لا عبرة به . العمل الصالح مع الايمان الحق أساس دخول الجنة ، وبدون هذا العمل الصالح لا (يصلح ) الانسان لدخول الجنة. وهى قضية معقدة سنتعرض لها بالتفصيل فى حينها ، ولكن نشير بسرعة الى أن دخول الجنة يستلزم ( صلاحية ) الدخول لها ، وهذه الصلاحية تعنى أن يتحول العمل الصالح المرتبط بالايمان الخالص الصحيح الى نور يغمر النفس يوم القيامة ويكون جسدا لها بديلا عن الجسد الدنيوى الذى نلبسه الان و سنتركه فى تلك الأرض ليتدمر معها يوم القيامة ، وسنبعث بجسد جديد يتكون من أعمالنا ،فإن كانت أعمالنا صالحة ، فسيكون الجسد الجديد بها (صالحا ) لدخول الجنة ، وإن كان العمل سيئا فهو من آليات العذاب يوم القيامة حيث سيكون الكفرة وقودا للنار (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلادُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ ) ( آل عمران 10 ) وهذا ما حذّر الله جل وعلا منه المؤمنين ، فطلب منهم أن يقرنوا إيمانهم بالعمل الصالح ليقوا أنفسهم نارا وقودها الناس و الحجارة :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) ( التحريم 6 ). وفى المقابل فإنه بالعمل الصالح تلبس النفس المطمئنة جسدا نورانيا ( تصلح ) به لتدخل الجنة . يقول جل وعلا (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ) ( العنكبوت 7 ) تكفير السيئات يعنى إزالتها حتى يصلح الجسد النورانى بازالتها الى دخول الجنة ، ولذا فان الملائكة (فى سورة غافر : 9 ) تدعو الله تعالى ان (يقى ) المؤمنين شرّ ( السيئات ) حتى ينالوا رحمة الله جل وعلا ، وهى الصلاحية لدخول الجنة، وهذا معنى قوله تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ )(العنكبوت : 9 ) أى فى الصالحين لدخول الجنة.
4 ـ وفى الجانب الاخر ففى الكفر (إيمان قليل) وغفلة و(عمل) سىء غالب وسائد .
ايمانهم القليل لن ينفعهم يوم القيامة: (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ)( السجدة 29 ). يبقى لهم عملهم السيىء أو (سلوكهم ) السيىء ، الذى يكونون به وقودا للنار.
هذه قواعد قرآنية لمن مات وختم عمله ، والله جل وعلا وحده هو الأعلم بكل من مات ، وكيف تحددت عند الموت درجة كل منهم ، أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار.
5 ـ والله تعالى ذكر ذلك لنصح من كان حيا ولديه الفرصة للخروج من الغفلة والاستعداد ليوم الفتح أو يوم الحساب . ولو أعدنا قراءة الآيات الكريمة السابقة لوجدناها تخاطب الأحياء للإنذاروالتذكير. وهو خطاب للمؤمنين والكافرين . يقول تعالى لكفرة قريش : (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ) ( البقرة 23: 24 ) أى يحذرهم ويخوفهم بالنار التى سيكون الكافرون وقودا لها. ويقول لكل المؤمنين الى يوم الدين :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) ( التحريم 6 ). ولهذا جاءت معظم آيات القرآن الكريم فى تقرير الحرية فى الايمان والكفر وفى مسئولية الانسان على اختياره ، ودخوله الجنة أو النار تبعا لمسئوليته تلك .
6 ـ ومهمة هذا الموقع (أهل القرآن ) التعريف بحقائق القرآن أملا فى ألا يخسر المسلمون الآخرة كما خسروا الدنيا . بمعنى أننا فى تعرضنا لقضايا الايمان و الكفر لا نقصد مطلقا تكفير الأشخاص ولكن النصح والتذكير للأحياء ، وهم فى حياتهم يمتلكون القدرة على تصحيح عقائدهم لو أرادوا. وهى نفس دعوة خاتم النبيين عليه وعليهم السلام ، فقد كان ينذر الأحياء المعاصرين له بالقرآن الكريم ، ويركز فى إنذاره على المؤمنين الذين يستجيبون للوعظ ويخافون الوعيد ، يقول جل وعلا له عليه السلام ، ولكل من سار على دعوته :(فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ ) ( ق 45) أى لا بد أن يكون الشخص مؤمنا أولا بالقرآن حتى يخاف وعيد الله جل وعلا فى القرآن.
وبعد موته عليه السلام سيظل القرآن الكريم رسالة إنذار ونصح وتحذير لكل من كان حيا وألقى السمع وهو شهيد (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ) ( ق 37 ) ويقول جل وعلا عن وظيفة كتابه العزيز فى إنذار وتحذير الأحياء فى كل عصر (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا)( يس 70 ).
وتبدو أهمية هذه المهمة فى الدعوة حين نعلم أن الانسان الحىّ يتعرض ايمانه للزيادة و النقصان طالما ظل على الأرض حيا يسعى .


ثانيا : طالما يكون الانسان حيا يسعى فى الأرض فايمانه يتذبذب حسب عمله :

1 ـ قد يكون الانسان كافرا بعقيدته دون ان يدرى ، وقد يدمن النفاق ويتعود عليه حتى لا يرى فى ذلك بأسا ، وقد يكون غافلا ألهته الدنيا بصراعاتها وزخرفها فلا يفيق إلا عند الاحتضار ، وينطبق عليه قوله جل وعلا (أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ) ( التكاثر 1 ـ ) وقد يأخذه العناد والتمسك بالباطل ويجعله يحترف الصّد عن سبيل الله و الاعتداء على دعاة الحق . والقرآن الكريم هو الحجة علينا جميعا ،فهو بيننا محفوظ الى يوم القيامة من لدن رب العالمين ليكون بيانا للناس وإنذارا لهم : (هَذَا بَلاغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ) (ابراهيم 52 ). من هنا تاتى الدعوة الى تصحيح الايمان لكل إنسان ، وهو إذا فعل فمن خلال علاقة خاصة بينه وبين ربه ، لا يعلم البشر عنها شيئا . وهذا هو ما نأمله فيمن يقرأ لنا .
2 ـ فى العقائد يتنوع البشر من حيث الايمان والعمل ، منهم السابقون بعملهم وايمانهم ، عملهم الصالح معروف ومشهود بين الناس ، يتمثل فى التعامل الراقى والخير الذى يقدمونه لمن حولهم ، وعدم تعديهم على أحد ،بل العفو عن المسىء والصبر و الاحسان. ما يهمنا هو عملهم الصالح النافع للمجتمع والناس. ومنهم الكافرون بالعقائد وبالاعتداء و الظلم تطبيقا لتلك العقائد ، ومنهم المنافقون ، ومنهم آمن إيمانا صحيحا ولكن خلط عمله الصالح بالعمل السيىء.
نوعية الايمان التى يصدر عنها ذلك العمل الصالح أو السيىء لا يعنينا ، فهو لله جل وعلا وحده الذى يعلم السّر وأخفى . الذى يقلق المجتمع أكثر هو السلوك السيىء الاجرامى ، وهو يصدر عن قلة إيمان أو نفاق ،أو كفر صريح ، وقد توقف القرآن الكريم مع هذه النماذج التى كانت موجودة فى الصحابة و لا تزال.
المنافقون :
المنافقون هم الأكثر تذبذبا فى ايمانهم ، كان ايمانهم يتضاءل الى درجة الكفر ، ثم يتضاءل أكثر فيزداد كفرا (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً )( النساء 137 ) وهذا صنف منهم ، وهناك صنف آخر تذبذب بين الايمان الصحيح والكفر الصريح (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ) ( النساء 143 ) وهناك منهم من تاب وأناب قبل الموت ، ومصيره أن يكون مع المؤمنين الفائزين يوم القيامة، وهناك من مات منهم على نفاقه فسيكون فى الدرك الأسفل من النار : (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ) ( النساء 145 ـ )
ترمومتر الايمان الصاعد الهابط فى قلب المنافق مرجعه لارادته واختياره ومواقفه عند الشدة ، وكانت الحروب الدفاعية أهم مواقف الاختبار والاختيار . ونعطى مثالين :
* فى غزوة ( أحد )التى حشدت فيها قريش كل قوتها وجاءت للهجوم على المدينة رفض بعض المنافقين الاشتراك فى الدفاع عن بلدهم وعن أنفسهم ، قيل لهم تعالوا قاتلوا كمجاهدين أو دافعوا عن بلدكم كوطنيين فاعتذروا قائلين : لو نعلم قتالا لقاتلنا معكم. الله جل وعلا يحكم عليهم بأنهم فى هذه اللحظة وذلك الموقف كانوا أقرب الى الكفر منهم الى الايمان :(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ ) ( آل عمران 167 ). إذن فالكفر بايمانه القليل و الايمان الصحيح الكامل هى محطات يتردد بينها قلب المنافق ، ولا يعلم حقيقة ايمانه إلا الله جل وعلا الذى يعلم ما يكتمون .
* بعض المنافقين المتقاعسين عن الدفاع عن المدينة فى غزوة ذات العسرة ـ جاء يعتذر للنبى محمد عليه السلام ، بعد أن رضوا لأنفسهم أن يتخلفوا عن المعركة و يكونوا ضمن الخوالف من اصحاب العاهات والعجائز. يقول جل وعلا : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة 94 ).
هنا يأتى الرد على اعتذارهم بأن اللوم يقع عليهم بسبب موقفهم المتخاذل قبل المعركة ثم موقفهم المخادع بعدها حين جاءوا يعتذرون كذبا ، والله جل وعلا يجعل موقفهم هذا صادرا عن قلوب إنطبعت على الكفر بحيث أصيبت بالعمى عن رؤية الحق ونسيان العهد والميثاق الذى وقّعوا عليه مع النبى محمد عليه السلام حين أقيمت دولة الاسلام فى المدينة . وردا على اعتذارهم الكاذب يأتى الأمر من الله جل وعلا للنبى محمد عليه السلام أن يرفض بصراحة إعتذارهم المخادع قائلا لهم : أنه لا يأمن لهم ولا يثق فيهم إذ فضح الله تعالى حقيقة مواقفهم الماضية، أما ما يخص أعمالهم المستقبلية فمرجع الحكم عليها الى الله تعالى حين ينزل الوحى القرآن على رسوله ينبىء عما يقترفون. أى هو تحذير مسبق لهم لمنع المزيد من خداعهم وتآمرهم . ثم يأتى يوم القيامة بانكشاف كل أعمالهم حيث سيخبرهم رب العزة بكل ما كانوا يفعلون فى الدنيا.
فى الاية الكريمة مستويان من التعامل مع أولئك المنافقين المتخاذلين المخادعين :
الأول المستوى الالهى : وهو بالكشف عن خفايا قلوبهم وفضحها ، وهذا لله تعالى وحده . وهذا المستوى انتهى بانتهاء القرآن الكريم نزولا . وبعد موت النبى محمد عليه السلام وقع الصحابة ـ ومنهم المنافقون ـ فى كبائر وقد أصبحوا بمأمن من أن ينزل القرآن يفضح ما يفعلون لأن هذا المستوى الالهى أنتهى بإكتمال القرآن وموت النبى محمد عليه السلام.
المستوى البشرى فى التعامل ، والذى كان خاصا بالنبى محمد الذى كان ينزل عليه وحى القرآن ، وقد أمره الله جل وعلا أن يقول لهم أقوالا محددة مترتبة على سلوكياتهم ، أملا فى ان تتغير الى الأفضل. ويبقى لنا من هذا المستوى البشرى فى التعامل هو العبرة بأن نقيس أعمالنا وعقائدنا على تلك النماذج التى حكاها رب العزة لنتعظ ونتعلم. .
المؤمنون الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا :
بسبب أعمالهم السيئة والتى لا تليق مع إيمانهم الصحيح نزل القرآن الكريم بالحل لهم ولكل من ينطبق عليه نفس الحال ، يقول جل وعلا :
(وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التوبة 102 : 105 )
أولئك مؤمنون عصاة معتدون بادروا بالاعتراف بالذنب والتوبة عنه ، ولهم مع ايمانهم الصحيح الذى دفعهم للاعتراف والتوبة أعمال صالحة اختلطت باعمالهم وسلوكياتهم الشريرة . المطلوب منهم تحقيق التوبة عمليا بإعطاء الصدقات للمجتمع فإن كانوا صادقين فى التوبة وفى إعطاء الصدقة فان الله جل وعلا سيقبل منهم الصدقة وسيتوب عليهم ويغفر لهم .
هنا أيضا مستويان من التعامل : المستوى الالهى الذى يخص الله جل وعلا وحده ، وهو معرفة خفايا القلب حين يتصدق ويعطى ، وعلى أساس هذه المعرفة الالهية سيكون قبول الصدقة والتوبة والغفران أو العكس ، وسيأتون يوم القيامة أمام الله جل وعلا فيخبرهم بحقيقة أعمالهم .
وهناك المستوى البشرى فى حكم الناس مستقبليا على أولئك التائبين طبقا للظاهر من سلوكياتهم حيث يقول تعالى (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) فالكلام هنا عن اعمالهم المستقبالية بعد التوبة ، وسيراها المؤمنون ، وهى ليست مجرد رؤية بل حكم وتقييم ، فإذا كانت أعمالهم الظاهرة للمؤمنين صالحة فقد أصبحوا متمتعين بالثقة فى إطار المن والأمان و السلم والسلام الذى يعنى الاسلام الظاهرى والايمان الظاهرى ، ثم يكون الحكم الحقيقى لله جل وعلا يوم الدين ، حين يأتى البشر جميعا أمام الله جل وعلا (بارزة أعمالهم ) وحيث لا يخفى على الله جل وعلا منهم شىء : (يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ( غافر 16 : 17 ) .
ونلاحظ هنا إختلافا عن حالة المنافقين السابقة . فالمؤمنون يكونون حكما على سلوك العصاة المؤمنين إذا تابوا (وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ) ، بينما ليس لهم هذا الحق بالنسبة للمنافقين المخادعين فى الآية السابقة التى تقول :( وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ) (التوبة 94 ) فلم يقل ( والمؤمنون ) لأن المؤمنين مأمورون بالاعراض عن أولئك المنافقين إذا جاءوا اليهم يعتذورن خداعا وكذبا ، يقول جل وعلا بعدها للمؤمنين : (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ)(التوبة 95ـ).

ثالثا : زيادة الايمان ونقصه عموما حسب العمل :
1 ـ وطالما ظل الانسان حيا على الأرض يسعى فايمانه عرضة للتغير حسب إرادته وعمله ، ولذلك فان المؤمن الحقيقى يخشى من تقلب الظروف وأن ينتهى به الأمر الى أن يموت عاصيا خاسرا ، لذا هو يدعو ربه مخلصا أن يموت مسلما حقيقيا ،أى أن يظل ترمومتر إيمانه فى ارتفاع أو يثبت على ارتفاعه الى لحظة الموت ، وهذا هو ما دعا به نبى الله يوسف عليه السلام ، بعد أن آتاه الله تعالى من الملك و حقق له كل أمانيه ، فبقيت له الأمنية الكبرى والعظمى أن يموت على اسلامه ( ولنتذكر أن الاسلام هو دين الله تعالى الذى نزلت به كل الرسالات السماوية بشتى لغات الأنبياء ) قال يوسف عليه السلام (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) ( يوسف 101). أى يدعو ربه أن يظل مسلما حتى آخر عهده بالدنيا ، وأن يلحقه بالصالحين ( عند دخول الجنة ) أى يصلح بعمله لدخول الجنة.
2 ـ ونفهم من القرآن الكريم أن بعض الناس قد يظل على كفره وغفلته الى أن تأتى لحظة حاسمة فى حياته ، يكون عليه فيها أن يختار بين الايمان الحق ومستلزماته من التضحية أو الرضى بالباطل وتاييده ، ولو إختار وقتها الحق واستعد لمواجهة الموت تمسكا بهذا الحق فانه يموت مسلما برغم ما سلف طوال حياته من لهو ولعب و غفلة وابتعاد عن الصراط المستقيم ، أى كما يقال ( العبرة بالخواتيم ) ولا يعلم هذه الخواتيم سوى رب العالمين .
فى قصة موسى وفرعون ـ التى لا تنتهى مجالات العبرة فيها ـ فوجىء سحرة فرعون بأن عصا موسى انقلبت ثعبانا حقيقيا يأكل حبالهم وعصيهم . كانوا من قبل قد طلبوا من فرعون الجائزة الكبرى لو غلبوا سحر موسى ، ووعدهم فرعون بالأجر و الجاه و القربى منه : (وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُواْ إِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ )(الأعراف 113ـ ). إختلف موقفهم حين رأوا الآية فسجدوا مؤمنين، بل وأعلنوا ايمانهم فى حضرة الفرعون وأمام جماهير الناس يوم الزينة ، أى أعلنوا هزيمة فرعون بين قومه وملئه دون أن يأبهوا بالعواقب. هددهم فرعون بأشد العذاب : (قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ) ردوا عليه بكل ثقة وإيمان: (قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا) ثم دعوا ربهم أن يمن عليهم بالصبر على قطع ايديهم وأرجلهم ، وأن يمنّ عليهم بالموت مسلمين :( رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ )(الأعراف ـ 126 ).
3 ـ وليس كل الناس يتعرضون لهذه التجربة الفظيعة ، لذا لا بد لكل انسان حريص على مستقبله يوم الدين أن يعمل له اليوم قبل الغد ، لا يرجىء التوبة الى الغد كما فعل أخوة يوسف حين عزموا على المعصية بإلقاء أخيهم فى الجب ، مع الوعد بأن يكونوا بعدها قوما صالحين : (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ )( يوسف 9 )، بل كلما استغرق فى السلوك الصالح أو العمل الصالح كان أفضل له ، أو بمعنى آخر كلما اتقى الله عز وجل فى عقيدته وقلبه وفى سلوكه وعمله وحافظ على هذا الى آخر لحظة فى حياته فقد فاز. ولذلك فان الله جل وعلا يخاطب المؤمنين فى القرآن الكريم يأمرهم بالتقوى فى حياتهم الدنيا وألاّ يموتوا إلاّ وهم مسلمون:( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) ( آل عمران : 102 ).
4 ـ ولا يعنى هذا الزهد فى الدنيا والرهبنة بل يعنى ارتباط الايمان الحق بالعمل الصالح النافع . والعمل الصالح النافع هو إنغماس فى الحياة بالخير وتفاعل مع الناس بالتواصى بالحق وعمل الصالحات ومشاركة فى أمور المجتمع بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وسعى من أجل المعاش بالحلال لانفاقه فى البر والصدقات . وفى كل هذا فإن المؤمن يجب أن يظل حريصا على الصلة بربه جل وعلا ليزداد إيمانا وليظل ترمومتر ايمانه مرتفعا والى اعلا الى أن يموت ، ولأنه ليس معصوما من الخطأ فقد يقع فى معصية فيبادر بالتوبة وتصحيح المسار ، وقد يواجهه موقف يستلزم الثبات على الحق ومواجهة الباطل فلا يجبن ولا يخاف لأنه كالطالب المجتهد قد استعد ليوم الامتحان بالمذاكرة ، وهو قد استعد للقاء ربه بإيمان حقيقى و عمل صالح ، وهو متاكد من عدل الرحمن جل وعلا ، وأنه جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن (عملا ) أو أحسن (سلوكا) .
5 ـ وقبل مجىء لحظة الاحتضار يحرص المؤمن فى حياته على زيادة الايمان فى قلبه بتلاوة القرآن الكريم وذكر الله جل وعلا : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) (الانفال 2).
والواقع أن من أسرار القرآن الكريم وآياته فينا أنه المقياس الحساس لما فى قلوب الناس ، فالذين عاصروا نزول القرآن ازداد بعضهم به إيمانا وإزداد به المنافقون نفاقا ، وازداد به الكافرون كفرا. ففى المقارنة بين المنافقين والمؤمنين حق الايمان وهم يعيشون معا فى المدينة يقول تعالى : ( وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ )(التوبة 124 ـ ) ، أى عند نزول سورة كان يزداد بها المؤمنون إيمانا ، هم مؤمنون فإزدادوا بالقرآن إيمانا ، بينما المنافقون الذين فى قلوبهم مرض إزدادوا بالقرآن مرضا ورجسا فى قلوبهم .: ونفس الحال مع الكافرين يزدادون كفرا لو قرأوا القرآن الكريم ، ولقد تكرر مرتين قوله تعالى عنهم :( وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) ( المائدة 64 ، 68 ).
ونفس الحال فى كل عصر بعد نزول القرآن الكريم والى قيام الساعة .
يقول جل وعلا : (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَسَارًا)( الاسراء 82 ) أى يتوقف الأمر على الانسان نفسه ، المؤمن يدخل على القرآن الكريم ليصحح عقيدته يطلب الهداية مستعدا لها مهما تعارض قول القرآن مع كل موروثاته .. أما الظالم فى عقيدته فهو يدخل على القرآن ليقتنص من آياته ما يعزز تلك الموروثات الشركية الكافرة ، فينتقى من الايات ما يوهم ظاهرها بما يريد متجاهلا الايات الأخرى ومؤولا الايات المحكمات ومتلاعبا بالايات المتشابهات الى أن يصل الى إرضاء هواه ..ومعظم كتب التراث سلكت سبل التأويل والتكذيب الضمنى و الصريح للقرآن الكريم تحت شعرات (النسخ ) والسّنة والحديث.

6 ـ هو فى النهاية موقف عملى يقوم على مشاعر قلبية من الايمان الحق أو الكفر بالحق. فالاستشهاد بالقرآن الكريم فى تصحيح عقائد المسلمين هو سلوك صالح أو عمل صالح ، يقابله من الناحية الأخرى الاستشهاد بالقرآن الكريم لكى يستمر الباطل سائدا مع وجود القرآن الكريم .
هذا الموقف العملى ( العلمى ) فى النقاش والحوار و الجدال قد يتطور بأصحاب الباطل من مستوى الدعوة الى الباطل الى فرض الباطل بالاكراه فى الدين ، وهذا هو الكفر السلوكى المعتدى الظالم الذى يعلن الحرب على الله جل وعلا.
وسبق أن قلنا إن من يعتقد نفسه على الحق لا يمكن أن يقوم باكراه أحد فى الدين . صاحب الباطل الذى تنقصه الحجة هو فقط الذى يلجأ الى الاكراه فى الدين بسبب ضعف حجته وفساد عقيدته. ومن هنا ينتقل الموضوع من ساحة الحوار الى ميدان القتال ، كما يحدث عندما يتوجه جيش من الأمن المركزى الى رجل مسالم من أهل القرآن ليحاربه بأحدث الأسلحة أو ليسلم المسكين نفسه لهم . يواجهون حجته القرآنية بالسلاح والعتاد والجنود والحشود.
هى قصة مؤلمة متكررة يتعرض فيها ـ دائما ـ المؤمنون المسالمون الى الاعتداء.
ولو كانوا فى حال تمكنهم من رد الاعتداء بمثله فقد وجب عليهم القتال الدفاعى ، وفيها يتجلى موقف المواجهة المسلحة ، وبه يزداد المؤمن إيمانا ، وهذا ما حدث من المؤمنين الصادقين من الصحابة بعد هزيمة (أحد ) إذ صمموا على ما بهم من جراح على أن يطاردوا العدو الكافر الذى خطف نصرا سريعا ثم ولى الأدبار ليحافظ على نصره . صمم أولئك الشجعان من جرحى المسلمين بعد المعركة على مطاردة العدو ، فقيل لهم إن العدو قد جمع لهم الجموع و نصب لهم الكمين ،فلم يهتزوا هلعا بل إزدادوا إيمانا وقالوا الكلمة الخالدة : حسبنا الله ونعم الوكيل. أى يكفيهم الله جل وعلا حاميا وناصرا ومدافعا ووكيلا : ( الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ) ( آل عمران 173). تكرر نفس الموقف فى غزوة الأحزاب :(وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ) (الأحزاب 22). هنا يزداد الايمان فى ساعة الشدة .
وعندما يكون أصحاب الحق قلة مستضعفة يكون سلاحهم الوحيد هو ضعفهم ودعاؤهم الله جل وعلا ، وصلاتهم وصبرهم . عند التهديد بالموت يقولون ما قاله سحرة فرعون لفرعون : (لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى ) ( طه 72 ـ ) ..
وهذا ما يجب أن يكون عليه شعار أهل القرآن فى مواجهة الفرعون وجنده .فالمصريون من أهل القرآن هم الأحفاد الحقيقيون لأولئك الرجال العظام الذين (كانوا ) سحرة فرعون ، ثم آمنوا بالحق وتمسكوا به حتى الموت، فالايمان مشاعر قلبية يعلن عنها السلوك ويظهرها موقف الشدة ، سواء كان إيمانا بالله تعالى وحده أم كان إيمانا بآلهة وأولياء مع الله جل وعلا.


وفى النهاية
فهى دعوة لاتباع الحق قبل أن يحل الموت.
دعوة بالحكمة و الموعظة الحسنة ، لا نفرضها على أحد ، ولا نهتم لو لم يتبعها أحد ، ونقولها حتى لا نكون يوم القيامة ممن يكتم الحق.
والى الله جل وعلا الحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون :(قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) (الزمر 46 ).

اجمالي القراءات 21980