لكل دين نظرة خاصة تجاه مسألة السلطة، تختلف وتتغيّر تبعاً للسياقات التاريخية التي يمرّ بها أتباع هذا الدين على مدار تاريخهم.
وفي ما خص تغيّر شكل العلاقة بين المسيحية الغربية والسلطة، يمكن أن نميّز عدداً من المراحل، بدءاً من حالة التباعد والانعزال التي عرفها المسيحيون الأوائل، مروراً بحقبة طويلة امتدت على امتداد العصور الوسطى ووقع فيها الاندماج بين السياسي والديني في شخص بابا روما، ونهايةً بالفصل العلماني التام بين الدين والسياسة.
انعزال مسيحي واضطهاد روماني
كان التباعد هو السمة المميزة التي صبغت شكل العلاقة بين المسيحيين الأوائل وبين السلطة. ويتضمّن العهد الجديد العديد من الآيات التي يُفهم منها دعوة المسيح أتباعه إلى الابتعاد عن السياسة، وعدم الانشغال بمسألة السلطة.
ففي إنجيل مرقص، سأل بعض اليهود المسيح، في محاولة للإيقاع به، عن دفع الجزية للإمبراطورية الرومانية، فقال لهم: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما الله لله"، وهي المقولة التي اشتهرت وذاعت على الألسن.
أيضاً أوردت الأناجيل العديد من أقوال المسيح التي يُفهم منها الدعوة إلى الابتعاد عن العنف في طلب الحق، وهو الأمر الذي كان يتعارض مع الروح الثورية التي كانت تميّز اليهود الناقمين على السلطة الرومانية المحتلة. ففي إنجيل لوقا ورد: "مَن ضربك على خدك فأعرض له الآخر أيضاً، ومَن أخذ رداءك فلا تمنعه ثوبك أيضاً". وفي إنجيل متى ورد قول المسيح: "وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل مَن لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً".
تتوافق السيرة العملية للمسيح والرسل وتتماشى مع التعاليم الواردة في العهد الجديد، في ما يخص ضرورة الابتعاد عن السلطة وحتمية الرضوخ لقراراتها دون الصدام معها أو الثورة عليها. فبحسب الاعتقاد المسيحي التقليدي، بدأ حاكم فلسطين هيرودس تعقب المسيح قُبيل ولادته، كما أن الجنود الرومان اضطلعوا بمهمة تعذيب يسوع وصلبه، ورغم كل هذا لم يرد أي أمر للمسيحيين الأوائل بالتصدي للسلطات أو الصدام معها.
وفي ما يخص الرسل الذين عملوا على نشر المسيحية بعد المسيح، جرى تعقّب أغلبهم والتنكيل بهم وقتلهم، إما من جانب السلطة الرومانية، كما وقع في حالتي قتل بطرس وبولس في روما، أو من جانب الوثنيين المُؤيَّدين من السلطة، كما وقع في حالة قتل مرقس في الإسكندرية.
وعلى مدار القرون الثلاثة الأولى التي أعقبت ميلاد المسيح، ومع ازدياد أعداد المتحوّلين إلى المسيحية، تعرّض أتباع الدين الجديد لحملات تنكيل واضطهاد عنيفة من قِبل السلطة الرومانية، منها ما تزامن مع اتهام الإمبراطور نيرون لهم بإحراق روما عام 64م، بحسب ما يذكر تاكيتوس في كتابه "الحوليات"، ومنها الحملة الشرسة التي شنها عليهم الإمبراطور دقلديانوس في بدايات القرن الرابع الميلادي.
ويذكر القمص أثناسيوس فهمي جورج، في كتابه "الاستشهاد في فكر الآباء"، أن السبب الرئيسي في اضطهاد الرومان للمسيحيين في تلك الفترة، كان يتمثل في أن أتباع الدين الجديد كانوا يرفضون في الكثير من الأحيان الخدمة في الجيش الإمبراطوري، هذا بالإضافة إلى أنهم كانوا يمتنعون عن القيام بمظاهر التعظيم والتقديس والعبادة التي كان الرومان يؤدونها لأباطرتهم.
من الاعتراف بسلطة الإمبراطور إلى تغوّل سلطة البابا
عام 313، حدث تغيّر مهم في مسار العلاقة بين المسيحية والسلطة، ذلك أن الإمبراطور الروماني قسطنطين الأول، اعتنق المسيحية، وأصدر من ميلانو مرسوماً أعلن فيه حياد الإمبراطورية في ما يخص شؤون العبادة والدين، وهو المرسوم الذي تمتّع المسيحيون بموجبه باعتراف الدولة الرومانية بديانتهم بشكل رسمي للمرة الأولى، ما نتج عنه حدوث حالة من التهدئة والتصالح مع السلطة.
بعد 12 عاماً فحسب من ذلك، وقع التطور الأهم، عندما دعا قسطنطين ما يقرب من 300 أسقف مسيحي من شتى أنحاء الإمبراطورية للاجتماع في نيقية، وذلك للتباحث حول مسألة طبيعة السيد المسيح، وهو النقاش الذي نتج عنه ظهور قانون الإيمان المسيحي.
مهّدت تلك الخطوة المهمة الطريق أمام عدد من آباء الكنيسة لمناقشة طبيعة علاقة الدين والسلطة بشكل أكثر موضوعية وواقعية في كتاباتهم في ما بعد، وذلك لأن ما جرى في نيقية من خضوع كلي من قِبل الأساقفة ورجال الدين للإمبراطور، قد حتّم عليهم الاعتراف بوجود نوع من السلطة التي يمتلكها الإمبراطور عليهم.
وظهر هذا بشكل واضح في عهد قنسطانطيوس الثاني ابن قنسطنطين الأول، إذ اعتبر الإمبراطور الجديد نفسه مسيطراً على رجال الدين، ودخل في صراع قوي معهم لإجبارهم على الاعتراف بسلطته وتفوقه، وانتهى هذا الصراع بتحوله للمذهب الآريوسي، إلا أن هذا التحوّل سرعان ما توقف، لتعود الإمبراطورية الرومانية لأحضان قانون الإيمان الذي تمت صياغته في نيقية، ولتظهر الحاجة المُلحة لترسيم العلاقة بين رجال الدين والإمبراطورية الرومانية.
وبحسب ما ورد في كتاب "الخط الاجتماعي عند آباء الكنيسة الأولى"، فإن القديس أمبروسيوس المتوفى عام 397، والذي كان يشغل منصب حاكم ميلانو قبل أن ينضم إلى الكهنوت ويصبح أسقفاً، أكد على وجوب التمييز بين الدين والدولة. فبينما يمارس الإمبراطور أعلى سلطة زمنية، يجب أن يكون الإيمان والانضباط مجالاً خاصاً بالأسقفية.
استعان أمبروسيوس بقول بولس في رسالته لأهل رومية "لتخضع كل نفس للسلاطين الفائقة، لأنه ليس سلطان إلا من الله والسلاطين الكائنة هي مرتبة من الله، حتى أن مَن يقاوم السلطان يقاوم ترتيب الله..."، وبنى عليه رأيه في أنه "يلزم الخضوع للإمبراطور كما للرب، وعلامة الخضوع هي دفع الجزية".
ولعب أمبروسيوس دوراً مهماً في تأسيس سلطة كنسية موازية لسلطة الإمبراطور الروماني نفسه. فعندما قام بعض أهالي مدينة تسالونيكي بقتل أحد الضباط الرومان، عزم الإمبراطور ثيودسيوس الأول على الانتقام، فدعى شعب المدينة لمشاهدة المباريات في الساحة، ثم أصدر أوامره إلى جنوده بقتلهم، فهلك الآلاف منهم. وبعد رفض أمبروسيوس دخول الإمبراطور إلى كنيسة في ميلانو قبل أن يعلن توبته ويبدي ندمه على خطيئته، وهو ما أظهر سلطته الدينية عليه.
بل ونجح أمبروسيوس بعد ذلك في حمل ثيودسيوس على سن بعض القوانين المتأثرة بالتعاليم المسيحية، ومنها عدم تنفيذ حكم الإعدام إلا بعد مرور شهر كامل على صدور الحكم، وعتق الأبناء الذين باعهم الآباء بسبب الفقر، وذلك بحسب ما يذكر القمص تادرس يعقوب الملطي في كتابه "قاموس آباء الكنيسة وقديسيها".
برزت نتائج جهود أمبروسيوس مع الإمبراطور عام 391، عندما أعلن ثيودسيوس الأول إقرار المسيحية ديناً رسمياً للدولة الرومانية، ليقع الاندماج الكامل بين المسيحية والإمبراطورية للمرة الأولى، وليبدأ المسيحيون المؤيَّدون بالسلطة في تعقّب الوثنيين واضطهادهم.
وتجلّت آثار هذا الاندماج في كتابات واحد من أهم المفكرين المسيحيين في القرنين الرابع والخامس الميلاديين، وهو القديس أوغسطين.
في كتابه "مدينة الله"، تحدث أوغسطين عن المدينة الأرضية أو الدولة، وقال إنها ليست على الدوام رمزاً للشيطان كما هو شائع، وحض المسيحيين على الالتزام بطاعة السلطة الزمنية المُمثلة في الإمبراطورية، وألزمهم بدفع الضرائب المفروضة عليهم.
لكن علاقة المسيحية بالسلطة تعرّضت لخطوة تطورية جديدة ومهمة، على يد غريغوري الأول المتوفى عام 604، وهو الذي اشتهر باسم غريغوري العظيم.
غريغوري كان أحد الأساقفة الذين دخلوا إلى مجال الدين من باب السياسة، فقد كان يشغل منصب عمدة مدينة روما، ثم تركه ليشغل بعدها منصب سفير بابا روما في القسطنطينية، وظل كذلك حتى ارتقى للكرسي البابوي عام 590.
ويذكر الدكتور يواقيم رزق مرقص، في كتابه "تاريخ كنيسة الغرب"، أن سلطة الكرسي البابوي في روما بدأت في الظهور في عهد غريغوري العظيم الذي أظهر تمسكه بسيادة هذا الكرسي على بقية الكنائس في الشرق والغرب، وحاول فرض سيادة البابوية القضائية على كراسي الأساقفة الشرقيين.
ساعد الظرف التاريخي حينذاك في تقوية سلطة البابا، ذلك أن الإمبراطورية الرومانية الغربية قد سقطت على يد الجرمان عام 476م، وكان رومولوس أوغستولوس هو آخر إمبراطور لها، ما جعل الإمبراطور البيزنطي يبعث نائباً له ليحكم إيطاليا باسمه.
وكان ضعف النائب الإمبراطوري وافتقاره في معظم الحالات إلى المال والرجال يساعد على ازدياد نفوذ البابا في معظم الأنحاء المجاورة لروما، كما أن غريغوري عمل على نشر المسيحية في مناطق جديدة في أوروبا، مثلما فعل مع القوط في إسبانيا، ومع الساكسون في إنكلترا، ما أدى إلى توسيع نطاق سلطته في تلك الأماكن تحديداً.
وعام 800، وفي ظل خلافات كبيرة مع الإمبراطور البيزنطي، قام البابا ليو الثالث بتتويج ملك فرنسا شارلمان، بتاج الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ما دعم من سلطة البابوية وتفوقها على السلطة الزمنية، بحسب ما يذكر الدكتور الباز العريني في كتابه "تاريخ أوروبا في العصور الوسطى".
وبحسب ما يذكره رزق مرقص، ظلت سلطة بابا روما تتسع شيئاً فشيئاً بعد غريغوري الأول، ووصلت إلى بعض الممارسات الزمنية التي كانت من قبل في يد الإمبراطور وحده، من ذلك أن البابا يوحنا السادس، في بدايات القرن الثامن الميلادي، باشر عملية جمع الضرائب، كما عقد بعض المعاهدات السياسية مع اللمبارديين.
هذا التغيّر الكيفي الذي وقع في صلاحيات وحدود السلطة البابوية، يشرحه ويل ديورانت في كتابه "قصة الحضارة". يذكر المؤرخ الأمريكي أن حالة الحرب الدائمة بين البيزنطيين واللمبارديين في إيطاليا تسببت في إحداث فوضى عارمة حدت بصغار الملاك للجوء إلى الأساقفة ورجال الدين طمعاً في حمايتهم، فتنازلوا عن أراضيهم للكنيسة، ورضوا أن يعملوا كمستأجرين في تلك الأراضي، ما أعطى ثروات ضخمة لرجال الدين، فصاروا بمرور الوقت من أصحاب السلطة الزمنية.
تطوّرت سلطة البابا الزمنية شيئاً فشيئاً، واصطدمت في الكثير من الأحيان بنفوذ الإمبراطور البيزنطي، وظهرت في العديد من التجليات على امتداد فترة العصور الوسطى، منها الحرص على جمع الضرائب وشن الغارات على المدن الإيطالية القريبة من روما، وصراعه الدائم مع أباطرة وملوك أوروبا، وإصدار باباوات روما قرارات الحرمان الكنسي بحق أعدائهم، ومنها دعم الحروب الصليبية في المشرق الإسلامي، ومساندة حروب الاسترداد في شبه الجزيرة الأيبيرية، هذا بالإضافة إلى تعقب المفكرين والعلماء الذين خالفوا الاعتقادات الدينية السائدة، وإقامة المجامع الكنسية للحفاظ على ما اعتبرته الكنيسة "الدين القويم".
الإصلاح الديني والفصل بين الدين والسياسة
ظلت البابوية تحتفظ بسطوتها حتى بدايات القرن السادس عشر الميلادي، عندما اندلعت حركة الإصلاح الديني.
يذكر الدكتور عبد الله أبو عزة، في كتابه "حوار الإسلام والغرب"، أن بوادر تلك الحركة ظهرت على يد رجل الدين الألماني مارتن لوثر الذي اعترض على بيع الكنيسة لصكوك الغفران، واستاء من مظاهر الفساد والانحلال الأخلاقي التي لاقاها في روما إبان زيارته لها.
في 31 أكتوبر 1517، أعد لوثر قائمة تحتوي على 95 اعتراضاً، وقام بتعليقها على باب كنيسة مدينة ويتنبرغ، لتبدأ بذلك موجة عنيفة من المواجهة بين الكنيسة الكاثوليكية من جهة ولوثر وأتباعه والفلاحين المتأثرين بأفكاره من جهة أخرى.
الحركة التي بدت في بدايتها عفوية وبسيطة، سرعان ما تطورت ليشترك فيها العديد من المصلحين المسيحيين في شتى أنحاء أوروبا، وكان من أبرزهم، السويسري هولدريش زوينغلي، والفرنسي جون كالفن، وعُرف أتباع تلك الحركة باسم البروتستانت، وكانوا يعترضون على سلطة البابا الزمنية والروحية.
ويذكر ممدوح الشيخ في كتابه "مدخل إلى ثقافة قبول الآخر: رؤية إسلامية"، أنه وعلى امتداد القرن السادس عشر، نجحت البروتستانتية في استقطاب المزيد من الأتباع في أماكن متفرقة من العالم المسيحي الغربي، وهو ما نتج عنه بالتبعية، اندلاع عدد من الحروب بين البابوية والإمبراطورية الرومانية المقدسة والدول الكاثوليكية مثل إسبانيا والمجر والنمسا من جهة والقوى البروتستانتية وحلفائها مثل السويد وفرنسا والمقاطعات الألمانية وإنكلترا من جهة أخرى، وامتدت تلك الحروب بين عامي 1618 و1648، فعُرفت باسم حرب الثلاثين عاماً.
ونتج عن عداء البروتستانتية للتسلط الكنسي الكاثوليكي إقبال الملوك والأمراء المعادين للكنيسة أو المتصارعين معها على السلطة على اعتناقها والدفاع عنها بكل قوة، لأن الانضمام للحظيرة البروتستانتية كان يعني بالتبعية التخلص من سلطة البابا بشكل كامل ومطلق.
ووضح ذلك في حالات بعينها، من أهمها انفصال الكنيسة الأنغليكية في إنكلترا عن الكنيسة الكاثوليكية في عهد هنري الثامن، في النصف الأول من القرن السادس عشر، ومبادرة الأمير فريدريتش الثالث حاكم سكسونيا التي كفلت الحماية اللازمة لبدايات الحراك البروتستانتي.
وعام 1648، وضعت تلك الحرب أوزارها، بعد عقد صلح وستفاليا. ويذكر الدكتور عدي محسن غافل، في بحثه "صلح وستفاليا وأثره في إنهاء الصراع الديني في أوروبا"، أن النتائج الأبرز لهذا الصلح تمثلت في وضع الطوائف المسيحية الغربية الثلاث، الكاثوليكية واللوثرية والكالفينية، تحت مظلة التسامح الديني، وتفكيك وإضعاف كل من الإمبراطورية الرومانية المقدسة من جهة والبابوية في روما من جهة أخرى، بحيث تم السماح لظهور الدولة القومية الحديثة التي لا تعتمد على الدين أو المذهب، وتم تجريد البابا من سلطته الزمنية، مع الاحتفاظ بسلطته الروحية الإرشادية على أتباعه من الكاثوليك، وهو الأمر الذي ساعد بشكل كبير في إقرار مبادئ الفصل بين الدين السياسة في أوروبا، والتقدم بشكل متسارع نحو تطبيق النظام العلماني.