منذ اليوم الأول لخروج نظرية التطور إلى النور، لم تسلم النظرية من كونها محورا للكثير من الجدالات وهدفا للعديد من أسهم النقد وأحيانا النقض. لم يشمل التشكيك في نظرية التطور مخرجاتها أو مقولاتها الرئيسية فحسب، بل امتد ليشمل الفلسفة التي تقوم عليها النظرية ابتداء وطرائق الاستدلال التي تستند إليها والآثار العلمية التي يزعم مروجوها أنها تترتب عليها.
كُتبت مئات الأوراق العلمية والكتب في نقد النظرية، "صندوق داروين الأسود" لمايكل بيهي، و"التطور نظرية علمية أم أيدولوجيا" ليلماز عرفان، و"التطور لا تزال نظرية في أزمة" لمايكل دانتون، وغيرهم من عشرات الكتب المترجمة ومئات الكتب والأبحاث غير المترجمة. يستعرض موقع مؤسسة "ديسكفري" (Discovery) وحده أكثر من 100 ورقة علمية محكمة منشورة في مجلات علمية موثوقة كلها تتفق على فكرة واحدة: لا يمكن للنظرية الداروينية العمياء أن تفسر الوظائف الحيوية للكائنات الحية، وإنما لا بد من وجود "سبب ذكي" لظهور هذه الكائنات[1].
في هذا التقرير، نستعرض معا خمسة كتب تُرجمت حديثا إلى العربية تساعد القارئ العربي في التعرف إلى أبرز أوجه النقد وأكبر الأزمات والتحديات التي تواجهها النظرية، والتي ألّفها مجموعة من المتخصصين والباحثين الذين يعتقدون ببطلان النظرية بالكلية كنظرية تفسيرية لكيفية ظهور التنوع الشديد الشاسع للكائنات الحية على وجه الأرض.
واحد من أشهر الكتب في نقد نظرية التطور وأسهلها للقارئ غير المتخصص. يصطحبنا المؤلفان في هذا الكتاب لسبر أغوار التاريخ تارة، عبر التنقيب بطبقات الصخور القديمة والعظام الأحفورية المتحجرة، وتارة أخرى يأخذنا في رحلة مجهرية لفحص أدق مقومات الحياة وكيف يمكننا قراءة شهادتها عن التصميم وغايته.
يقع الكتاب في 450 صفحة تقريبا من الحجم المتوسط، وهو مناسب للمتخصصين والقراء العاديين على حدٍّ سواء. سيجد فيه المتخصص المصادر المطلوبة لتوسيع قاعدة بحثه في نقد التطور، كما أن القارئ العادي سيستمتع برحلة شائقة تبدأ من طبقات الأرض ثم تدخل في نواة الخلايا وتصل إلى تكامل التراكيب الفسيولوجية وتعقيدها غير القابل للاختزال وتصل به إلى نشأة الحياة الأولى على الأرض حتى يستقر في ختام الرحلة مع نقاش حول فلسفة العلم والتوظيف الأيديولوجي للعلوم.
يتميز الكتاب بلغته السهلة والمناسبة لغير المتخصصين، مع عمقه على مستوى التحليل والنقد، وهو وجبة دسمة وخفيفة في الوقت ذاته، تقحم القارئ في الجدل الدارويني/الخلقوي دون إثقال عليه بتفاصيل يمكنه الاستغناء عنها، فمثلا يتحدث الفصل الأول عن أصل الإنسان بطريقة قصصية ممتعة، ثم ينتقل بسلاسة إلى مسألة التشابه الجيني بين القرود والإنسان، وبعدها يندمج القارئ مع نقاش شائق حول الدماغ واللغة والعقل، ثم يجد القارئ نفسه في سفينة الأخلاق يبحر بها مع الكاتب في فلسفة الأخلاق ورؤية التطوريين لها، دون أن يشعر القارئ بأي صعوبة في الانتقال من موضوع إلى آخر، وهكذا ديدن الكتاب في كل فصوله.
ويذكر المؤلفان في البداية أن الكتاب "ليس مجرد نقد للتطور، وإنما هو تعبير عن حقيقة نراها بأعيننا في كل علم الأحياء: التصميم. إن التصميم أصبح جزءا من العلم بالضرورة، ولا يمكن فهم العلوم إلا من خلال التصميم، وهو الأمر الذي طالما أنكره التطوريون قائلين بأن علم الأحياء هو علم لدراسة البنى العبثية التي تطورت بشكل عشوائي إلى نتيجة عشوائية، الأمر الذي يخالف الحقيقة تماما".
يقدم لنا عبد الله الشهري في مقدمته لترجمة الكتاب هدف الكتاب الرئيسي قائلا: "تدور الرسالة الأساسية لكتاب أيقونات التطور حول فكرتين جوهريتين: الأولى هي إبراز مقدرة خبراء العلم الطبيعي على توظيف العلم توظيفا أيديولوجيا متى أرادوا ذلك أو احتاجوا إليه. وأما الفكرة الثانية فهي إبراز قابلية العلم الطبيعي نفسه لأن يتحول من خلال نظرياته وفرضياته ومؤيديه إلى أساطير ذات أقانيم وأيقونات، ومرويات وسرديات، ورموز وإشارات خاصة".
يذكر ويلز أن أغلب التطوريين يعتمدون على أيقونات ثابتة من أجل إثبات صحة رؤيتهم، مثل تجربة يوري-ميلر في تخليق الكائنات الحية من العناصر غير الحية، ومخطط شجرة تطور الحياة، وتشابه بنى العظم بين الكائنات الحية، وعصافير داروين، وغير ذلك. وعبر اثني عشر فصلا وبلغة سهلة تناسب المبتدئين في التعرف على النظرية، ينقد ويلز الأيقونات الرئيسية للتطور واحدة تلو الأخرى، ويوضح العوار الكبير في الاستدلال بهذه الأيقونات، بدءا من التوظيف الأيديولوجي للعلم، إلى استحالات صحة القرد المزعوم تطور الإنسان منه، مرورا بذباب الفاكهة رباعي الأجنحة، وأحافير الأحصنة في السجل الأحفوري، وعصافير داروين، والعث الإنجليزي المنقط، وغير ذلك.
وفي عام 2017م صدر الجزء الثاني من الكتاب بعنوان "علم الزومبي (Zombie Science): أيقونات أخرى للتطور"، وقد قدم الكاتب فيه تحذيرا لافتا في بدايته، إذ ذكر أن ذلك الكتاب: "غير صحيح سياسيا، بل خطير. وإذا رُئيت وأنت تقرؤه في الجامعة فسيُعاني مشوارك المهني من الاضطراب. لذلك أنصحك بإخفاء الكتاب تحت غلاف آخر، وفي الصفحة 189 قدمت لك كيف تصنع غلافا ورقيا زائفا". حصل ويلز على شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا في البيولوجيا الجزيئية والخلوية، وهي الشهادة الثانية له بعد شهادته في الدراسات الدينية.
ذكر تشارلز داروين نفسه في كتابه "أصل الأنواع" أن الكائنات الحياة تتطور ببطء، وتظهر الأنواع الجديدة عبر ملايين السنين بشكل تدريجي ومتسلسل، أما وجود قفزة مفاجئة ظهرت خلالها الكائنات الحية بشكل كثيف ومفاجئ فهو أمر يُسقط النظرية تماما، وقد نظر داروين لهذا الحدث على أنه شذوذ مقلق يرجو من الاكتشافات الأحفورية المستقبلية أن تقضي عليه نهائيا.
من أجل هذه الثغرة الكبيرة في النظرية كتب ستيفن ماير هذا الكتاب، فهو يركز على فترة حاسمة من التاريخ الجيولوجي ظهرت فيه أعداد هائلة من الأشكال الحيوانية فجأة، ودون أسلاف تطورية محفوظة في السجل الأحفوري، وهو الحدث الغامض الذي يُرمز له عادة بالانفجار الكامبري (Cambrian Explosion). وهي مجموعة ضخمة من الحفريات يعود عمرها إلى نحو 550 مليون سنة مضت في حقبة جيولوجية تسمى بالحقبة الكامبرية (Cambrian Period) وتمتدّ لنحو 65 مليون سنة.
فطبقا للمعلومات المتاحة والسجل الأحفوري الموجود حاليا، تندر في عصر ما قبل الكامبري شعب الحيوانات متعددة الخلايا بشدة، في حين ظهرت الكائنات معقدة التركيب خلال الانفجار الكامبري بشكل فوري ومفاجئ دون أي أثر متدرج لظهورها، ثم في مدة لا تقل عن 10 ملايين سنة -وهذا عمر قصير جدا قياسا بالأزمنة المفترضة للتطور- وبعض العلماء يقدّرونها بـ 5 ملايين سنة فقط[2]، تفرّعت معظم الشعب الحيوانية الحية اليوم بالإضافة إلى بعض الشعب المنقرضة، ومثّلت هذه الحفريات صدمة شديدة للمجتمع التطوري، إذ تدلّ الحفريات على أكثر من 41 شعبة من شعب الحيوانات، لكل شعبة أسلوب بناء أو مخطط جسدي فريد بذاته[3].
ومن هنا تأتي أهمية كتاب ماير، فبحسب ماير نفسه، فإن هذا الكتاب "يوثق شك داروين الأكبر، وماذا جرى له، ويختبر حدثا مهما في فترة حاسمة من التاريخ الجيولوجي، ظهرت فيه أعداد هائلة من الأشكال الحيوانية فجأة، ودون أسلاف تطورية محفوظة في السجل الأحفوري، وهو الحدث الغامض الذي عادة ما يُرمز له بـ "الانفجار الكامبري"".
بلغ الكتاب من الأهمية الحدّ الذي دفع فولف لونيش (Wolf Lönnig) كبير علماء البيولوجيا بمعهد "ماكس بالنك" ليقول عنه: "إن كتاب "شك داروين" إلى هذه اللحظة أحدث وأدق وأشمل مراجعة للأدلة المبثوثة في كافة المجالات العلمية ذات العلاقة خلال الأربعين سنة التي أمضيتها في دراسة الانفجار الكامبري. إنه بحث آسر في أصل حياة الكائنات الحية وحجة قاهرة لصالح التصميم الذكي"[4].
يصف الجزء الأول من الكتاب لغز الأحافير المفقودة التي ولّدت شكوك داروين الأولى، وهي الأسلاف المفقودة لحيوانات العصر الكامبري في السجل الأحفوري ما قبل الكامبري السابق، ومن ثم يسرد المحاولات المستمرة والفاشلة التي قام بها علماء الأحياء والأحافير لحل هذا اللغز. ويفسر الجزء الثاني الذي أسماه ماير "كيف تبني حيوانا" سبب تزايد حدة معضلة الانفجار الكامبري باكتشاف أهمية المعلومات للأنظمة الحية، حيث يعرف علماء الأحياء الآن أن الانفجار الكامبري لا يُمثل انفجارا لأشكال وبنى حيوانية جديدة وحسب، إنما هو انفجار معلوماتي، كان في الحقيقة أحد أكبر الثورات المعلوماتية في تاريخ الحياة.
يختبر الجزء الثاني من الكتاب مشكلة كيفية إنتاج المعلومات البيولوجية الضرورية عبر الآليات غير الموجهة -الانتقاء الطبيعي والطفرات العشوائية- لبناء الأشكال الحيوانية الكامبرية، وتشرح مجموعة الفصول هذه السبب الذي يجعل العديد من علماء الأحياء البارزين الآن يشككون في القدرة الخالقة للآليات الداروينية الحديثة، ويقدم ماير أربعة انتقادات لهذه الآليات بناء على الأبحاث البيولوجية الحديثة. ثم يختم الكتاب فصوله بعرض الطرح الذي يقدم حلا أوقع وأكثر فعالية لتفسير نشوء الحياة على سطح الأرض. ورغم أن الكتاب ضخم -تبلغ عدد صفحاته نحو 800 صفحة- فإنه مرجع لا غنى عنه في التعرف على مسألة الانفجار الكامبري والتحدي الهائل الذي تقدمه هذه الأحافير في مواجهة نظرية التطور.
"ليس الإنسان مجرد ناتج تطوري، إنه ثورة بكل المقاييس"[5]
جلبرت تشيرسترتون
تطرح نظرية التطور فكرة تستحقر يتمثل الموضوع المركزي لهذا الكتاب في نقد الرواية التي تقدمها نظرية التطور الدارويني عن أصل الإنسان وتطوره من سلالات حيوانية بين سائر الكائنات الحية. يستعرض دوجلاس آكس في بداية الكتاب الوقت المطلوب للطفرات المزعومة وفقا لنظرية التطور، وينقل لنا البحث المنشور في مجلة الوراثة التي قدّر فيها الباحثون أنه لكي تحدث طفرة واحدة في موقع ارتباط على شريط الحمض النووي وتستقر بثبات في سلالة الرئيسيات، فإن ذلك يحتاج إلى ستة ملايين سنة، وبعد ذلك قدر الفريق البحثي أن حدوث طفرتين ثابتتين سيستغرق 216 مليون سنة.
ويواجه آكس بصراحة شديد هذه الحقائق، قائلا إن "216 مليون سنة ستعيدنا وفقا للجدول الزمني التطوري إلى العصر الترياسي (Triassic Period) حيث ظهرت الثدييات لأول مرة، وطفرة واحدة أو طفرتان في ستة ملايين سنة لا تكفيان ببساطة لإنتاج التغيرات التشريحية الضرورية الست عشرة في الوقت المتاح".
وعلى هذا المنوال يستكمل آكس كتابه ويفند الاعتراضات على أدلته، بل ويواجه كل اعتراض في الناحية المقابلة، فكل استدراك تستدركه النظرية من أجل علاج ثغراتها، لا يجعل المشكلة أسهل وإنما يزيد من الأزمة تعقيدا ويجعل مساحة الغموض أوسع وأكثف، والشروط اللازمة لتحقيق النظرية أكثر صعوبة، بل واستحالة.
تلقى دوجلاس آكس درجة الدكتوراه من معهد كاليفورنيا للتقنية، وحصل على مقاعد بحثية ما بعد الدكتوراه في جامعة كامبردج ومركز كامبردج الاستشاري للأبحاث الطبية، وله عدة أبحاث محكمة منشورة في مجلة "الطبيعة" (Nature) وعدة مجلات أخرى. أما الفصل الأخير فتستعرض فيه آن جوجر، صاحبة الدكتوراه من جامعة واشنطن، الأدلة العلمية المثبتة، مستخدمة الأدوات الداروينية في الوقت ذاته، لتصل إلى استنتاج يؤكد عدم استحالة بدء سلالة البشر بالزوج الأول "آدم وحواء". وتعتمد جوجر بالأساس في عرضها على علم الوراثة السكاني الذي يستند إليه الكثير من التطوريين للترويج لفكرة أن البشر لا يمكن أن يكونوا قد انحدروا من زوج واحد من الناس. تخوض جوجر رحلة شائقة لدحض هذه المقولة وإثبات صحة فكرة الزوج البشري الأول الذي انحدرت منه سلالة الجنس البشري بأكمله.
يركز كيسي لسكين في هذا الكتاب على قضية الانتواع (Speciation)، أي ظهور أنواع جديدة في العزلة التكاثرية، والتي يروج لها التطوريون قائلين بأن العلماء استطاعوا أن يرصدوا تغيرات انتقل فيها كائن حي إلى نوع كائن حي آخر، ومن أشهر المصادر التي تروج لهذا الادعاء هو موقع "TalkOrigins" التطوري الشهير، وهو الموقع الذي يفند لسكين ادعاءاته ويدحضها واحدة تلو الأخرى.
يخبرنا لسكين أنه عند إجراء تحليل دقيق للمنشورات التقنية في الموقع، فإننا نكتشف أن ادعاءات الانتواع غير صحيحة على الإطلاق نظرا لعدة أسباب: فلا يوجد مثال واحد من الأمثلة كلها يدل على حدوث تغير بيولوجي واسع النطاق (Large-scaled)، كما أن أغلب الأمثلة لا تبين إنتاج أنواع جديدة وفقا للتعريف المعياري (مجموعة كائنات معزولة تناسليا)، وحتى المثال الوحيد الذي تم فيه إنتاج نوع جديد من النباتات عن طريق التهجين (Hybridation) وتعدد الصيغ الصبغية (Polyploidy)، فإنه لا يترتب عليه حدوث تغيير بيولوجي ذي قيمة.
ويختم لسكين مقدمة بحثه قائلا بأن "مثالا واحدا فقط قد وثق وجود نوع جديد فعليا، ولكن دراسات لاحقة قد عسكت نتيجته، وبالطبع لم يذكر الموقع تلك الدراسات.. إن هذا أمر يبدو كاحتيال". يقع الكتاب في نحو 100 صفحة من الحجم الصغير، وهو من ترجمة مركز براهين. وهو كتاب شديد التخصصية ولغته قد تصعب على القارئ العادي الذي لا يحمل فكرة عامة عن علمي الأحياء والكيمياء، لأن كيسي لسكين بدوره يحمل درجتي البكالوريوس والماجستير في علوم الأرض من جامعة كاليفورنيا حيث توسع في دراسة التطور، كما درس القانون في الجامعة نفسها أيضا، الأمر الذي ربما يكون مساهما في عدم قدرته على تجاوز حاجز التخصصية وتبسيط المحتوى إلى القارئ العادي. وقد عمل لسكين مديرا للأبحاث الجيولوجية في معهد سكريب (Scripps) لعلوم المحيطات، ثم عمل منسق أبحاث في مركز العلوم والثقافة في معهد ديسكفري (Discovery)، قبل أن يتفرغ للمناظرة والبحث في نقض التطور.