مترجم: الثقوب السوداء تنمو باستمرار.. لكن ما الذي يمنعها من ابتلاع الفضاء؟

في الجمعة ٢٨ - ديسمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

حيط الألغاز بالثقوب السوداء وسلوكياتها الغامضة، فهي إحدى الظواهر الكونية الأكثر غرابةً ورهبة في عالم الفيزياء.. لكن عالِم الفيزياء النظرية «ليونارد سسكيند» يطرح حلًا جديدًا للغزٍ قديم: كيف تستطيع الثقوب السوداء النموّ باستمرار دون أن تغيّر حجمها؟ وما الذي يحول دون توسّعها في كل مكان؟

تحفز هذه المسألة ظهور منظورٍ جديد حول الطبيعة الكمية للزمكان داخل الثقوب السوداء، وهو ما تتناوله الكاتبة والمحرّرة البارزة في مجلة «كوانتا» العلمية «ناتالي وولتشوڤر» ضمن تقريرها المنشور على مجلة «ذي أتلانتيك». هل تكون الفيزياء وصلت أخيرًا لتفسيرٍ مرضٍ للغز الثقوب السوداء؟

لماذا لا تبتلع الثقوب السوداء كل الفضاء؟ وكيف لا تستمر بالتوسّع حتى إلى ما لا نهاية؟ يمكن لهذه الأطروحة الجديدة أن توحّد أكبر نظريتين في الفيزياء في سياقها وتحلّ اللغز القديم

محاولة سسكنديّة

يعتبر «ليونارد سسكيند» واحدًا من أبرز علماء الفيزياء النظرية الأحياء، فهو أحد الرواد المؤسسين لنظرية الأوتار والمبدأ الهولوگرافي وغيرها من الأفكار الفيزيائية الكبرى المدروسة على مدى نصف القرن الماضي. يعمل «سسكيند» أستاذًا في جامعة ستانفورد ويبلغ من العمر 78 عامًا وهو  يطرح اليوم حلًا للغزٍ مهمّ طالَ الحديث عنه بشأن الثقوب السوداء. تكمن الإشكالية في أنه وعلى الرغم من أن هذه الأجسام الكروية الغامضة وغير المرئية تبدو ثابتةً في حجمها -كما تبدو من الخارج- إلا أن دواخلها تستمر في النموّ حجمًا إلى أبد الدهر. كيف يكون هذا ممكنًا؟

 

 

في سلسلةٍ من الأوراق البحثية والمواد، يضع «سسكيند» والمتعاونين معه احتماليّة أن الثقوب السوداء تنمو في الحجم نظرًا لكونها تزداد في التعقيد بصورة منتظمة. هذه الفكرة -رغم عدم إثباتها- تأجج طريقة جديدة في التفكير بشأن الطبيعة الكمية للجاذبية داخل الثقوب السوداء.

تفرّد

يمكن وصف الثقوب السوداء باعتبارها مناطق كروية الشكل ذات جاذبية شديدة لدرجة تمنع حتى الضوء من الهروب منها (ومن هنا جاء الاسم). اكتُشِفت للمرة الأولى منذ حوالي قرن بمثابة نتيجة مذهلة لمعادلات نظرية النسبية العامة لألبرت آينشتاين، ورُصدت منذ ذلك الوقت في جميع أنحاء الكون (عادةً ما تتكون من الانهيار الجاذبي الداخلي للنجوم الميتة). تعادل نظرية آينشتاين قوة الجاذبية مع منحنيات الزمكان، مشكّلة نسيج الكون رباعي الأبعاد، لكن الجاذبية تصبح قوية جدًا في الثقوب السوداء لدرجةٍ ينحني بها نسيج الزمكان إلى نقطة الانهيار، حيث نقطة «التفرّد» الكثيفة إلى ما لا نهاية في مركز الثقب الأسود.

الثقب الأسود كما يظهر من تلسكوب ناسا للتحليل الطيفي النووي، المصدر

وفقًا للنسبية العامة، فإن الانهيار الجاذبي الداخلي لا يتوقف أبدًا. على الرغم من أن الثقب الأسود يبدو ثابت الحجم من الخارج، إلا أنه يتوسع قليلًا حينما تسقط أشياء جديدة داخله، إذ ينمو حجمه الداخلي أكبر وأكبر مع تمدد المساحة نحو النقطة المركزية.

لتخيّل كيف يكون هذا النمو الأبدي تورد الكاتبة مثالًا مبسطًا: تخيل الثقب الأسود قمعًا يتمدد هبوطًا من ورقة ثنائية البعد تمثل نسيج الزمكان؛ يصبح القمع أعمق وأعمق بحيث لا تصل الأشياء الساقطة أبدًا إلى نقطة التفرّد الغامضة في الأسفل.  في الواقع، الثقب الأسود هو قمع يتمدد داخلًا من جميع الاتجاهات المكانية الثلاثية. تدعى الحدود الكروية المحيطة بالثقب الأسود باسم «أفق الحدث»، ممثلًا نقطة اللاعودة.

لمسة كموميّة

تسرد الكاتبة تاريخ وعينا بالثقوب السوداء، فمنذ عام 1970 على الأقل أدرك الفيزيائيون أنها لا بدّ أن أنظمة كمومية بشكلٍ ما-تمامًا مثل حال كل شيء آخر في الكون. ما تصفه نظرية آينشتاين بأنه زمكان ملتو في الداخل يُفترض أنه في الواقع موضع تجمّع أعداد هائلة من جسيمات الجاذبية المسمّاة «گرافيتون»، بصفتِه النظرية الكمومية الحقيقية للجاذبية. إن كان الحال كذلك، ينبغي تتبع جميع خصائص الثقب الأسود المعروفة إلى خصائص هذا النظام الكموميّ.

في الواقع، اكتشف الفيزيائي «جاكوب بيكنستاين» عام 1972 أن مساحة الثقب الأسود تتناسب مع الإنتروبي خاصته، وهو عدد مختلف الترتيبات المجهرية الممكنة لجميع الجسيمات داخل الثقب الأسود، أو كما يصفها المنظّرون الحديثون: سعة تخزين المعلومات لدى الثقب الأسود.

حفّزت هذه الفكرة عالم الفيزياء «ستيفن هوكنج» ليدرك بعد عامين أن الثقوب السوداء لها درجات حرارة، وبالتالي فإنها تشع حرارة. يتسبب هذا الإشعاع في تبخر الثقوب السوداء ببطء. أفضت هذه النتيجة إلى ظهور «مفارقة المعلومات» لدى الثقوب السوداء، وهي مفارقة نوقشت باستفاضة وإسهاب لسنواتٍ طويلة من أجل فهم ما يحدث للمعلومات التي تقع في الثقوب السوداء. تقول ميكانيكا الكم إن الكون يحفظ جميع المعلومات عن الماضي؛ لكن ماذا عن المعلومات المتعلقة بالأشياء الساقطة داخل الثقب الأسود والتي تبدو كما لو أنها تنزلق إلى الأبد نحو نقطة التفرد المركزية، كيف تتبخر وتتلاشى أيضًا؟

تقول قوانين ميكانيكا الكمّ أن المعلومات لا تضيع أبدًا، لكن هوكنگ اقترح أن الثقوب السوداء تشعّ حرارة وتتبخر وتتلاشى مع مرور الوقت، ومن هنا نشأت مفارقة فقدان المعلومات في الثقب الأسود التي شغلت علماء الفيزياء لعقود.

أبقت العلاقة بين مساحة سطح الثقب الأسود ومحتواه المعلوماتي علماء الجاذبية الكمومية مشغولين لعقودٍ من الزمن. قد يتساءل المرء في هذا السياق: مع ماذا يتناسب الحجم المتزايد للداخل من الناحية الكمومية؟ يعقّب «سسكيند»: «لسببٍ ما، لم يفكر أحد حقًا بما يعنيه ذلك –بمن في ذلك أنا نفسي لسنوات عدّة- ما هو الشيء الذي ينمو بالضبط؟ كان يجب أن يكون هذا أحد الألغاز الرائدة في فيزياء الثقوب السوداء».

 

 

أدت فكرة «ستيفن هوكنگ» إلى ظهور مفارقة المعلومات لدى الثقوب السوداء، وهي المفارقة التي قضى العلماء قرابة نصف العقد في محاولة حلّها

التعقيد حلًا

في السنوات الأخيرة ومع التوجه نحو الحوسبة الكمومية، شرع الفيزيائيون باكتساب رؤى جديدة حول الأنظمة الفيزيائية المختلفة مثل الثقوب السوداء من خلال دراسة قدراتها على معالجة المعلومات-كما لو أنها حواسيب كمومية. دفعت هذه الزاوية «سسكيند» والمتعاونين معه لتحديد مرشّح جديد للسمة الكموميّة المتطورة خاصة الثقب الأسود والتي يستند إليها الحجم المتنامي كما تشير الكاتبة.

يقول المنظّرون أن المتغيّر الفعليّ هنا هو «تعقيد» الثقب الأسود – وهو تقريبًا قياس عدد الحسابات الضرورية لاستعادة الحالة الكمومية الأولية للثقب الأسود في اللحظة التي تكوّن بها. بعد تكون الثقب الأسود تتفاعل الجسيمات الموجودة داخله مع بعضها البعض، وتصبح المعلومات حول حالته الأولية أكثر تشوشًا حتى. وبناء على ذلك يزداد التعقيد باستمرار.

يقترح «سسكيند» أن الثقوب السوداء تتوسع بالفعل، لكن عبر زيادة التعقيد داخليًا، بعبارةٍ أخرى: تتوسع الثقوب السوداء نحو الداخل، وليس إلى الخارج.

لجأ «سسكيند» والمتعاونون معه إلى استخدام النماذج الممثلة للثقوب السوداء باعتبارها «هولوگرام»، وتبين معهم أن تعقيد الثقب الأسود وحجمه ينموان بالمعدّل نفسه، ما يدعم الفكرة القائلة بأن أحدهما يرتكز لى الآخر. كان «بيكنستاين» قد حسب أن الثقوب السوداء تخزن أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات بالنظر إلى مساحتها السطحية، إلا أن نتائج «سسكيند» تقترح أنها تنمو أيضًا من جهة التعقيد بأقصى معدّل سرعة ممكن ومسموح به في القوانين الفيزيائية.

أصداء وتداعيات

تورد الكاتبة آراء الفيزيائيين باقتراح «سسكيند» وما يعنيه إن كان صحيحًا، الفيزيائي النظري في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا «جون بريسكيل» مثلا هو أحد أول المعجبين بالاقتراح، يدرس «بريسكيل» الثقوب السوداء أيضًا باستخدام نظرية المعلومات الكمومية ويجد أن فكرة «سسكيند» مثيرة للاهتمام للغاية، مضيفا: «إنه أمرٌ رائع حقًا خصوصًا أن مفهوم التعقيد الحسابي هذا يعتبر أمرًا يمكن أن يفكر به عالم الكمبيوتر وليس من جعبة حيل الفيزيائي المعتادة، ويمكن أن يتناسب-المفهوم- مع أمرٍ طبيعي جدًا لشخصٍ يعرف النسبية العامة وقادر على التفكير بها»-تحديدًا نمو دواخل الثقوب السوداء.

ما يزال الباحثون متحيّرون بشأن الآثار المترتبة على أطروحة «سسكيند». يقول «آرون وول» الباحث في الفيزياء النظرية في جامعة ستانفورد (وسينتقل قريبًا إلى جامعة كامبردج) أنه: «على الرغم من أن الاقتراح مثير، إلا أنه ما يزال تخمينيًا إلى حدّ ما، وربما لا يكون صحيحًا». يتمثل أحد التحديات في تحديد التعقيد في سياق الثقوب السوداء في سبيل توضيح كيف يمكن لـتعقيد التفاعلات الكمومية أن يؤدي إلى زيادة الحجم المكاني وفقًا  لـ«وول».

وجهة نظر أخرى تأتي من «دوگلاس ستانفورد» المتخصص في الثقوب السوداء في معهد الدراسات المتقدمة في برينستون (معهد أبحاث يقع في نيوجيرسي-الولايات المتحدة الأمريكية).  يعتقد «دوگلاس ستانفورد» أن هنالك درسًا محتملًا من هذه الأطروحة الجديدة يكمن في: «أن الثقوب السوداء لديها نوع من الساعة الداخلية والتي تضبط الوقت لفترة طويلة جدًا. هي تعقيد الحالة بالنسبة لنظامٍ كمومي عاديّ، وهي حجم المنطقة خلف الأفق بالنسبة للثقب الأسود».

قد تساهم أطروحة «سسكيند» في مسألة توسع كوننا نفسه، والذي يبدو أنه ينمو بدورِه

إن كان التعقيد هو الأساس الذي يستند إليه الحجم المكاني في الثقوب السوداء، فإن «سسكيند» يتطلع إلى وجود عواقب لذلك على فهمنا لعلم الكونيات بشكل عام. وكما يوضح: «ليست دواخل الثقوب السوداء التي تنمو مع مرور الوقت فقط، بل فضاء الكونيات أيضًا ينمو مع الوقت. أعتقد أنه سؤال مثير للاهتمام جدًا وللغاية فيما إذا كان النمو الكوني للفضاء مرتبطًا بنوعٍ ما من التعقيد، وما إذا كانت الساعة الكونية، تطور الكون، مرتبطةً بتطور التعقيد. أنا لا أعرف الإجابة في هذه النقطة».

اجمالي القراءات 2328