مقدمة
1 ـ فى المقال السابق (الكفر السلوكى وملامحه فى قصة فرعون موسى ) تحدثنا عن (الإكراه فى الدين ) أو ( الفتنة ) التى بها يتميز الكفر السلوكى عن الكفر العقيدى ، وقلنا : (هناك كافر بعقيدته يقدس البشر والحجر ولكنه لا يفرض عقيدته على الغير مؤمنا بحق كل انسان فى معتقده ) وهذا هو الكفر العقيدى الذى ينتمى اليه الصوفية المسلمون ، وينتمى معظم شعوب العالم المتحضرة التى تحترم حقوق الانسان. (وهناك من يفرض عقيدته على الاخرين بالاكراه فى الدين مستعملا القوة والقهر والارهاب ، وهذا هو الكافر بالسلوك ، ونحكم عليه بسلوكه ، ويتدرج كفره السلوكى حسب درجة اعتدائه وتسلطه على الاخرين. الوهابية السنية فى عصرنا أهم مثال لهذا الكفر السلوكى ، وقد اتسع ضحاياهم فى العالم كله ، وأكثر ضحاياهم من المسلمين داخل وخارج المملكة السعودية ، و القرآنيون فى مقدمة ضحاياهم .باختصار فالفتنة أوالاكراه فى الدين هى الفارق بين نوعى الكفر العقيدى والسلوكى.) ثم عرضنا أبرز مثال فى القرآن الكريم لملامح الكفر السلوكى فى قصة فرعون موسى ، وسرنا مع تأثير الاكراه فى الدين فى إشاعة وباء الخوف حتى لم يسلم منه فرعون ذاته ، وموسى وهارون عليهما السلام ، والتأثير السلبى على بنى اسرائيل فى حياة موسى الذى أوقع ببنى اسرائيل صرعى لثقافة العبيد وانتهى بهلاكهم تيها فى الصحراء .
وهذا المقال لا يزال يتعرف من القرآن الكريم على بقية الفوارق بين الكفر السلوكى و الكفر العقيدى .
أولا : ـ لمحة لمعانى الكفر والشرك فيما يخص العقيدة والايمان القلبى :
1ـ الكفر و الشرك سواء ، هما قرينان فى مصطلح القرآن لذلك يأتيان مترادفين فى النسق القرآنى. ( 9 / 1 ، 2 ، 17 ) ( 40 /42 )
2 ـ الكفر فى اللغة العربية يعنى التغطية, أى كفر بمعنى غطى , والله تعالى وصف المزارعين بالكفار، فالزارع كان يطلق عليه فى اللغة العربية "كافر" لأنه " يكفر الزرع " اى يغطيه بالتراب والماء لينمو. وجاء هذا المعنى فى القرآن الكريم ( 57 / 20 ).
3 ـ لقد خلق الله تعالى البشر بفطرة نقية لا تعرف تقديسا الا لله تعالى ولا تعرف غيره جل وعلا ربا والاها و معبودا ووليا وشفيعا ونصيرا ( 30 / 30 ). ثم تأتى البيئة الأجتماعية وموروثاتها الدينية فتغطى تلك الفطرة النقية بالاعتقاد فى آلهة وأولياء و شفعاء ينسبونهم الى الله تعالى زورا، بزعم أنها تقربهم الى الله تعالي زلفا أو أنها واسطة تشفع لديه. ذلك الغطاء او تلك التغطية هى الكفر بالمعنى الدينى . و فى نفس الوقت فان ذلك هو أيضا شرك لأنه حول الألوهية الى شركة وجعل لله تعالى شركاء فى ملكه ودينه.
4 ـ أى أن الكفر فى داخله ايمان ولكنه قليل ، وكذلك الشرك ، ففى داخل الكفر والشرك بعض الأيمان حيث يؤِمنون بالله ايمانا ناقصا اذ يجعلون معه شركاء فى التقديس , أو يأخذون من مساحة التقديس ـ التى ينبغى أن تكون لله تعالى خالصة ـ ويعطونها لمن لا يستحقها من البشر والحجر. وبهذا يجتمع ذلك الايمان ـ الناقص ـ بالله تعالى مع الايمان بغيره أي بتأليه البشر و الحجر. ولهذا وصف الله تعالى أكثرية البشر بأنها لا تؤمن بالله إلا أذا آمنت معه بغيره ، وهذا هو حال المشركين (وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ) يوسف / 106 ) ، فالشرك يعنى وجود إيمان بالله لكنه إيمان ناقص حيث يؤمن بالله تعالى ويؤمن أيضا بوجود آلهة أخرى معه.
5 ـ وهذا الايمان الناقص فى عقيدة الشرك سيؤدى بأصحابه الى النار يوم القيامة .
والله تعالى لا يأبه بذلك الايمان القليل لأنه " كفر" أى غطى الفطرة بتقديس غير الله . والفطرة كما جاء فى القرآن الكريم تجعل الالوهية لله وحده .
وقد لعن الله تعالى الكافرين بسبب إيمانهم القليل بالله (وَلَكِن لَّعَنَهُمُ اللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً) ( النساء46.) وأكد أن أيمان الكافرين القليل لن ينفعهم يوم القيامة (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ) ( السجدة29 ).
ثانيا : بين الكفر السلوكى الظالم والكفر العقيدى المسالم للناس:
1 ـ صاحب العقيدة الصحيحة لا يمكن ان يفرض عقيدته على الناس لأنه لا بد أن يلتزم بشرع الله جل وعلا فى انه " لا إكراه فى الدين"، وبمجرد ارتكابه جريمة الاكراه فى الدين فقد خرج عن الاسلام .
صاحب العقيدة الفاسدة الكافرة قد يحتفظ بها لنفسه مجرد تأليه للبشر والحجر ، مع احترامه لحق الآخرين فى اختيار عقائدهم ، هنا يظل كافرا بعقيدته ، وهو شأن كل البشر مسئول فقط أمام الله جل وعلا عن إختياره العقيدى ، وليس لأحد أن يفتش عن قلبه او أن يتدخل فى اختياره الدينى طبقا لتشريع الاسلام .
وهناك صاحب العقيدة الفاسدة التى (يعمل ) على نشرها بالضغط والارهاب.
أى لدينا نوعان من الكفر : الكفر العقيدى المسالم ، والكفر السلوكى العقيدى المعتدى الظالم ، ونختصره فنقول ( الكفر السلوكى ) لأن الذى يهمنا ليس كفره القلبى ولكن إعتداءه وسلوكياته الاجرامية ، نتعامل فقط مع الكفر السلوكى فقط .
2 ـ وبالعمل أوالسلوك يختلف الكفر العقيدى عن الكفر السلوكى .
الكفر العقيدى محله القلب لأنه إيمان بغير الله مع الله ، وهذا الكفر يزيد وينقص ، ولا يعلم حقيقته إلا الله جل وعلا الذى يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور (غافر 19) وليس لنا أن نفتش عن حقائق الايمان القلبى سواء قلّ أم كثر ، لأن الله جل وعلا يقول (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ)(النساء 25 ).
ثالثا : الكفر السلوكى يجمع بين الكفر القلبى الاعتقادى مع الكفرالسلوكى الظالم
1 ـ هذا الكافر المسالم الذى يحترم حقوق البشر واختيارهم الدينى والعقيدى يظل كافرا بالعقيدة فقط ، فإذا عمل على نشر دعوته بالاكراه فى الدين والصّد عن سبيل الله تعالى والظلم فقد جمع بين الكفر القلبى والكفر السلوكى. فالواقع أن الكفر السلوكى يجمع بين الكفر العقيدى القلبى مع الكفر السلوكى بالظلم للناس وإكراههم فى الدين.
وفيما يخص تعامل الدولة الاسلامية كدولة مسلمين مسالمين مع الكفر السلوكى فان الله تعالى يصف الكفرالسلوكى بصفات مثل الاجرام والظلم والاعتداء،أى يصفهم بصفات يمكن أن التحقق منها وإثباتها ثم الحكم عليها فى المحاكم لأنها أفعال (مجرّمة ) بالقانون الوضعى نفسه فى أى دولة ديمقراطية تحترم حقوق الانسان .
2 ـ قد يكون الكافر المسالم للناس (أى الكافر بعقيدته فقط ) غير مهتم بموضوع الدين أصلا ، شغلته الدنيا عن معرفة الدين الصحيح من الفاسد ،ولا وقت لديه للنقاشات الدينية او معرفة الصحيح من الباطل.
وقد يكون ملحدا يرى دينه فى الالحاد مع احترامه لحرية الآخرين الدينية ومسالمته للجميع.
ولكن الكافر بعقيدته وسلوكه المتعدى الظالم يختلف عن الكافر المسالم للناس فى انه يرى أن واجبه الدينى إلزام الاخرين بعقيدته التى يعتقد صوابها المطلق ، وأنه الوكيل عن الله جل وعلا فى حساب الناس على عقائدهم ودقائق إيمانهم ، وكيفية أداء صلواتهم و شعائر دينهم.
3 ـ هذا الكافر الظالم المعتدى بسلوكه يرفع نفسه فوق الله جل وعلا .
فإذا كان الله جل وعلا قد منح الناس حرية الاعتقاد فان الكافر بسلوكه وعقيدته يمنح نفسه سلطة اعلى من سلطة الخالق جل وعلا ،إذ يرفض منح الناس تلك الحرية الدينية .
وإذا كان الله جل وعلا قد حدد يوما للدين أسماه ( يوم الدين ) ، فإن الكافر بسلوكه وعقيدته يعجل بحساب الناس فى هذه الدنيا فيقيم محاكم تفتيش لمن يخالف عقيدته ، ويحكم عليهم فيها بالكفر والقتل وشتى العقوبات ، وكل ذلك لأغراض دنيوية ؛حرصا على سلطان قائم أو طلبا لسلطان قادم. هم ظالمون لله جل وعلا قبل أن يكونوا ظالمين للناس ، ولكن لا شأن لنا بظلمهم لله تعالى ، فهذا شأنهم مع الله تعالى يوم القيامة. لنا أن نحكم فقط على ظلمهم للبشر.
4 ـ هذا الكافر الظالم الذى يعتمد الاكراه فى الدين لا بد له من دين زائف يؤسس عليه سلطته الدينية و الزمنية لأن دين الله الحق يقف ضده على طول الخط . ثم لا بد له من فرض دينه الزائف على الناس ، ومنع الناس من مناقشة ذلك الدين خشية كشف زيفه. وفى وجود الاسلام ممثلا فى القرآن الكريم فلا بد له من الصّد عن القرآن وتجريم من يتمسك به وحده ، واضطهاد من يحتكم اليه وحده . وبالتالى يتألق هذا الكافر بسلوكه وعقيدته فى الشّر والصّد عن سبيل الله تعالى. وهذه من سمات من يجمع بين الكفر السلوكى والكفر العقيدى ،أى ( يدعو ) الى النار ، ويقوم بالصّد عن سبيل الله جل وعلا مستعملا كل الأساليب ، ناشرا الأكاذيب التى ينسبها لله تعالى ولرسوله معتبرا أنها (وحى ) كما يقول السنيون عن أحاديثهم الضالة .
5 ـ ومن حقائق القرآن الكريم أن الذى يجمع الكفر السلوكى والكفر العقيدى ويحترف الكذب على الله جل وعلا ويحترف التكذيب بآياته يظل متمسكا بهذا الكذب الى يوم الحساب ، أى يظل متمسكا بأنه على الحق الى درجة أن يكذب على الله جل وعلا يوم الحساب يزعم أنه على الحق.
يقول جل وعلا (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ) وقد تكرر هذا المعنى كثيرا فى القرآن الكريم تأكيدا على أن أظلم الناس لرب الناس هو من يفترى على الله جل وعلا وحيا كاذبا وفى نفس الوقت يكذّب بالقرآن الكريم الذى هو الحديث الوحيد الذى يتمسك ويؤمن به المسلم (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ )( الأعراف 185 ، المرسلات 50 ).
وتقول الاية التالية تصفهم يوم الحساب : (وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ )أى يسألهم الله جل وعلا ( مثلا ) عن مالك والشافعى وابن حنبل والبخارى ومسلم ..الخ ..الذين قدّسوهم واعتبروا كلامهم وحيا جعلوه يبطل (أى ينسخ بمفهومهم ) كلمات الله جل وعلا فى القرآن ، فماذا سيكون ردهم ؟: يقول جل وعلا : ( ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ )،أى يقسمون بالله تعالى أمام الله جل وعلا بأنهم ما كانوا مشركين . وهنا يتعجب رب العزة ، ويقول : (انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ) ( الأنعام 21 : 24 ) أى أدمنوا الكذب فانطبع فى قلوبهم حتى صدقوا أكاذيبهم ، وأضلوا أنفسهم بأنفسهم ، وما أغنى عنهم شيئا اعتقادهم فى شفاعة البشر وتقديس الحجر.
ينطبق هذا على المتدين بدين ارضى فاسد ، يطلق على الناس لحيته ، ويرتزق بالتدين السطحى ويؤسس له جاها بين الناس بذلك الاحتراف الدينى ..يظل فى غيه أسير أكاذيبه الى أن يلقى الله جل وعلا دون هداية، فمن يحترف إضلال الناس لا يمكن أن يهديه رب الناس، يقول تعالى (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ) ( النحل 37 )
6 ـ وقد سبق تحقيق معنى الاسلام الظاهرى والايمان الظاهرى بمعنى ايثار السلام و الأمن ، فكل شخص مسالم يأمنه الناس ويثقون فيه ويأمنون له يكون مسلما مؤمنا ظاهريا حسب سلوكه وعمله بغض النظر عن عقيدته ، وفى المقابل فان الاسلام والايمان العقيدى هو الاستسلام والانقياد لله تعالى وحده ، والايمان به وحده لا شريك له ، وأن هذا الايمان والاسلام القلبى لا يحكم عليه سوى رب العزة يوم القيامة.
لنا أن نحكم فقط على الايمان الظاهرى والاسلام الظاهرى بمعنى (الأمن والمسالمة وحسن السير والسلوك ) فيما يخص علاقتنا بالآخرين بغض النظر عن دينهم الرسمى والفعلى.
ولنا أن نحكم فقط على الكفر السلوكى الظاهرى المرئى لنا بمعنى (الإعتداء و الظلم و الاكراه فى الدين ) طبقا لما جاء فى تشريعات القرآن الكريم الخاصة بالتعامل مع المشركين. لا يهمنا معتقد الظالم المعتدى ولكن يهمنا إعتداءه على الناس المسالمين ظلما وعتوا وعدوانا .
أى هو موقف حقوقى قانونى مدنى وليس موقفا دينيا ، فكل القوانين البشرية العادلة وكل القيم الانسانية العليا وثقافة حقوق الانسان ومواثيقها الدولية تؤكد نفس الموقف.
وقد سبق رسول الله محمد عليه السلام بتطبيق ذلك فى دولته الاسلامية المدنية ، فى وقت كانت البشرية تعيش ظلمات العصور الوسطى.
ونأخذ أمثلة من أحوال المسلمين والدولة الاسلامية فى عهد الرسول محمد عليه السلام :
رابعا : كيفية تحديد الكفر السلوكى فى دولة النبى محمد عليه السلام
بالهجرة تكونت للاسلام والمسلمين دولة استطاعت بقيادة النبى محمد عليه السلام أن تطبق شريعة الاسلام الحقيقية، وكان هناك عقد وعهد وبيعة يتم على أساسها انتماء الفرد المسالم للدولة الاسلامية القائمة على العدل والحرية و السلام . وإذا كانت الهجرة أهم عوامل تاسيس هذه الدولة ومعيار الانتماء لها فإن الاسلام بمعناه السلوكى الذى يعنى السلام وعدم الاعتداء كان هو معيار المواطنة ، كما أن الاعتداء والاكراه فى الدين كان معيار تحديد العدو وتحديد الكفر السلوكى .
ونعطى أمثلة :
مع المنافقين النشطين ضد المسلمين داخل الدولة :
معظم المنافقين فضحتهم سلوكياتهم وأعمالهم المعادية للاسلام ، ونزل القرآن يحكى تآمرهم ، مع التأكيد على الاعراض عنهم إكتفاء بفضح تآمرهم . ولا عقوبة عليهم ولا مؤاخذة طالما لا يعتدون بالسلاح على المؤمنين ، وطالما لا يكرهون أحدا فى دينه أو ما يعرف بالفتنة فى الدين.
هم مواطنون مسلمون حسب الظاهر برغم أن الله تعالى يجعل من يموت منهم على نفاقه فى الدرك الأسفل من النار. ( النساء ـ 145 )
كانت العقوبات سلبية فى مواجهة سلوكياتهم المعادية طالما لم تصل الى حد رفع السلاح ضد الدولة، منها:
1 ـ الاعراض عنهم إذا حاولوا خداع المؤمنين بالحلف الكاذب بالله جل وعلا (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ) ( التوبة 95 ).
2 ـ وإن تقاعسوا عن القتال دفاعا عن أنفسهم وعن بلدهم فعقوبتهم هى منعهم من شرف القتال وعدم الصلاة عليهم عند الموت (فَإِن رَّجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَدًا وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ )( التوبة 83 ـ )
3 ـ وإن بخلوا ولم يعطوا الصدقات فعقابهم ألاّ تؤخذ منهم الصدقات (قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ ) ( التوبة 53 ـ )
4 ـ وإن أقاموا مسجدا للتآمر والاضرار بالمسلمين فالعقاب هو إمتناع النبى عن دخوله (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ) ( التوبة 107ـ ) .
تمتع المنافقون من ساكنى المدينة بحرياتهم الدينية والسياسية و فى التعبير عنها حتى تكونت منهم جماعات من الرجال و النساء تأمر بالمنكر وتنهى عن المعروف كيدا لرجال ونساء المسلمين الذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر (التوبة 67 ، 71 ). مارسوا المعارضة السياسية الى أقصى درجاتها ، مثل نشر الاشاعات وقت الخطر، والعمل طابورا خامسا وقت هجوم العدو ( النساء 83 ، 141 ) ( الأحزاب 18 ، 60 ـ ) وإيذاء النبى محمد عليه السلام (التوبة 61 ) (الأحزاب 48 ) كل ذلك كان مسموحا به ومتاحا لهم طالما لم يعتدوا بالقتل والقتال.
مع المنافقين بالقلب فقط دون السلوك العدائى
أشار القرآن الكريم لطائفة من المنافقين مردوا على النفاق بحيث ضبطوا جوارحهم عن السلوك العدوانى واحتفظوا بعقائدهم الكارهة للاسلام داخل صدورهم . لذا أوكل الله تعالى لذاته العلية عقابهم فى الدنيا والآخرة ، ولم يفضحهم بين الناس فظلوا فى علم الغيب ،إذ كان النبى محمدا عليه السلام نفسه لا يعرفهم ، مع انهم كانوا الى جانبه ومن بين أصحابه ، يقول تعالى ( وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ) ( التوبة 101 ).
أى تمتع المنافقون فى دولة النبى محمد عليه السلام فى المدينة بكامل حقوق المواطنة وكامل الحقوق السياسية فى النقد والاعتراض ، وكامل الحقوق الدينية فى ممارسة شعائرهم ، حتى فى إقامة مسجد للضرار والتآمر. وكل هذه الحقوق كانت متاحة لكل من يهاجر الى الدولة الجديدة ، ويعقد معها ميثاق وعهد المواطنة على أساس المسالمة والموالاة ضد المعتدين المحيطين بالمدينة المتربصين بها الدوائر.
مع المنافقين خارج الدولة الاسلامية :
الهجرة كانت فاصلا فى علاقة الدولة الاسلامية مع الأعراب الذين كان معظمهم أشد الناس كفرا ونفاقا . كانوا بطبيعتهم محترفى الاغارات والسلب و النهب والغدر ، واتخذوا من إعلان الاسلام وسيلة للكيد للمسلمين ودولتهم الوليدة ، يأتون يعلنون الاسلام ظاهريا فى المدينة وهم فى الحقيقة جواسيس ومتآمرون إذ يعودون الى مضارب قبيلتهم يجهزون للقيام بالغارة على المسلمين. يأتون للمدينة لعقد العهد والبيعة بالدخول فى المواطنة الاسلامية ثم يرجعون الى خيامهم وينقضون العهد عندما تتاح لهم الفرصة فيغيرون على المدينة.
كانوا منافقين من نوع خاص جمعوا بين النفاق والعدوان العسكرى ، وافترقوا بذلك عن المنافقين الذين كانوا يعيشون فى المدينة ، والذين أتيح لهم أن يعارضوا ما شاءت لهم حرية المعارضة السلمية.
من هنا كانت الهجرة للمدينة هى الحل بالنسبة لأولئك الأعراب ، فإن هاجروا فقد أصبحوا مسلمين ظاهريا يتمتعون بكل حقوق المعارضة مهما بلغ نفاقهم ، فإن رفضوا الهجرة واستمروا فى نقض العهد والغدر بالمسلمين فلا بد من قتالهم ورد إعتدائهم لأنهم كفار بالسلوك(النساء 88 : 91).
مع المسلمين خارج الدولة الاسلامية والمهاجرين لها :
1 ـ انتشر الاسلام خارج حدود دولة النبى محمد ، وبعضهم قدم مهاجرا للمدينة ، وبعضهم أسلم وأعلن اسلامه ولكن ظل راغبا عن الهجرة ، فكيف تصرفت الدولة الاسلامية معهم ؟
كانت الهجرة فيصلا فى انتماء المسلم المؤمن سلوكيا للدولة الاسلامية ،لأنه بهجرته قد عبّر عن انتمائه لها ، ويترتب له عليها حقوق وتكون لها عليه واجبات فى إطار الولاء والانتماء، فإن لم يهاجر فليست له حقوق المواطنة والحماية فى الدولة الاسلامية ، يقول تعالى : (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ٌ) ( الأنفال 72).
ويهمنا هنا أن الهجرة سلوك ظاهرى بغض النظر عن نيّة المهاجر وحقيقة إيمانه .
2 ـ وكانت الهجرة مفتوحة أمام الجميع رجالا ونساءا ، فى وقت كانت فيه الدولة الاسلامية فى بدايتها يحيط بها الأعداء من كل جانب ، يتآمرون عليها ، وحملاتهم العسكرية عليها لا تنقطع . ومن المتوقع أن يأتيها ضمن المهاجرين لها جواسيس وعملاء يتعاونون مع الطابور الخامس فى الداخل وهم المنافقون. والمتوقع أن يكون النساء ابرز المرشحات لدور التجسس . هنا برز الفحص الأمنى الظاهرى للتأكد ظاهريا من هوية القادمات ، وبهذا أمر الله جل وعلا المؤمنين فقال :
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ)( الممتحنة 10 ) فالامتحان هنا ظاهرى لا شأن له بالتفتيش فى العقائد وما فى خفايا القلوب ، ولكنه استجواب أمنى يتناول علاقتها المحتملة بالعدو ، والسبب الحقيقى فى هجرتها ، وليس للتفتيش عن إيمانها القلبى لأن الله جل وعلا هو الأعلم بايمانهن كما جاء فى الاية الكريمة. فاذا خرجت من الاستجواب مأمونة الجانب استحقت القبول عضوة فى الدولة الجديدة ، وعليها أن تبايع النبى أى تعقد معه عقد الانتماء للدولة الاسلامية ( الممتحنة 12 ).
من ذلك نستنتج أن الدولة الاسلامية تعاملت بمنطق الاسلام السلوكى فى تحديد مواطنيها ومنطق الكفر السلوكى فى تحديد أعدائها ، فأبوابها مفتوحة لهجرة كل من يأتى لها مسالما لا يعتدى عليها بالسلاح ، وله حق المعارضة الدينية و السياسية مهما بلغت طالما لا تتضمن حمل السلاح ضد الدولة . فإذا اعتدى ونقض عهد المواطنة فهو كافر بالسلوك العدوانى .فإذا رفض الهجرة مع إيمانه القلبى فليست له حقوق لدى الدولة الاسلامية ، فلو تعرض للاضطهاد والاكراه فى الدين فعلى الدولة الاسلامية أن تنقذه بشرط عدم الاخلال بمواثيقها مع الأطراف الأخرى (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( الأنفال 72 )
فى علاقات الزواج التى قطعتها الهجرة والخصومة بين معسكرى الكفر والايمان :
1ـ من المهاجرات من كانت متزوجة تركت زوجها الكافر وجاءت مهاجرة ، وقد انقطع زواجها وامتنع إرجاعها اليه بقيام حالة الحرب بين معسكرها ومعسكر زوجها السابق واختيار كل منهما معسكره الذى ينتمى اليه. وبانفصالها عن زوجها المشرك يحق لها أن تتزوج بعقد جديد ومهر جديد ، يقول جل وعلا فى نفس الاية العاشرة من سورة الممتحنة : ( فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ).
2 ـ وفى المقابل فان من المهاجرين من إنفصل عن زوجته التى أبت أن تهاجر معه واختارت عليه قومها ودينها ، وبقيام الحرب بين المعسكرين فلا بد أن تستمر حياة هذا فى موطنه الجديد ، وتلك فى موطنها الأصلى الذى بقيت فيه ، يقول جل وعلا: (وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ) ( الممتحنة 10 )
3 ـ وإذا كانت الهجرة ظرفا استثنائيا فان الحكم الشرعى الدائم جاء فى قوله سبحانه وتعالى :
(وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ) ( البقرة 221 )
الاعتداء الحربى والسلوك العدائى هو الفيصل هنا فى تحديد المشركات والمشركين الذين يحرم زواجهم وتزويجهم من المسلمين والمسلمات . فالأصل فى الزواج أن يقوم على المودة و الرحمة و الاستقرار ، وليس بأن يتحول فراش الزوجية الى معارك بين المسلمين والكفار. وعليه فالسلام والأمن والأمان (المعنى الظاهرى للاسلام والايمان ) هو المطلوب ، بغض النظر عن عقيدة العريس والعروس ، مسلما سنيا أو شيعيا أو صوفيا أو مسيحيا أو اسرائيليا أو بوذيا أو ملحدا. ولأن تحديد المشرك والمشركة مؤسس على السلوك العدوانى وليس على العقيدة فان الاية الكريمة تختتم بقوله تعالى عن نوعية وصفة أولئك المشركين و المشركات (أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوَ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ( البقرة 221 ).
مع الكفار المعتدين فى حالة الاشتباك الحربى
1 ـ ففى حالة الاشتباك الحربى مع الكافرين المعتدين فان الجندى المشرك إذا ألقى السلام فقد حقن دمه ويجب حمايته بمجرد نطقه بالسلام : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا) ( النساء 94 )، فهنا نجد لذلك الجندى حالتين :ألأولى حين كان يحارب معتديا فاستحق لقب الكافر ، وعندما نطق بالسلام تحول الى حالة الايمان والسلام وحرم دمه.
وإن استجار طالبا الحماية دون التلفظ بأنه مؤمن مسلم فقد وجب على المسلمين إجارته وحمايته وأن يسمعوه القرآن الكريم ليكون حجة عليه يوم القيامة ، ثم عليهم أن يبعثوا به الى بلده آمنا : (وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ) ( التوبة 6 )
2 ـ ويسرى هذا على الكافرين كأمة ودولة . فالكافرون هم كافرون طالما هم يعتدون ، فإذا كفوا عن الاعتداء وجنحوا للسلم فقد أصبحوا أخوة فى الدين ، ونفهم هذا من تشريع رب العزة فى القتال ، فقد جاء الأمر بقتال الذين يقاتلون المسلمين معتدين: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ( البقرة 190 ) ، فإن انتهوا عن العدوان وكفوا عن الاعتداء غفر الله تعالى لهم : (فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( البقرة192 ) . وتكرر هذا التشريع فى قوله تعالى للكافرين المعتدين (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ) أى ان الله جل وعلا يعرض عليهم الانتهاء عن العدوان مقابل غفران ما قد سلف ، فان رفضوا فقد حقت عليهم سنة الأولين فى مؤاخذتهم بعدوانهم ، ثم أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بقتال أولئك المعتدين المستمرين لمنعهم من الاعتداء و الاكراه فى الدين ،فإن انتهوا عن العدوان فإن أمرهم الى الله جل وعلا ، وليس للمؤمنين أن يتعرضوا لهم : ( وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ )( الأنفال 38 : 39 ).
الذين كفروا هنا مقصود بهم الكافرون سلوكا فقط بالاعتداء و الفتنة والاكراه فى الدين . وليس مقصودا بهم الكافرون قلبيا وعقيديا لأن الله تعالى يغفر للكافر سلوكيا إذا كفّ عن اعتدائه ، ولكنه لا يغفر أبدا للمشرك الكافر بعقيدته الذى يموت مشركا:(الزمر65)(النساء 48 ، 116).
3 ـ بل أنهم لو كفوا عن القتال العدوانى أصبحوا للمسلمين أخوة فى الدين ، وهذا ما تكرر مرتين فى أوائل سورة التوبة التى نزلت فى البراءة من المشركين الكافرين المعتدين الذين ينقضون العهود ويواصلون العدوان على المسلمين ، أعطاهم الله جل وعلا مهلة أربعة أشهر هى الأشهر الحرم ، فان لم يتوبوا فعلى المؤمنين رد عدوانهم ،أما إذا كفوا فهم أخوة فى الدين (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (التوبة 5 ، 11). وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة لا تعنى أداء الصلاة أو تقديم الصدقات ، ولكن تعنى الاستقامة وعمل الصالحات بدل العصيان . وسبق شرح ذلك فى كتابنا ( الصلاة فى القرآن الكريم ) المنشور فى موقع (اهل القرآن ).
4 ـ ومن اللافت للنظر مقارنة آيتى سورة التوبة بآية أخرى وردت فى سورة النساء لنفهم المقصود بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هنا فى سياق الكفّ عن القتال.
فعن الكفار المعتدين ناقضى العهود فان الله تعالى يعرض عليهم الكفّ عن القتال العدوانى بالتوبة ، ويأتى معنى التوبة هنا بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ،اى بالاستقامة الظاهرية وعدم الاعتداء (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ) (التوبة 5 ، 11) فهم كانوا يؤدون الصلاة ولكن أضاعوها بالظلم والاعتداء .
وقبلها ـ حوالى عشر سنوات تقريبا ـ كان نفس الكفار المعتدين من قريش يطاردون المؤمنين بالاضطهاد والقتل ، ولم يكن قد نزل على المؤمنين الإذن بالقتال ، بل كانوا مأمورين فقط بكفّ أيديهم وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، فتعود بعضهم على التخاذل و الخنوع و الخضوع والاستسلام (أى ثقافة العبيد ) ولذلك عندما جاء الإذن بالقتال ضجوا واعترضوا ، وتساءلوا لماذا كتبت علينا القتال يارب..!!. جاء هذا فى قوله جل وعلا : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ؟ )( النساء 77 ) نسى أولئك أن الأمر بالقتال هو لرد العدوان و ليس للاعتداء..هو لحمايتهم من الاستئصال ولردع العدو عن الهجوم لأن استسلامهم السلبى يطمع العدو فى استمرار الاعتداء عليهم.
الشاهد هنا أن المسلمين المسالمين الأوائل كانوا ممنوعين من القتال مأمورين بكف اليد عن رد الاعتداء ، ومأمورين باقامة الصلاة وإيتاء الزكاة . وهو نفس المطلوب من المشركين الكافرين بالسلوك ، هم مطالبون بالتوبة أى المسالمة وإقامة الصلاة وايتاء الزكاة بمعنى الاستقامة ، وبذلك تتحول العلاقة بين أعداء الأمس الى أخوة فى الدين ، القائم على السلام والحرية والعدل.
5 ـ وبالتالى فإن الكفر السلوكى هو حالة عرضية وليست دائمة ، بمعنى امكانية أن يرتدع المعتدى و يرجع عن اعتدائه فيكون أخا للمؤمنين وواحدا منهم. يسرى هذا على الفرد كما ينطبق على المجموع . وبالتالى فممنوع الحكم عليهم حكما دائما بأنهم أصحاب النار ، طالما هم لا يزالون أحياء و لديهم فرصة التوبة والجنوح للسلم .
لنا الحكم على توبتهم باستقامتهم الظاهرية أى بأن يكفوا عن القتل و القتال ،أما الحكم على نواياهم وهل تقبل الله جل وعلا توبتهم أو رفضها ، وهل سيغفر لهم أم لن يغفر لهم فتلك قضية ليست لبشر أن يخوض فيها حتى لو كان النبى محمد عليه السلام.
ففى حياته ومعاناته منهم ومن اعتداءاتهم قال النبى محمد ما يعنى أن الله تعالى لن يغفر لأولئك المعتدين الكافرين . قالها فى وقت بلغ عناؤه منهم المدى ، ولنا أن نتصور مدى هذا العناء ومدى صبره عليهم وهو الذى كان مثلا أعلى فى الرفق و الرحمة . ولكن كل ذلك ليس مبررا للنبى محمد أن يقول مثلا إن خصومه المحاربين لن يغفر الله تعالى لهم ولن يتوب عليهم لأن ذلك غيب الاهى ، ولأن هذا القول تدخل فى أمر إختص الله جل وعلا به ذاته سبحانه وتعالى . من هنا نفهم قوله جل وعلا للنبى محمد مؤنبا :(لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( آل عمران 128 :129 ) .
وبالتالى فالكفر السلوكى لنا تقييمه بالاعتداء والاجرام السلوكى ، وهو يزول بزوال ذلك الاعتداء وعودة صاحبه الى المسالمة ، وفى كل الأحوال ليس لنا أن نخوض فى نيته وخفايا قلبه وهل توبته مقبولة عند الله جل وعلا ام لا .
مع الإرهابيين بمفهوم عصرنا (أو المحاربين لله تعالى ورسوله )
1 ـ لنتذكر قوله جل وعلا عن كيد المنافقين فى المدينة : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ) ( التوبة 107 ). أى أقاموا ذلك المسجد فى المدينة عاصمة الاسلام للاضرار بالمسلمين والتشجيع على الكفر العقيدى والقلبى ، وليكون بؤرة رصد ومركز عمليات وتجميع لكل من حارب الله جل وعلا ورسوله من قبل. والله تعالى ينبىء مقدما بصيغة التأكيد أنهم سيحلفون بأن نيتهم حسنة ، والله تعالى يشهد مقدما أنهم كاذبون.
الشاهد هنا هو قوله جل وعلا (وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ) ، أى مرصد للتجسس و مركز حربى متقدم أقامه المنافقون فى قلب دولة الاسلام لتجميع كل من أسهم فى حرب الله ورسوله من قبل للقيام بعمل عسكرى داخل المدينة .
ولأن هذا التخطيط تم فضحه وكشفه ولأنهم أنكروه ـ مع أن الله تعالى يشهد بأنهم كاذبون ـ فلم تؤخذ ضدهم إجراءات عقابية ، فليس فى الاسلام عقوبة على التخطيط للجريمة طالما لم تسفر عن الوقوع فى الجريمة، مهما بلغت شناعة تلك الجريمة المراد ارتكابها . وتلك روعة التشريع فى الاسلام ، والذى يعلو به على أرقى القوانين فى امريكا والغرب . ففى أمريكا بعد 11 سبتمبر يؤاخذ المسلمون بالأقوال والأفعال التى تقع تحت طائلة الاعداد والترصد والتخطيط والسكوت وعدم الابلاغ ..الخ ..وقد وصلت فى عهد بوش الى الاعتقال بدون محاكمة فى جواتينامو ، ووصلت الى المحاكمة و السجن داخل أمريكا .
2 ـ كانت كل العقوبة هى امتناع النبى محمد عليه السلام عن الاقامة فى هذا المسجد ، بمعنى انه كان من قبل يقيم فيه بحسن نية ويجلس مع اصحابه غير عالم بأنه يقيم فى وكر للتآمر عليه . لم يقل الله تعالى ( لا تدخله ) بل قال : (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ )(التوبة 108) أى ليس نهيا عن دخوله بل عن الاقامة فيه ، وأن يقيم فى المسجد الأول المؤسس على التقوى من أول يوم حيث يعمره مؤمنون طاهرون .
إذن كان (محمد رسول الله ) عليه السلام يقيم فى مسجد كان (إِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ). وبفضح دور ذلك المسجد تحول الى مبنى مهجور ، ظل قائما لم يهدمه النبى محمد كما تقول الروايات الكاذبة ، ظل هذا مجرد بنيان يشهد على ما فى قلوب أصحابه من ريب ، يقول تعالى (لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 110 ).
3 ـ فماذا إذا نجح هذا المسجد فى إشعال حركة مسلحة داخل المدينة ، تقتل المسلمين المسالمين عشوائيا ؟ التوصيف المعاصر لهذا هو (الارهاب ) أى العدوان المسلح على الابرياء المدنيين.
التوصيف القرآنى لهذا الارهاب أنه ( حرب لله تعالى ورسوله ) لأنه ليس قتالا مع جيش بل قتل لأفراد آمنين مسالمين لا حول لهم ولا قوة ، ثم هو قتل يتم فيه استخدام دين الله تعالى فى حرب الله تعالى ، أى ليس قتلا ( علمانيا ) بل يتمسح بالاسلام ليكون قتلا باسم الاسلام ، وهذا ما حاول فعله المنافقون فى المدينة حين أقاموا مسجدا اسلاميا ودعوا النبى محمدا للاقامة فيه ، أى تمسحوا بالاسلام ونبى الاسلام وشريعة الاسلام وهم يحاربون الله تعالى ورسوله ودينه.
4 ـ من هنا كانت العقوبة غليظة : إقرأ قوله جل وعلا :(إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( المائدة 33 : 34 ).
ونضع بعض الملاحظات :
1 ـ هنا جمع واضح وظاهر بين الكفر العقيدى والكفر السلوكى فى أبشع صورة ، وهنا إعتداء على الله تعالى ورسوله باستخدام دينه فى استحلال ما حرم الله تعالى ، أى هو إعلان حرب على الله تعالى ورسوله ، واقترن بالتطبيق فسادا فى الأرض ؛ قتلا وسفكا للدماء وهتكا للاعراض ونهبا للمال. . هو تحريف لأسمى ما فى تشريع الاسلام وهو الجهاد ، بأن جعلوه إعتداءا ليس على جنود بل على مدنيين مسالمين . إذن فهؤلاء فى الحقيقة لا يحاربون المدنيين المسالمين بل يحاربون الله تعالى ورسوله .
2 ـ العقوبة هنا تتدرج حسب العمل : فهى اولا تقع على مرتكب العمل و ليس من قام بالتحريض ، وثانيا تتحد العقوبة على قدر الجريمة ، فالذى يقتل المدنيين ويغتصب نساءهم وينهب أموالهم عقوبته هى القتل و الصلب . والذى يغتصب وينهب الأموال فقط تقطّع يده ورجله من خلاف ، والذى يعتدى ويقطع الطريق ويرهب الناس الآمنين دون أن يقع فى الجرائم السابقة فعقوبته النفى والطرد . والذى يتوب منهم مبادرا بالتوبة قبل الوقوع فى الأسر يطلق سراحه ..
3 ـ أكثر من تنطبق عليهم الآية الكريمة فى عصرنا هم جماعات الارهاب الوهابى ، بدءا من إقامة الدولة السعودية الأولى وغاراتها على الآمنين المسالمين فى الجزيرة العربية و الشام والعراق الى غارات تنظيمات الإخوان المسلمين السرية من التنظيم السرى الى جماعات الجهاد و الجماعة الاسلامية وغيرها وصولا الى ابن لادن والظواهرى، والغارات التى يشنها الوهابيون حاليا من نيويورك و مدريد و لندن و بومباى.. والبقية تاتى. وليس الشيعة أول ضحاياهم و لن يكون القرآنيون آخر ضحاياهم .
وأكبر دليل على أنها حرب لله تعالى ورسوله أن أولئك المجرمين الوهابيين أصبح اسمهم فى العالم ( اسلاميون ) ولهم جهاد يقوم على اكاذيب منسوبة للنبى محمد مثل حديث (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا .. )
بإيجاز ..إذا أردت أن تتعرف على أسوأ أنواع الكفر السلوكى فأمامك جرائم السعودية والوهابية .
4 ـ اللهم بلغت .. اللهم فاشهد .