يروي جلال أمين أنه حينما بلغ أستاذه ليونيل روبنز (عالم الاقتصاد البريطاني) الثمانين من العمر، جعل محاضراته مليئة بالحكايات والقصص والأخبار عن الجوانب الإنسانية من حياة الاقتصاديين، الصالح منها والطالح، ولم يعد يهتم كثيرا بالكشف عن إسهاماتهم الفكرية والنظرية بالقدر نفسه، فسر جلال أمين تحول أستاذه بأنه أمر متوقع من رجل تجاوز الثمانين واكتسب القدرة على التمييز بين ما هو مهم وما هو غير مهم، فاتجه إلى أكثر ما ينفع الناس ويمكث في الأرض: سيرتهم الخاصة وخلاصة تجاربهم الإنسانية. وهذا هو ما فعله جلال أمين، فترك لنا خلاصة تجاربه مقارنا بين أحوال جيله وجيل أبيه وجيل أبنائه، مؤرخا بهذا لبعض من جوانب حياة الطبقة الوسطى المصرية لأكثر من خمسة عقود مضت.
جلال أمين أحد أولئك الكُتّاب الذين لا يتركونك حائرا، حيث تشعر أنه يمسك بيديك بين صفحات كتبه، يحلل ويفسر لك بسلاسة، يخبرك ما الذي حدث وأسبابه وظواهره التي تلمسها بنفسك في مشاهداتك اليومية، فلا تنغلق كتاباته أمامك، بل تفتح لك باب الفهم على مصراعيه. ولكنه تركك حائرا في اختيار وصف واحد له، فهل هو مفكر اقتصادي أم محلل اجتماعي أم كاتب له أسلوبه المميز الممتع، أم أنه ذلك المثقف الجاد، أم الأستاذ الجامعي القادر على ربط طلابه بعلم جاف كعلم الاقتصاد بأسلوبه السردي والنقدي البديع دون تعقيد؟
يرى جلال أمين أن كلًّا منا يحمل دولابا غير مرئي، وقد نقضي حياتنا متظاهرين بعدم وجوده، أو محاولين إخفاءه، ولكنه قدرنا المحتوم الذي يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنها اختياراتنا، لذا كان يرى أن ظروف نشأته وسياقه الاجتماعي وأسرته وخياراته في التعليم كانت هي قدره المكتوب على الجبين (1)، حاول جلال أمين أن يفتح لنا دولاب تجاربه وحياته، لنرى تجربته الذاتية وتجارب جيله وجيل أبيه وابنه، فقد برع جلال أمين في مزج شريط حياته الخاص بتاريخ مصر الاجتماعي العام في سرد ممتع.
لم يكن جلال أمين كأصغر طفل مرغوب في حضوره بعد سبعة إخوة آخرين من قبله، كان والده يرغب في إجهاضه، بينما تمسكت والدته به بشدة، لأسباب عدة منها إغاظة عمته التي تتعجب من كثرة إنجابها الذكور.(2) كانت معركة بين والديه، لجأ أبوه لإقناعها بإجهاضه بالعنف تارة، وباللين تارة أخرى، بينما كانت تتهرب إما بالسفر عند أحد أقاربها وإما بالبحث عن حيل أخرى، منها تلك المرة التي ركبت فيها عربة السيدات في محطة القطار، واستجمعت كل شجاعتها وتركت والده يصعد بمفرده وعادت إلى البيت، وحينما استسلمت الأم لرغبة والده وذهبت معه لزيارة الطبيب الإيطالي، فما كان أن اقترب منها الطبيب حتى دفعته بكل قوة صائحة في ثورة: "روح يا شيخ، هو أنا حبلى في الحرام؟"، فتراجع الطبيب مذعورا قائلا: "يا خبيبي أنا مالي؟ عايز تسقط تسقط، عايز تخبل تخبل". وعادت الزوجة للبيت منتصرة والأب خائب الرجاء مستسلما لمشيئة الله، وهكذا جاء جلال أمين للوجود في 23 يناير/كانون الثاني 1935.(3)
رسم جلال أمين صورة للبيت الذي نشأ فيه، لم يكن مهتما بجعلها جميلة بقدر ما هي صورة حقيقية صادقة، لم تكن على خصوصيتها شديدة الذاتية، بل على العكس رأينا فيها أوضاع الأسر المصرية في الطبقات الوسطى أوائل القرن العشرين، فها هو والده الذي لم يكن ليرى زوجته قبل الفرح، وتكتفي العائلتان بقبول الأصل الطيب والسمعة الحسنة والوضع الاجتماعي الجيد واستقامة الخلق للموافقة على إتمام الزيجة، لا يعثر لهما على صورة فرح، فقد كانت صورة عرس أبيه صورة منفردة له وحده محتضنا بضعة كتب، كاتبا خلف صورة الفرح: "أرجو من الله أن يوفقني إلى عمل عظيم أنفع به أمتي"، ولم يشر بأي عبارة أو أخرى إلى زوجته أو إلى يوم عرسه.
لقد استمر بيتهما لعقود طويلة لا يجمع الزوجين الحب والمودة بقدر الأصول والعشرة، وبعض الحسرة. فقد كان البون شاسعا بين شخصية والديه، فوالده المفكر والكاتب أحمد أمين أرستقراطي الأخلاق والحس، مبعث طموحه هذا الحس الأخلاقي البالغ، أما أمه فأشد مكرا ودهاء من أبيه وأكثر حرصا على المال، ومن المواقف الطريفة التي يذكرها جلال أمين في سيرته الذاتية أن والدته كانت تدخر من مصروف البيت، وبالطبع لم يكن أحد يعرف مقدار ما تدخره، لأنها تعده سرا من الأسرار الحربية، وإذ بها بعد فترة ليست بالطويلة قد ادخرت مبلغا من المال، فطلبت من أبيه أن يبيع لها نصف البيت في مقابله، واستمرت بهذه الطريقة حتى اشترت منه البيت كاملا بمبلغ قد ادخرته من مصروف البيت، ثم أخذت تتندر أنه يسكن في بيتها، ثم تحولت هذه النكتة إلى حقيقة، فطلبت منه أن يدفع لها إيجارا للبيت، ووافق والده، ليس سذاجة منه، ولكن لأنه لم يكن يعطي المال قدرا من الأهمية، ولم يعنِه -كوالدته- أمر الادخار كثيرا.
لم تكن والدته تفهم طبيعة زوجها المفكر والأديب، لم تشاركه هذه الاهتمامات، ولم تجد في العيش معه ما كانت ترغب فيه من الضحكات وخفة الحضور والحب، فهي قد اعتادت الضحك والحديث الدائم في بيت خالها بعدما انتقلت إليه بوفاة والديها من قريتها بإحدى قرى ريف المنوفية، لتجد زوجا لا يمرح ولا يمزح، يغلب على طباعه الجد، يعيش بين الكتب والأوراق، فلم يناديها مرة باسمها، وحينما يود التلطف لها يناديها بــ"أم حمادة"، وعادة لا يناديها كذلك إلا حينما يرتكب أمرا يخجل منه، كاليوم الذي دخل فيه المطبخ لإعداد مربى البلح، فنسيها وكاد يحرق المطبخ، فوقف متوترا أمامها قائلا: "أم حمادة". (4)
رغم اهتمام والده بالجمال والحس الأدبي فإن البيت لم يعكس ذلك، كل أثاث البيت وظيفي، فيندر أن تجد لوحة تزين الحائط مثلا، كل غرف البيت يملؤها الفوضى سوى غرفة أبيه التي يحيطها هالة الوقار والهيبة مثله، حتى في أبسط المظاهر كمفرش السرير المحرم الاقتراب منه، فيصفه جلال أمين بأنه أكثر نعومة من كل أسرة البيت، ولم يكونوا يجتمعون في هذه الغرفة إلا مرات معدودة، حينما تصحبهم أمهم كالقطط الصغيرة حولها، ليجتمعوا حول أريكة الأب أثناء تناوله القهوة، في جلسة حميمية لا تدوم طويلا حتى يشير الأب إليهم بالانصراف. ظلت أمه تذكر قصة حبها الأبدية لابن خالتها التي لم يكتب لهما الزواج، حتى سمعت يوما بعدما جاوزت الخمسين من العمر أن ابنه قد توفاه الله، فذهبت لعزائه ثم جاءها ليشكرها على العزاء، وحينما التقيا في منزلهما، يصفه جلال أمين بالرجل الوقور الوسيم، وكان هذا اللقاء فصلا أخيرا في قصة حب أمه الأبدية.
من خلال تتبع مسار إخوته واختلاف طبائعهم أصبح جلال أمين مؤمنا بأن الحس الخلقي للمرء يولد مع الطفل بدرجة معينة من القوة
أما والده فلم يكن يظهر من حياته اهتمام بالمرأة، لم يألفه جلال أمين متوددا، بل أب صارم سلطوي، ولكنه يهتم كثيرا بأمر أبنائه وتعليمهم تعليما جيدا وتوسيع مداركهم وشديد العناية بذلك، مما يذكره جلال أمين عن تأثير نشأته في هذا البيت أنه أَلِفَ القراءة والكتب، والمجلات وقصص الأطفال التي تُهدى إلى والده دوما. وبينما لم يفصح أحمد أمين عن موقع المرأة في حياته، أخذ جلال أمين يكشف هذا الجزء من والده، لم يشر والده في سيرته الذاتية "حياتي" إلى المرأة، وهذا ما رآه زكي نجيب محمود عيبا في سيرته الأدبية، سوى الحديث بتورية عن تعلقه بمعلمة اللغة الإنجليزية الجميلة، ويروي جلال أمين أنه قد عثر على يوميات لأبيه كُتبت خلال عام 1917 وهو في سن الثلاثين من العمر، يفصح فيه عن مخاوفه وقلقه وعلاقته بزوجته، ويسجل شكواه من بكاء طفلهما الأول، وعدم اقتناع أمه بأن زوجته لا تحسن مجاملتها، ليس كراهية لها وإنما لأن هذه طباعها، وتوجسه من أن تزداد أنوف أبنائه حجما، وتكراره عبارة باللغة الإنجليزية خشية أن تقع اليوميات في يد زوجته، يفصح فيها عن رغبته لو كان لديه زوجة جميلة. (5)
أما إخوته فقد ظهر لكل منهم شخصيته المستقلة المختلفة عن الأخرى، فأخوه الأكبر أقربهم لطباع والدته وأقربهم لقلبها، فقد رأت فيه أنه الأكثر قدرة على حمايتها من أبيه، أما أخوه الثاني فكان أقربهم لوالده في ذكائه وحبه للأدب وحسه الأخلاقي وعدم سعيه لادخار المال، كلاهما درس الهندسة، ولكنّ أخاه الأكبر يتمتع بمهارة التاجر؛ فحينما سافر بريطانيا مضى رحلة البحث عن توكيلات لشركات أجنبية يؤسسها في مصر مع شهادة الهندسة، أما الآخر تعلم الهندسة وأصبح أستاذا جامعيا متوسط الدخل، أما أخواه الآخران فلم يلقيا اهتمام الكبار ولا تدليل الصغير، أما البنتان فاطمة ونعيمة، فرغم أنهما تعلما في المدرسة نفسها ونشأوا في السياق نفسه، فإنهما مختلفان تماما عن بعضهما البعض، فواحدة انقطعت عن التعليم منذ الثانوية العامة راغبة في الزواج، والأخرى كانت ثائرة متمردة في خلاف دائم مع سلطوية أبيها، سافرت للتعلم في الخارج، تحب الفكر والأدب الروسي وتشغلها المسائل الفلسفية، يهمها مظهرها الخارجي وتمتعها بقضاء وقت ممتع أكثر من الرغبة في مراكمة المال. (6)
ومن خلال تتبع مسار إخوته واختلاف طبائعهم أصبح جلال أمين مؤمنا بأن الحس الخلقي للمرء يولد مع الطفل بدرجة معينة من القوة مثلما يولد معه أنف بحجم معين وصوت بنغمة معينة، فقد وجد من بين إخوته من لا يهمه المال، سواء كان غنيا أم لا، ومنهم منذ نعومة أظافره من لديه استعداد لبيع نصيبه من المانجو التي يجلبها الأب معه، وإضافة حصيلة البيع لمدخراته، منهم من يلتهم الكتب التهاما، ومنهم من كانت كتب المدرسة وبعض المقالات الخفيفة هي حصيلة ما قرأ، رغم أنهم عاشوا الظروف الاجتماعية نفسها والنشأة ذاتها وتلقوا التعليم ذاته. لذلك رأى أن المدرسة لا تغير الطبائع ولا الصفات الخاصة بالأفراد وميولهم، وإنما توفر لهم شهادات لوظائف قد تكون جيدة، فالاستعداد الفطري الذي يولد به الطفل، وأثر الأسرة والمناخ السائد في البيت في التربية العقلية والخلقية أهم من أثر المدرسة. حيث ذكر صديقه تيمور الذي يحب الطائرات ولا يحصل على درجات النجاح في دراسته، وحذره الجميع من المستقبل المظلم الذي ينتظره، ولكنه صادفه بعد مرور سنوات كثيرة، ولم يجد مستقبله مظلما كما توقع الجميع، حيث صار طيارا. (7)
لم يكن جلال أمين يرى أنه مميز عن أقرانه سوى بتفوقه الدراسي وإجادته الإنجليزية، ويرى أنه الأوحد من بين إخوته السبعة الذي كان يهتم بأن يكون له دور سياسي، وبالفعل انخرط بالعمل السياسي فترة الجامعة، فالتحق مع صديق مدرسته الطبيب علي مختار بحزب البعث السوري برئاسة ميشيل عفلق، ولكن حينما توسعت قراءاته وجد في الماركسية ما يغري بالصلابة ويلائم حماسته كشاب لم يتجاوز العشرين من عمره، تغريه الأفكار التي تبدو كاملة الصنع، جاهزة التطبيق، صارمة التمييز بين الأبيض والأسود، وبدأ يُسائل حزب البعث ومنطلقاته التي تختلف عن المنطلقات المادية للماركسية، فانفصل عن الحزب، رغم حبه لميشيل عفلق الذي قابله أول مرة في عام 1957 وقد جاوز الأربعين من العمر، بينما جلال أمين كان في الثانية والعشرين من عمره. ويذكر إعجابه الشديد بشخصية ميشيل عفلق وإخلاصه وروحه الشاعرة، وابتسامته التي لا تبرح وجهه وترحيبه بالنقد، حتى حل الحزب مع وحدة مصر وسوريا. (8)
دارت معظم كتابات جلال أمين حول نقد سياسات التنمية وتاريخ الفكر الاقتصادي، ومن أهم أعماله في هذا الصدد كتابه "كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية"، و"خرافة التقدم والتخلف"، فقد كان متمكنا من النظريات فيشرحها بعمق وسلاسة ثم ينتقدها بذكاء وجدية، ويبيّن عيوبها ومثالبها، وفي مرحلة أخرى اتخذت كتاباته بُعدا اجتماعيا، فأصبح يمزج بين الثقافة والاجتماع والفن والثقافة والأدب، ومن أعماله كتاب يحمل عنوان "شخصيات لها تاريخ" و"كتب لها تاريخ" نجد معظمها أعمالا أدبية، فقد ظل الجانب الأدبي الأقرب إلى جلال أمين من الاقتصاد أو القانون، وقد رأى أن الأدب يعكس التحولات الاجتماعية في مصر في العقود الخمسة الأخيرة أكثر مما تعكسها العلوم الاجتماعية كافة. (9)
مما يميز كتابات جلال أمين نسجه العام بالخاص، فنجده في سيرته الذاتية "ماذا علمتني الحياة؟" يحكي عن وضع الطبقة الوسطى المصرية وقت الحرب، وكيف كانت في وضعها المادي أفضل مقارنة بالطبقة الوسطى الإنجليزية في هذه المرحلة، فقد تمكن خلال فترة الحرب من الذهاب إلى مصيف "رأس البر" والتمتع برفاهية المكوث في فندق خمسة نجوم، ثم بعد انتهاء الحرب زالت هذه الرفاهية وعادوا للمصيف في الإسكندرية، وساء وضع مدينة رأس البر فلم تعد موقعا مختارا لأبناء الطبقة البرجوازية المصرية والطبقات العليا.
وقد كانت السينما مصدر متعتهم الرئيس، رغم ما كانت تقدمه من أفلام غارقة في الميلودراما، تدور حول الصراع بين الخير المطلق والشر المطلق، وتنتهي بانتصار الخير. وخلال فترة الحرب العالمية الثانية عرضت السينما أفلام الواقعية الإيطالية كـ "سارق الدراجة" للمخرج دي سيكا، وأفلام فيلليني، مما جعلهم يتفاعلون مع الأفكار الاشتراكية في سن مبكرة ويخضون رحلة التفلسف والإمتاع من خلال مشاهدة هذه النوعية من الأفلام. فقد دأبوا على الذهاب إلى سينما سان ستيفانو بمصر الجديدة، التي تغير اسمها ليعكس التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر، فقد سميت فريال حينما رزق الملك فاروق بابنته فريال، ثم تغيرت إلى سينما التحرير بعد قيام ثورة يوليو/تموز 1952.
ساعدت الحرب العالمية الثانية على دخول أنماط مختلفة من الموسيقى الغربية إلى مصر، بالإضافة إلى ظهور كتابات السير الذاتية التي تعكس رحلة خاضها بعض الكُتّاب في هذا العصر لمدن غربية كبرى كــ "زهرة العمر" لتوفيق الحكيم الذي وصف فيها رحلته إلى باريس، واستمتاعه بسماع بيتهوفن، فانتشرت موسيقى بيتهوفن وتشايكوفسكي وشوبان وغيرهم. ويضيف جلال أمين أن الإذاعة كان تبث في هذه الفترة ألحان صالح عبد الحي وعزيز عثمان، اللذين بدوا أكثر المطربين حداثة في هذه الفترة.
كان جلال أمين في صباه يضيق ببطء الإيقاع في أغاني أم كلثوم، ويفضل عليها الألحان الغربية، ولكن لم يلبث كثيرا حتى تيقن أن ثمة متعة في هذا الإيقاع البطيء وفي هذه الألحان لا تختلف كثيرا عن المتعة الخالصة التي يستمع بها للموسيقى الغربية الكلاسيكية. (10)
لم يبدُ أن جلال أمين قد أحب دراسة الحقوق، رأى الكلية في ذلك الوقت أكثر ضجرا، ولم يكن بها أي صخب أو حيوية أو أي من مظاهر الفرح، وكانت رؤية وجه أحد الأساتذة عن قرب سائرا في بهو الكلية هو أقرب إلى رؤية رئيس الجمهورية، على العكس تماما من الحيوية التي امتلأت بها كلية لندن للاقتصاد التي سافر إليها بعدما أنهى دراسته للحقوق، ينقل لنا وضع الفتيات في هذه الفترة في كلية الحقوق، فلم يتجاوز عددهن عشر فتيات بين 800 طالب، يدخلن خائفات يحتمين في المحاضر، يجلسن في الصف الأول ولا يمشين إلا مجتمعات، ولا يتمتعن بقدر من الجمال اللافت.
لم تكن الشريعة الإسلامية في مكانتها التي تستحقها في كلية الحقوق، بدت غريبة في مكان جُعل القانون الوضعي فيه في المركز الأول، وبدت لغة المحاضرين منبتة الصلة عن الواقع، ولكنه يذكر أسماء كبرى درست لهم مثل الشيخ محمد الحفيف، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ عبد الوهاب خلاف، وقد تعلم منهم الكثير. (11) أما رحلة لندن التي امتدت لعامين لدراسة الاقتصاد، تعرف خلالها على الكتابات الرئيسة في الاقتصاد الغربي، ودرس على يد أساتذة اقتصاد مشهورين، وتعرف على زوجته الإنجليزية التي كانت صديقة مشتركة لزميلة عراقية تدرس معه في الجامعة، وكان زواجه منها سلسا: طلب منها العودة معه إلى مصر بعد حصوله على الدكتوراه؟ فوافقت.
كانت مدينة لندن ومدينة كامبردج من أقرب المدن البريطانية إلى قلب جلال أمين، لم يتحدث جلال أمين عن رحلة سفره لإنجلترا بالفكرة الشائعة عن صدام رجل شرقي يواجه الحياة الأوروبية لأول مرة، قد يرجع ذلك لسفره في سن مبكرة قبل ذلك لزيارة أحد إخوته في فترة دراسته، وكانت تجربته أكثر حميمية، فقد تزوج من فتاة إنجليزية مسيحية لأسرة غير متدينة في بلدة صغيرة في إنجلترا، وكانت رحلته السنوية لقضاء عطلته هناك بين الخضرة والبحر في البيت الصغير الجميل الذي اشتراه من مجموع مدخراته في فترة عمله في الكويت. (12)
انتقد جلال أمين الديمقراطية الأميركية، ورأى أن رواية "1948" التي تعكس الأوضاع السلطوية والاستبداد في الاتحاد السوفيتي تنطبق على أوضاع الولايات المتحدة أيضا
أما الكويت التي أمضى فيها أربع سنوات من عمله حينما التحق بالعمل كمستشار اقتصادي للصندوق الكويتي للتنمية خلال الفترة من 1974- 1978، فلم يكن يحبها رغم راحة الإقامة بها واستقرار معيشته فيها، فلم يرق له الثبات وعدم تجدد الحياة والراحة الخاملة فيها رغم توفر القدرة على الادخار، ومما لاحظه أن الكويتيين أكثر اكتفاء بأنفسهم حينئذ، فلم يكونوا يحتكون كثيرا بالعرب، وحينما شعر أنه ليس هناك أفق متجدد في حياته بالكويت، أخذ قراره بالرجوع إلى مصر، وعندئذ جاءته فرصة للسفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، ليعمل كأستاذ زائر للاقتصاد في جامعة كاليفورنيا.
مدينة لوس أنجلوس كانت شرفته التي يرى منها الولايات المتحدة الأميركية بجانب نظارة كاتبه المفضل على الإطلاق، جورج أورويل، فقد انتقد جلال أمين الديمقراطية الأميركية، ورأى أن رواية "1948" التي تعكس الأوضاع السلطوية والاستبداد في الاتحاد السوفيتي تنطبق على أوضاع الولايات المتحدة أيضا. وكان يرى أن النظام الأميركي مصمم لخدمة الرجل العادي والمرأة العادية متوسطي الذكاء والخيال والخلق، ووجد أن الأميركيين أكثر ولعا بالأرقام، فهم يبيعون السلع بالكسور العشرية، ويسعون لتحقيق أكبر قدر من الكفاءة، أي أكبر كمية إنتاج ممكنة بأقل تكلفة محتملة. وقد رأى أن الأميركيين يشبهون الطالب المصري الأرستقراطي الذي لم يصادف مشكلة مادية قط، وتخرج في مدرسة أجنبية، يتميز بالدماثة والرقة والسذاجة والتفاؤل والبساطة مع عدم قدرة على تكوين علاقات اجتماعية عميقة، ولا يبدون أي رغبة في التحليل وينفرون من أي جهد ذهني يُبذل لوجه الله.
وفي إحدى رسائله لأخيه حسين يصف له مدينة لوس أنجلوس قائلا: "إنها مدينة غنية بالثقافة والسلع، وإن كثرة السلع تجعلك حائرا في الانتقاء، كأن تقف ساعات لتختار قميصا وسط كل آلاف المعروضات، وأنه على الرغم من جمال المدينة وبيوتها البديعة وحدائقها شديدة التنسيق فإنه ينقصها شيء، يحاول الجميع فيها البحث عن معنى، ويختم رسالته متعجبا، لماذا عجز مجتمع بكل هذا الرخاء أن يعطي للحياة معنى؟13 لم يمض جلال أمين فترة طويلة في الولايات المتحدة وعاد إلى مصر ليدرس الاقتصاد بالجامعة الأميركية بالقاهرة.
من خلال قراءة كتب السيرة الذاتية الثلاثة لجلال أمين، يتبين أن ما جعل جلال أمين أهم كتاب علم الاجتماع في مصر والعالم العربي هو حبه لمهنة التدريس، حيث يرى جلال أمين أن علاقته بالتدريس وتقديره له نابع من عيب في طباعه وتناقضات شخصيته، وهو عدم ثقته الكافية بنفسه واحتياجه المتواصل إلى ثناء الآخرين عليه وتقديرهم له ليزداد ثقة في نفسه، ووفرت له مهنة التدريس ذلك، فضلا عن قدرته على تبسيط المعلومات ومتعته في توصيلها للآخرين، فكان يبذل جهدا في التحضير للدروس ويبحث عن سبل الشرح الجيد حتى يستوعبها الطلاب، ومن ثم يلقى منهم التقدير ونظرات الإعجاب، وخاصة من الطالبات الجميلات منهن، ليقاوم شعوره المهتز بالثقة بأنه لن يجد فتاة تعجب به
يروي جلال أمين أنه حينما بلغ أستاذه ليونيل روبنز (عالم الاقتصاد البريطاني) الثمانين من العمر، جعل محاضراته مليئة بالحكايات والقصص والأخبار عن الجوانب الإنسانية من حياة الاقتصاديين، الصالح منها والطالح، ولم يعد يهتم كثيرا بالكشف عن إسهاماتهم الفكرية والنظرية بالقدر نفسه، فسر جلال أمين تحول أستاذه بأنه أمر متوقع من رجل تجاوز الثمانين واكتسب القدرة على التمييز بين ما هو مهم وما هو غير مهم، فاتجه إلى أكثر ما ينفع الناس ويمكث في الأرض: سيرتهم الخاصة وخلاصة تجاربهم الإنسانية. وهذا هو ما فعله جلال أمين، فترك لنا خلاصة تجاربه مقارنا بين أحوال جيله وجيل أبيه وجيل أبنائه، مؤرخا بهذا لبعض من جوانب حياة الطبقة الوسطى المصرية لأكثر من خمسة عقود مضت.
جلال أمين أحد أولئك الكُتّاب الذين لا يتركونك حائرا، حيث تشعر أنه يمسك بيديك بين صفحات كتبه، يحلل ويفسر لك بسلاسة، يخبرك ما الذي حدث وأسبابه وظواهره التي تلمسها بنفسك في مشاهداتك اليومية، فلا تنغلق كتاباته أمامك، بل تفتح لك باب الفهم على مصراعيه. ولكنه تركك حائرا في اختيار وصف واحد له، فهل هو مفكر اقتصادي أم محلل اجتماعي أم كاتب له أسلوبه المميز الممتع، أم أنه ذلك المثقف الجاد، أم الأستاذ الجامعي القادر على ربط طلابه بعلم جاف كعلم الاقتصاد بأسلوبه السردي والنقدي البديع دون تعقيد؟
يرى جلال أمين أن كلًّا منا يحمل دولابا غير مرئي، وقد نقضي حياتنا متظاهرين بعدم وجوده، أو محاولين إخفاءه، ولكنه قدرنا المحتوم الذي يحكم تصرفاتنا ومشاعرنا واختياراتنا أو ما نظن أنها اختياراتنا، لذا كان يرى أن ظروف نشأته وسياقه الاجتماعي وأسرته وخياراته في التعليم كانت هي قدره المكتوب على الجبين (1)، حاول جلال أمين أن يفتح لنا دولاب تجاربه وحياته، لنرى تجربته الذاتية وتجارب جيله وجيل أبيه وابنه، فقد برع جلال أمين في مزج شريط حياته الخاص بتاريخ مصر الاجتماعي العام في سرد ممتع.
لم يكن جلال أمين كأصغر طفل مرغوب في حضوره بعد سبعة إخوة آخرين من قبله، كان والده يرغب في إجهاضه، بينما تمسكت والدته به بشدة، لأسباب عدة منها إغاظة عمته التي تتعجب من كثرة إنجابها الذكور.(2) كانت معركة بين والديه، لجأ أبوه لإقناعها بإجهاضه بالعنف تارة، وباللين تارة أخرى، بينما كانت تتهرب إما بالسفر عند أحد أقاربها وإما بالبحث عن حيل أخرى، منها تلك المرة التي ركبت فيها عربة السيدات في محطة القطار، واستجمعت كل شجاعتها وتركت والده يصعد بمفرده وعادت إلى البيت، وحينما استسلمت الأم لرغبة والده وذهبت معه لزيارة الطبيب الإيطالي، فما كان أن اقترب منها الطبيب حتى دفعته بكل قوة صائحة في ثورة: "روح يا شيخ، هو أنا حبلى في الحرام؟"، فتراجع الطبيب مذعورا قائلا: "يا خبيبي أنا مالي؟ عايز تسقط تسقط، عايز تخبل تخبل". وعادت الزوجة للبيت منتصرة والأب خائب الرجاء مستسلما لمشيئة الله، وهكذا جاء جلال أمين للوجود في 23 يناير/كانون الثاني 1935.(3)
رسم جلال أمين صورة للبيت الذي نشأ فيه، لم يكن مهتما بجعلها جميلة بقدر ما هي صورة حقيقية صادقة، لم تكن على خصوصيتها شديدة الذاتية، بل على العكس رأينا فيها أوضاع الأسر المصرية في الطبقات الوسطى أوائل القرن العشرين، فها هو والده الذي لم يكن ليرى زوجته قبل الفرح، وتكتفي العائلتان بقبول الأصل الطيب والسمعة الحسنة والوضع الاجتماعي الجيد واستقامة الخلق للموافقة على إتمام الزيجة، لا يعثر لهما على صورة فرح، فقد كانت صورة عرس أبيه صورة منفردة له وحده محتضنا بضعة كتب، كاتبا خلف صورة الفرح: "أرجو من الله أن يوفقني إلى عمل عظيم أنفع به أمتي"، ولم يشر بأي عبارة أو أخرى إلى زوجته أو إلى يوم عرسه.
لقد استمر بيتهما لعقود طويلة لا يجمع الزوجين الحب والمودة بقدر الأصول والعشرة، وبعض الحسرة. فقد كان البون شاسعا بين شخصية والديه، فوالده المفكر والكاتب أحمد أمين أرستقراطي الأخلاق والحس، مبعث طموحه هذا الحس الأخلاقي البالغ، أما أمه فأشد مكرا ودهاء من أبيه وأكثر حرصا على المال، ومن المواقف الطريفة التي يذكرها جلال أمين في سيرته الذاتية أن والدته كانت تدخر من مصروف البيت، وبالطبع لم يكن أحد يعرف مقدار ما تدخره، لأنها تعده سرا من الأسرار الحربية، وإذ بها بعد فترة ليست بالطويلة قد ادخرت مبلغا من المال، فطلبت من أبيه أن يبيع لها نصف البيت في مقابله، واستمرت بهذه الطريقة حتى اشترت منه البيت كاملا بمبلغ قد ادخرته من مصروف البيت، ثم أخذت تتندر أنه يسكن في بيتها، ثم تحولت هذه النكتة إلى حقيقة، فطلبت منه أن يدفع لها إيجارا للبيت، ووافق والده، ليس سذاجة منه، ولكن لأنه لم يكن يعطي المال قدرا من الأهمية، ولم يعنِه -كوالدته- أمر الادخار كثيرا.
لم تكن والدته تفهم طبيعة زوجها المفكر والأديب، لم تشاركه هذه الاهتمامات، ولم تجد في العيش معه ما كانت ترغب فيه من الضحكات وخفة الحضور والحب، فهي قد اعتادت الضحك والحديث الدائم في بيت خالها بعدما انتقلت إليه بوفاة والديها من قريتها بإحدى قرى ريف المنوفية، لتجد زوجا لا يمرح ولا يمزح، يغلب على طباعه الجد، يعيش بين الكتب والأوراق، فلم يناديها مرة باسمها، وحينما يود التلطف لها يناديها بــ"أم حمادة"، وعادة لا يناديها كذلك إلا حينما يرتكب أمرا يخجل منه، كاليوم الذي دخل فيه المطبخ لإعداد مربى البلح، فنسيها وكاد يحرق المطبخ، فوقف متوترا أمامها قائلا: "أم حمادة". (4)
رغم اهتمام والده بالجمال والحس الأدبي فإن البيت لم يعكس ذلك، كل أثاث البيت وظيفي، فيندر أن تجد لوحة تزين الحائط مثلا، كل غرف البيت يملؤها الفوضى سوى غرفة أبيه التي يحيطها هالة الوقار والهيبة مثله، حتى في أبسط المظاهر كمفرش السرير المحرم الاقتراب منه، فيصفه جلال أمين بأنه أكثر نعومة من كل أسرة البيت، ولم يكونوا يجتمعون في هذه الغرفة إلا مرات معدودة، حينما تصحبهم أمهم كالقطط الصغيرة حولها، ليجتمعوا حول أريكة الأب أثناء تناوله القهوة، في جلسة حميمية لا تدوم طويلا حتى يشير الأب إليهم بالانصراف. ظلت أمه تذكر قصة حبها الأبدية لابن خالتها التي لم يكتب لهما الزواج، حتى سمعت يوما بعدما جاوزت الخمسين من العمر أن ابنه قد توفاه الله، فذهبت لعزائه ثم جاءها ليشكرها على العزاء، وحينما التقيا في منزلهما، يصفه جلال أمين بالرجل الوقور الوسيم، وكان هذا اللقاء فصلا أخيرا في قصة حب أمه الأبدية.
من خلال تتبع مسار إخوته واختلاف طبائعهم أصبح جلال أمين مؤمنا بأن الحس الخلقي للمرء يولد مع الطفل بدرجة معينة من القوة
أما والده فلم يكن يظهر من حياته اهتمام بالمرأة، لم يألفه جلال أمين متوددا، بل أب صارم سلطوي، ولكنه يهتم كثيرا بأمر أبنائه وتعليمهم تعليما جيدا وتوسيع مداركهم وشديد العناية بذلك، مما يذكره جلال أمين عن تأثير نشأته في هذا البيت أنه أَلِفَ القراءة والكتب، والمجلات وقصص الأطفال التي تُهدى إلى والده دوما. وبينما لم يفصح أحمد أمين عن موقع المرأة في حياته، أخذ جلال أمين يكشف هذا الجزء من والده، لم يشر والده في سيرته الذاتية "حياتي" إلى المرأة، وهذا ما رآه زكي نجيب محمود عيبا في سيرته الأدبية، سوى الحديث بتورية عن تعلقه بمعلمة اللغة الإنجليزية الجميلة، ويروي جلال أمين أنه قد عثر على يوميات لأبيه كُتبت خلال عام 1917 وهو في سن الثلاثين من العمر، يفصح فيه عن مخاوفه وقلقه وعلاقته بزوجته، ويسجل شكواه من بكاء طفلهما الأول، وعدم اقتناع أمه بأن زوجته لا تحسن مجاملتها، ليس كراهية لها وإنما لأن هذه طباعها، وتوجسه من أن تزداد أنوف أبنائه حجما، وتكراره عبارة باللغة الإنجليزية خشية أن تقع اليوميات في يد زوجته، يفصح فيها عن رغبته لو كان لديه زوجة جميلة. (5)
أما إخوته فقد ظهر لكل منهم شخصيته المستقلة المختلفة عن الأخرى، فأخوه الأكبر أقربهم لطباع والدته وأقربهم لقلبها، فقد رأت فيه أنه الأكثر قدرة على حمايتها من أبيه، أما أخوه الثاني فكان أقربهم لوالده في ذكائه وحبه للأدب وحسه الأخلاقي وعدم سعيه لادخار المال، كلاهما درس الهندسة، ولكنّ أخاه الأكبر يتمتع بمهارة التاجر؛ فحينما سافر بريطانيا مضى رحلة البحث عن توكيلات لشركات أجنبية يؤسسها في مصر مع شهادة الهندسة، أما الآخر تعلم الهندسة وأصبح أستاذا جامعيا متوسط الدخل، أما أخواه الآخران فلم يلقيا اهتمام الكبار ولا تدليل الصغير، أما البنتان فاطمة ونعيمة، فرغم أنهما تعلما في المدرسة نفسها ونشأوا في السياق نفسه، فإنهما مختلفان تماما عن بعضهما البعض، فواحدة انقطعت عن التعليم منذ الثانوية العامة راغبة في الزواج، والأخرى كانت ثائرة متمردة في خلاف دائم مع سلطوية أبيها، سافرت للتعلم في الخارج، تحب الفكر والأدب الروسي وتشغلها المسائل الفلسفية، يهمها مظهرها الخارجي وتمتعها بقضاء وقت ممتع أكثر من الرغبة في مراكمة المال. (6)
ومن خلال تتبع مسار إخوته واختلاف طبائعهم أصبح جلال أمين مؤمنا بأن الحس الخلقي للمرء يولد مع الطفل بدرجة معينة من القوة مثلما يولد معه أنف بحجم معين وصوت بنغمة معينة، فقد وجد من بين إخوته من لا يهمه المال، سواء كان غنيا أم لا، ومنهم منذ نعومة أظافره من لديه استعداد لبيع نصيبه من المانجو التي يجلبها الأب معه، وإضافة حصيلة البيع لمدخراته، منهم من يلتهم الكتب التهاما، ومنهم من كانت كتب المدرسة وبعض المقالات الخفيفة هي حصيلة ما قرأ، رغم أنهم عاشوا الظروف الاجتماعية نفسها والنشأة ذاتها وتلقوا التعليم ذاته. لذلك رأى أن المدرسة لا تغير الطبائع ولا الصفات الخاصة بالأفراد وميولهم، وإنما توفر لهم شهادات لوظائف قد تكون جيدة، فالاستعداد الفطري الذي يولد به الطفل، وأثر الأسرة والمناخ السائد في البيت في التربية العقلية والخلقية أهم من أثر المدرسة. حيث ذكر صديقه تيمور الذي يحب الطائرات ولا يحصل على درجات النجاح في دراسته، وحذره الجميع من المستقبل المظلم الذي ينتظره، ولكنه صادفه بعد مرور سنوات كثيرة، ولم يجد مستقبله مظلما كما توقع الجميع، حيث صار طيارا. (7)
لم يكن جلال أمين يرى أنه مميز عن أقرانه سوى بتفوقه الدراسي وإجادته الإنجليزية، ويرى أنه الأوحد من بين إخوته السبعة الذي كان يهتم بأن يكون له دور سياسي، وبالفعل انخرط بالعمل السياسي فترة الجامعة، فالتحق مع صديق مدرسته الطبيب علي مختار بحزب البعث السوري برئاسة ميشيل عفلق، ولكن حينما توسعت قراءاته وجد في الماركسية ما يغري بالصلابة ويلائم حماسته كشاب لم يتجاوز العشرين من عمره، تغريه الأفكار التي تبدو كاملة الصنع، جاهزة التطبيق، صارمة التمييز بين الأبيض والأسود، وبدأ يُسائل حزب البعث ومنطلقاته التي تختلف عن المنطلقات المادية للماركسية، فانفصل عن الحزب، رغم حبه لميشيل عفلق الذي قابله أول مرة في عام 1957 وقد جاوز الأربعين من العمر، بينما جلال أمين كان في الثانية والعشرين من عمره. ويذكر إعجابه الشديد بشخصية ميشيل عفلق وإخلاصه وروحه الشاعرة، وابتسامته التي لا تبرح وجهه وترحيبه بالنقد، حتى حل الحزب مع وحدة مصر وسوريا. (8)
دارت معظم كتابات جلال أمين حول نقد سياسات التنمية وتاريخ الفكر الاقتصادي، ومن أهم أعماله في هذا الصدد كتابه "كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية"، و"خرافة التقدم والتخلف"، فقد كان متمكنا من النظريات فيشرحها بعمق وسلاسة ثم ينتقدها بذكاء وجدية، ويبيّن عيوبها ومثالبها، وفي مرحلة أخرى اتخذت كتاباته بُعدا اجتماعيا، فأصبح يمزج بين الثقافة والاجتماع والفن والثقافة والأدب، ومن أعماله كتاب يحمل عنوان "شخصيات لها تاريخ" و"كتب لها تاريخ" نجد معظمها أعمالا أدبية، فقد ظل الجانب الأدبي الأقرب إلى جلال أمين من الاقتصاد أو القانون، وقد رأى أن الأدب يعكس التحولات الاجتماعية في مصر في العقود الخمسة الأخيرة أكثر مما تعكسها العلوم الاجتماعية كافة. (9)
مما يميز كتابات جلال أمين نسجه العام بالخاص، فنجده في سيرته الذاتية "ماذا علمتني الحياة؟" يحكي عن وضع الطبقة الوسطى المصرية وقت الحرب، وكيف كانت في وضعها المادي أفضل مقارنة بالطبقة الوسطى الإنجليزية في هذه المرحلة، فقد تمكن خلال فترة الحرب من الذهاب إلى مصيف "رأس البر" والتمتع برفاهية المكوث في فندق خمسة نجوم، ثم بعد انتهاء الحرب زالت هذه الرفاهية وعادوا للمصيف في الإسكندرية، وساء وضع مدينة رأس البر فلم تعد موقعا مختارا لأبناء الطبقة البرجوازية المصرية والطبقات العليا.
وقد كانت السينما مصدر متعتهم الرئيس، رغم ما كانت تقدمه من أفلام غارقة في الميلودراما، تدور حول الصراع بين الخير المطلق والشر المطلق، وتنتهي بانتصار الخير. وخلال فترة الحرب العالمية الثانية عرضت السينما أفلام الواقعية الإيطالية كـ "سارق الدراجة" للمخرج دي سيكا، وأفلام فيلليني، مما جعلهم يتفاعلون مع الأفكار الاشتراكية في سن مبكرة ويخضون رحلة التفلسف والإمتاع من خلال مشاهدة هذه النوعية من الأفلام. فقد دأبوا على الذهاب إلى سينما سان ستيفانو بمصر الجديدة، التي تغير اسمها ليعكس التحولات الاجتماعية والسياسية في مصر، فقد سميت فريال حينما رزق الملك فاروق بابنته فريال، ثم تغيرت إلى سينما التحرير بعد قيام ثورة يوليو/تموز 1952.
ساعدت الحرب العالمية الثانية على دخول أنماط مختلفة من الموسيقى الغربية إلى مصر، بالإضافة إلى ظهور كتابات السير الذاتية التي تعكس رحلة خاضها بعض الكُتّاب في هذا العصر لمدن غربية كبرى كــ "زهرة العمر" لتوفيق الحكيم الذي وصف فيها رحلته إلى باريس، واستمتاعه بسماع بيتهوفن، فانتشرت موسيقى بيتهوفن وتشايكوفسكي وشوبان وغيرهم. ويضيف جلال أمين أن الإذاعة كان تبث في هذه الفترة ألحان صالح عبد الحي وعزيز عثمان، اللذين بدوا أكثر المطربين حداثة في هذه الفترة.
كان جلال أمين في صباه يضيق ببطء الإيقاع في أغاني أم كلثوم، ويفضل عليها الألحان الغربية، ولكن لم يلبث كثيرا حتى تيقن أن ثمة متعة في هذا الإيقاع البطيء وفي هذه الألحان لا تختلف كثيرا عن المتعة الخالصة التي يستمع بها للموسيقى الغربية الكلاسيكية. (10)
لم يبدُ أن جلال أمين قد أحب دراسة الحقوق، رأى الكلية في ذلك الوقت أكثر ضجرا، ولم يكن بها أي صخب أو حيوية أو أي من مظاهر الفرح، وكانت رؤية وجه أحد الأساتذة عن قرب سائرا في بهو الكلية هو أقرب إلى رؤية رئيس الجمهورية، على العكس تماما من الحيوية التي امتلأت بها كلية لندن للاقتصاد التي سافر إليها بعدما أنهى دراسته للحقوق، ينقل لنا وضع الفتيات في هذه الفترة في كلية الحقوق، فلم يتجاوز عددهن عشر فتيات بين 800 طالب، يدخلن خائفات يحتمين في المحاضر، يجلسن في الصف الأول ولا يمشين إلا مجتمعات، ولا يتمتعن بقدر من الجمال اللافت.
لم تكن الشريعة الإسلامية في مكانتها التي تستحقها في كلية الحقوق، بدت غريبة في مكان جُعل القانون الوضعي فيه في المركز الأول، وبدت لغة المحاضرين منبتة الصلة عن الواقع، ولكنه يذكر أسماء كبرى درست لهم مثل الشيخ محمد الحفيف، والشيخ محمد أبو زهرة، والشيخ عبد الوهاب خلاف، وقد تعلم منهم الكثير. (11) أما رحلة لندن التي امتدت لعامين لدراسة الاقتصاد، تعرف خلالها على الكتابات الرئيسة في الاقتصاد الغربي، ودرس على يد أساتذة اقتصاد مشهورين، وتعرف على زوجته الإنجليزية التي كانت صديقة مشتركة لزميلة عراقية تدرس معه في الجامعة، وكان زواجه منها سلسا: طلب منها العودة معه إلى مصر بعد حصوله على الدكتوراه؟ فوافقت.
كانت مدينة لندن ومدينة كامبردج من أقرب المدن البريطانية إلى قلب جلال أمين، لم يتحدث جلال أمين عن رحلة سفره لإنجلترا بالفكرة الشائعة عن صدام رجل شرقي يواجه الحياة الأوروبية لأول مرة، قد يرجع ذلك لسفره في سن مبكرة قبل ذلك لزيارة أحد إخوته في فترة دراسته، وكانت تجربته أكثر حميمية، فقد تزوج من فتاة إنجليزية مسيحية لأسرة غير متدينة في بلدة صغيرة في إنجلترا، وكانت رحلته السنوية لقضاء عطلته هناك بين الخضرة والبحر في البيت الصغير الجميل الذي اشتراه من مجموع مدخراته في فترة عمله في الكويت. (12)
انتقد جلال أمين الديمقراطية الأميركية، ورأى أن رواية "1948" التي تعكس الأوضاع السلطوية والاستبداد في الاتحاد السوفيتي تنطبق على أوضاع الولايات المتحدة أيضا
أما الكويت التي أمضى فيها أربع سنوات من عمله حينما التحق بالعمل كمستشار اقتصادي للصندوق الكويتي للتنمية خلال الفترة من 1974- 1978، فلم يكن يحبها رغم راحة الإقامة بها واستقرار معيشته فيها، فلم يرق له الثبات وعدم تجدد الحياة والراحة الخاملة فيها رغم توفر القدرة على الادخار، ومما لاحظه أن الكويتيين أكثر اكتفاء بأنفسهم حينئذ، فلم يكونوا يحتكون كثيرا بالعرب، وحينما شعر أنه ليس هناك أفق متجدد في حياته بالكويت، أخذ قراره بالرجوع إلى مصر، وعندئذ جاءته فرصة للسفر إلى الولايات المتحدة الأميركية، ليعمل كأستاذ زائر للاقتصاد في جامعة كاليفورنيا.
مدينة لوس أنجلوس كانت شرفته التي يرى منها الولايات المتحدة الأميركية بجانب نظارة كاتبه المفضل على الإطلاق، جورج أورويل، فقد انتقد جلال أمين الديمقراطية الأميركية، ورأى أن رواية "1948" التي تعكس الأوضاع السلطوية والاستبداد في الاتحاد السوفيتي تنطبق على أوضاع الولايات المتحدة أيضا. وكان يرى أن النظام الأميركي مصمم لخدمة الرجل العادي والمرأة العادية متوسطي الذكاء والخيال والخلق، ووجد أن الأميركيين أكثر ولعا بالأرقام، فهم يبيعون السلع بالكسور العشرية، ويسعون لتحقيق أكبر قدر من الكفاءة، أي أكبر كمية إنتاج ممكنة بأقل تكلفة محتملة. وقد رأى أن الأميركيين يشبهون الطالب المصري الأرستقراطي الذي لم يصادف مشكلة مادية قط، وتخرج في مدرسة أجنبية، يتميز بالدماثة والرقة والسذاجة والتفاؤل والبساطة مع عدم قدرة على تكوين علاقات اجتماعية عميقة، ولا يبدون أي رغبة في التحليل وينفرون من أي جهد ذهني يُبذل لوجه الله.
وفي إحدى رسائله لأخيه حسين يصف له مدينة لوس أنجلوس قائلا: "إنها مدينة غنية بالثقافة والسلع، وإن كثرة السلع تجعلك حائرا في الانتقاء، كأن تقف ساعات لتختار قميصا وسط كل آلاف المعروضات، وأنه على الرغم من جمال المدينة وبيوتها البديعة وحدائقها شديدة التنسيق فإنه ينقصها شيء، يحاول الجميع فيها البحث عن معنى، ويختم رسالته متعجبا، لماذا عجز مجتمع بكل هذا الرخاء أن يعطي للحياة معنى؟13 لم يمض جلال أمين فترة طويلة في الولايات المتحدة وعاد إلى مصر ليدرس الاقتصاد بالجامعة الأميركية بالقاهرة.
من خلال قراءة كتب السيرة الذاتية الثلاثة لجلال أمين، يتبين أن ما جعل جلال أمين أهم كتاب علم الاجتماع في مصر والعالم العربي هو حبه لمهنة التدريس، حيث يرى جلال أمين أن علاقته بالتدريس وتقديره له نابع من عيب في طباعه وتناقضات شخصيته، وهو عدم ثقته الكافية بنفسه واحتياجه المتواصل إلى ثناء الآخرين عليه وتقديرهم له ليزداد ثقة في نفسه، ووفرت له مهنة التدريس ذلك، فضلا عن قدرته على تبسيط المعلومات ومتعته في توصيلها للآخرين، فكان يبذل جهدا في التحضير للدروس ويبحث عن سبل الشرح الجيد حتى يستوعبها الطلاب، ومن ثم يلقى منهم التقدير ونظرات الإعجاب، وخاصة من الطالبات الجميلات منهن، ليقاوم شعوره المهتز بالثقة بأنه لن يجد فتاة تعجب به
كانت الجامعة الأميركية الفضاء الأمثل له، فمن ناحية توفر له الوضع المادي المستقر مقارنة بالتدريس في الجامعات المصرية الأخرى، وكانت له حرية اختيار الكتب التي يريد تدريسها، فكان يدرس مقررات تاريخ الفكر الاقتصادي، وأتاح له ذلك إعادة قراءة الكلاسيكيات ونقدها. كما وفرت له الجامعة، غير الكتب والدوريات المتجددة، الفرصة للتفرغ لعام كامل لمشروع بحثي، فخرج كتابه المهم "قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي حتى مبارك". (14)
ظل كتاب جلال أمين "ماذا حدث للمصريين؟" هو العمل الأشهر له، لدرجة شكواه من هذا، فقد شبه نفسه بيحيى حقي الذي اقترن اسمه برواية "قنديل أم هاشم"، رغم أن له أعمالا روائية يراها أفضل منها، رحلة جلال أمين مع الكتابة رحلة اكتشاف وتجربة، وليست طريقا محدد سلفا، فرحلة كتابة "ماذا حدث للمصريين" بدأت في أواخر السبعينيات حينما كانت ابنته في الشهادة الابتدائية، وكان الحديث في مصر لا يخلو من كلمة السلام، فالكوبري يسمونه السلام، أو حتى محلات الأسماك، فضلا عن الإذاعة وأجهزة الإعلام المختلفة التي لا تكاد يخلو بثها من كلمة السلام، حتى وصل الأمر إلى امتحان الابتدائية الذي يخاطب الطلاب بكتابة موضوع إنشائي عن السلام ومدح اتفاقية السلام مع إسرائيل.
فاعترض جلال أمين وكتب مقالا أراد نشره في جريدة الأهرام فرُفض، فبعثه للأهرام الاقتصادي فنُشر ولقى صدى واسعا وقبولا، ومن هنا ظهر لجلال أمين بعد ثناء الكثيرين على مقاله مساحة جديدة غير الاقتصاد وهي الكتابة، فاستعاد ذكريات صباه حينما نشر والده أولى مقالاته في مجلة الثقافة التي كان يرأسها، وبدأت تراوده أحلام الصبا بأن يكون كاتبا، ووجد أن هذا النوع من الكتابة هو الأقرب لنفسه ما يمزج فيه الخاص بالعام، يحكي عن تجاربه الذاتية ويحلل التغييرات الاجتماعية المصاحبة لها. فطُلب منه في خلال فترة التسعينيات كتابة عدد من المقالات يبيّن فيها التغييرات التي لحقت بالمجتمع المصري منذ خمسين عاما، فظهرت مقالات "ماذا حدث للمصريين" التي لقيت نجاحا مذهلا، لأنها تعبر عن الواقع المصري حقيقة، تناول جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين" التغييرات التي طرأت على الزواج والطلاق وتربية الأبناء والزي والأجهزة الكهربائية، وتوالت أعماله ذات الطابع نفسه الذي يمزج بين الاقتصاد والاجتماع والثقافة، ويحكي عن جده ووالده وحياته الخاصة كمرآة يرى فيها المجتمع المصري كله، مثل "عصر الجماهير الغفيرة"، و"وصف مصر"، و"مصر والمصريون في عهد مبارك". (15)
أما الكتابات الأخيرة لجلال أمين مثل "رحيق العمر" و"مكتوب على الجبين" هي كتابات يلملم فيها ما قد سقط منه من أعماله السابقة خاصة سيرته الذاتية "ماذا علمتني الحياة"، ويشبه جلال أمين نفسه في كتابة هذه الأعمال بذلك الراكب المتجه بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية، وحينما يتوقف القطار في محطة سيدي جابر، تلك المحطة الصغيرة التي تشير إلى قرب محطته الأخيرة التي سينزل بها، يلملم أشياءه وينظم حاجاته وحقائبه، وهذا هو وضعه وقد اقترب من الثمانين آنذاك، وأوشك على الوصول إلى محطته الأخيرة. (16)
حينما سُئل جلال أمين في أحد اللقاءات الحوارية معه: "الحياة حلوة؟"، رد قائلا: "سؤال مدهش، مش مفروض الشخص الحي يسأل السؤال ده، هي نعمة ربنا أعطاها لك، لا ترفضها"، سكت ثوان معدودة ثم أضاف: "معظمها حلوة". وفي كتابه "ماذا علمتني الحياة" يختمه بمشهد ولادة حفيده وموت والد زوجته في ذات اليوم، ليؤكد أن الحياة حافلة بكل أنواع الحزن والسرور، فكل نهاية تتحول إلى بداية واعدة بكل أنواع الحزن والسرور.
قد تختلف مع مشروع جلال أمين أو تتفق، قد تنكر عليه بعض آرائه الأخيرة المنشورة على صفحات الجرائد كالشروق أو غيرها، ولكن لن تستطيع أن تنكر أننا مدينون له بمراجعته لزمن حياته الذي جاوز ثلاثة وثمانين عاما برحيله يوم 25 سبتمبر/أيلول 2018، ومزجه بنسيج المجتمع المصري، لننظر إلى الخلف معه فنفهم "ماذا حدث للمصريين"؟كانت الجامعة الأميركية الفضاء الأمثل له، فمن ناحية توفر له الوضع المادي المستقر مقارنة بالتدريس في الجامعات المصرية الأخرى، وكانت له حرية اختيار الكتب التي يريد تدريسها، فكان يدرس مقررات تاريخ الفكر الاقتصادي، وأتاح له ذلك إعادة قراءة الكلاسيكيات ونقدها. كما وفرت له الجامعة، غير الكتب والدوريات المتجددة، الفرصة للتفرغ لعام كامل لمشروع بحثي، فخرج كتابه المهم "قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي حتى مبارك". (14)
ظل كتاب جلال أمين "ماذا حدث للمصريين؟" هو العمل الأشهر له، لدرجة شكواه من هذا، فقد شبه نفسه بيحيى حقي الذي اقترن اسمه برواية "قنديل أم هاشم"، رغم أن له أعمالا روائية يراها أفضل منها، رحلة جلال أمين مع الكتابة رحلة اكتشاف وتجربة، وليست طريقا محدد سلفا، فرحلة كتابة "ماذا حدث للمصريين" بدأت في أواخر السبعينيات حينما كانت ابنته في الشهادة الابتدائية، وكان الحديث في مصر لا يخلو من كلمة السلام، فالكوبري يسمونه السلام، أو حتى محلات الأسماك، فضلا عن الإذاعة وأجهزة الإعلام المختلفة التي لا تكاد يخلو بثها من كلمة السلام، حتى وصل الأمر إلى امتحان الابتدائية الذي يخاطب الطلاب بكتابة موضوع إنشائي عن السلام ومدح اتفاقية السلام مع إسرائيل.
فاعترض جلال أمين وكتب مقالا أراد نشره في جريدة الأهرام فرُفض، فبعثه للأهرام الاقتصادي فنُشر ولقى صدى واسعا وقبولا، ومن هنا ظهر لجلال أمين بعد ثناء الكثيرين على مقاله مساحة جديدة غير الاقتصاد وهي الكتابة، فاستعاد ذكريات صباه حينما نشر والده أولى مقالاته في مجلة الثقافة التي كان يرأسها، وبدأت تراوده أحلام الصبا بأن يكون كاتبا، ووجد أن هذا النوع من الكتابة هو الأقرب لنفسه ما يمزج فيه الخاص بالعام، يحكي عن تجاربه الذاتية ويحلل التغييرات الاجتماعية المصاحبة لها. فطُلب منه في خلال فترة التسعينيات كتابة عدد من المقالات يبيّن فيها التغييرات التي لحقت بالمجتمع المصري منذ خمسين عاما، فظهرت مقالات "ماذا حدث للمصريين" التي لقيت نجاحا مذهلا، لأنها تعبر عن الواقع المصري حقيقة، تناول جلال أمين في كتابه "ماذا حدث للمصريين" التغييرات التي طرأت على الزواج والطلاق وتربية الأبناء والزي والأجهزة الكهربائية، وتوالت أعماله ذات الطابع نفسه الذي يمزج بين الاقتصاد والاجتماع والثقافة، ويحكي عن جده ووالده وحياته الخاصة كمرآة يرى فيها المجتمع المصري كله، مثل "عصر الجماهير الغفيرة"، و"وصف مصر"، و"مصر والمصريون في عهد مبارك". (15)
أما الكتابات الأخيرة لجلال أمين مثل "رحيق العمر" و"مكتوب على الجبين" هي كتابات يلملم فيها ما قد سقط منه من أعماله السابقة خاصة سيرته الذاتية "ماذا علمتني الحياة"، ويشبه جلال أمين نفسه في كتابة هذه الأعمال بذلك الراكب المتجه بالقطار من القاهرة إلى الإسكندرية، وحينما يتوقف القطار في محطة سيدي جابر، تلك المحطة الصغيرة التي تشير إلى قرب محطته الأخيرة التي سينزل بها، يلملم أشياءه وينظم حاجاته وحقائبه، وهذا هو وضعه وقد اقترب من الثمانين آنذاك، وأوشك على الوصول إلى محطته الأخيرة. (16)
حينما سُئل جلال أمين في أحد اللقاءات الحوارية معه: "الحياة حلوة؟"، رد قائلا: "سؤال مدهش، مش مفروض الشخص الحي يسأل السؤال ده، هي نعمة ربنا أعطاها لك، لا ترفضها"، سكت ثوان معدودة ثم أضاف: "معظمها حلوة". وفي كتابه "ماذا علمتني الحياة" يختمه بمشهد ولادة حفيده وموت والد زوجته في ذات اليوم، ليؤكد أن الحياة حافلة بكل أنواع الحزن والسرور، فكل نهاية تتحول إلى بداية واعدة بكل أنواع الحزن والسرور.
قد تختلف مع مشروع جلال أمين أو تتفق، قد تنكر عليه بعض آرائه الأخيرة المنشورة على صفحات الجرائد كالشروق أو غيرها، ولكن لن تستطيع أن تنكر أننا مدينون له بمراجعته لزمن حياته الذي جاوز ثلاثة وثمانين عاما برحيله يوم 25 سبتمبر/أيلول 2018، ومزجه بنسيج المجتمع المصري، لننظر إلى الخلف معه فنفهم "ماذا حدث للمصريين"؟