الباحث الآن قد أعد نفسه ثقافيا وعقليا وقرأ في كتب التاريخ العام حتى استقر على عصر معين ثم قرأ بتمهل في تاريخ ذلك العصر حتى وقع اختياره على ناحية فيه لتكون موضوعا لبحثه ثم اختار العنوان المناسب للموضوع .
بعدها عليه أن يبدأ البحث الفعلي وذلك بالتعامل مع المصادر التاريخية التي يستقى منها مادة البحث .
1 ـ والمصادر التاريخية تتنوع من حيث الشكل إلى :
* مصادر أصلية وهى نوعان : وثائق وكتب .
والوثائق هي غاية في التنوع شكلا ومضمونا ، منها مراسلات سياسية ، أو مذكرات يكتبها أصحاب الشأن لأنفسهم ، ووثائق عن عقود للبيع أو الشراء أو الوقف ، ووثائق سجلات رسمية في الدواوين تنظم الخراج والضرائب والدخل والمنصرف .... وكلها تكشف أسرار العصر الذي كتبت فيه من نواحيه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية .
والكتب كمصادر أصلية نوعان :
مصادر لا تزال مخطوطة ، أو مطبوعة (بدون تحقيق علمي) ، أو مطبوعة (محققة منشورة).
* مصادر فرعية بحثية ، منها المنشور فى كتب أو دوريات علمية ، ومنها غير المنشورة كأبحاث الماجستير والدكتوراة التي لم تنل حظها من النشر.
2- وتتنوع المصادر التاريخية من حيث المضمون أيضا :
* فهناك مصادر أصلية أصيلة وأهمها كتب التاريخ الحولية التي كتبها مؤرخو العصر المراد بحثه، حيث كان المؤرخ يسجل أحداث عصره باليوم والشهر على مدار العام أو الحول فسميت مصادر حولية أو التاريخ الحولى نسبة للحول . وكلما كان المؤرخ قريبا من عصره كلما ارتفعت القيمة العلمية لكتاباته ، لأن المؤرخ حينئذ شاهد على عصره يسجل حوادثه اليومية والشهرية وتتسع أحيانا صفحات تاريخه لتسجل حياة الناس العاديين ونبض الشارع في عصره ومختلف النشاطات العلمية والثقافية والاجتماعية، فضلا عن أخبار الحكام وتحركاتهم وانعكاسها على المستوى الشعبي .
والعادة فى كتب الحوليات أن يبدأ المؤرخ كتابه بالسيرة النبوية ويتابع التأريخ لعصور الخلفاء الى أن يصل الى عصره ، وفى التاريخ للماضى يعتمد على النقل عن الآخرين بالتلخيص والايجاز الى أن يصل الى عصره فتتسع كتاباته وتتعمق . ولذا فإن الأجزاء الأخيرة من كتب الحوليات هى التى تحوى تفصيلات تعتبر زادا ثمينا للباحث ، ومهمة الباحث أن يتوفر عليها قارئا متمعنا ليعيش واقع العصر الذي يبحثه ويستطيع التعبير عنه كأحد أبنائه .
وأشهر الحوليات التاريخية تاريخ الطبرى وتاريخ ابن الأثير وتاريخ المسعودى والمنتظم لابن الجوزى فى العصرين الأموى والعباسى ، أما فى التاريخ المملوكى فاشهرها السلوك للمقريزى والأجزاء التاريخية الأخيرة من موسوعة النويرى (نهاية الأرب ) وتاريخ العينى والأجزاء الأخيرة من تاريخ ابن كثير ، والنجوم الزاهرة لأبى المحاسن وتاريخ ابن اياس .. وفى العصر العثمانى وبداية النهضة مع الحملة الفرنسية وعصر محمد على تجد تاريخ الجبرتى.
وبجانب التاريخ الحولى (العام ) هناك مصادر تاريخية أصلية كتبها مؤرخون فى عصرهم يعبرون عن عصرهم وتاريخه مثل تاريخ البلاد والمدن ( مثل تاريخ بغداد ـ تاريخ دمشق ـ والكتب المختلفة فى تاريخ مصر والقاهرة ).
وهناك تاريخ تخصص فى العمران وأحياء مدن بعينها مثل خطط الكوفة و خطط البصرة ومكة و المدينة وأشهرها الخطط للمقريزى فى ضواحى القاهرة ..
وهناك تاريخ الطبقات الذى يؤرخ للصحابة والتابعين ( الطبقات الكبرى لابن سعد ) أو لأجيال الفقهاء حسب المذاهب ( طبقات الشافعية للسبكى مثلا ) أو يؤرخ للصوفية ( طبقات الصوفية للسلمى ) و(الطبقات الكبرى للشعرانى ) أو المغنيين ( الأغانى للأصفهانى )أو (الحكماء ) أى العلماء فى الطب و الطبيعيات ، وهناك تراجم أو تأريخ عام للشخصيات المشهورة من حكام وعلماءو أدباء وشعراء مثل (وفيات الأعيان لابن خلكان ، وفوات الوفيات لابن شاكر و الوافى بالوفيات للصفدى..)
وهناك تأريخ لعلماء قرن معين من الزمان مثل ( الدررالكامنة فى أعيان المائة الثامنة ) لابن حجر ، و(الضوء اللامع لأعيان القرن التاسع ) للسخاوى ، و(الكواكب السائرة فى أعيان المائة العاشرة ) للغزى ..
وهناك تاريخ متخصص فى دول معينة وسلالات حاكمة كالدولة والخلافة العباسية و الدول الغزنوية والمملوكية و الفاطمية..
وهناك من المصادر التاريخية الذى يحمل عنوانا خادعا مثل تاريخ العبر لابن خلدون الذى يوهمك بأنه تاريخ عام ثم تراه بعد قليل قد تخصص فى تاريخ شمال افريقيا .
3- ومن المصادر الأصلية كتابات غير تاريخية إلا أنها تكشف عن نواحي هامة في العصر الذي كتبت خلاله ، مثل الوثائق المختلفة والتي أشرنا إليها .
فهذه الوثائق لم يقصد بها أن تكون تاريخا للعصر وإنما كتبت للغرض الذي صيغت من أجله كالمراسلات والعقود والسجلات إلخ ... ولعلها بذلك تكون أقرب للتصديق والثقة .... فكاتبها ليس مؤرخا يكتب معبرا عن وجهة نظره أو عما يحب أو يكره ويقصد أن يؤثر على القارئ من خلال ما يكتب ، فهذا حال المؤرخ ـ الذي ينقل الأحداث من وجهة نظره في الأغلب ، أما كاتب الوثيقة فقد كتبها للغرض الذي كتبت من أجله فقط ثم حفظت هذه الوثائق وبمرور الزمن أصبحت شاهدا على العصر وظروفه وتعاملاته .
وعلى سبيل المثال فهناك وثائق للوقف على المؤسسات الدينية فى العصر المملوكى تعتتبر كنزا للبحث عن أسرار الحياة فى العصر المملوكى ، لأن الذى أنشأ مؤسسة دينية كالمساجد والأضرحة والتكايا والزوايا و الخوانق والأربطة ( جمع رباط ) كان يجعلها مؤسسة جامعة للتعليم والمعرفة و أنواع البر والصدقات ، ففيها مكتبة ومكتب لتعليم الصبيان ومدرسة لتعليم الطلبة البالغين ومساكن للصبية وللطلبة والمدرسين والموظفين العاملين فى الخدمات كالفراش والسّقاء وخازن المكتبة والمؤذن وأشخاص من الصوفية يقيمون فيها للعزلة والعبادة والدعاء لمؤسس تلك المؤسسة ، ويكتب عقد المؤسسة وفيه بيانات بعدد الموظفين والمدرسين والطلبة والمناهج التى يدرسونها من تفسير وحديث و قراءات و فقه على المذاهب الأربعة ، وطريقة التدريس ومواعيد الدرس وواجبات الطلبة و المدرسين و بقية الموظفين ، وقواعد الاستعارة من المكتبة ،و شروط التعيين وقواعد العمل طيلة اليوم والآداب المفروض التزامها و العقوبات المقررة ومبررات العزل والطرد ..الخ بالاضافة الى قواعد صرف المرتبات والمكافئات العينية والنقدية ، وكيفية ادارة الأراضى الموقوفة على تلك المؤسسة أو المحلات التجارية ، وقواعد التعامل مع الفلاحين والعمال والمستأجرين ..الخ. وكلها تفصيلات تصور ـ بطريق غير مباشر ـ الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعقلية والدينية للعصر المملوكى ، وبالطبع تمت صياغتها بعفوية لتعبر عن عصرها دون أن يفكر كاتبها أنه سيأتى الوقت الذى تصبح فيه تلك العقود وثائق تاريخية نستخدمها الآن كمصادر تاريخية تعبر عن المسكوت عنه والذى أهمله المؤرخون فى العصر لتلك النواحى الاجتماعية والاقتصادية .
4- وأيضا من المصادر الأصلية ( الضرورية ) غير التاريخية الكتابات التي تعبر عن ثقافة العصر ومعتقداته ، ويأخذ الباحث منها ما يناسب موضوعه ؛ فمن اختار الحياة العلمية في عصر ما عليه بالرجوع إلى مؤلفات العصر المتنوعة من حديث وتفسير وخلافه ... ومن اختار ناحية في النظم كالقضاء عليه بالرجوع لما كتب في هذا المجال في عصره بالإضافة إلى كتب الفقه التي دبجها الفقهاء في عصره . ومن توفر على درس الحياة الاجتماعية في العصر فعليه بالرجوع إلى كتب الأدب ـ فالأدب دائما صورة للحياة وكتب التراث الشعبي إن وجدت ـ والمسامرات.
ويتسع المجال أمامه ليرصد كل ما كتب في ذلك خاصا بالمجتمع وطوائفه وعاداته وتقاليده ومعتقداته.
وهناك نوعية من الكتابة الفقهية ،أسميتها كتب الفقه الوعظى ، وهى تختلف عن كتب الفقه العادى فى أنها تتضمن تعليقا على ما في المجتمع ونقدا له بهدف الاصلاح والوعظ، وقد بدأ بها الغزالى فى بعض أجزاء من كتابه ( إحياء علوم الدين ) ، ثم توسع فيها ابن الجوزى فى كتابه (تلبيس ابليس )، وسار على نهجه ابن القيم فى كتابه ( إغاثة اللهفان من مكائد الشيطان ) ، وأبرزها كتاب (المدخل ) للفقيه ابن الحاج العبدرى . وكل هذه الكتب الفقهية الوعظية تأخذ طريقة النقد لما يحدث في عصر الفقيه من تجاوزات تحدث من أفراد المجتمع وطبقاته ، فيأتى كتابه جامعا بين الفقه والتاريخ الاجتماعى والدينى ، وإن لم يقصد أن يؤرخ لعصره ومجتمعه.
5- وهناك كتابات الرحالة .. وهى كنز ثمين للباحث التاريخى لأن الرحالة يسجل كل ما يراه غريبا من وجهة نظره ، وهذا الذى يعتبره الرحالة غريبا قد يراه المؤرخون من اهل البلد شيئا معتادا لا يستحق التسجيل ، وقد تنتهى تلك الظاهرة الاجتماعية دون تسجيل ، وبعضها حظى بانتباه احد الرحالة فقام بتسجيلها فضمن حفظها لنا .
كما أن الرحالة يستهويه تسجيل الحياة الاجتنماعية وعلاقاته بالأشخاص العاديين الذين قابلهم والظروف التى عانى منها ، مع تفصيل للأمكنة و الطرق والمعالم التى فى المدن من المبانى و الشوارع والأسواق و الخانات و الفنادق والمقابر وطرق السير و القوافل وعيون المياه ، وكل ما يرتبط بذلك من علاقات وعادات اجتماعية وطقوس دينية ومعتقدات شعبية و لمحات سياسية وأنشطة تجارية واقتصادية ، وكلها أمور لا يهتم بها المؤرخون المحليون الذين يدورون فى موكب السلطان ولا متسع لديهم لهذه التفصيلات الاجتماعية والأحوال الشعبية.
على أن أفضل ما فى كتابات الرحالة أنه ـ دون ان يدرى ـ يعطينا لمحات من تاريخ بلده الأصلى حين يقارن بين بلده الأصلى وما يراه فى البلاد التى يزورها ، فينقل إشارات حية عن بلده وتلك البلاد التى يزورها .
وهو فى كل ما يفعل قد لا يقصد التاريخ ولكن مجرد التسجيل ، لذا يكون أكثر صدقية من المؤرخ ابن البلد صاحب العلاقات و المصالح والأهواء..
وأشهر كتب الرحالة رحلة ناصر خسرو فى العصر العباسى ورحلة ابن جبير فى عصر صلاح الدين الأيوبى ، ورحلة ابن بطوطة ورحلة ابن ظهيرة فى العصر المملوكى ، ورحلة النابلسى فى العصر العثمانى . ويضاف الى ذلك رحلات الرحالة الأوربيين مثل رحلة نيبور فى العصر العثمانى .. وسننشر دراسات عن تلك الرحلات كمصادر تاريخية ...
6 ـ على أن هذه المصادر غير التاريخية تختلف حسب طبيعة العصر المراد بحثه كما تختلف حسب الموضوع .
فلكل عصر سماته العقلية والدينية والاجتماعية ،وهذه السمات المختلفة لكل عصر تؤثر بلا شك على أتجاه المؤلفات فيه وعددها وقيمتها ،ثم تأتي الاختلافات السياسية والجنسية والعرقية لتزيد من اختلافات العصور وتزداد معها الاختلافات في الإنتاج العلمي لكل عصر .
والمؤرخ الذي يبحث عصرا معينا عليه أن يعايش منذ البداية ـ هذا العصر ليدرك مميزاته وعيوبه وسماته الشخصية التي ينفرد بها.
وعلى سبيل المثال فالعصر المملوكي كانت من سماته الأساسية سيطرة التصوف عليه ،وانعكس هذا على اتجاه المؤلفات وقيمتها العلمية ،وبرز جانب هام من المؤلفات كان يشيد بمناقب الأولياء الصوفية وما لهم من حظوة عند الله بزعمهم وما لهم من تصريف في الكون وما يتمتعون به من تقديس الناس .وكتب المناقب هذه خير معين على فهم نفسية العصر المملوكي ومعتقداته الدينية والاجتماعية .. وفيها نبض العصر المملوكي الفعلي .
وإذا انتقلنا إلي العصر العثماني وجدنا السمات الأساسية فيه الجمود والتخلف مع شدة التأثير الصوفي ،ولذلك كله انعكاساته على نبض العصر ومؤلفاته وتحركاته ..
وعليه فالباحث مطالب بفهم نفسية العصر ، وبرجوعه إلى كتب الطبقات التى تؤرخ لعلماء كل عصر فسيعرف الاتجاه العام لمؤلفي عصره ، خصوصا إذا راجع مؤلفاتهم ، ومن هنا يتمكن الباحث من تحديد المصادر غير التاريخية التي تعينه في بحث موضوعه في ذلك العصر .
7- ومن الضروري للباحث أن يكتب في مفكرة خاصة خواطره وتعليقاته على كل مصدر اعتمد عليه ، واتجاه مؤلف الكتاب وعقليته ونبذة عن تاريخه مستقاة من بين سطور كتابه ، ومدى ما استفاده من ذلك المصدر ليذيل بذلك تعليقاته على المصادر عند الانتهاء من كتابة البحث.
هذه المقالة تمت قرائتها 219 مرة