العنوان هو عبارة قالتها ميشال أوباما، زوجة الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما، فور ظهور صورة زوجها في القنوات التليفزيونية، وتحتها عبارة "الرئيس الأمريكي المنتخب".. حين استمعت إلى هذه العبارة في إذاعة الـBBC، شعرت كما لو أن شوكة قد وخزتني في صدري.. هذه السيدة البسيطة قد صارت الآن السيدة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي تستشعر روعة أن تعيش على أرض ووسط شعب، أتاح لها ولزوجها أن يحققا ذاتهما، وأن يحصلا على ثمار ما زرعا، وما بذلا من جهد¡l;، بعد أن جمعت لهما تلك الأمة 600 مليون دولار، لكي يصلا إلى البيت الأبيض.. هكذا بالحقيقة يمكن أن يحب، بل ويعشق الإنسان وطنه.. حين يتيح له. يساعده. يحفزه على تحقيق ذاته.
كانت ميشال في اللحظة التي تفوهت فيها بتلك العبارة، سعيدة بنفسها وبزوجها وبوطنها.. وجدت نفسها فجأة على أكتاف 300 مليون أمريكي، يهتف غالبيتهم فرحاً، ويتقدم الباقون للتهنئة، وإعلان الولاء والمساندة، من أجل غد أفضل لأمريكا الوطن والحلم.. وجدت فسها فجأة عملاقة، بذات الحجم الذي راودها في أحلامها، لكن تلك الرؤية المتعاظمة لذاتها، لم تحول عينيها عن مصدر تلك العظمة، وهو الدولة التي تمثل الأرض والناس، ونظام الحياة ومجموعة القيم التي تحكمهم.. ليس فقط النظام السياسي الديموقراطي، الذي جعل تبادل السلطة ممكناً، بمثل ذلك اليسر والروعة، بقوانينه ولوائحه، لكنه نظام الحياة للناس، البسطاء منهم وغير البسطاء.. نظام ومنهج حياة يحتفي بالإنسان الفرد لمجرد كونه إنسان، فهذا وحده يكفي لكي يكون كياناً ثميناً وجديراً بكل احترام ورعاية وتكريم.. ليس مهماً عندها، إلى أي عرق أو دين ينتمي، أو ما إذا كان يعبد الله بالطريقة التي نعتبرها الوحيدة الصحيحة، أو أنه لا يتعبد من الأساس.
نظام حياة يخلو من مستنقعات موحلة وآسنة، يمكن أن يجد الفرد نفسه غارقاً فيها إلى ما فوق أذنيه، إذا ما كان قد تم تصنيفه ضمن أقلية، تعدها الأغلبية محتقرة ومرزولة، لأنها أدنى عرقياً، أو مصنفة دينياً ككافرة ومشركة وعدوة لله.. نظام حياة لا يضيق بتفوق المتفوقين، ولا ينظر إليهم بحقد وحسد وريبة، ويتحرك ليسحقهم سريعاً تحت الأقدام، لكن يشعرك المجتمع أن نجاحك قضيته، وأنه يعمل معك على تحقيق ذاتك، لأنه مجتمع للناجحين، وليس للفاشلين الذين يترصدون بغل كل ناجح، متوجسين أن يفضح بنجاحه فشلهم، ليجد المرء نفسه كما لو كان يسير في غابة، تكمن له خلف أشجارها عشرات العيون المتربصة والحاقدة، تنصب له الشراك في كل خطوة يخطوها.
وجدتني في غمار ما اجتاحني من أفكار، جراء وقع عبارة ميشال أوباما، أستدير إلى نفسي لأسائلها، إن كنت أنا أيضاً أستشعر "روعة الدولة التي أعيش فيها".. لعل الفارق بين الدولتين، الدولة الأمريكية، والدولة المصرية، هو الفارق بين حلمين، الحلم الأمريكي، والحلم المصري.. كذا في الفارق بين فرص تحقق كل من الحلمين على أرض الواقع.. الحلم الأمريكي قبل أن يكون حلماً بالثروة، هو حلم بتحقيق الذات، يعطي فيه الإنسان كل ما عنده، ليجني ثماره بعد ذلك كاملة، ثروة وحياة ثرية بكل جوانبها.. فرص تحقيق ذلك الحلم لا يحدها إلا قدرة الإنسان على بذل جهد بحجم طموحه، دون أن يعني ذلك أن الأرض مفروشة بالورود، ليقوم الحالون باقتطاف الرمان والأعناب، وهم يتبخترون على بساط أخضر، لكنه العرق والدم، هو ثمن تجسد كل حلم أمريكي على أرض الواقع.
في المقابل إذا نظرنا إلى الحلم المصري مثلاً، فسنجده من الأساس كسيح، حتى على مستوى الأفكار أو رؤى الليل، ولا يتجاوز عند كثيرين حدود ما يسمونه "الستر"، والذي يتمثل في توافر ما يستر الجسد، وما يملأ البطن درءاً للجوع.. وعلى من تتجاوز أحلامهم حدود هذا "الستر"، إذا لم ينجحوا في الالتحاق بزمرة الحاكم وحاشيته، أن يجدوا لهم مهرباً، في الشرق أو الغرب، في بلاد تركب الفيل أو الصاروخ أو حتى تركب الناقة والمرسيدس.. أما الحلم بالوصول إلى البيت الأبيض المصري، فلا وجود له إلا لدى المصابين بالهلاوس العصبية، أو ربما كان حلم بعض من هم على استعداد أن ينفقوا عمرهم في المعتقلات، أو أن يلقوا مصرعهم في حوادث القضاء والقدر!!
إذا كان وصول باراك أوباما إلى البيت الأبيض، يعد دليلاً جديداً على عظمة الحلم الأمريكي، فليس ذلك لأن الطريق لتحقيق ذلك الحلم كان سهلاً ومعبداً، بل الإعجاز والعظمة الحقيقية كان في العكس، في أن الأرض كانت مفروشة، ليس فقط بالأشواك ولكن بالألغام.. فمنذ ثلاثة وخمسين عاماً فقط، كان مطلوباً من السيدة روزا باركس أن تترك مقعدها في الحافلة، ليجلس مكانها رجل أبيض من طائفة السادة، الذين لا ينبغي لهم الوقوف، فيما هناك من الجلوس من يندرجون ضمن تصنيف العبيد، أو على الأقل ينتظمون في درجة أدنى.. بالطبع لم يكن كفاح السيدة روزا باركس بعد ذلك، لكي لا يكون عليها، ولا على غيرها من أبناء جلدتها بعد ذلك، أن يترك مكانه لآخر أعلى منه منزلة، لم يكن نضالها هذا هو الحلقة الأولى في الصراع ضد العنصرية المقيتة، لكنه كان بالتأكيد الذي نستخلصه من قصة باراك أوباما، هو الحلقة الأخيرة، التي أعقبها فجر الحرية والعدالة والمساواة.
معجزة تحقق حلم باراك أوباما إذن، أنه لم يتحقق في وطن عريق في الليبرالية والإعلاء من حقوق الإنسان، كفرنسا وسويسرا والدول الاسكندنافية مثلاً، لكنه تحقق على أرض اغتيل عليها منذ أربعين عاماً فقط مارتن لوثر كنج، داعية الحقوق المدنية والمساواة.. هي إذن ليست معجزة الواقع الرائع، بقدر ما هي معجزة القدرة على التغيير نحو الأفضل، وليس الانزلاق نحو الأسوأ، كما يحدث في شرقنا.. عندما رفع أوباما شعار "نحن نستطيع التغيير We can change"، كان يعني ثقته في قدرة الشعب الأمريكي على التغيير، على التخلص من الأفكار والعادات والتقاليد التي انتهت صلاحيتها، وعلى إبداع واكتساب أفكار ونظم وتقاليد جديدة، تؤسس لحاضر وغد مختلف كل الاختلاف.. في المقابل إذا تأمل كل منا نحن مواطني الشرق الأوسط فيما حوله، ليرى ما إذا كان يستطيع أن يقول We can change، فبالقطع لن يستطيع إلا أن يقول "نحن لا نستطيع التغيير We can’t change"، فنحن شعوب الثوابت، والهوية الثمينة النادرة، التي نخشى عليها من الغزو الثقافي، ومن مؤامرات المتآمرين والحاقدين، والمتربصين بنا وبديننا، نحن في الحقيقة لا نستطيع التغيير إلا إلى الأسوأ.. التغيير المتاح لدينا هو أن نسقط إلى هاوية الماضي الذي نظنه مجيداً، ونظنه مازال صالحاً لأن نحيا في الألفية الثالثة وفق مفاهيمه ونظمه، لتكون النتيجة أن نفقد كل ما قد سبق واكتسبناه من تحضر رغماً عن أنوفنا، لنعود إلى قتل وجلد ورجم بعضنا بعضاً، لحساب اتهامات وعداوات لم يعد لها مجال ولا معنى في عصرنا، مثل الاتهامات بالكفر والشرك وما شابه.
حين عدت لنفسي لأسائلها، إن كنت أحب وطني وأهلي، كما تحب ميشال أوباما وطنها، كانت الإجابة بالإيجاب، فمع كل شيء ورغم كل شيء، لا أملك إلا أن أحب أهلي وبلادي، لكن إذا كان السؤال هو هل أستطيع أن أعتز بوطني وأهلي، كما تعتز ميشال أوباما، فمن الصعب أن تكون الإجابة بنعم، فالاعتزاز والفخر لكي يكون موضوعياً، لابد وأن يستند إلى مقومات موضوعية، وإلا كان مثل قصائد الفخر في تراث الشعر العربي، الذي لا يعدو أن يكون قعقعة بلا مضمون.