أسفرت عن نتائج سياسية واجتماعية ومذهبية... تأثيرات حوادث التهجير القسري في تاريخ المسلمين؟

في الأحد ٢١ - أكتوبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

عبر التاريخ، ساهمت الهجرات البشرية بشكل كبير في نشأة وتشكيل الحضارات الإنسانية. وكان التهجير القسري للجماعات والشعوب واحداً من الأوجه العديدة المتفرّعة عن الهجرة، إذ استخدمته بعض الإمبراطوريات الكبرى، مثل البابلية والأشورية والفارسية، في إعادة توزيع الكثافات السكانية في أراضيها، بشكل يساعد الدولة المركزية على فرض سيطرتها على المحكومين.

فيما يخص المسلمين، نرى أنهم لجأوا إلى آلية التهجير في عدد من المواقف والحوادث التي وقعت في عهد الرسول وخلفائه الراشدين، إذ تم إجلاء جماعات اليهود والنصارى من شبه الجزيرة العربية، واتخذت تلك الجماعات من بلاد الشام موطناً جديداً لها.

وبقي سلاح التهجير القسري واحداً من أهم الأسلحة التي استخدمتها السلطة السياسية في سبيل الحفاظ على بقائها والقضاء على الحركات المعارضة لها، وتمت الاستعانة بهذا السلاح في الكثير من الأحيان لخلق نوع من أنواع التوازن الديموغرافي المذهبي في إقليم بعينه، أو للقضاء على تكتل ثوري يُخشى بأسه.

من جانب آخر، مورس التهجير القسري ضد المسلمين المهزومين في بعض النواحي، وكانت له دائماً نتائج مهمة عميقة أثّرت في المُهجّرين وفي بلد المهجر، كما أثّرت على أوطانهم الأصلية.

شيعة العراق... تهجير قسري وهروب إلى إيران

كان الثقل الأكبر للشيعة في القرون الأولى يتركز بشكل رئيسي في العراق، وفي الكوفة على وجه التحديد. فقد اتّخذ الخليفة الرابع علي بن أبي طالب من الكوفة معقلاً وحصناً له بعد أن تولى الخلافة عام 35 هـ/ 656 م، ومنذ ذلك الوقت صارت تلك المدينة المركز الرئيسي للمعارضة السياسية ضد السلطات الحاكمة.

وجدت العديد من الجماعات الشيعية المبكرة في العراق نفسها معرّضة لضغوطات قوية من الحكومات الأموية والعباسية، ولذلك سارعت إلى التوجه شرقاً ناحية بلاد فارس، واستقرت هناك، وأسست في إيران بعض الجيوب الشيعية التي ازدادت قوة مع الزمن.

بحسب ما يذكره ابن جرير الطبري في كتابه "تاريخ الرسل والملوك"، بدأت موجات الهجرة الشيعية إلى إيران عقب مقتل علي بن أبي طالب عام 40 هـ/ 661 م، ووصول الأمويين إلى السلطة، إذ أجبر والي العراق زياد بن أبيه حوالي خمسين ألفاً من شيعة الكوفة والبصرة على الانتقال إلى خراسان، في محاولة منه لتغيير الهوية العلوية التي صبغت العراق.

هذه السياسة تمّت الاستعانة بها بالشكل نفسه في ولاية عُبيد الله بن زياد على الكوفة، ثم في عهد سيطرة الحجاج بن يوسف الثقفي على العراق، وكانت النتيجة أن سارع الكثير من الشيعة للهروب إلى إيران، فراراً من التعسف والاضطهاد الأموي الذي مورس ضدهم.

وبحسب ما يذكره الباحث الإيراني رسول جعفريان، في كتابه "الحياة الفكرية والسياسية لأئمة آل البيت"، اضطر الكثير من الشيعة الإمامية، في عهد خلفاء بني العباس، لترك العراق أيضاً، واتجهوا للإقامة في بلاد فارس وآسيا الوسطى، حيث نجحوا في تأسيس مجتمعات شيعية إمامية قوية في مدن مثل قم ونيسابور وسمرقند وطوس وبيهق.

وكانت تلك الهجرات سبباً في نشر مبادئ التشيع في إيران، حتى أضحى الإيرانيون مهيئين ومستعدين للخضوع لسلطة سياسية شيعية المذهب، وهو الأمر الذي تحقق فعلاً في القرون الرابع، السابع، والعاشر الهجريين، على يد دول البويهيين، المغول الإيليخانيين والصفويين تباعاً.

ثورة الأندلس التي غيّرت منطقة المتوسط

عام 132 هـ/ 749 م، تمكّن العباسيون من الوصول إلى السلطة في مشرق العالم الإسلامي، بعدما ثاروا ضد الأمويين وأطاحوا بحكمهم. ولكن الأمير الأموي عبد الرحمن بن معاوية بن هشام، المعروف بلقب "صقر قريش"، استطاع أن يهرب إلى أقصى المغرب الإسلامي، ودخل الأندلس، وأقام فيها إمارة أموية قوية منذ عام 138 هـ/ 755 م.

بعد وفاة الأمير الأموي الثاني هشام بن عبد الرحمن عام 180 هـ/ 796 م، ارتقى ابنه "الحكم" كرسي الإمارة، وكان كما وصفه ابن حزم في رسائله، ميّالاً للترف والدعة والفجور كما كان مجاهراً بشرب الخمر.

شخصية الحاكم لم تلقَ قبولاً من جانب الفقهاء ورجال الدين الذين كان نفوذهم قد تنامى بشكل كبير في عهد أبيه، ولذلك نجد أن مجموعة منهم، يتقدمهم يحيى بن يحيى الليثي وعيسى بن دينار، دبّرت مؤامرة عام 198هـ/ 813م، لخلع الحاكم وتنصيب أمير أموي آخر بدلاً منه، بحسب ما يذكره محمد عبد الله عنان في كتابه "دولة الإسلام في الأندلس".

ورغم إجهاض الحكم تلك المؤامرة، إلا أن نقمة سكان قرطبة على الأمير الأموي كانت تتزايد بشكل مستمر، فلم تمرّ أربعة أعوام على مؤامرة الفقهاء الفاشلة حتى اشتعلت الثورة بين سكان قرطبة الساخطين على زيادة الضرائب المفروضة عليهم، وخصوصاً بين أهل ربض شقندة، وهي ضاحية تقع في جنوب قرطبة.

بحسب ما يذكره ابن عذاري في كتابه "البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب"، حمل الثوار السلاح وحاصروا قصر الأمير، ولكن الحرس الأموي استطاع التصدي لهم، وهزمهم بعدما أحرق منازلهم ونهب أملاكهم وقتل منهم العشرات.

عمر بن حفص البلوطي

ولما كان الحكم في ذلك الوقت عاجزاً عن سجن أهل تلك الضاحية أو قتلهم جميعاً، قام بالتخلص منهم عن طريق تهجيرهم ونفيهم من وطنهم، فتفرق عدد كبير منهم في شتى أنحاء الأندلس، بينما توجّه القسم الأكبر منهم إلى المغرب، فنزل بعضهم في مدينة فاس واستوطنها، في حين أبحر حوالي 150 ألفاً منهم، بقيادة عمر بن حفص البلوطي، إلى مصر، بحسب ما يذكره أحمد بن محمد المقري في كتابه "نفح الطيب في غصن أندلس الرطيب".

الحقيقة أن هناك الكثير من الآثار السياسية والعسكرية والتجارية التي نجمت عن واقعة تهجير أهل الربض، بعضها ظهر في الأندلس نفسها، والبعض الآخر ظهر في المشرق.

تمثّل الأثر الأندلسي في إضعاف المعارضة السياسية الشعبية ضد السلطة الأموية الحاكمة، حتى صار الشعب، فعلياً، خارج المعادلة السياسية، فلم تحدث بعد ذلك ثورات شعبية كبرى.

أما الأثر المشرقي، فقد ظهر عندما قام الأندلسيون المُهجّرون بغزو مدينة الإسكندرية، ومكثوا فيها بضع سنوات، حتى نجح القائد العباسي عبد الله بن طاهر في إخراجهم منها، وعندها أبحرت مراكبهم تجاه جزيرة كريت الواقعة في البحر المتوسط، والتي كانت واقعة تحت سيطرة الإمبراطورية البيزنطية، ونجحت القوات الأندلسية في غزوها وأسست فيها إمارة إسلامية ظلت صامدة نحو 140 عاماً، وكانت كريت في ذلك الوقت أحد أهم المراكز التجارية والعسكرية التي دعمت الوجود الإسلامي في البحر المتوسط.

تهجير البشموريين... الخضوع القبطي المطلق للعرب

تعددت ثورات الأقباط المصريين على السلطة العربية الحاكمة، في القرون الثلاثة الأولى التي أعقبت السيطرة الإسلامية على مصر.

إساءة المعاملة والتعنّت في تحصيل الجزية وتقدير الضرائب الباهظة، كانت كلها من أسباب السخط الذي أبداه المصريون تجاه الفاتحين الجدد.

وفي بدايات القرن الثالث الهجري/ الربع الأول من القرن التاسع الميلادي، وقعت واحدة من أهم الثورات التي قام بها المصريون على السلطة العربية، وهي الثورة التي عُرفت باسم "ثورة البشموريين".

يذكر الرحالة ياقوت الحموي، في كتابه "معجم البلدان"، أن بشمور هي "كورة بمصر تقع بالقرب من دمياط، وفيها قرى وريف وغياض"، وأغلب الظن أن تلك الكلمة أُطلقت على سكان الدلتا المقيمين في المساحات الواقعة بين فرعي دمياط ورشيد، ومعظمهم كان يعمل في صناعة ورق البردي، مستغلين طبيعة المنطقة التي يكثر فيها البوص وغير ذلك من المواد الخام المستخدمة في أعمال تلك الصناعة.

وبحسب المؤرخ القبطي ساويرس بن المقفع، في كتابه "تاريخ آباء الكنيسة"، أعلن البشموريون الذين ضاقوا ذرعاً بصلف وتعنت الولاة العرب، الثورة، واستطاعوا أن يهزموا الجيوش الإسلامية في عدد من المعارك، مستغلين الطبيعة الوعرة المميزة لإقليمهم، ونجحوا في تحقيق نوع من الاستقلال الذاتي، حتى قدم عليهم الخليفة المأمون بنفسه، فحاربهم وانتصر عليهم وقتل منهم عدداً كبيراً.

بعد القضاء على تلك الثورة، أصدر المأمون أوامره بتهجير البشموريين، فخرجوا من أراضيهم وحُملوا إلى أنطاكية، ثم جرى في ما بعد تسكينهم في بغداد وأرض الأهواز في العراق وفي بعض النواحي المتاخمة لحدود الدولة البيزنطية، وتم تكليفهم بأعمال الزراعة في الأراضي التي تسود فيها المستنقعات والأحراش والتربة الرملية.

نتجت عن عملية تهجير الثوار البشموريين آثار اقتصادية، من المُرجّح أنها كانت في الغالب سلبية في ما يخص صناعة ورق البردي في مصر، ذلك لأن معظم المُهجّرين كانوا من الصناع المهرة الحاذقين العارفين بخفايا ومهارات تلك الصناعة الدقيقة.

ويُفهم مما أورده ياقوت الحموي في معجمه أن منطقة البشمور ظلت مأهولة بالسكان بعد أحداث الثورة، ولكن الأنشطة الاقتصادية التي كانت تُمارَس في نواحيها شهدت تغيّرات كبرى.

يؤكد الحموي أنه قابل جماعة من أهل المنطقة، وأنهم أكدوا له على التميّز الكبير الذي يحظى به إقليمهم في ما يخص حرفة الرعي، وبالأخص رعي الأغنام والكباش، والتي يصفها الحموي بإنها "ليس في الدنيا مثلها عظماً وحسناً"، ومن هنا قد يجوز لنا أن نستنتج أن صناعة البردي كانت قد اندثرت تماماً من تلك المنطقة بعد حادثة التهجير.

أما في ما يخص الآثار السياسية التي نتجت عن عملية التهجير، فيمكن تلخيصها في القضاء التام والمبرم على المعارضة القبطية، إذ أضعفت عملية التهجير عزيمة الأقباط، وساهمت في تحوّل الكثيرين منهم تدريجياً نحو اعتناق الدين الإسلامي، كما أدت بطبيعة الحال إلى تسهيل خضوع الباقين المطلق في ما بعد للولاة والحكام المسلمين.

المورسكيون في الأندلس... رحلة تهجير ملحمية

بعد طول صراع مع ملوك بني الأحمر، استطاع الإسبان الاستيلاء على مملكة غرناطة عام 1492 م، منهين بذلك ما يقرب من ثمانية قرون كاملة من الوجود السياسي للمسلمين في شبه الجزيرة الأيبيرية.

ويذكر المؤرخ محمد عبده حتاملة، في كتابه "التهجير القسري لمسلمي الأندلس في عهد فيليب الثاني"، أنه لم يمرّ وقت طويل حتى كان الإسبان قد أعلنوا استياءهم من الغلبة السكانية للمورسكيين من ذوي الأصول العربية والإسلامية في مملكة غرناطة ومدن بلنسية ومرسية، فقد شكل ذلك التفوق العددي تهديداً قوياً على السلطة الإسبانية المنتصرة، ومن هنا لجأ الملك فيليب الثاني، عام 1570 م، إلى طرد كل المورسكيين من غرناطة، وجرى توزيعهم وإعادة تسكينهم في مناطق بعيدة في أقصى شمال شبه الجزيرة الأيبيرية، مثل استرامادورا وجليقية وليون وقشتالة القديمة.

نزول المورسكيين في وهران

بحسب المصدر نفسه، لاقى المسلمون المُهجّرون ظروفاً اجتماعية صعبة ومهينة في أماكن سكنهم الجديدة، ولم يتمكنوا من الاختلاط بسكانها الأصليين، وتدهورت حالتهم الاقتصادية إلى الحد الذي دفعهم لامتهان المهن الحرفية البسيطة والوضيعة، ذات الأجور والمكاسب المتدنية.

كل تلك العوامل لم تمنع من استمرار التخوّف منهم، فقد مثّلت معدلات الخصوبة المرتفعة عندهم، والتخوّف من اشتراكهم في مؤامرة مغربية أو عثمانية ضد التاج الإسباني، مصادر قلق مستمرة لدى الملك فيليب الثالث.

ومن هنا، وفي 22 سبتمبر 1609 م، صدر قرار إلى جميع الموريسكيين في أنحاء المملكة بتسليم أنفسهم للسلطات، وأعقب ذلك قرار آخر بتهجير أغلبيتهم باتجاه شمال إفريقيا وبلاد الشام ومصر، عام 1614.

يتحدث المؤرخ الفرنسي غوستاف لوبون في كتابه "حضارة العرب" عن الآثار السلبية التي لحقت بإسبانيا جراء الموجة الأخيرة من تهجير مسلمي الأندلس، والتي قدّرها بنحو ثلاثة ملايين مُهجّر.

كتب: "ومما يُرثى له أن حُرمت إسبانيا عمداً هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية... وقد كان من نتائج تلك المظالم المزدوجة أن هبطت إسبانيا إلى أسفل درجات الانحطاط، بعد أن بلغت في أيام العرب قمة المجد، وأن انهار كل ما كان فيها من زراعة وصناعة وتجارة وعلوم وآداب".

طرد المسلمين من ميناء دينايا

وبرغم عدم توافر أرقام دقيقة لأعداد المُهجّرين، من المرجّح أن الجزء الأكبر منهم لاقى حتفه في طريقه إلى وطنه الجديد، أو أنه هلك بعد المشاركة في عدد من الثورات الخاسرة.

ومع ذلك، بقي مئات الآلاف من المطرودين الذين استوطنوا مدن المغرب مثل تطوان والرباط وسلا وفاس وشفشاون، حيث اختلط بعضهم بالسكان المغاربة بينما بقي البعض الآخر يحاول المحافظة على حالة الانعزال عن المجتمع المحيط به.

تسليم غرناطة

وفي بحثه "المورسكيون في المجتمع المغربي: اندماج أم انعزال؟"، يذهب الباحث عبد المجيد القدوري إلى أن تهجير المورسكيين إلى المغرب غيّر كثيراً من أبعاد الشخصية المغربية التقليدية، ذلك أن المُهجّرين حملوا معهم المعارف والعلوم والفنون، فأدخلوها في تحديث طرق الزراعة والري والصناعة، وظهر ذلك في آليات حفر وشق القنوات، ونسيج الملابس، وطرق المأكل والمشرب والغناء والرقص.

كما شجّع هؤلاء الأندلسيون على قراءة وتدوين الكتب والمصنفات في علوم الهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفلسفة، ما يعني أن هجرتهم إلى المغرب تسببت في إحداث نهضة علمية حقيقية فيه.

اجمالي القراءات 2466