بين نافٍ للاعتراف بوجودها، وساعٍ لمُحاربتها، لا تزال العبوديةُ مُستمرةً في موريتانيا.
ظننا أنها "الجريمةُ" الأبشع، وأن التُحرر منها، أعظمُ انتصار على الحكومة التي ما زالت تتبع سياسةَ الإنكار الدائم، لكن تحقيقاً استقصائياً للصحافي الموريتاني السالك زيد بعنوان "أحياء أموات"، أنتجته شبكة "أريج"، بيّن أن التحررَ من العبودية، يحمل بين طيّاته المرارةَ ذاتَها التي تحملها العبودية.
فهؤلاء الذين تحرروا، لم يحصلوا على أبسط حقوق "المواطن الموريتاني"، إذ بحسب التحقيق، لا يوجد قانونٌ في موريتانيا يكفلُ لهم الحصولَ على أوراقهم المدنية، لأنها تتطلب شهادةَ ميلاد وأرقاماً وطنية للوالدين، أو شهاداتِ وفاة لهم، ما لا يمتلكه العبيدُ المحرَّرون.
يوثّق التحقيق الظروفَ "السوداوية" التي يمرّ بها المُحَرَّرون من العبودية، في ظل تجاهلِ "الوكالة الوطنية لمكافحة مخلفات الرق وللدمج ولمحاربة الفقر"، المعروفةِ بـ"وكالة التضامن"، و"المُفترضِ" أنها معنيةٌ بحمايتهم.
كان قد بدأ النضالُ ضدَّ العبودية في موريتانيا عام 1978 مع ظهور "حركة الحر"، المدافعةِ عن حقوق "الحرّاطين" أو العبيد المحررين، يقودهم "مسعود ولد بلخير"، أحدُ مؤسسي الحركة، وهو أولُ مترشحٍ لرئاسة موريتانيا من طبقة "العبيد السابقين".
يقول بلخير، الذي يشغلُ منصبَ رئيس حزب التحالف الشعبي التقدمي: "لا يمكن مقارنةُ العبودية بأي شيءٍ آخر"، مؤكداً في تحقيق "أريج" أن الدفاع عن العبودية ليس مُخجلاً.
"هل لديك أوراق مدنية؟"
في العاصمة الموريتانية نواكشوط، تعيش شادة أمبيريك، إحدى المُحرَّرات من العبودية، التي عاشت واقعاً "يعود إلى عصر الجاهلية" في ولاية تيرس زمور، أقصى الشمالِ الموريتاني، قبل أن تكسرَ تلك القيود، وتتحرر عام 2013.
لا تملك "شادة" أوراقاً مدنية ولا أيٍّ من أبنائها، وتقول: "عندما أذهبُ إلى المستشفى يسألونني هل لديك أوراقٌ مدنية؟ أقول لهم إنني لا أمتلكها" مُطالبةً بأن يعطوها تلك الأوراق كي "نكون مثل الآخرين".
ولفتت إلى أنه لو تمت مساعدتُها، "ستتمكن من العيش بسهولة"، بحسب قولها، مُضيفة: "لكنني لم أحصل على أيّة مساعدة".
تعترف في التحقيق أنها لا تملك شيئاً، وبينما كان "الذُباب" يشوش على حديثها، تقول إنها تحلم بإنشاء متجرٍ صغيرٍ "هُنا أمام منزلنا".
"بحاجة إلى مسكن يحتوينا"
وعلى بعد أكثر من 400 كم من نواكشوط، باتجاه مدينة أتار، تسكن "السالكة" (المحررة) ميمون التي وُلدت هي وأخوتها "عبيداً" كانوا يعملون في المراعي، حتى تحرروا.
"نحن بحاجة إلى مسكن يحتوينا.. نحتمي من المطر في منزل الجيران، وعندما لا نجد أحداً، نبقى هنا في هذا المكان غير المناسب" تقول ميمون في تحقيق "أريج".
"الدولة مقصرة جداً"
يقول أبو بكر مسعود، رئيسُ منظمة نجدة العبيد، غير الحكومية، إن الدولة تحاولُ القيام بدورها، لكنها مقصرة جداً".
أضاف: "الدولة لا تصدقنا. الجميع يقول إننا نتاجر بالعبودية، وإنها ليست موجودة وأننا نزيّف الواقع".
أرسلت المنظمة، عام 2015، قائمةً تضم اسم "شادة" و"السالكة" و27 عبداً مُحرراً آخرين إلى وكالة "التضامن" طالبةً "النجدةَ" لهؤلاء، دون أن تتلقى أي رد.
أعيدت إرسال القائمة العام التالي، دون جدوى.
أُنشئت الوكالة الوطنية لمكافحة مخلفات الرق والدمج ومحاربة الفقر" أو "وكالة التضامن" بمرسوم رئاسي، عام 2013، بميزانية بقيمة 20 مليونَ دولارٍ، بحسب آخر تقريرٍ صادرٍ للمقرر الأممي الخاص المعني بالفقر الُمدقع وحقوق الإنسان، مع ذلك ترفض "مدَّ يد العون" لتحسين حياة هؤلاء الذين قست عليهم دُنياهم.
كفاكم إنكاراً
مرَّ "تجريم العبودية" بعدة مراحل في موريتانيا. ففي عام 1981، صدر مرسومٌ رئاسي يدعو الموريتانيين إلى "نبذ الظاهرة و تجريم الاسترقاق"، فقام البعض بتحرير "عبيده" تحت ضغط القانون إلا أن الظاهرةَ لم تنتهِ حينها.
في 2007، صدر قانونٌ يجرم العبودية، ويعاقب من يدانون بممارستها، وفي 2015، صادق البرلمان على مشروع قانون ينص على أن الاسترقاق "جريمةٌ ضد الإنسانية".
يقول المحامي والناشطُ الحقوقي، العيد أمبارك، إن هذه القوانين لا تُطبق على أرض الواقع، ووكالة "تضامن" لا يزال عملُها غائباً بالنسبة لهؤلاء الضحايا.
ولفت إلى أن هناك ثلاثَ خطواتٍ يجب على الحكومة الموريتانية القيام بها: التوقفُ عن إنكار وجود حالات العبودية، تطبيقُ نصوص القوانين من طرف المحاكم والسلطات الإدارية، وتقديمُ نظامٍ قانوني وإداري واضح للتكفل بالضحايا بعد تحريرهم.
لا توجد إحصاءاتٌ رسميةٌ لعدد العبيد المُحررين في موريتانيا، في ظل نفي الحكومة وجودَ العبودية حالياً في البلاد، لكن بحسب منظمة Walk Free Foundation الأسترالية، 1% من سكان موريتانيا ما زالوا تحت "العبودية".
يحلم هؤلاءُ بالتحرر من أغلال العبودية، "حلمهم التالي" أن يُدمَجوا في المجتمع ويحصلوا على أبسط الحقوق، وهي أوراقهم المدنية.
"عندما نخرجُ منها (حياة العبودية) نحلم ألا نعودَ إليها" تقول السالكة ميمون.