صقر الحرب وحمامة السلام.. أدوار توني بلير «المشبوهة» في الشرق الأوسط

في الجمعة ٢٨ - سبتمبر - ٢٠١٨ ١٢:٠٠ صباحاً

لم يكن متوقعًا حينما برز اسم رئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير في تسعينيات القرن الماضي بوصفه زعيمًا سياسيًّا صاحب كاريزما حقق شعبية بين البريطانيين بلغت 93% في استطلاعات الرأي، أن يتحول بعد مغادرته السلطة إلى رمز للخداع في نظر الكثيرين، حتى صار البعض يتلاعب بأحرف اسمه، للدلالة على الكذب «liar».

السبت الأول من سبتمبر (أيلول) الحالي، أفرجت المؤسسة التي تحمل اسم رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، توني بلير، عن حساباتها البنكية، لتؤكد ما نُشر آنفًا، في يوليو (تموز) الماضي، من أن الرجل تلقى مبالغ طائلة وصلت إلى 12 مليون دولار أمريكي في صورة تبرعات من المملكة العربية السعودية، نظير استشاراتٍ سياسية قدمها للمملكة، تُعنى هذه الاستشارات بتحديث المملكة على يد الأمير الشاب محمد بن سلمان.

فتحت هذه الأخبار الباب على مصراعيه لإعادة تسليط الضوء على السياسي الأكثر إثارة للجدل في المملكة المتحدة، مَن ورط البلاد في الحرب على العراق مطلع القرن الحالي، وأسس الإمبراطورية الاقتصادية المشبوهة بُعيد تخليه عن السلطة، بينما كان يعمل في الشرق الأوسط مبعوثًا للسلام ضمن الرباعية الدولية حينًا، وفي زمرة رجال الأعمال والسياسيين والانتهازيين أحايين كثيرة.

الرجل الذي شب على أحلام أبيه

بينما كان توني على وشك إتمام عقده الأول، كان بلير الأب، المحامي البارز، يتجهز لانتخابات البرلمان عام 1963، كان يمنّي بنفسه بقرب بلوغ حلمه بتولي مقعد برلماني لكن سبق عليه سيف القدر، وأصابته سكتة دماغية منعته من الكلام والحركة، من هنا شب ابن العشر سنوات على حب السياسة، ومطالعة عالمها الواسع، لكن القدر هذه المرة حمله إلى حيث ما لم يكن يحلم به الأب المسكين، العضو السابق في حزب المحافظين.

أواخر السبعينيات، بينما كان توني بلير يمارس مهنة أبيه، المحاماة، فور تخرجه من جامعة أوكسفورد انضم إلى حزب العمال البريطاني عام 1978، على الرغم من أن الحزب كان يمر بأزمة كبيرة خلال تلك الفترة، حيث تعرض إلى العديد من الضربات. عام 1982 سعى بلير للحصول على مقعد في البرلمان عن منطقة بیکنزفیلد، لكنه فشل في ذلك. وبالرغم من ذلك، استمر بالحصول على إعجاب حزبه من خلال العمل بجد وإثبات شخصيته وقدراته، حتى حصل في العام 1983 على مقعد في البرلمان عن منطقة سيجفيلد.

 

 

توني بلير

وبينما تولت المحافِظة مارغريت تاتشر رئاسة الوزراء في نفس العام، تولى نيل كينوك رئاسة حزب العمال وقدم الكثير من الدعم لتوني بلير بين صفوف حزبه، ثم بين عامي 1984 و1987 شغل بلير منصب المتحدث باسم مقاعد البدلاء المسؤولة عن الخزينة والاقتصاد في الحزب، وتولى أيضًا منصب المتحدث عن مقاعد التجارة والصناعة عام 1987، ثم في العام 1988 تولى منصب إدارة الخزينة وعمل سكرتيرًا لوزير الطاقة نايجل لوسن، وجرى تعيينه نائبًا لوزير الداخلية عام 1992.

عام 1992، استقال رئيس حزب العمال البريطاني نيل كينوك، ليتولى المنصب بعده جون سميث، الذي أصيب بنوبة قلبية أدت إلى وفاته عام 1994 ليتم بعدها انتخاب بلير لتولي زعامة الحزب وصُنف حينها أصغر شخصية وصلت إلى هذا المنصب، وكان ذاك إيذانًا بتولي الصف الثاني من كوادر الحزب الشباب زمام المبادرة.

راعي الحرب ومبعوث السلام

قبل عامين، وتحديدًا في يوليو (تموز) من العام 2016 خرج جون تشيلكوت، رئيس اللجنة المنوطة بالتحقيق في المشاركة البريطانية في حرب العراق بتصريح صادم، مفاده أن نظام صدام حسين لم يكن يشكل خطرًا على المصالح البريطانية، وأن الحرب التي شنتها المملكة المتحدة جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة لم تكن ضروريةً بالمرة، حيث استند بلير إلى الهواجس الشخصية أكثر من استناده على الحقائق والتقارير الاستخباراتية.

ركز تشيلكوت في تقريره على العلاقة بين الرئيسين بلير وجورج بوش الابن، ووصفها التقرير بالتبعية الكاملة، استنادًا إلى تصريح غرد به بلير لصديقه بوش، يطمئنه أنه معه مهما كان، ولعل مثل هذا النمط من العلاقات كان هو السائد في حياة بلير العملية، إبان رئاسته للوزراء وما بعدها.

 

 

الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن، وتوني بلير

ما بعدها في نظر الكثيرين هو الأهم، رئيس الوزراء المثير للجدل -بينما كان يتجهز لترك منصبه الرسمي، بعدما حقق أرقامه القياسية على الساحة السياسية، باعتباره أصغر رئيسٍ لحزب العمال سنًا، وأكثر من جلس على كرسي رئيس الوزراء عن حزب العمال، وثاني أكثر من جلس عليه عمومًا بعد المخضرمة مارجريت تاتشر- يعلن أنه سيكون فور تركه المنصب مبعوثًا للسلام في الشرق الأوسط، ممثلًا عن الرباعية الدولية في المنطقة. مفارقة أن يكون المشارك الأبرز في حربي القرن الحالي الكبيرتين، أفغانستان والعراق، إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية مبعوثًا للسلام، لكن الزمن سيثبت أن توني بلير كثير المفارقات على كل حال.

ومن المفارقات أيضًا، أنه وبينما كان ممثلًا لحزب العمال في السلطة، فإن قراره بالحرب على العراق إلى جانب الحلفاء الأمريكيين حصل على معارضة متعنتة من أعضاء حزبه في البرلمان، ولولا الدعم الكاسح من المحافظين لقرار الحرب ما استطاع بلير تمرير قراره، زعيم العمال إذن الأقرب للمحافظين، كما يقول الكاتب العراقي، حميد الكفائي.

بلير «صديق الطاغية المستنير»

قبل ثلاثة أعوام، نشرت «الجارديان» البريطانية مقالًا حول «الاستعمار الأخلاقي» الذي يمثل توني بلير أحد ركائزه، يصفه المقال بالتبشيري المخادع، الذي يسوق الديمقراطية أداة لخلاص الشعوب بينما هو لا يرضى بغير العلمانية والليبرالية الاقتصادية، أما الديمقراطية فمرهونة بنتائجها، وافقت المصالح الغربية أم عارضتها، يتقاسم وجهة النظر هذه مجموعة من السياسيين الأمريكيين، يُعرفون في الأوساط السياسية والمعرفية بالمحافظين الجدد.

 

 

توني بلير على يسار رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون

هذه الرؤية تبلورت في العديد من مواقف بلير، فنجده يصف الرئيس المصري المخلوع مبارك، بأنه يتصف بـ«الشجاعة الهائلة، وأنه قوة كبيرة من أجل الخير»، وإبان الثورة المصرية حذر مبعوث الرباعية الدولية في حينها توني بلير من الفراغ الذي ستحدثه الثورة إذا ما نجحت في خلع مبارك.

على العكس من صدام الحسين، الذي حاربه توني بلير لأنه كان ديكتاتورًا، تمتع الأخير بعلاقات ودودة، وصلت حد التعاون والحميمية مع الزعيم الليبي السابق، معمر القذافي، ومع الأنظمة الخليجية غير الديمقراطية.

تعرض توني بلير للعديد من الانتقادات من جراء عمله مبعوثًا دوليًّا، وممثلًا للرباعية الدولية في الشرق الأوسط، حيث اختلط لديه -بحسب المراقبين الدوليين- الخاص بالعام، وبدلًا من أن يؤدي دوره لإحلال السلام في المنطقة، أجرى العديد من الصفقات لحسابه الخاص، ما أثار الرأي العام البريطاني تجاهه، لا سيما وأن رحلاته الخارجية مبعوثًا دوليًّا تفترض اصطحابه لحراسة حكومية ويتمتع بالصفة الدبلوماسية تتكلفها الدولة البريطانية، ويتحمل عبئها دافع الضرائب الإنجليزي، بينما السيد بلير يعقد الصفقات الخاصة على هامش العمل الطوعي، وقد قدرت صحيفة «التليغراف» كُلفة الرحلة الواحدة لبلير خارج البلاد بـ16 ألف جنيه استرليني.

وكانت صحيفة «الجارديان» البريطانية قد نشرت تحقيقًا حول أعمال بلير المشبوهة على هامش عمله مبعوثًا أمميًّا، ذكرت أنه في العام 2014 كان يتقاضى من صندوق أبوظبي السيادي سنويًا ما قيمته مليون جنيه إسترليني، نظير استشاراتٍ يقدمها لحكومة الإمارات العربية المتحدة وحلفائها من واقع خبرته وعلاقاته الواسعة في المجال الدولي.

كما كشف التحقيق أيضًا كيف أن شركة توني بلير أبرمت عقدًا بقيمة 1.1 مليون جنيه استرليني مع البنك الدولي للقيام بأعمال استشارية، نظرًا لعلاقته الوثيقة مع البنك مبعوثًا للجنة الرباعية، حيث جرت إعارة أحد موظفي البنك للعمل بمكتبه في مقر اللجنة الرباعية، وباعتبار ذلك جزءًا من العقد قدمت شركة توني بلير فريقًا من الخبراء الاستشاريين لتقديم المشورة للحكومة الرومانية.

 

 

توني بلير

وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2013 أبلغ السفير البريطاني في ألبانيا حكومة بلاده أن العديد من الشركات المرتبطة ببلير كانت تبحث عن فرصًا تجارية في ألبانيا، بما في ذلك مكتب محاماة زوجته، شيري بلير، وهكذا ظلت الاتهامات تلاحق بلير، حتى أقدم على الاستقالة من عمله ممثلًا للرباعية الدولية في الشرق الأوسط أواخر مايو (آيار) من العام 2015، لدى شعوره بالإحباط وخيبة الأمل، على حد قول مقربين منه.

بلير يقدم خدماته لمن يدفع

من المعلوم أن رئيس الوزراء البريطاني الأسبق كان لديه عداء وجودي مع الإسلام السياسي، فقد كشفت صحفية «الصنداي تايمز»، عن قيام مؤسسات خيرية تابعة لبلير بجمع معلومات عن النشطاء الإسلاميين والحركات الإسلامية في أفريقيا لصالح أنظمة وصفتها بأنها «قمعية متهمة بانتهاكات لحقوق الإنسان».كما كانت صحيفة «التليغراف» البريطانية قد كشفت في السابق عن تعاقد مركز «توني بلير للاستشارات» مع دولة الإمارات العربية المتحدة، في مقابل تقديم بعض استشارات، بمبلغ وصل إلى 35 مليون دولار.

 

 

جيرمي كوربين رئيس حزب العمال الحالي (أمام) وتوني بلير

ولذا نجد بعض الصحف الموالية للنظام المصري تحتفي بوصف بلير إجراءات عزل الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين بالخيار الأفضل الذي أنقذ مصر من الفوضى، ولا عجب أيضًا أن يكون بلير على يمين الرئيس المصري في نظام ما بعد 3 يوليو (تموز) 2013 عبد الفتاح السيسي، يقدم له الاستشارات حول الإصلاح الاقتصادي ضمن البرنامج التعاوني الممول من دولة الإمارات العربية المتحدة، الأمر الذي أثار حفيظة الكثيرين في بريطانيا، لاسيما كوادر حزب العمال، التي اعتبرت أن تورط بلير في علاقات مع النظام المصري سوف تكون له آثاره المدمرة على الحزب.

وتذكر الصحيفة أن مشاريع مؤسسات توني بلير أحدثت انقسامات حتى بين العاملين فيها، حيث رأى البعض أن «مباردة بلير التي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة، تشجع الدول في الأخير على التجسس على المؤسسات الدينية».

اجمالي القراءات 1846