(2/2)
تناولنا في الجزء الأول تحت ذات العنوان، ما اعتبرناه البنية الأساسية لثقافة التخلف، والتي تشكل انسان منطقة الشرق الأوسط، بصورة تجعله عاجزاً عن تحقيق أي نجاح عصري، في أي من ميادين الحياة، تلك التي تصورناها كمجموعة مفاهيم وثوابت، تتجسد في قيم الفرد وعاداته وتقاليده، بما يجعلها في نظره وكأنها هويته ذاتها، التي عليه المحافظة عليها، من أي تغيير أو تبديل، في حين أنها كما لو صخور تسد عليه طريق التنمية والحداثة، وبدون إزاحتها واستبدالها بقيم جديدة، لن يستطيع إنس&;ان المنطقة أن يبرح مستنقعات تخلفه، إلى أي مكان جدير بالإنسان تحت الشمس.
نستأنف في هذا الجزء إلقاء الضوء على بعض تلك القيم الراسخة، ريثما تخضع لدراسات علمية جادة، تستقصيها وتحدد سلبياتها، لتجد طريقاً لإزاحتها من طريق شعوبنا.
هناك موقف عدائي مبدئي، تتخذه العقلية الجمعية من رجال الأعمال، الذين يحققون نجاحات ويجمعون ثروات، مرتفعين فوق مستوى العامة، إلى مستوى أعلى من الحياة الرغدة، فتصورهم الأعمال الفنية الدرامية والخطاب الإعلامي، وكأنهم مصاصو دماء الشعوب، ونسمع عبر الخطاب العام والثقافي، أن هناك ما يسمى بالسلع الاستفزازية، وهي السلع التي لا يقدر على دفع ثمنها إلا الموسرين، باعتبار أن كل تميز لابد وأن يكون خصماً من حساب العامة، وانتقاصاً أو نهباً لحقوقهم ومقدرات حياتهم.
هذا الموقف المعادي والمانع لأي تنمية، باعتبار أن التنمية تحتاج لرؤوس أموال، وهذه بدورها تحتاج لرجال أعمال، يحتاجون لممارسة أعمالهم وسط بيئة مناسبة غير معادية، تقيمهم تقييماً إيجابياً، لا يجعلهم محط عداء وريبة من كل من يتعامل معهم.. يرجع هذا الموقف إلى النظر للحياة، وكأنها لعبة مجموع صفري zero sum game، والتي فيها يكون ما يحققه طرف من نجاح، لابد وأن يأتي خصماً من الطرف الآخر، مثلما يحدث في الألعاب الجماعية كالكرة.. هذه النظرية للحياة ليست لمجتمعات منتجة، يرتبط رخاؤها بحجم ما يبذله الأفراد من جهد لتوليد القيمة عن طريق العمل، إنما هي نظرة المجتمعات المعتمدة على الاقتصاد الريعي، الذي يدر دخلاً محدداً، لا سبيل إلى تعظيمه، بحيث يكون أي تعاظم في ثروة فرد أو مجموعة، على حساب أنصبة آخرين، من الكعكة الثابتة التي يتم تقاسمها.
بقاء هذه النظرة لدى عموم الناس، ناهيك عن المثقفين والمسيطرين على صياغة الوعي العام، بمثابة زرع الأشواك في طريق رجال الأعمال، الذين هم بموجب الواقع الاقتصادي العالمي المعاصر، قادة قاطرة التنمية، وبدون تطهير الثقافة من مثل تلك الأفكار، وتعديل نظرة الإنسان إلى آليات الكسب، المرتبط بالإنتاج والتنمية، لتتناسب مع الظروف المستجدة، والتي جعلت الجهد قادر على مضاعفة العوائد الربحية، بمعدل تسارع لا يمكن مقارنته بثبات العائد الريعي.. بدون نظرة جديدة من الفرد والعموم إلى الواقع المعاصر، يصعب أن تكون هناك تنمية قادرة على التطور والاستدامة.
هناك أيضاً "نظرية المؤامرة" الشائعة في ثقافة الشرق، ويتمسك بها أغلب مثقفي المنطقة، بأكثر مما يفتتن بها العامة، ويسرحون مبهورين في أروقتها الأسطورية.. هذه تخلق حالة توجس دائم ومبدئي، بل وتصدر حكماً قاطعاً على الآخر بسوء النية والعداء المضمر، وإذا كانت التنمية والتحديث في مجتمعاتنا لابد لها من استثمارات الآخر وإمكانياته العلمية والتكنولوجية، فإن هذه الروح العامة، المشبعة بنظرية المؤامرة، تقف سداً تصطدم به جباه القادمين للاستثمار، سواء في جهاز الدولة البيروقراطي، الذي يعاملهم كلصوص ومصاصي دماء، قادمون لاستنزافنا وخداعنا، أو حتى في الرأي العام والتيارات الشعبية، والتي رأينا منها أخيراً، موقفها من مشروع إنتاجي ضخم في محافظة دمياط.
هناك أيضاً تأثيرات حقبة رواج النظرية الشيوعية، على مفهم مضمون مبادئ إنسانية خالدة، مثل "العدالة" و"المساواة"، والتي أدت إلى تحميل هذين المفهومين بالرؤية الشيوعية، بمعنى المساواة التامة بين البشر، بغض النظر عن تفاوت قدراتهم الإبداعية والإنتاجية، بما لابد وأن يعني عند آخرين، الذين هم ذوي قدرات ترتفع فوق مستوى الجماهير أو الحشدcrowd، انتفاء العدالة وليس تحقيقها، حيث تكون العدالة في شرعهم، هي حصول الفرد على كامل نتاج جهده، وليس انتهابه من قبل الكسالى ومنعدمي المواهب والقدرات.
هكذا نجد اصطلاحاً شائعاً، يعبر عما لو كان هدفاً نبيلاً، يتحتم أن نسعى إلى تحقيقه، هو "تقريب الفوارق بين الطبقات"، واضح بالطبع بداية أن صياغة الشعار تنتمي إلى عصر مضى، حيث لم يعد هناك في عصرنا ما يمكن أن نطلق عليه "طبقات"، ذلك المفهوم العائد إلى عصر الإقطاع، فإذا ما تجاوزنا عن تلك الهنَّة، يمكن فهم الشعار على أنه محاولة "لتقريب الفوارق بين الأفراد".. المشكلة أن هذا الهدف لو تحقق، لابد أن يترتب عليه "تقريب الفوارق بين عطاء الأفراد" وما يبذلونه من جهد، بما يعني إحباط المجتهد والمبدع، أو هروبه من الساحة، ليبحث عن ساحة أخرى، تحفزه على شحذ قدراته وتحقيق ذاته، ومكافأته على ما يبذل من جهد.
مفهوم العدالة في ثقافة التنمية، يختلف بالتأكيد عن مفهومها في المجتمعات الشمولية، التي تقهر التميز، لتحقق بالفعل مساواة بين البشر، لابد وأن تكون في الفقر والركود والتخلف، وقد كان هذا بالتحديد هو الفيروس الذي قتل المنظومات الشمولية والشيوعية.. عدالة التنمية ترتب الساحة، لتستوعب كل صاحب جهد، سواء تواضعت قدراته أم عظمت، بحيث يحصل كل على ناتج عمله وجهده كاملاً، دون انتقاص أو زيادة، أما المساواة فإنها لا تعني في ثقافة التنمية، أكثر من المساواة في فرص تحيق الذات، ولا يمكن أن تعني المساواة فيما يوزع كمنحة، تحل محل عائد الجهد الحقيقي.. هكذا يكون الحديث عن "تقريب الفوارق بين الطبقات" حديثاً مضاداً للتنمية، بل وقاتلاً لها!!
هنالك عدد آخر من المفاهيم السياسية والاقتصادية، متخلفة من العهد الشمولي وأيديولوجيا الاقتصاد الموجه، والتي اعتبرت في زمانها قيماً عليا، ينبغي السعي لتحقيقها، لكنها الآن بعد أن تغير العالم تماماً، تشكل في العقول التي مازالت أسيرة لها، عقبة كأداء في سبيل التطور والتنمية، منها مثلاً "الاكتفاء الذاتي" و"الاستقلال التام للقرار السياسي والاقتصادي" و"التنمية المستقلة" و"السيادة الوطنية الكاملة والمطلقة"، وغيرها كثير.. هي مفاهيم يعتبر تحقيقها الآن عقوبة، تعاقب بها ما يسمى بالدول المارقة والخارجة عن الشرعية الدولية، والتي يتم مقاطعتها، لتجد نفسها تدبر شئونها لنفسها بنفسها، وعندها فعلاً تكون في حالة استقلال تام، حيث لا يرتبط قرارها بأي أحد، ولا يرتبط قرار أحد بها.. لن تؤثر ولن تتأثر بأحد، ويكون عليها عندها، أن تحاول إعادة اختراع العجلة من جديد.
خلاصة القول هو ضرورة التخلص من ثقافة تنتمي إلى عصور سياسية واقتصادية مضت، بما يتيح اكتساب ثقافة جديدة، مشتقة من وقائع العصر الحالي المادية والفكرية، وعندما يتحقق هذا، سنكون عندها على بداية طريق التنمية.