التجريد

احمد شعبان في الأحد ١٦ - نوفمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

هو الإتساع المنطقي لمساحة الرؤية بهدف الوصول إلى العوامل المشتركة بين الجزئيات ، وله مستويات متعددة ، فمثلا الوصف الشديد التفصيل لشاطئ يشمل موضع كل حبة رمل .
أما إذا ارتفع المرء قليلا وزاد من مساحة رؤيته فسوف تختلط أمامه التفاصيل وتتحول حبات الرمل إلى مساحة ممتدة بنية اللون ، عند هذا المستوى من التوصيف تبرز صفات أخرى مثل شكل خط الساحل وارتفاع الكثبان الرملية و ... ، وذلك بهدف استخلاص المبادئ الرئيسية لهذه المساحة التي ننظر إليها ، وهذا يتطلب إعادة صياغة المعنى بطرق أكثر شمولا وأكثر تحديدا معا .
إن توسيع الموضوعات وجعلها أكثر تجريدية لنتعرف على الروابط أو الصلات المفقودة ( الفجوات المعرفية ، والثغرات العلمية ) بإستخدام الخيال فيما يعرف " بالإبداع الحر " ، والذي يؤدي إلى إدراك المعنى من مستويات مختلفة للتجريد ، وبالتالي يغير مضامين المعانى " الدلالات " إلى معنى واحد أكثر عمقا وشمولا .

تعد الرؤية أو المشاهدة واحدة من أكثر العمليات شمولا ، فترى أشكال وصور من المعاني ، ولكننا تركز على معنى واحد فقط في كل مرة ، ثم تنتقل من تفصيلة ما إلى أخرى لاكتساب المعرفة عن طريق فصل الأجزاء عن الكل وفحص كل العلاقات والعوامل الرئيسية التي قد تؤثر على معنى معين .
فكلما اتسعت رقعة الخيال المنضبط بالخروج عن الجزئيات وربطها بسياقها العام كلما اتسعت مساحة الرؤية ( تناسب طردي ) .، ومثل هذا نجده في الخيال العلمي والذي ينطلق من أسس موضوعية معتمدا على تصورات منطقية منطلقة من تراكم معرفي مترابط وليس مشتت .

فإذا ما استطعنا تفعيل عملية التجريد هذه ، فكلما استطعنا أن نرى العلاقات التي تربط الكلمة مع ذاتها داخل السياقات المتعددة كلما إتضح المعنى واصبح أكثر تحديدا واكثر دقة ، مثلما نفعل بالنسبة لموضوعات القرآن الكريم بتجميع آيات كل موضوع والتي تعبر عن زواياه المتعددة حتى نتعرف على الشكل الكلي للموضوع ، وعليه فمن الممكن أن يتطرق الأمر أيضا بين كل حرف وذاته داخل الكلمات المتعددة والخروج بمعنى محدد لكل حرف ، ومن هنا يمكننا القضاء على فوضوية اللسان العربي والتي اربكتنا طوال التاريخ الإسلامي .
قد يقول قائل أن هذا يضع أمامنا العديد من المعاني والتصورات للفظ الواحد .
وهنا يجب القول ببداية عملية النقد ( تفعيل الرؤية النقدية ) ، والتي تعمل كمفرزة تخرج لنا الأفكار الأشد قوة والأكثر موائمة ، ثم تأتي بعد ذلك عملية التعميم والتي تجعلنا نسحب هذا المنهج على كل ألفاظ القرآن الكريم وحروفه .

ولما كان يقيني هو أن الوظيفة الأساسية للقرآن الكريم هى توصيل المعاني ( رسالته ) بدون إختلاف ، لنتعرف عليها ونلزم أنفسنا بها .
وإمتثالا لهذا التوجه وأثناء محاولاتي لمعرفة معاني بعض ألفاظ القرآن الكريم بدون إختلاف من خلال الدلالات المتعددة لكل لفظ ، ظهر أمامي العديد من المشكلات ، فرغما عن أن الجذر واحد بل نفس الكلمة بتشكيلها واحد ، ومع فهمي القاصر مهما علا ، والذي لا يختلف كثيرا في قصوره عن فهم غيري نلتزم بتوجيه السياق حسب فهمنا المتنوع والذي يحدد المعنى هكذا دون قاعدة نلتزم بها ومن ذلك إختلفنا ،
والسؤال هنا هل يوجد جانب منطقي ( منهج ) أوقاعدة أوقانون يجب البحث عنه لكي نسترشد به .

وعليه فلم أجد أمامي غير" التجريد " ، والذي منه خرجت بمعنى واحد لكل لفظ من الألفاظ التي تناولتها ، وبذلك إمتنع الاختلاف والذي هو الهدف الأول من إنزال القرآن.
ومما يؤكد ما ذهبت إليه أن القرآن الكريم قد أطلق العديد من الألفاظ " التفكر ( تحليل المعلومات ) ، التفقه ( الاقتناع ) التدبر ( النظر للخلفية ) ، التأمل ( التصورات المنطقية ) ، التعقل ( ربط النتائج ) ، التذكر ( تداعي المعلومات ) " .
لنعمل بهذه المعاني في الكون المرئي إنطلاقا من الكون المقروء ( القرآن الكريم ) .
وإذا ما قارنا بين هذه العملية " المنهج العلمي " وبين ما هو متبع من الأساليب الحالية في فهم القرآن الكريم
سنرى أن النتيجة تساوي الفارق بين المنهجين ، " إتفاق وتوحد " أمام " إختلاف وفرقة "
وكلما زادت كثافة التراكم المعرفي المترابط كلما ازدادت كثافة أفكارنا وعمقها .

لابد وأن نتعامل مع القرآن الكريم من خلال التجريد ، والنظر إليه على أنه " كمنظومة " كل موحد " سياق عام كامل للكون وما بعده " .، لذا فقد علقت على مقالة الآستاذ دويكات " هندسة القرآن " بأنها " أجمل ما قرأت "
وعليه لابد وأن يكون للقرآن شبكة كلية من العلاقات تنطلق من شبكات جزئية متعددة ، ونحن نؤمن بأن القرآن الكريم لفظا ومعنى من عند الله ومفصل على علم ، ألا يجب أن نتعرف على هذا التفصيل العلمي .؟ ، وحين نذكر كلمة " علم " هل نجد إختلافا بين أي أحد ؟ .
فلما نختلف حول القرآن ، الإجابة لأننا لا نتعامل معه ككتاب فصل على علم ( مبني على أسس علمية ) .

وللخروج من هذه المشكلة يجب أن نتعامل مع القرآن الكريم بمناهج علمية لكي نتعرف على هذا التفصيل العلمي للقرآن ، فعلينا بوضع فرضيات منطقية ونحاول إثباتها ، وفي حالة إثبات أي فرضية لابد وأن يتبعها مجموعة من القوانين تحدد شكل العلاقات " الشبكة " وامتداداتها ، وكلما ازدادت الفرضيات التي تأكدت صحتها ، كلما تعرفنا على نوعيات أكثر من الشبكات ، وبتجميع كل ما استطعنا الوصول إليه يتحدد لنا شكل الروابط المتشعبة داخل المنظومة كل منها في مكانه ، من هنا يكون من السهل علينا أن نحدد كإفتراضات نوعية العلاقات الأخرى الغير معروفة لنا ونبحث في عملية إثباتها حتى تتراكم معارفنا عن شكل المنظومة الموحدة للقرآن الكريم .
مثلما نفعل الآن للتعرف على شبكة العلاقات داخل المنظومة الكونية ، والتي بنيت على مجموعة من القوانين والعلاقات مثل " قوانين الوراثة ، والجدول الدوري لمندليف ، وشبكة العلاقات داخل الذرات .
كل من هذه الشبكات وضع في مكانه داخل المنظومة الكونية ، والتي تطورت إلى إيجاد علاقات بين الأبعاد الخمسة " الطول والعرض والارتفاع والزمان والمكان لنتعرف على شكل المنظومة الكونية .

يجب علينا يا سادة أن نتعامل مع الكون المقروء ( القرآن الكريم ) بما يستحق حسب التطور حضاري الذي نعيشه ، وذلك إذا ما اردنا ان نقدم الإسلام لنا وللعالم كإضافة وليس إعاقة للتطور الإنساني بصرف النظر عن كونه دين ، وفي هذا السياق قد وضعت فرضية بنيت على مقولة " تفسير القرآن بالقرآن " تقول الفرضية : أن اللفظ القرآني ليس له إلا معنى واحد لا يختلف في أي سياق ، والاختلاف لا يأتي إلا في النسبة والتوجه ويبقى المعنى واحدا ، مثال ذلك ظاهرة التآصل في العناصر الكيمائية : فوسفور ( احمر ، أبيض ) كربون ( فحم ، جرافيت ، ماس ) ، وما بين القوسين يعبر عن دلالات للتعريف بالمعنى الأصلي .
والسؤال الهام هنا : مافائدة هذه الفرضية إن ثبتت ؟ .
اعتقد بوجود فارق كبير بين أن نجد الموضوع مشتت من ناحية المعاني التي إخترناها حسب السياقات المتعددة مما يجعل كل منا في طريق وبين أن تكون الموضوعات مترابطة نلتف حولها لتنير لنا طريق موحد .
وفي حالة ثبوت تلك الفرضية نكون قد خرجنا من نقطة الصفر ، والتي نبدأ عندها دائما " بدون ثوابت " ننطلق منها
وبالمناسبة لو لم يتم التعرف على خصائص ( صفات العناصر الكيمائية لما عرفنا كيفية التعامل معها ووضع القوانين لها ووصلنا بها إلى كل هذا التقدم الذي نعيشه .
وهذا يتبعه سؤال ما هى القواعد والقوانين التي ننطلق منها لفهم القرآن ؟
مازلنا حتى الآن نتجادل حول الدلالات والتي زادت من فرقتنا وإختلافنا ، لم نضع حدا لخصائص ما نتعامل معه ( معاني محددة للألفاظ ) ، وثبتنا عند إفتراضات لم تؤكد نختلف حولها لعدم وجود تلك القواعد والقوانين .
وحين نتحقق من تلك الفرضية ، فكأنما وضعنا أيدينا على قواعد ننطلق منها لنتعرف على ماوراءها من توجهات ، بديلا عن تشتتنا الذي ينهك قوانا .
ولكن ما السبب وراء رفض هذه الفرضية ؟
ارى أن هناك عدة أسباب منها :
1. عدم الاستيعاب للموضوع وأهميته :
قد يكون هذا ناتج عن قصوري في التوصيل ، أو عدم قدرة المتلقي للقفز من مستوى معرفي متوارث ألى آخر ، أو الميراث التراثي الذي نلزم أنفسنا به بديلا عن بذل الجهد
2. عدم الثقة الكافية في القدرة على التعامل مع القرآن عند هذا المستوى الذي لم نعتاد عليه ، أو التقييم الشخصي لمقدم الفكرة ، والذي قد يختلف من شخص لآخر .
3. أتحرج من القول : عدم الثقة في كتاب الله بأنه يشمل الكون جميعه ، لذا نجد الرفض من الكثيرين والابتعاد بالعلم عنه .
4. المصالح : قد يكون للبعض مصالح في هذا الرفض وتغليب المصالح الشخصية على الصالح العام بل على الدين نفسه .
فبالمثابرة يمكننا استقطاب مجموعة عريضة ممن كانوا رافضين لكنهم يعلون دينهم على مصالحهم الشخصية ، وعدم إتمام ذلك يكون قصور منا عن تأدية ما يجب علينا تقديمه .
وسألحق ما قدمت سابقا من تأكيدات بنماذج أخرى تؤكد تلك الفرضية إنشاء الله .

اجمالي القراءات 19149