أنا لا أستطيع أن أتخلى عن شبرٍ واحدٍ من الأراضي من المقدسة.. فليحتفظ اليهود بملايينهم، حتى إذا مُزّقت دولتي، حينها من الممكن الحصول على فلسطين بدون مقابل* السلطان العثماني عبد الحميد الثاني
فيما كانت أطراف الدولة العُثمانية تتآكل من الضعف والوهن، كان السُلطان عبد الحميد الثاني قد احتجب عن الناس في قصره الكبير الذي تحوطه أسوارٌ شاهقة، ويحرسه جيشٌ عظيم؛ وكان الناسُ يتهامسون جَهرًا ويتحادثون علنًا في ساحات إسطنبول بأن السلطان العجوز قد أمضى سنواتٍ طويلة لم يخرج فيها من مَحبسه، ولم يضجر من عُزلته، يُغمغم أحدهم: «لعلها آفة الخوف الشديد والقلق الدائم».
في صيف عام 1905، قرر السُلطان أخيرًا الخروج لصلاة الجُمعة في مسجد «يلدز»؛ يسري الخبرُ في كافة أرجاء المدينة، ويهرع العوامُ للاحتشاد على جانبي الطريق تحت قَيْظ الشمس، لا لشيء سوى رؤية الموكب المهيب، تنتهي الصلاة ويظهرُ السُلطان وسط وزرائه، ولا ينتبه أحدٌ لذلك الشخص الذي نزع فتيل القنبلة التي وُضعت في عربة على مقربة من ساحة المسجد قبل أن يفرَّ هاربًا؛ والقصةُ على وشك أن تنتهي بعد دقيقةٍ واحدةٍ و47 ثانية.
يتجه السُلطان عبد الحميد الثاني سريعًا صوب حتفه قبل أن يستوقفه جمال الدين الأفغاني؛ ليبدأ حديثًا عابرًا ينتهي بسماع دوي انفجارٍ هائلٍ وبركة كبيرة من الدماء؛ وفيما ضرب الفزع جموع الحاضرين، شوُهد السلطانُ الذي نجا من الموت دون أن يُصاب بأذى وهو يصعد عربته بنفسه، ثم أمسك بزمام فرسه وقاده عائدًا نحو قصره، ولم يبد عليه علامات الخوف؛ وحتى ذلك التاريخ كان الرجل قد أمضى 29 عامًا على العرش، دون أن يفهمه أحد، لا أعداؤه ولا حتى أصدقاؤه، واللعنة انتقلت إلى كتب التاريخ حتى بعد وفاته.
السُلطان «المُستبد» الذي رفض «الديمقراطية» من أجل الاستقرار
أوروبا: بكم تبيعون جزيرة تكريت؟
الدولة العثمانية: بالثمن الذي اشتريناها به – بالحرب –
* حوار سمعه السلطان عبد الحميد الثاني أثناء جولته في أوروبا وهو صغير مع عمه السلطان
مشهد الاغتيال لم تكن الحادثة الأسوأ في مُخيلة السُلطان العجوز؛ فقبل 29 عامًا في 1876، وُجد عمه السُلطان عبد العزيز مقتولًا بعد أربعة أيام فقط من خلعه عن العرش بواسطة وزرائه؛ وكان الرجل الذي تخشاه أوروبا يرقد جُثة هامدة على الأرض تسيحُ في دمائها.
ولم يكن السُلطان عبد الحميد لينسى ذلك المشهد طيلة حياته؛ فعمّه السُلطان القوي الذي حافظ على أملاك دولته وجنّبها الحروب طيلة 15 عامًا فقد عرشه وحياته في أيامٍ معدودات. يتولى من بعده السُلطان مراد، ثم يُزاح بقوة بعد ثلاثة أشهر فقط بعدما ضربه الجنون، ثم يبايع أخوه عبد الحميد الثاني بالخلافة وعرش السلطنة وله من العُمر 34 عامًا، وسيقضى 33 سنة أخرى سيقاتلُ فيها وحيدًا ضد إسقاط دولته.
في نفس العام الذي تولى فيه العرش أعلن السُلطان الشاب – بإصرار الوزراء – الدستور الذي نصّ على الفصل بين السُلطات، وإضفاء تغييرات على نظام الحُكم، وتأسيس مجلس النواب ومجلس الشيوخ، وكانت من صلاحيات البرلمان إقرار الميزانية العامة دون تدخل من القصر، نفوذ الوزراء طال السياسة ودخل معترك الحروب أيضًا، فبينما كانت أوروبا ترفض نشوب حرب روسية – عثمانية بموافقة القيصر الروسي والسلطان العثماني، أصرّ الصدر الأعظم – رئيس الوزراء – إبراهيم باشا على إعلان الحرب التي اجتاحت القوات الروسية على إثرها مساحات شاسعة من الدولة.
يقولُ السلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته: «لقد وجدتُ مدحت باشا يُنصّب نفسه آمرًا ووصيًا عليّ.. لقد كان في معاملته بعيدًا عن المشروطية – الديمقراطية – وأقرب إلى الاستبداد»، وبعدما طلبتْ الحكومة من السلطان أن يوقع على قرارات تعيين ولاة مسيحيين في ولايات أغلب سكانها مسلمين إضافة للموافقة على قبول طلبة نصارى في الكلية الحربية العُثمانية، رفض السلطان تلك الطلبات، وأعاد التفكير مرة أخرى في الفكر الدستوري لدولته، وحين انهزمت قواته في الحرب، قام بتعطيل مجلس النواب شكليًا بعد انعقاده لمدة 10 أشهر، ولم تُفتح قاعته بعدها لمدة 30 عامًا، وبقي السُلطان يحكم وحيدًا.
وبالرغم من أنّ الدستور الذي وضعه عبد الحميد الثاني ينص على فصل السلطات من حيث الشكل لا المضمون، كما أنه لم يتعرض لسيادته وجعل سلطانه كاملًا، فقد كان عبد الحميد الثاني مع ذلك يرفض «المشروطية» التي رآها فكرة مُدمرة؛ ويشرح لنا في مذكراته قائلًا: «ينبغي ألا يظن البعض أن فكري واقتناعي ضد الحكم الدستوري.. الدولة العُثمانية دولة تجمع شعوبًا شتى، والمشروطية في دولة كهذه موت العنصر الأصلي في البلاد، وهل في البرلمان الإنجليزي نائب هندي واحد، وهل في البرلمان الفرنسي نائب جزائري واحد؟.. أنا الآن مقتنع بضررها»، يُكمل حديثه لنا من المنفى بعد عزله واتجاه دولته إلى العلمانية بكل ثقلها: «إنّي لجد آسف؛ فالأحداث أظهرت صدق كلامي، ماذا حدث عندما طبقنا المشروطية، هل قلّت الديون، هل أصبح الرأي العام العالمي إلى جانبنا؟».
«العُثمانيون الجُدد» وهزائم «رجل أوروبا المريض»
وبكل أسفٍ كان على خُبز العدو شيء من السَمن
*السُلطان عبد الحميد الثاني في مذكراته
على خلاف ما كان يعتقد السُلطان عبد الحميد، كان الشباب العُثماني يؤمن بأفكار الثورة الفرنسية التي اجتاحت أوروبا، وقادت شعوبًا لانتهاج العلمانية والتحرر من حُكم الفرد الواحد؛ فظهرت حركات وجماعات ثورية جديدة، كان أشهرها «حزب تركيا الفتاة»، و«جمعية الاتحاد والترقي»، وبرزت أسئلة جديدة على الساحة أبرزها: ما أسباب انحطاط الدولة العثمانية، وما هي الإصلاحات التي يجب اتخاذها لإعادة مجد الدولة الممتدة منذ ستة قرون؟ وكانت تلك هي شواغل السُلطان نفسه التي كانت تُحاصره في القصر.
في تلك الأثناء يخسر السُلطان عبد الحميد الحرب مع روسيا ويقوم بتعطيل مجلسي النواب والشورى؛ ويغضب الشباب الثوري في الداخل، وتثور بريطانيا في الخارج؛ فتُدبِّر حادثة انقلاب ضده عُرفت باسم اقتحام «قصر جراغان» من أجل خلعه وتنصيب أخيه «المجنون» مراد الخامس، وتسيرُ الأحداثُ في الطريق الخطأ فيفشلُ المُخطط، ويرى السُلطان أن الاستبداد هو الطريقة الأسهل للاستقرار، فيُلعن الحُكم الفردي، ويضع جيشًا كبيرًا خارج قصره، ويؤسس جهازًا استخبارتيًا أسماه «المنظمة الخفية» قاد به انتصارات كبيرة أهمها التجسس على أعدائه الأوروبيين وفرض قوة السُلطان وسرعة القبض على مُنفذي محاولة اغتيال السلطان في مسجد «يلدز».
وبعيدًا عن القصر الهادئ والعاصمة المُستقرة التي طُرد منها الصحافيون، كانت أطراف الدولة تشهد تمردات وثورات ساعية للانفصال؛ فالنمسا حرضت بلاد البوسنة والهرسك للخروج على الدولة العُثمانية، وروسيا وألمانيا حرضت الصرب وبلغاريا على التمرد، فتحرك الجيش العُثماني لإخماد الثورات بقسوة، فتدخلت الدول الأوروبية لوقف القتال، وإلا فليستعد السُلطان لحربٍ جديدة.
ترفض الدولة العُثمانية مطالب أوروبا، والتي تمحورت في تحسين الأحوال المعيشية لرعاياها المسيحيين، وإجراء إصلاحات في البوسنة والهرسك وبلاد البلغار، وتعيين الحدود مع الجبل الأسود – مونتيجرو حاليًا – وتجتاح روسيا بقواتها أملاك الدولة العُثمانية في أوروبا عام 1877، وُيهزم السُلطان هزيمة قاسية، ويضطر لتوقيع معاهدة «سان ستيفانو»، ويذكر التاريخ أنّ الرسول العُثماني وقّع المعاهدة وهو يبكي؛ نظرًا لشروطها المُجحفة من استقلال إمارات الصرب ورومانيا وبلغاريا والجبل الأسود، إضافة إلى فرض وصاية أوروبية.
وبالعودة إلى القصر مرة أخرى، فالسُلطان الشاب، الذي بدأ حُكمه بخسارة حربٍ وضياع أراضٍ كبيرة من دولته، أدرك مُبكرًا الأطماع الأوروبية التي تكالبت على اقتسام إرث رجل العجوز؛ فبريطانيا رفضت معاهدة «سان ستيفانو»؛ لأنها تضر بمصالحها الاستراتيجية، وتزيد من النفوذ الروسي في أوروبا، فعقدت المملكة الإنجليزية «مؤتمر برلين» عام 1878 لتعديل بنود المعاهدة، وبعدما عاد الزعماء الأوروبيون إلى بلادهم بدأت الأزمات السياسية تلاحق السُلطان بسنوات؛ ففرنسا احتلت تونس وضمتها تحت حمايتها عام 1881، وبريطانيا احتلت مصر عام 1882.
يقول السُلطان: «رأيتُ أثناء مؤتمر الدول الكبرى ما عزمت عليه هذه الدول؛ وهي ليست كما يقولون تأمين حقوق الرعايا المسيحيين، بل تأمين الاستقلال الذاتي لهولاء الرعايا، ثم العمل على استقلالهم التام، وبذلك يتم تقسيم الدولة العُثمانية.. كانوا يعملون على هذا الهدف على مرحلتين: إثارة الأهالي المسيحيين، والقول بالمشروطية لإحداث الفرقة بيننا أنفسنا، وبكل أسفٍ كان على خُبز العدو شيء من السمن، فلم يستطع بعض الشباب العُثماني المُثقف أن يُفرق بين التطبيق السهل والحُكم الدستوري في بلاد لا تتمتع بوحدة قومية، وبين تعذر هذا الحُكم في الدول التي لا تتمتع بوحدة قومية».
الجامعة الإسلامية.. فكرة السُلطان التي أزعجت قارّة بأكملها
الإسلامُ والمسيحية نظرتان مختلفتان ولا يُمكن الجمع بينهما في حضارة واحدة*
السُلطان عبد الحميد الثاني
في لحظةٍ ما كان الفكر الأوروبي طاغيًا بأفكاره حاضرًا بحضارته متغلغلًا في شتى صور الحياة الغربية التي وجدت طريقها إلى الدولة العُثمانية عبر الأفكار التي غزت عقول بعض المثقفين الذين أصبحوا فبما بعد أعداء السُلطان، كما أنّ الحملات العسكرية التي قضمت من أطراف الدولة عملت على نشر الفكر القومي فيها تمهيدًا لاستقلالها للأبد، وبالرغم أنّ السُلطان يقر بأنه لم يكن لديه الطاقة ولا القوة لمحاربة الدول الأوروبية إلا أنه يستطرد قائلًا: «كانوا يرتعدون من سلاح الخلافة، وخوفهم هذا جعلهم يتفقون على إنهاء الدولة العثمانية».
مصدر الصورة: الجزيرة
وبالعودة لما قاله المؤرخون الأوربيون عن تلك الفكرة، يقول «آرنولد توينبي»: «السُلطان عبد الحيمد الثاني أراد من سياساته الإسلامية توحيد المسلمين تحت راية واحدة، وهذا لا يعني سوى هجمة مضادة ضد العالم الغربي»، جانب من تلك الخُطة يظهر في مخطوطات عبد الحميد الثاني الذي قال مُبكرًا: «عدم وجود تفاهم مع إيران أمر جدير بالتأسف عليه، وإذا أردنا أن نفوّت الفرصة على الإنجليز والروس، فإننا نرى فائدة تقارب إسلامي».
شرع السلطان في تنفيذ سياسته الجديدة سريعًا؛ فأبعد مُعارضيه، ثم بدأ بحملة تعريب للدولة، وأدخل عليها مظاهر الثقافة العربية الإسلامية، ثم استمال زعماء القبائل العربية، وأنشأ مدرسة «العشائر» في العاصمة لتعليم أبنائهم الذين سيُصبحون حُكامًا فيما بعد، وسيدينون بالولاء المُطلق للخليفة، واستعان بالطرق الصوفية في أطراف دولته؛ ليكونوا حراس قصره في الثكنات البعيدة، والشيء الهام أنه اهتم بالتعليم؛ فحذف منه مناهج الأدب الغربي، واستبدل بها دروس الفقه والتفسير والتاريخ الإسلامي.
كما أنه منع الاختلاط، وفي عدد قديم من صحيفة إسطنبول لعام 1883 نطالع بيانًا شديد اللهجة من الحكومة العُثمانية للنساء اللاتي يرتدين ملابس «مخالفة للشرع»، ورغم أنّ عبد الحميد الثاني كان حريصًا على تعليم المرأة، إلا أنه كان يقول: «المرأة لا تتساوى مع الرجل من حيث القوامة، وما دام القرآن يقول بهذا فالمسألة منتهية، ولا داعي للتحدث عن مساواة المرأة بالرجل».
فكرة السُلطان سُرعان ما عرفت طريقها إلى ملايين المُسلمين عبر أعلام العصر الداعمين لفكرة الخلافة الإسلامية، ومنهم جمال الدين الأفغاني، يقول المؤرخ علي الصلابي عن ذلك: «مشروع الأفغاني كان أكبر بكثير من طموح السُلطان، فلم يكن السُلطان يأمل في أكثر من وحدة، لكن الأفغاني عرض مشروعًا يرمي لتوحيد السُنّة والشيعة لمواجهة الاستعمار العالمي».
ورغم أنّ الأفغاني قدم كثيرًا لمشروع الجامعة الإسلامية، كما أنه كان سببًا في إنقاذ حياة السُلطان في حادثة مسجد «يلدز»، إلا أنّ السُلطان اختلف معه لاحقًا، ثم تعرّض له في مذكراته بالقول الشديد: «الأفغاني مُهرج كانت له علاقات بالإنجليز، ولم يتعرض للاستعمار الفرنسي ولو بكلمة، ويعترف للروس بما لهم من مصالح حيوية في الهند غير مُعترض على احتلالها».
وبينما كانت الدول الأوروبية تنظر بحذر إلى الفكرة الإسلامية التي دخلت حيّز التطبيق فعليًا، قام السُلطان بطلب تبرعات من رعاياه في كافة أطراف الدولة من أجل مشروع إنشاء خط سكة حديد يربط الدولة الإسلامية عام 1900، ويسهل على الحجيج وصولهم إلى مكة لأداء الشعائر الإسلامية، وكان الهدف السياسي لذلك المشروع ربط أجزاء الدولة البعيدة، وفرض السيادة العُثمانية، وسرعة إرسال الجيش في المناطق التي تشهد تمردات.
ورغم أنّ فكرته لاقت صدًا قويًا، إلا أنّ ضعف الدولة وانتشار الفساد في ربوعها، إضافة إلى أنّ الاحتلال البريطاني نشر فكرًا مُضادًا قائمًا على القومية وإحياء الدعوات الطائفية في البلاد التي استولى عليها، وكانت هناك محاولة بالفعل لعزل السُلطان. يكشفُ عبد الحميد عنها في مذكراته: «أراد الإنجليز أن يكون الخديوي في مصر خليفة للمسلمين، لكن ليس هناك مسلم صادق يقبل أن يكون الخديوي أميرًا للمؤمنين؛ لأنه بدأ دراسته في جنيف، وأكملها في فيينا».
قصة «السُلطان الذي رفض بيع القدس» في مذكرات هرتزل
لا يُسمح لليهود بالدخول إلى فلسطين إلا حجاجًا أو زوارًا مقابل دفع 50 ليرة تركية والتعهد بمغادرة البلاد خلال 31 يومًا. قانون الدولة العُثمانية
في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تنتظر موت الرجل العجوز لتقسيم تركته، كان اليهود يسعون لإنشاء وطن قومي لهم في فلسطين بمساعدة بريطانية من قبل أن يتولى السُلطان عبد الحميد العرش. يقول المؤرخ والصحافي المصري محمد حسنين هيكل في كتابه «المفاوضات السريّة بين العرب وإسرائيل»: «ومن سوء الحظ أنّ الذين يعنيهم الأمر في المنطقة في ذلك الوقت لم يكونوا واعين لما يُدبّر لهم».
كتب رئيس منظمة الصهيونية العالمية، تيودر هيرتزل في يومياته عام 1896: «سوف نقدم للسطان 20 مليون جنيه إسترليني لإصلاح الأوضاع المالية المتدهورة في تركيا، منها مليونان بدلًا عن فلسطين، و18 مليونًا يُمكن استخدامه في تحرير تركيا من الحماية الأوروبية، وشراء سندات ديونها»، لكنه في تلك الزيارة لم يستطع مقابلة السُلطان، فكتب: «قابلت ابن الصدر الأعظم وهو مستعد لتفهم مشروعنا والمساعدة فيه، لكن اعتراضه الوحيد هو مصير الأماكن المُقدسة».
بعد خمس سنوات في عام 1901 نجح هرتزل في مقابلة السُلطان لمدة ساعتين بمساعدة من رجال القصر، وقام بعرض مشروعه وصفقته التي قوبلت بالرفض التام، رغم تدخل الوساطات، ومنها إمبراطور ألمانيا الحليف الأوحد لعبد الحميد الثاني في أوروبا، وتشير المذكرات التي كتبها هرتزل إلى شيء مثير: «طلب مني السُلطان العثماني أن أقوم له بخدمة، وهي أن أؤثر على الصحف الأوروبية بغية قيام الأخيرة بالتحدث عن القضية الأرمنية بلهجة أقل عداءً للأتراك»، ومع ذلك فالسُلطان في النهاية رفض طلبه ورد الوفد اليهودي.
يكشف عبد الحميد الثاني عن خُطته بعد لقاء هيرتزل قائلًا: «ومن المناسب أن نقوم باستغلال الأراضي الخالية في الدولة، كان علينا أن ننهج سياسة تهجير خاصة، بمعنى استيطان عناصر تنتمي إلى دين أسلافنا وتقاليدنا، حتى لا يستطيعوا السيطرة على زمام الأمور في الدولة».
يصف هيرتزل اعتقاده وقتها: «إنني أفقد الأمل في تحقيق أماني اليهود في فلسطين، وإن اليهود لن يستطيعوا دخول الأراضي الموعودة ما دام السُلطان عبد الحميد قائمًا في الحُكم»، لذا عمدت الحكرة الصهيونية لدعم أعداء السُلطان، ومنهم المتمردون في الأرمن والبلقان، والمعارضة الداخلية المتمثلة في حزب الاتحاد والترقي، وهو ما كتب الفصل الأخير في حياة السُلطان.
الإطاحة بحكم آخر السلاطين الأقوياء.. 33 عامًا ذهبت هباءً
أيها العُثمانيون: كفانا أن نقوم بدور المتفرج على سُلطان جبار، عديم الإيمان، يسحق القرآن تحت أقدامه* خطاب المعارضة للشعب العُثماني
رغم ضعف الدولة العثمانية إن أن جهاز المخابرات الذي شبده عبد الحميد الثاني كان لازال قويًا، لكنّ أعداءه السُلطان كانوا أقرب إلى الشعب منه، فقادوا حملة وتظاهرات أجبرت السُلطان على إعادة الدستور، وإحياء البرلمان مرة أخرى عام 1908.
وبعد عامٍ واحدٍ تنتفض تركيا على أحداث 31 مارس (آذار)، ولا يُعرف حتى الآن من دبرها، تقول جمعية الاتحاد والترقي إنها بفعل السُلطان، لكنّ عبد الحميد الثاني نفاها وألصقها بالمعارضة، وما حدث أنه خرجت فرقة كبيرة من الجيش الثالث وتوجهت إلى إسطنبول، ورفعت شعارات دينية، وطالبت بتطبيق الشريعة، ثم بدأت مواجهات وفوضى؛ قُتل فيها عدد كبير.
ورغم أن عبد الحميد الثاني كان ضعيف السُلطة مُعتل الجسد، إلا أن أحدًا لم يكن قادرًا على خلعه، وكان الطريق الوحيد إلى ذلك عبر قلم مُفتي الإسلام الشيخ محمد ضياء الدين الذي أصدر فتوى خلع السُلطان، وجاء فيها: «إذا إمام المسلمين جعل ديدنه طي وإخراج المسائل الشرعية المهمة من الكتب الشرعية، وجمع الكتب المذكورة، والتبذير والإسراف من بيت المال، وإنفاقه خلاف المسوغات الشرعية، وقتل وحبس وتغريب الرعية بلا سبب شرعي.. إلى آخرها فيجوز عزله»، وكان ذلك عام 1909، بعد أربع سنوات من محاولة اغتياله في مسجد «يلدز». بعد ذلك يعيشُ السُلطان في منفاه في قبرص، ثم يعود إلى قصره تحت الإقامة الجبرية، ويموت عام 1918 وهو يرى دولته تتفتت إلى أشلاء.