كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية حدثاً تاريخياً كونياً بكل المعايير. وكان الأمريكيون أنفسهم يدركون ذلك، وهو ما عكسته كل وسائل الإعلام صبيحة يوم الانتخابات (٤/٩/٢٠٠٨)، وأكدته النسبة العالية وغير المسبوقة التى شاركت فى التصويت، وقيل إنها الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
وحتى قبل ظهور النتيجة، كان الإجماع إن «تاريخية» الحدث تنطوى على ما يحمله من سوابق. فنجاح الحزب الديمقراطى كان يعنى انتخاب أول زنجى، من أصول إفريقية مسلمة، كرئيس لأمريكا منذ ا&Oacستقلالها عام ١٧٧٦ ـ أى قبل مائتين وثلاثين عاماً.
وكان نجاح الحزب الجمهورى ينطوى على انتخاب أكبر مُعمر لمنصب الرئاسة، حيث إن جون ماكين، تجاوز الثالثة والسبعين من عمره، وهى سابقة. كما أن انتخاب سارة بالين معه كنائبة رئيس، كانت تنطوى على سابقة وصول أول أمرأة أمريكية لهذا المنصب.
أما أهم السوابق الأخرى لتلك الانتخابات، فهو الدور المحورى الذى لعبه الشباب فى السباق الانتخابى لعام ٢٠٠٨. فقد أقبلوا على تسجيل أنفسهم فى جداول الانتخابات بنسبة غير مسبوقة. وتبرعوا للحملة الانتخابية لباراك أوباما بنسبة غير مسبوقة. صحيح أن متوسط كل تبرع كان لا يتجاوز خمسين دولارًا، وهو مبلغ متواضع للغاية بالمعايير الأمريكية، حيث يصل متوسط الدخل السنوى للفرد إلى حوالى ٣٠ ألف دولار.
ولكن لأن عشرات الملايين تبرعوا، وفعلوا ذلك أكثر من مرة، لذلك فإن أوباما حقق أكبر حصيلة لمرشح فى التاريخ الأمريكى، وهى ٥٠٠ مليون دولار، مما مكّنه من إدارة حملة إعلامية غير مسبوقة أيضاً، واستمرت إلى آخر ساعة للتصويت، يوم ٤ نوفمبر.
كذلك لعب الشباب الأمريكى دوراً تنظيمياً مُبهراً، لا فقط للمهارة فى استخدام آخر فنون الاتصال على الشبكة العنكبوتية الدولية، ولكن أيضاً لتطوع عدة ملايين منهم لإدارة الحملة، من دار إلى دار ـ ومن باب إلى باب، لحث زملائهم والمواطنين الأكبر سناً على الذهاب للتصويت المبكر (طوال الشهر السابق ليوم ٤ نوفمبر) أو للتصويت البريدى طوال الشهور الثلاثة السابقة ليوم الاقتراع ـ وكلاهما يسمح به النظام الانتخابى الأمريكى. وقد أخذ مئات الآلاف من هؤلاء المتطوعين الشباب (ذكوراً وإناثاً) إجازات من مدارسهم وجامعاتهم وأعمالهم لهذا الغرض.
ولم تعاقب المدارس والجامعات طلابها على ذلك. بل العكس هو الصحيح، حيث اعتبرت ذلك من الخدمة المدنية الرفيعة، التى لا تقل عن التطوع للخدمة العسكرية.
وكما درج المؤرخون على «التأريخ» أحياناً بالأحداث الجسام/ العظام ـ مثل قبل وبعد الميلاد، أو قبل وبعد الهجرة، أو قبل وبعد الحرب الأولى أو الثانية، وما بينهما ـ كذلك بدأ المؤرخون الأمريكيون يؤرخون لهذه الحقبة بتعبير «ما قبل وما بعد أوباما». ويتوقع المراقبون أن يتوفر المؤرخون وعلماء الاجتماع والسياسة على تحليل وتوثيق هذا الحدث الجلل.
من السوابق فى هذه الانتخابات أيضاً، وإن تكن مفهومة تماماً، هى النسبة الأعلى للتصويت بين الأمريكيين الأفارقة، فى تاريخهم (٩٠%)، فحتى حينما حصلوا على حقوقهم المدنية، بما فى ذلك حق التصويت والترشيح منذ مائة عام، ظل الأمريكيون السود من أقل المجموعات العرقية الأمريكية إقبالاً على المشاركة فى العملية السياسية. وقد تغير هذا الأمر تدريجياً وببطئ شديد خلال العقود الأربعة الأخيرة.
ولكن الذى حدث عام ٢٠٠٨ فهو طفرة فى إقبال الأمريكيين الزنوج على المشاركة السياسية. وقد بدأ ذلك مع الانتخابات الأولية التمهيدية ـ من فبراير عام ٢٠٠٨، ووصل إلى الذروة يوم ٤ نوفمبر، حتى إن بعضهم اصطف أمام مراكز التصويت، من الثالثة صباحاً، أى قبل الافتتاح الرسمى بأربع ساعات.
وكان يملأ هؤلاء السود مشاعر طاغية من الفخر والفرحة لوجود مرشح منهم لأعلى منصب فى بلد عاملهم «كعبيد»، لثلاثة قرون، ثم كمواطنين من الدرجة الثانية لقرن إضافى. لقد غمرهم شعور جماعى بأن هذه «لحظتهم»، التى لم يجرؤوا حتى أن يحلموا بها، حتى بداية هذا العام مع ظهور نجم باراك أوباما.
ومن السوابق أيضاً الإقبال الملحوظ لكبار السن على المشاركة. وكان ذلك ظاهراً من عشرات الكراسى المتحركة أمام مراكز الاقتراع. وهذه المجموعة العمرية لديها هموم حقيقية بسبب الأزمة المالية الطارئة منذ صيف ٢٠٠٨، والتى تؤثر على أموال التأمينات الاجتماعية وعلى معاشاتهم. وهكذا فإن هذه الانتخابات يبدو أن الشباب والشيوخ هم الذين اختاروا فيها الرئيس الأمريكى الجديد الرابع والأربعين، باراك أوباما.
إن هذا هو المقال الخامس الذى يظهر لى فى الصحافة العربية، خلال هذا العام (٢٠٠٨) عن الانتخابات الأمريكية، والتى كان ولا يزال نجمها باراك أوباما. ومن ذلك مقالنا السابق «ماذا لو كان أوباما مسلماً؟». ومن كل المقالات التى ظهرت لى هذا العام، حظيت هذه الأخيرة بأكبر عدد من التعليقات الآتية من القراء على البريد الإلكترونى.
وكان ثلثى من علقوا يتمنون أن يكون أوباما مسلماً بالفعل، رغم أنه هو نفسه قال إنه «مسيحى»، حيث عمدته أمه المسيحية، ومارس تدينه المسيحى، بل وكان من المقربين من رجال الدين المسيحى الزنوج طوال حياته، وفى مقدمتهم، القس رتشارد رايت.
وأنه لا يُعيبه أن يكون مسيحياً أو يهودياً. فالعبرة فى السياسة هى بمواقف وسلوكيات أصحابها. ورغم أن ذلك كان صُلب المقال المذكور، إلا أن أصحاب «البوصلة الإسلاموية»، ظلوا يحلمون بأن يكون أوباما «مسلماً» ـ كما لو أن ذلك فى حد ذاته سيحل كل مشكلات المسلمين، وسيحرر لهم القدس وفلسطين وكشمير، ويعيد لهم الأندلس، وكل فردوس مفقود.
ولهؤلاء أقول: حتى لو كان باراك أوباما مسلماً، فإنه أمريكى أولاً، والذين انتخبوه هم الأمريكيون. وبالتالى، فإن ولاءه وقراراته وسياساته ستكون أولاً وأخيراً لصالحهم، وأقصى إيجابية يمكن توقعها منه كرئيس هو أن يكون أكثر إنصافاً وتعاطفاً مع قضايا العرب والمسلمين والعالم ـ على طريقة رؤساء أمريكيين سابقين مثل ولسون، وأيزنهاور، وكينيدى، وكارتر، وكلينتون.
أما الثلث الآخر من البريد الإلكترونى، فقد جاء من الإخوة الأقباط. ورغم أن معظمهم كان ممتناً لتنويهى بأن نصل فى بلادنا إلى يوم يختفى فيه التعصب والتفرقة ضد غير المسلمين السُنة وغير العرب ـ من الأقباط والأكراد والشيعة والبهائيين.
ولكن بعض الإخوة الأقباط لا يزال غاضباً لما يلاقيه أبناء طائفتهم من عنت وتفرقة فى المعاملة. وكلما جأروا بالشكوى جاء الرد من بعض المسلمين، بأن «الأقباط يحصلون على حقوقهم وزيادة.
وجاءنى تعليق من الأخ القبطى سعد سليمان، يعاتبنى فيه لأننى لا أعير تعليقاته، التى يرسلها ليّ إلكترونياً، ما تستحق من أهمية. وحقيقة الأمر أنه يردنى ما بين ٢٠ و٥٠ تعليقاً فى المتوسط على كل مقال يُنشر لى. ومعظم هذه التعليقات تُنشر بالفعل فى نفس الصحيفة، ويعلق عليها قراء آخرون. ولا يتسع المجال فى مقالى الأسبوعى للرد على كل هذه التعليقات، خاصة إذا كانت الأحداث قد تجاوزت الموضوع.
ومع ذلك فقد ذكر أو تساءل سعد سليمان سؤالين يستحقان التنويه. أحدهما تعليق لقارئ آخر، يستنكر أن يفكر الأقباط، مجرد تفكير، أن يُنتخب منهم رئيس لمصر، وهم لا يتجاوزون ٥ % من سكان مصر. وتعليق مستفز آخر هو «يكفيكم فخراً أن السيدة مريم ذُكرت فى القرآن...» وطبعاً، لا أقر مثل هذه التعليقات المستفزة والتى تنم عن جهل مُطلق. من ذلك أن نسبة الأقباط فى مصر هى حوالى ١٠%.
ومن ذلك أن السيدة مريم لم تكن قبطية أو حتى مسيحية، ولكنها كانت حينما أنجبت السيد المسيح، يهودية من بنى إسرائيل. وفى كل الأحوال إن من حق كل قبطى أن يحلم بأن يكون رئيساً لمصر.
أو مثلما قال الجنرال كولين باول «إن من حق أى طفل أمريكى مسلم أن يحلم أن يكون رئيساً لأمريكا. وكل تطور إنسانى يبدأ كحلم وكفكرة!... ومن الثمانية ملايين قبطى مصرى آلاف مُهيّئون لرئاسة مصر، ولا يقلّون كفاءة ووطنية وتفانياً عن أى رئيس مسلم.
والله أعلم.