في مقاله لموقع «أيون»، والمقتبس من كتابه بعنوان Heavens on Earth: The Scientific Search for the Afterlife, Immortality, and Utopia، للكاتب الأمريكي مايكل شيرمر وزميل جامعة شابمان بكاليفورنيا قضية المجتمعات المثالية والمدن الفاضلة، وسعي الإنسان عبر التاريخ نحو الوصول لهذه الصورة، والتي يتم الإشارة إليها دائمًا بـ«يوتوبيا».
يرجع تاريخ تلك التسمية إلى الكاتب والسياسي ورجل الدين توماس مور، والذي عاش في القرن الخامس عشر، واختار تسمية يوتوبيا والتي تعني اللامكان، كاسم للمدينة الفاضلة، وهي النموذج الذي يسعى الإنسان غير الكامل من خلاله للوصول للمثالية على المستوى الشخصي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي، إلا أن محاولات الإنسان في هذا الاتجاه دائمًا ما باءت بالفشل.
لماذا لن تتحقق يوتوبيا؟
بحسب المقال، تبدو تلك الأفكار براقة للغاية، ولكن المشكلة تبدأ بالتحديد عند محاولة تطبيقها، وهو ما يقودنا نحو الجانب المعاكس تمامًا، أو كما أُطلِق عليه «ديستوبيا»، أو المدينة الفاسدة، التي تمثل الفشل والظلم في الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، والتي ربما تصبح نتيجة لحلم غير واقعي مثل المدينة المثالية.
يرى الكاتب أن المعضلة تكمن بالأساس في تصميم مجتمع مثالي بلا أخطاء لكائنات غير مثالية، ووقوعها في الخطأ أمر حتمي، بالإضافة لاختلاف البشر عن بعضهم واختلاف تطلعاتهم، ما يقودنا إلى أن وجود مجتمع ما ذا صورة معينة واعتبارها الصورة الأفضل ليس أمرًا صحيحًا، بل ربما يكون هناك صور متعددة لما يمكن أن نسمية بـ«المجتمع الأفضل».
من بين أكبر المعضلات التي تواجهها يوتوبيا هي فكرة النظام الاجتماعي ونظريتها الاجتماعية القائمة على الملكية الجماعية، والحكم السلطوي، والعمل من أجل المجتمع، وهي الفكرة التي تتنافى مع طبيعة الإنسان التي تسعى للحرية الفردية وحرية الاختيار. يضاف إلى ذلك الفروق الشخصية بين البشر وبعضهم في القدرات والاهتمامات والأولويات، والذي يؤدي بالضرورة إلى نتائج مختلفة إذا ما أدوا نفس العمل، وهو ما لا تتسامح معه قواعد يوتوبيا.
كان ذلك بالفعل هو ما حدث في محاولة روبرت أوين لتأسيس مدينة فاضلة في القرن التاسع عشر، إذ يقول أحد مواطني هذه المدينة أنهم حاولوا جميع الهياكل التنظيمية والمؤسسية لإدارة مدينتهم الجديدة، إلا أن النتيجة دائمًا كانت واحدة، وأنه يبدو وأن ذلك الاختلاف بين البشر وتنوعهم دائمًا ما يتضارب بشكل ما مع صورة الجماعة التي تريد يوتوبيا تأسيسها.
محاولات فاشلة
ومع أن جميع محاولات تأسيس يوتوبيا في القرن التاسع عشر فشلت لعدم وجود عدد كبير يعيش فيها، وبالتالي غياب القوة والتأثير السياسي والاجتماعي، إلا أن الكاتب يقول إنه علينا ألا نغفل أيضًا احتمالية تحول الحالمين بمدينة فاضلة إلى «ديستوبيين» يملؤهم الشر، إذ إن تصرفات الإنسان هي نتيجة لما يعتقده، وبما أن يوتوبيا تمثل الجنة بالنسبة للحالمين بها، فلن يتوانَ أحد هؤلاء عن فعل أي شيء لمن يقفون في طريق وصوله أو من يحب إلى هذه الجنة، وهو ما رأيناه عبر التاريخ في الحروب الدينية على وجه التحديد، والتي شهدت عمليات قتل وإبادة وحشية.
من الناحية العلمية، يمكن تشبيه هذه الأمر بـ«معضلة الترولي»، والتي تفترض أن ثمة خط للسكك الحديدية مربوط عليه خمسة أشخاص وهم مسلوبو القدرة على الفكاك، وأن قطارًا يمضي إليهم، بينما يوجد شخص «س» ليس إلا مارًّا ولكن بيده أن يستخدم آلة التحويلات ليتخذ القطار المسار البديل مُنقذًا بذلك الأشخاص الخمسة، ولكن هناك مشكلة أخرى وهي أن عاملًا يوجد على الخط البديل. في هذه الحالة، إذا لم يفعل ذلك الشخص شيئًا، فسيموت هؤلاء الخمسة، وفي حالة قام بتحويل الخط، فسيكون مضطرًا لقتل العامل.
أغلب الناس يختارون قتل شخص واحد بدلًا من خمسة، حتى أولئك الذين يعيشون في الدول المتحضرة ويحملون القيم الغربية. إذا تخيلنا سهولة إقناع هؤلاء بقتل هذا الشخص، فبالتأكيد سيكون الأمر أسهل بكثير لدى إقناع شخص يعيش في مجتمع استبدادي، ويحمل أحلام يوتوبيا، بقتل 1000 أو 5000 شخص، حتى يعيش 5 ملايين آخرين في تلك الحياة المثالية.
معضلة أخرى تثبت التناقضات في المدينة الفاضلة تتصور بأنك شخص معافى تمر بجوار مستشفى، وبالداخل هناك طبيب لديه خمس من المرضى سيموتون من جراء حالات مختلفة، وفي هذه الحالة يمكن إنقاذهم جميعًا من خلال التضحية بك واستخدام أعضائك وزراعتها لدى هؤلاء. هل يرغب أحد في العيش في مجتمع قد يموت فيه دون سبب لتعويض الآخرين؟ بالتأكيد لا، وهو ما قاد جميع الأطباء الذين حاولوا تطبيق ذلك إلى السجن بتهمة الشروع في القتل.
هذا ما حدث بالضبط في تجارب القرن العشرين لتحقيق المدينة الفاضلة، وتحديدًا في روسيا ماركس ولينين وستالين (1917-1989)، وإيطالية الفاشية (1922-1943)، وألمانيا النازية (1933-1945)، وجميعها محاولات واسعة النطاق لتحقيق نظام سياسي واقتصادي واجتماعي مثالي، وهو ما قُتل في سبيله الملايين.
هذه الأنظمة أيضًا نفذت عددًا من التجارب الغريبة سعيًا للسيطرة على المجتمعات، كتلك التجربة التي أجراها إيليا إيفانوف بتكليف من ستالين في عشرينيات القرن الماضي، وهي محاولة لخلق كائن جديد هجين من البشر والقرود، والذي رأوا أنه سيكون مزيجًا لا يقهر، وعندما فشل إيفانوف في إنتاج ذلك الرجل الهجين، قام ستالين بالقبض عليه وسجنه ونفيه إلى كازاخستان، وغيرها من التجارب غير الآدمية.
ضحايا يوتوبيا
في النصف الثاني من القرن العشرين، وتحديدًا أثناء الثورة الماركسية في كمبوديا وكوريا الشمالية وعدد من دول أمريكا الجنوبية وأفريقيا، تسبب ذلك في الكثير من جرائم القتل والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والحروب الأهلية والصراعات الداخلية والخارجية، جميعها كانت باسم تحقيق المدينة الفاضلة، والذي يتطلب بالضرورة إبادة المعارضين لها في البداية.
يبلغ عدد من قتلوا على يد الماركسيين والشيوعيين في روسيا والصين وكوريا الشمالية وغيرها من الدول إلى 94 مليون شخص، وهو الرقم الذي يفوق بكثير عدد ضحايا الفاشية، والذي يبلغ 28 مليونًا، وهنا يرى الكاتب أنه عندما تقتل كل تلك الملايين من أجل الوصول ليوتوبيا، نصل إلى النتيجة العكسية تمامًا، وهي المدينة الفاسدة.
حسنًا، ما الحل إذًا؟ ما هو البديل ليوتوبيا؟ إجابة الكاتب هي «بروتوبيا»، وهي السعي تدريجيًا نحو أن نصبح بشرًا أفضل، وليس أن نصل إلى الكمال، يصف الكاتب كيفين كيلي بروتوبيا قائلًا «بروتوبيا هي دولة أفضل من أمس ومن اليوم، على الرغم من أنها قد تكون أفضل بمقدار ضئيل للغاية، وهو ما يجعل أمر تخيلها أصعب، لأنها سيكون بها مشكلات جديدة بقدر ما فيها من مزايا».