مقدمة
1 ـ فى مقال (الحلال والحرام في تشريع الطعام فى الإسلام) استقصينا ـ في ايجازـ معظم آيات القرآن الكريم في ما يخص الحلال والحرام في الطعام والشراب ، وخرجنا منها بالحقائق التالية:(1) الحلال هو الطيبات والحرام هو الخبائث (2) الحلال هو الأصل والحرام هو الاستثناء(3)لا يجوز تحريم الحلال(4)تحريم الحلال يعتبر شركا بالله واعتداء علي حقه سبحانه وتعالي في التشريع .
وفى مقال ( فقه التحريم فى تشريع القرآن الكريم ) خلصنا الى إن هناك جانبا محظورا على البشر التدخل فيه ، منه مجال التحريم والتحليل المنصوص عليه فى القرآن الكريم ، وأن هناك جانبا آخر أذن الله تعالى للبشر التشريع فيه وهو العرف والمعروف والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو هامش واسع ومتحرك فى إطار العدل والتيسير ... ولكن بدون إستعمال مصطلح الحلال والحرام ، بل المعروف والمنكر ، وهذا التقنين المأذون به يدخل ضمن بنود الشريعة الإسلامية .
وفى موضوع التدخين ـ مثلا ـ فواجب الدولة الاسلامية سن قانون يعتبره منكرا وليس حراما ، ويتأسس القانون هنا على العدل وتحقيق المصلحة ومنع الضرر، وبما لا يمس الحرية الشخصية ،أى مثلا بتحريمه على الأطقال والقاصرين ، وفى الأماكن العامة ، ووضع عقوبة مالية على المدخن المخالف للقانون. وبالنسبة للمخدرات توضع عقوبات تناسب وتتدرج مع خطورتها ، فليس الحشيش فى ضرره كالأفيون ، وليس الأفيون كالكوكايين والهيروين حيث يتلامس المنكر مع جريمة القتل ، وعلى أهل الاختصاص تحديد ذلك ، ثم يصدر القانون بالديمقراطية ليصبح سارى المفعول.
2 ـ ونقوم فى هذا المقال بدراسة تحليلية في الفتاوي المختلفة للسنيين فى موضوع التدخين.
اولا : تحليل أدلة القائلين بتحريم التدخين مطلقا والرد عليها :
سمك لبن تمر هندى ..!!
تحول الهجوم علي التدخين الي تجارة ترعاها الدولة السعودية بنفوذها واموالها ،ودخل في هذه التجارة الكثير من غير المتخصصين ،فاختلط في ابحاثهم حول حول تحريم التدخين علل التحريم واسباب التحريم بأدلة التحريم وفقا للثقافة السنية ،واضيف لذلك كله عبارات حماسية وانشائية تفتقر الي الدقة العلمية .
ونأخذ علي ذلك مثلا مما ذكره الاقطم في كتابه (التدخين بين الطب والدين )اراء القائلين بالتحريم .وهي في الاتي :
1-المضار الكثيرة للدخان التي لا تحصي ،واستشهد بقوله تعالي (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(البقرة 195 )،( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ )(:النساء 29) .
2-انه ليس من الطيبات ،واستدل بقوله تعالي (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)(الاعراف 157 ) وحديث (من اكل ثوما او بصلا فليعتزلنا ).
3-تبذير مال الفرد والامة، واستشهد بحديث (نهي رسول الله (ص) عن قيل وقال وكثرة السؤال واضاعة المال )،وقوله تعالي (ولاتبذر تبذيرا :الاسراء :26 )( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ) (الاعراف 31 )
4-سد الزرائع :أي ان الدخان مفتر وهو مقدمة لشرب الخمر والحشيش .
5-اصول الشريعة وقواعدها التي تؤكدعلي انه (لا ضرر ولا ضرار ) ،( الاصل في الاشياء النافعة الاباحة والاصل في الاشياء الضارة التحريم )(درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع )(اذا اجتمع الحلال والحرام تغلب الحرام ).
6-حكم بحرمته الكثير من العلماء .
7-ثبت علميا انه مفتر مخدر وقد يسكر من تعاطاه لأول مرة ..
8-فيه تشبها بأهل النار عندما يخرج الدخان من افواههم .
9-فيه ضرر علي الاخلاق .
10-فيه صد عن ذكر الله وعبادته .
11-لا يضر المدخن وحده ولكن يمتد ضرره الي غيره .
12-من المشبهات التي امرنا الله تعالي باتقائها .
13-عقد مؤتمر في القاهرة لتحريمه وطالب بتشديد العقوبة علي المدخنين في الاماكن العامة ووسائل المواصلات العامة .
14-حفظ الكليات الخمسة وهي النفس والعرض والنسل والدين والعقل ،ومن اصابها بأذي وقع في الحرام .
15-التدخين يضعف الارادة ويجعل الشخص عبدا لشهواته .
16-صدور مئات الكتب التي تدعو الي تركه ولا يوجد كتاب واحد يشجع علي التدخين .
17-تحريمه في تعاطيه في الجسم وليس في الاستعمالات الاخري .
18-فتوي عبد الناصر السعدي (السعودي ) بتحريمه وتحريم الاتجار فيه والاعانة علي ذلك ..
أي 18 سببا ودليلا للتحريم ..
وهذا المؤلف نموذج للكتب الدعائية ضد التدخين في منهجها في التكرار .اذ نراه يكرر في تعداد اضرار التدخين الصحية والمالية والاجتماعية والدينية ،ويكرر في آراء الفقهاء السنيين الذين يحرمون التدخين ومؤتمراتهم وفتاويهم ،ويكرر في ذكر اصول التشريع التي يراها ضد التدخين.
الا ان هذا المؤلف يقع في خطأ شائع عند معظم الفقهاء المعاصرين الذين كتبوا ضد التدخين ، وهو الخلط بين اسباب التشريع وادلة التشريع في حديثه عن تحريم الدخان ،فأحيانا يذكرون اسباب التشريع واهمها الضرر ويفصلون بينه وبين الآيات التي تتحدث عن تحريم القتل للنفس أو إهلاك النفس مثل : (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(البقرة 195 )،( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ )(:النساء 29)،
ويستدلون بها بعد عزلها عن سياقها ،ويجعلونها تنطبق علي تحريم التدخين ..
ماهية أسباب وأدلة التحريم فى الفقه السّنى:
وعموما فانه من خلال مراجعة الفتاوي التي تحرم التدخين يمكن أن نحدد أسباب التحريم وأدلة التحريم في سبب وحيد دارت حوله ادلة التحريم وهو الاضرار الصحية والمالية .
والادلة الشرعية عندهم في التحريم هي : (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(البقرة 195 )،( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ )(:النساء 29)، بالنسبة للاضرار الصحية ،وايات النهي عن التبذير والاسراف : (ولاتبذر تبذيرا :الاسراء :26 )( وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ ) (الاعراف 31 )بالنسبة للاضرار المالية .
وبناء علي الاضرار الصحية والمالية يعتبرون التدخين من الخبائث ليقيسوا حكمه علي الاية التي تحرم الخبائث (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)(الاعراف 157 ).
ثم يضيفون للاستدلال بالقرآن الاستدلال بالاحاديث التي تم صنعها في العصر العباسي قبل اكتشاف وترويج الدخان ،ويقيسون عليها الدخان ،مثل حديث النهي عن كل مفتر ومخدر وحديث نهي من يأكل الثوم والبصل عن حضور المسجد وحديث النهي عن الاسراف واضاعة المال ،ثم يضيفون للاحاديث في الاستدلال قواعد التشريع التي تمنع الضرر والتي تسد الذرائع وتقدم درء المفاسد علي جلب المنافع وتغليب التحريم علي الاباحة ،ويضيفون التمسك بمقاصد الشريعة عند الفقهاء وهي حفظ المال والنفس والعرض والعقل والدين .
الرد على الشيخ شلتوت :
1 ـ واكثر الفقهاء تحمسا في مجال تحريم التدخين ليس بالضرورة اكثرهم مهارة في المجال الفقهي ، وعلي سبيل المثال فان فقهاء السعودية لم يضيفوا جديدا في الاستدلال ، ولم يكتبوا شيئا في الفلسفة الفقهية السنية في تحريم الدخان ، لأن ابرز من كتب في هذا المجال هو شيخ الازهر السابق محمود شلتوت ، ونسج علي منواله فيما بعد الفقيه المصري د.يوسف القرضاوي .
2 ـ يقول شيخ الازهر الأسبق محمود شلتوت في كتابه الفتاوي (من قواعد الاسلام العامة انه يحرم ما يحرم حفظا للعقيدة او العقل او المال او العرض ،وبقدر الضرر يكون التحريم او الكراهة ،وكثيرا حرم الاسلام المباح اذا غلب ضرره ،بل يحرم العبادة المفروضة اذا تيقن انها تضر ..)ويقول (حكم الاسلام بالحرمة او الكراهية لا يتوقف علي وجود نص خاص بذلك الشئ ،لأن علل الاحكام وقواعد التشريع العامة قيمتها في معرفة الاحكام ،وبهذه العلل وتلك القواعد كان الاسلام يحكم علي كل المستجدات من حيث الحلال والحرام بمعرفة خصائص ذلك .فاذا كان ضارا كان حراما ،واذا خلص النفع او غلب كان الاباحة ،واذا استوي النفع والضرر كانت الوقاية خيرا من العلاج ).
2 ـ والواضح ان الشيخ شلتوت قد ركز علي تحليل سبب التشريع وهو الضرر ،ولم يلتفت الي الادلة فى الشريعة السنية فلم يستشهد بالايات والاحاديث.
ويلاحظ هنا انه يخلط بين الاسلام والمسلمين ويعتبر الفقهاء السنيين متحدثين باسم الاسلام ،وبالتالي يعطيهم كهنوتا حيث يستطيعون الحكم بالتحريم والكراهة بدون نص قرآنى،يقول (حكم الاسلام بالحرمة او الكراهة لا يتوقف علي وجود نص ..) وكان الأولي ان يقول (حكم الفقهاء )، ويتجلي الخطأ هنا في ان الفقهاء قد اختلفوا قديما وحديثا ،ليس فقط في المذاهب ولكن في داخل المذهب الواحد ،ووصل اختلافهم حول كل شئ ومنها التدخين ،فمنهم من احله ومنهم من حرمه ومنهم من جعله (مكروها)،فلو اعتبرناهم (الاسلام ) فكيف يقال ان : (الاسلام حرم التدخين والاسلام احل التدخين والاسلام جعل التدخين مكروها ؟ ) أم ان الشيخ شلتوت يعتبر رأيه وشخصه هو الاسلام دون غيره من الفقهاء ؟ أى إذا حرّم التدخين فان الاسلام ينطق علي لسانه ؟ واذا كان الامر كذلك فلماذا استمر الشيخ شلتوت يدخن دون ان يقلع عن التدخين ؟ .
3 ـ ونصل الي نقطة اخري فاصلة ،وهي علة التحريم او سبب التحريم الذي يؤسس عليه الفقهاء حقهم المزعوم في تحريم ما لم يأذن به الله تعالي ، إذ يبحثون عن سبب للتحريم من خلال ما يتخيرون من الآيات القرآنية ،ثم يطبقون هذا السبب علي الشئ المراد تحريمه ،ومن هنا نفهم قول شلتوت (حكم الاسلام بالحرمة او الكراهة لا يتوقف علي وجود نص خاص بذلك الشئ لأن علل الاحكام وقواعد التشريع العامة قيمتها في معرفة هذه الاحكام ،وبهذه العلل وتلك القواعد كان الاسلام يحكم علي كل المستجدات من حيث الحلال والحرام ..)
4 ـ والمعني المستفاد مما قاله شلتوت ان باب التشريع بالتحريم لايزال مفتوحا بعد اكتمال ونزول القرآن وقوله تعالي (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا ) (المائدة 3) واكتمال الاسلام باكتمال القرآن ينفي ان باب التشريع بالتحريم و التحليل لايزال مفتوحا لاي بشر بعد موت النبي عليه السلام الذي كان يوحي اليه .
بل ان النبي نفسه كان ممنوعا من ان يحرم شيئا برأيه الشخصي خارج المحرمات التي حددها الله تعالي في القرآن الكريم ،وحين حرم النبي علي نفسه ـ فى حياته ـ بعض الاشياء برأيه الشخصي خارج المحرمات التي حددها الله تعالي في القرآن الكريم نزل الوحي يقول له (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ )( :التحريم 1) مع ملاحظة ان النبي حرم ذلك الشئ علي نفسه ولم يحرمه علي غيره كما يفعل الفقهاء السنيون الذين يحرمون مالم يرد في القرآن تحريمه ويلزمون بذلك المسلمين ، ويرفعون انفسهم فوق مكانة النبي عليه السلام الذي لم يكن له حق التشريع ،بل كان فقط مبلغا للتشريع الاسلامي ،حيث ان التشريع الاسلامي حق لله تعالي وحده وحيث ان الدين كله لله تعالي وحده .
ان الله تعالي جعل التشريع حقا الاهيا خالصا له وخاصا به جل وعلا ،وكان النبي مأمورا باتباع الوحي وتطبيق الشرع الالهي ،وهذا الشرع الالهي المحفوظ في القرآن الكريم يمكن ان تتضح منه قواعد التشريع في الحلال والحرام كما سبق بيانه . وليس من حق البشر ان يحرم ما احله الله ،او ان يضيف الي المحرمات شيئا تحت أي دعوة ،والا فقد استحق العقاب الالهي الذي جاء في الكتاب العزيز ( النحل :17)(يونس :59)( البقرة ـ 175 ) ( الانعام 147 :148 ) .
الا ان الفقهاء تجاوزوا ذلك كله ،واعطوا لأنفسهم حق التشريع عن طريق القياس ،وذلك بالبحث عن سبب التحريم ثم تعميم وتطبيق هذا السبب علي كل ما يريدون تحريمه ..ويتناسون ان التشريع حق لله تعالي وحده بغض النظر عن الاسباب والعلل .
الضرر ليس سببا فى التحريم فى تشريع الاسلام :
1 ـ هل ذكر القرآن الكريم اسبابا للتحريم وجعلها قواعد عامة تنطبق علي كل ما سيأتي بعد نزول القرآن ؟الجواب بالنفي لسببين :
* لأن القرآن كما سبق قد جعل الحلال هو الاصل وجعل الحرام هو الاستثناء ومنع تحريم الحلال وجعله تحريمه كفرا واعتداءا علي حق الله تعالي في التشريع .
* ثم انه حين ذكر المحرمات في التشريع بالتفصيل والتحديد لم يذكر الضرر سببا في التحريم ،وانما قال انما حرم عليكم كذا وكذا ،ثم اباح للمضطر ان يأكل منها طالما لا يستحل الحرام .
2 ـ وقد سبق أن قلنا أن الفقهاء السنيين قد جعلوا الضرر هو السبب الرئيس في تحريم التدخين وغيره . وهذا خطأ . فالضرر ليس سببا فى التحريم فى تشريع الاسلام .
والسبب الوحيد لتحريم المحرمات ـ فى القرآن الكريم ـ أنها (فسق ) او (رجس) وهي مصطلحات قرآنية تأتي في وصف المشركين والكفار الذين يعتدون علي حق الله تعالي في التشريع ، لذا فإن الله تعالى حين ذكر المحرمات بالتفصيل والتحديد قال عن المحرمات في الطعام : (قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ )(الانعام 145 ) فوصف أكل الميتة او الدم المسفوح او لحم الخنزير بانه (رجس )، ووصف اكل الطعام المقدم كقرابين او نذورللأولياء بانه (فسق ).
وفي تحريم الخمر والميسر –أي القمار – والأنصاب – أي القبور المقدسة ؛ والأزلام أي ادعاء العلم بالغيب يقول تعالي يأمر المؤمنين باجتنابها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )(المائدة 90 ).
وكلمة (رجس ) تأتي في القرآن وصفا للمشركين والمنافقين والأوثان ؛ كما تأتي وصفا للشرك او الكفر او الأفتراء علي الله تعالي (الأنعام 125 ، الأعراف 71 التوبة 95 الحج 20 ) أي هي نفس معني الفسق التي تكرر كثيراٍ في القرآن ،وبالتالي فان التحريم في تشريع الله تعالي أحد جوانب العقيدة باعتبار ان الله هو وحدة الذي يملك حق التشريع بالتحريم او التحليل ، والله تعالي يستعمل الألفاظ العقيدية في هذا التشريع مثل الرجس والفسق ؛ ولا يستعمل لفظ الضرر .
3 ـ بل ان مصطلح الضرر واشتقاقاته لم يرد مطلقا في القرآن في سياق الطعام والشراب الا في مجال مناقض لما يقوله الفقهاء ؛ وهو اباحة آكل المحرمات للمضطر ( فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) أي في تحليل اكل الحرام للمضطر ؛ وليس في تحريم الحلال .
هذا مع ان مصطلح الضرر استعمله تشريع القرآن في الزواج والطلاق (البقرة 233؛231؛الطلاق 6) وفي تشريع المعاملات التجاريه (البقرة 282 ) والديون والميراث والوصية ( النساء 12 ) وفي تشريع الجهاد (النساء 95 ؛ البقرة 177 ).
أي كان من الممكن ان يستعمل القرآن مصطلح الاضرار في تشريع المحرمات في الطعام والشراب ويجعله قاعدة يقاس عليها كل ما يضر ؛ وبذلك يعطي البشر حق التشريع ، ولكن لأن حق التشريع مستمد من عقيدة الاسلام وهي انه لا اله الا الله ؛ ولأن النبي نفسه لا يملك رخصة التحريم لذلك فان القرآن يستخدم مصطلحات عقيدية مثل الرجس والفسوق لتكون اكثر دلالة في التوضيح ، وعليه فاذا كان الضرر هو سبب وعلة التحريم للدخان عند الفقهاء فان الضرر ليس سببا للتحريم في شريعة الاسلام التي تحددت فيها المحرمات ونهى الله تعالي عن اضافة أي شي اليها.
بعض المحرمات فى تشريع الاسلام لا تخلو من منافع :
بل ان بعض المحرمات المذكورة في القرآن لاتخلو من فائدة ومنافع ذكر القرآن الكريم بعضها ،ونحن هنا نتحدث عن الخمر والميسر.
ونتتبع هذه القضية باختصار :
ففي التشريع القرآني الذي نزل في مكة جاءت آيات التشريع موجزة مجملة مثل قوله تعالي (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُون)(الاعراف 33 )وكانت الخمر ضمن الاثم المحرم اجمالا . ثم سئل النبي (ص) في المدينة عن تحريم الخمر والميسر، ولأنه عليه السلام ليس له حق التشريع فقد انتظر حتي نزل التشريع الالهي بالاجابه؛ قال تعالي(يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا )( البقرة 219 ) أي طالما فيهما اثم كبير فهما حرام حتي مع وجود منافع فيهما .
كان السياق يقتضي ان يذكر الضرر في مقابل المنافع ؛ ولكنه تعالي ذكر (الاثم)أي ذكر مصطلحا يمت الي التشريع الالهي ؛ الذي يعني ان كل ما ينهي عنه فهو اثم حتي لو كان فيه منافع وما ليس منهيا عنه او محرما فهو حلال حتي ولو كان فيه ضرر .
وفي تحريم القرآن لاكل الطعام والذبائح المقدمة قرابين للاضرحة والقبور المقدسة ما يؤكد علي ان الضرر ليس واردا علي الاطلاق كسبب من اسباب التحريم ، لان سبب التحريم هنا هو الفسوق والعصيان كما جاء في سورة الانعام (145) وليس الطعام نفسه الذي يكون عادة من اجود الاطعمة ؛ بل ربما يستفيد منه الفقراء والمحتاجون الذين تزدحم بهم الأضرحة والمعابد خصوصا في المناسبات والاعياد والموالد ، ولكن التحريم هنا ليس بسبب المنافع او المضار؛ ولكن بسبب العقيدة الاسلامية ؛ تلك العقيدة التي تجعل التشريع والتحريم حقا لله تعالي وحده.
ولأن المصطلحات القرآنية في التحريم والتحليل مصطلحات عقيدية ؛ فان الله تعالي يصف كل ما أحله بانه من الطيبات (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا)( البقرة 168 ) طالما تحصل عليها بطريق الحلال ، وفي نفس الوقت يجعل الخبيث عكس الطيب (قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)(المائدة 101:100) ومن هنا وصف المحرمات ( المذكورة بالتحديد والنص ) بانها خبائث ؛ ويكون من وظيفة النبي الذي ينزل عليه الوحي انه يحل لهم الطيبات (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)(الاعراف 157 ) اذا فالخبائث هنا ليست وصفا عاما نختلف عليه حسب الاهواء بحيث نقع في تحريم ما احل الله ؛ ولكنه وصف محدد بالمحرمات المذكورة في القرآن ؛ وليس لنا ان نزيد عليها .
ثانيا: القائلون بتحريم الدخان احيانا :
احيانا تسللت بعض الفتاوى التي تحرم التدخين في ظروف معينة منها ما يكون خاصا بالشخص المدخن او بالظروف الزمانية او المكانية ذات الصلة بالاسلام. ونعطى أمثلة :
1 ـ فالمدخن الفقير أفتوا بتحريم التدخين بالنسبة له؛وقد سبق بهذا الرأى مجلة الايمان سنة 1934 ، وكررت الاهرام نفس الفتوى بسؤالها والاجابة عليها وبكل تفصيلاتها في 25 /12 / 1955:
إذ جاء السؤال كالاتي : هل اذا اعطيت الدخان لمعتاده الفقير الذي لا يصبر علي عدم تعاطيه صدقة؟ وجاءت الاجابة كالاتي : ( تعاطي الدخان المعروف مكروه عند الشافعيه للتأذى برائحته الكريهه ؛ وقد ورد النهي عن تعاطي ذى الرائحة الكريهه ؛ روى البخارى عن جابر عن النبي (ص) .انه قال : "من اكل بصلا او ثوما او كراتا فلا يقرب مسجدنا ؛ فان الملائكة تتأذى مما يتأذى منه البشر" والحق الفقهاء بالمذكورات في الحديث نحو الدخان، مع ما في تعاطيه من اضاعة المال بدون فائدة ظاهرة ؛ بل يحرم تعاطيه علي من يضره او يحتاج لثمنه في النفقه الواجبة عليه ؛ واذا كان تعاطيه مكروها فالتصدق به اعانة علي مكروه فيكون مكروها فلا ثواب فيه) أي ان التدخين مكروه – اصلا – عن الشافعية ولكن يحرم علي الفقير او الذى يضر الدخان بصحته .
وكرر شيخ الأزهر الحالي د . سيد الطنطاوى هذا الرأى حين قال : التدخين حلال للاغنياء وليس للفقراء( SAUDIA GAZETTE 10 Feb. 1995 ) والجديد هنا انه صرح باباحتة للاغنياء : أي انتقل من الاباحة الي التحريم ؛ اما الفتوى السابقة فقد انتقلت من المكروه الي التحريم.
وفتوى الشيخ الطنطاوى الصادرة في 10 /2 / 1995 تشبة فتوى اصدرها الشيح الدجوى ونشرتها مجلة نور الاسلام في شعبان 1349 هـ تقول ان من يضره الدخان في صحته اويحتاج لثمنه يحرم عليه التدخين ؛ اما اذا لم يكن هناك ضرر بدني او مالي فليس حراما .
وهناك فتوى اخرى تستنكر مجاهرة الشباب بالتدخين علنا ؛ وتنبه علي ان ذلك لايليق ؛ فهل يكون التدخين سرا جائزا عندهم ؟
اما عن الظروف الزمانيه والمكانية للتدخين فقد صدرت بشأنها فتاوى تحرم التدخين اثناء الاستماع للقرآن الكريم او في المسجد او في نهار رمضان ، فتقول فتوى في مجلة نور الاسلام سنة 1934 بتحريم النشوق وشرب الدخان في نهار رمضان واذا تناولهما الصائم فقد افطر ؛ مما قد يستفاد منه ان التدخين بعد الافطار لاغبار عليه . وفي الفتاوى الشرعية للشيخ حسنين مخلوف تحريم شرب الدخان في المساجد (الفتاوي الشرعية رقم الفتوي 1089 القاهرة 1951 ) ، ويفتي الشيخ الدجوى بنفس الفتوى الا انه يرى انها مسألة اجتهاد واختلاف في الرأى ؛ اى ان هناك من يستحل شرب الدخان في المسجد ،وهناك فتوى اخرى للشيخ الدجوى في تحريم شرب الدخان في مجالس القرآن( نور الاسلام :شعبان 1349 هـ عدد 28 ) اذ تعود المصريون في مناسبات العزاء ان
يتجمعوا في سرادق او في البيت حيث يتلي القرأن ؛ ويكون من بينهم مدخنون يقتلون وقت الفراغ بالتدخين خصوصا مع صمت الجميع عند تلاوة القرآن ؛مما استوجب استنكار المتدينين فأكثروا من الاستفتاء حول حكم الشرع في هذه الحالة .
علي ان احد الفقهاء كتب في مجلة مكارم الاخلاق في اغسطس 1931 يهاجم التدخين واضراره في نبرة عالية الا انه قال ان كل شئ تحقق ضرره فهو حرام الا في حالة الضرورة ، أى انه برغم حدته في التحريم الاانه لايجعله مطلقا اذ يستثني منه حالة الضرورة ؛ أي يبيح التدخين للمضطر ؛ فكل مدمن لايستطيع الاقلاع عن التدخين يجد نفسه مضطرا ؛ اى يجد مسوغا شرعيا لدى ذلك الفقية.
ثالثا : الفقهاء المراوغون والمترددون في تحريم التدخين :
بعضهم هاجم التدخين دون ان يوضح رأيه بتحريمه ؛ منهم شيخ الازهر الأسبق د. عبد الحليم محمود الذى افتي لمن سأله عن المدخن الذى يؤم المسلمين في الصلاة ؛ فقال انه لايجوز للمدخن ان يكون إماما في الصلاة إذا كان هناك غيره يستطيع أن يؤمهم بدلا منه ويكون افضل منه استقامة واكثر منه علما ؛ واعتبر مع ذلك إمامة المدخن في الصلاة صحيحة وليست باطلة ؛ وخلط هذه الفتوى بتوضيح أضرار الدخين دون أن يفتي بحرمته (اللواء الاسلامى 8/ 6/ 1993 ) .
علي ان ماقاله د . عبد الحليم محمود لايمس المدخن في صلاته او امامته في الصلاة ؛ لأنه يرى ان يكون الامام في الصلاة اكثر الناس علما واستقامة ، ومع هذا تصح عنده إمامة من يفتقر الي الافضلية في العلم والدين ؛ اى ان شيخ الازهر الاسبق لم يضف جديدا في فتواه سوى انه تهرب من التصريح بتحريم الدخان في فتوى ينتظر الناس منه ان يفتي فيها برايه في تحريمه او اباحته .
والكاتب الصحفى صلاح منتصر تزعم فى التسعينيات حملة ضد التدخين واستضاف في عموده الاسبوعي في الاهرام الشيخ محمد الغزالي وهو من اشهر الفقهاء السنيين في القرن العشرين لكى يحرم التدخين , الا ان الغزالي المشهور بحدته وسلاطه لسانه راوغ في فتواة ؛اذ قال ان التدخين لم يكن موجودا في عصر النبوة حتي ياخذ حكما ؛ وليست له خصائص الاسكار حتي نلحقه بالخمر ، والحكم فيه حسب اثاره الضاره التي يجمع عليها الفقهاء والاطباء ؛ وبعض الفقراء يدخن مع حاجة اسرته الي المال ؛ الي ان قال الغزالي انه لايستطيع الحكم باباحتة ؛ وقد يكون حراما عند بعض الناس وقد يكون مكروها ، ولم يحدد رأيه . ( الأهرام 30/ 1/ 1985 ).
رابعا : الرد التفصيلى علي تحريم التدخين :
1 ـ طريقة الشيطان كما اسلفنا هي تحريم الحلال المباح بطرق عقلية تحاول تعليل سبب التحريم ثم ينبني علي هذا السبب تحريم أشياء اخري ، واذا كان سبب التحريم عندهم هو الضرر فان كل شئ عندهم مضر يكون حراما .
وعلة الضرر هى ما اتفق عليه القائلون بتحريم الدخان لأنه ضرر بالصحة ، مع ان شركات التدخين تضع ما يؤكد علي ان التدخين ضار جدا بالصحة,، الا ان هذا لا يكفي لدي القائمين بالتحريم اذ يقحمون الدين فيحولون الدخان الي قضية دينية ويقتحمون المجال المحظور الذى لم يأذن به الله تعالى وهو التحريم والتحليل ، مع اعترافهم ان قضية الدخان لم يعرفها عصر النبي ولم يرد تحريمه بالنص في القرآن، ولم يعرفه عصر أئمة المذاهب الفقهية، وانما هو قضية جديدة في تاريخ المسلمين الحديث.
وسبق ان أوضحنا تأكيد القرآن علي ان من يحرم الحلال انما يقع في الشرك بالله تعالي ،ووصف للمحرمات الاربعة بأنها رجس أو فسق. و وصف المشركين انهم رجس (الانعام 125،الاعراف 71،التوبة 95،125 يونس 100،الحج 30)كما ان وصف المشركين بالفسق تكرر عشرات المرات .
أى إن وصف المحرمات بالرجس والفسق هو وصف معنوي يساوي بالضبط وصف الحلال بالطيب وبأنه ذكر اسم الله عليه ووصف الحرام بالخبيث (اولم يذكر اسم الله عليه )ويساوي وصف المشركين بالرجس والفسق وبارتباط تحريم ما احل الله بقضية البغي علي الله والاعتداء علي حقه في التشريع.
ولكن القضية المهمة هنا ان الله تعالي لم يحرم تلك المحرمات الأربع بسبب ضررها المادي ولكن لأنه تعالي هو الذي شاء هذا، وهوسبحانه وتعالي لا يسأل عما يفعل وعلينا الطاعة والامتثال دون سؤال كما فعلت الملائكة حين اطاعت الامر بالسجود لآدم دون تساؤل .
2 ـ ومن هنا كرر الله تعالي التحذير من اتباع الشيطان في موضوع تحريم الطعام بالذات ،وكرر ما سبق من تلك القواعد التشريعية في تحديد المحرمات وعدم تحريم الحلال لأنه شرك بالله تعالي وافتراء عليه .وهذا التكرار يدل علي إعجاز ضمني لأن الله تعالي وهو الذي يعلم وحده الغيب – يعلم انه بعد نزول القرآن سيأتي من يحرم الحلال ويتقول علي الله تعالي بغير علم ويعتدي علي حق الله تعالي في التشريع ،ولذلك تكررت الايات ..ولهذا ايضا حرصنا علي تتبعها في القرآن .ويكفي المؤمن ان يتعظ بآية واحدة يغير بها مجري حياته ،ولكن الله تعالي كرر نفس المفهوم عدة مرات حتي لا يكون الناس حجة امام الله تعالي يوم القيامة ..
3-وعاقب الله تعالي اليهود حين حرموا الحلال فحرمه الله عليهم ..وهذا بالضبط حين ابتدعوا الرهبانية فألزمهم الله بها (الحديد 27)وكل هذا لأن الله تعالي وحده هو صاحب الحق في التشريع في الحلال والحرام وفي الفرائض الواجبة ..
والمهم هنا ان الله تعالي حرم علي اليهود كل ذي ظفر وشحوم البقر والغنم الا الدهون التي في الأمعاء أو الدهون المختلطة بعظم ، لأنهم حرموا ذلك فحرمه الله عليهم ..وجاء التعليل الالهي بأنهم وقعوا فى البغى على حق الله جل وعلا فى التحريم و التحليل (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ )(:الانعام 146).
لم يقل الله تعالي حرمناها عليهم لأن فيها كوليسترول ،او لأن الدهون ضارة جدا بالصحة .ولكن السبب معنوي بحت .وهو انهم اعتدوا علي حق الله في التشريع فحرمها عليهم ..
4-والعجيب ان كلمة الضرر ومشتقاتها في القرآن الكريم تكررت (75)مرة لم يأت فيها مطلقا موضع واحد بالتحريم بسبب الضرر .وقد جاء التركيز فيها علي ان الله تعالي هو وحده الذي يملك النفع والضرر ،وان النبي وغيره لا يملك لنفسه او لغيره نفعا ولا ضرا الا باذن الله ،وان الالهة المزعومه لا تملك نفعا ولا ضرا لأحد ،وان الانسان اذا مسه الضر لجأ الي الله تعالي وحده ..
بل ان كلمة اضطر وهي من مشتقات الضرر هي التي جاءت في موضوع الطعام ،والعجيب انها جاءت في التأكيد علي الاباحة ،وليس علي المنع ،جاءت في اباحة الاكل من المحرمات الاربع طالما لا يعتدى علي حق الله في التشريع ويستحل هذه المحرمات ..أي يأكل مضطرا وهو يعلم انه حرام وليس حلالا …وسبقت الاشارة الي ذلك.
ولو كان السبب الصحي والمادي سببا في التحريم لتغير النسق القرآني ، ولكن بعضنا يعتقد انه يعلم اكثر من الله في الدين وفي الدنيا وفي المرض ،وفي النفع والضرر.
5- ومع الاحترام لرأي الاطباء في اضرار التدخين ،الا اننا نتساءل في موضوع يخص التشريع وليس الطب والصحة .
ومن حقنا أن نتساءل :هل التدخين وحده هو المضر بالصحة ؟اليس الملح والسكر والدهون مضرة بالصحة ؟ ان الله تعالي احل طعام البحر وصيد البحر ، ومنها السام والضار الاكل منه ولكنه حلال بالنص القاطع ، وبالطبع نبتعد عنه حفظا للصحة ولكن لا نحرمه. ثم أليست للأدوية نفسها اثار جانبية ؟ ان بعض الاطباء يقولون اننا اذا القينا كل الادوية في البحر لتحسنت صحة الانسان وتدهورت صحة الاسماك..فهل يكون التداوي بالدواء حراما بسبب آثاره الجانبية ؟
هنا تتجلي الحكمة الالهية في قصر التحريم علي ما حرم الله وحده دون زيادة او نقصان ،وبدون اذن لأي زيادة تحت أي مسوغ ، فمسألة الضرر هذه نسبية ،وكل انسان طبقا لتشريع القرآن له حق الارادة في ان يؤمن او ان يكفر ،ان يعصي وان يطيع (الكهف 29،الاسراء 107،فصلت 40)وبالتالي فمن حقه ان يدخن او لا يدخن ،وهو شأن دنيوي ،ولكن علي المجتمع ان يوضح له مخاطر التدخين ، ويسن قوانين ينظم فيها موضوع التدخين ، ويجعل اماكن خاصة بغير المدخنين حتي لا يلحق بهم الضرر،وهذا ما يحدث ، ولكن المهم ان يبقي دين الله تعالي بعيدا عن الاستغلال في هذه القضية ،حتي لا نقع في جريمة تحريم الحلال ..
6-وقد قلنا ان المباح الحلال هو الاصل وان المحرمات هى الاستثناء ،وانه يحرم تحريم الحلال ..ونضيف ايضا ان المباح الحلال يحتاج الي تنظيم ،وهذا التنظيم يأتي ايضا في القرآن ..
وعلي سبيل المثال فإن رغيف الخبز حلال في حد ذاته ،ولكن حين اسرقه يصبح تناوله حراما ، والحرمة ليست في ذات الرغيف الذي هو حلال مباح ،ولكن في طريقة حصولي عليه ، ومن اجل ذلك يرتبط في تشريع القرآن مجئ كلمتين (حلالا طيبا )لتشمل انه حلال في ذاته وطيب في طريقة الحصول عليه واستهلاكه ..ومن هنا نفهم قوله تعالي :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا)( البقرة 168 ))فليس ذلك معناه ان اهجم علي ما ليس حقا لي واخذه بالعنف والسرقة لأنه حلال ، بل لابد من الحصول عليه بطريقة شرعية أي يكون حلالا طيبا .وبالتالي فان للحلال شرطين :ان يكون خارج المحرمات الاربع ،وان احصل عليه واستهلكه بطريق شرعي.وبالتالي ايضا فان للحرام ملمحين : أن يكون ضمن ضمن المحرمات الاربع ، و أن يكون حلالا ،أى تم الحصول عليه واستهلاكه بطريق غير شرعي .
7-ومن التنظيم الشرعي الاعتدال في الاستعمال وفي طريقة الاستهلاك، فالإسراف في الطعام حرام، أي ان الطعام حلال في حد ذاته ولكن الإسراف في تناول الطعام منهي عنه (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا انه لا يحب المسرفين (الاعراف 31) والإسراف يشمل التبذير في المال الذي احصل عليه بطريق حلال ولكن اقوم بتبذيره،وينهي الله تعالي عن هذا التبذير حتي في اعطاء الصدقة بصورة مبالغ فيها (الاسراء 27)ويأمر الله تعالي بالتوسط في الانفاق في المال الحلال (الاسراء 29)(الفرقان 67) .
7 ـ وفى تحريم الدخان استدلوا بقوله تعالي (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(البقرة 195 ).
وهذا استشهاد لا محل له ،لأن الله تعالي يتحدث في موضوع آخر؛ يتحدث عن الصدقة والاحسان باعتبار ان ذلك صمام أمن للمجتمع ،وإلا تحول المجتمع الي اقلية ضئيلة مترفة واغلبية ساحقة جائعة محرومة،فينتج عن ذلك انفجار المجتمع من الداخل واهلاك الجميع ،وذلك معني قوله تعالي(وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُواْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )( :البقرة 195)، وقد جاء قوله تعالى (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بين أمر سابق بالانفاق فى سبيل الله جل وعلا ، ثم تلاها أمر لاحق بالاحسان ليؤكد الأمر السابق ، والمعنى واضح فى أهمية الانفاق فى سبيل الله والاحسان فى تأمين المجتمع ومنع تكوين فئة مترفة تحتكر الثروة و السلطة و تتسبب فى تدمير المجتمع بعصيانها وفسقها وترفها ( الاسراء 16 )
ولا شأن للتدخين بهذه الاية علي الاطلاق. انهم قاموا بفصل جزء من الاية عن سياقها للاستدلال بها علي تحريم شئ احله الله ..وهذا هو التحريف في كتاب الله اذ انهم بعد ان عجزوا عن تحريف النص القرآني قاموا بالتلاعب في المعني ليأتوا بحكم جديد يخالف قواعد التشريع في القرآن.
8 ـ ومثل ذلك حين يستشهدون بقوله تعالي ( وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ )(:النساء 29). والسياق القرآنى يقول : (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا )(:النساء 29،30)وهذا الاستشهاد افتراء علي الله لأن الاية تتحدث عن انتحار بقتل الانسان لنفسه عدوانا وظلما ،أي خارج نطاق الاضطرار .والقتل الذي يتحدث عنه رب العزة فعل مادي سريع ينتج عنه الموت قتلا. فهل هناك سيجارة يتناولها من يريد الانتحار؟!! واذا حدث واخترعنا هذه السيجارة فان النهي في الآية لا ينصب علي تحريم السيجارة ولكن ينصب علي جريمة الانتحار ذاتها. فلو قتلت نفسي بسكين او شنقت نفسي بحبل فان السكين ليست حراما والحبل ليس حراما ..انها مجرد ادوات ووسائل محايدة فالنهي عن الفعل والاستعمال وليس الاداة .
9 - وقالوا ان الدخان خبيث اذن هو حرام، واستشهدوا بحديث (من اكل ثوم او بصل فليعتزلنا ..)
ومعروف راينا فى الأحاديث ، ولكن دعنا نناقش متن الحديث ، فهل معني ذلك الحديث ان الثوم حرام وان البصل حرام ؟بالطبع لا. ان المعني فيه تأديب للانسان فيكون غير خبيث الرائحة بان يراعي النظافة الشخصية، يأكل ما يشاء من الثوم والبصل ولكن لا يؤذي الناس برائحته، وعليه فان الحديث نفسه لو قال :من شرب دخانا فليعتزلنا بسبب الرائحة الخبيثة فليس يعني ذلك حرمة الدخان، ولكن علي المدخن ان لا يؤذي الناس برائحته ،وهذا ما تقوم به بعض الحكومات بتخصيص أماكن للمدخنين بدون تحريم التدخين .
10-واستدلوا علي ان الدخان خبيث بآية (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ)(الاعراف 157 )واصدروا قرارا بأن الدخان من الخبائث الحرام ، ونقول : علي ذلك كان الامر يستلزم من النبي ان يحدد طبقا لرأيهم ان الدخان ضمن هذه الخبائث ، وهذا ما لم يحدث. ولكن طبقا للقرآن فان ما يحرمه الله تعالي هو الخبائث ،وهذه الخبائث مذكورة بالتحديد ضمن آيات عديدة وصفت المحرمات بانها رجس وفسق وبالتالي فهي الخبائث ،وما عداها فهي الحلال الطيب ،ومن هنا كان وصف الحلال بأنه طيب …أي ان الامر لا يستلزم اجتهادا عقليا ،فالحرام المذكور هو الخبائث ،وما عداه فهو الحلال الطيب ،وطالما ان الدخان ليس من تلك المحرمات فهو ضمن المباح الذى يستلزم التنظيم ، وليس من الخبائث .
11-وقالوا انه كالمسكر أي كالخمر ..وهذا خطأ فليست السجائر خمرا، وان كانت خمرا ما احتاج الامر الي كل هذا الخلاف والجدل حول تحريمها او تحليلها .
12-وقالوا انه مفتر ورووا حديثا يقول بالنهي عن كل مسكر ومفتر ..أي يلحق المفتر بالمسكر وينسبون ذلك الحديث الي النبي ،وينسون ان النبي عليه السلام ليس له حق الكلام في التحريم خارج القرآن ،وانه عندما حرم شيئا عاتبه الله تعالي (التحريم1)وطالما قد حدد الله تعالي المحرمات وأنّب النبي علي انه حاول ان يضيف اليها شيئا فان من يحب النبي ويؤمن به لابد ان ينفي عن النبي انه حرم شيئا مما اباح الله تعالي خارج المحرمات المنصوص عليها.
ونرد عليهم بمنهجهم لنقول إن ذلك الحديث المروي قد قيل بعد موت النبي باكثر من قرنين من الزمان اذ كتبه أحمد المتوفي عام 241 ، والأحاديث كما يقول علماء الاصول تفيد الظن ولا تفيد اليقين إلاّ إذا كانت تؤيدها آية قرآنية، فما بالنا اذا كانت مثل هذا الأحاديث تبغى على حق الله جل وعلا فى التشريع والتحريم ؟؟ .
13- وقالوا انه من المشتبهات المأمور بالابتعاد عنها ..وليس هناك في قواعد التشريع في الاسلام مشتبهات، وتلك المشتبهات ليست إلا اختراعا فقهيا يدل علي ابتعاد هؤلاء الفقهاء عن فهم تشريع الاسلام، فالحرام واضح محدد حتي ان القرآن نفسه يشرح انواع الميتة ، ويكرر القرآن المحرمات الاربع في اربعة مواضع (البقرة 172،المائدة 3،الانعام 145،النحل 115)ويشير اليها والي تفصيلها في اكثر من موقع (الانعام 117،المائدة 1،الحج 30)وفيما عدا تلك المحرمات فالباقي كله حلال ،و محظور بامر الله تعالي تحريمه.اذا اين هي المشتبهات في هذه الحدود الواضحة المانعة ؟.
14 - وقالوا ان الدخان يصد عن الصلاة والصيام والعبادة اذن هو حرام …وقالوا نفس الحجة عن الغناء، ويمكن ان يقال ذلك ايضا عن العمل والاكل واي جهد بشري، فمن الممكن ان ينشغل الانسان عن العبادة بكل شئ وبأى شىء ، وعليه فان كل شئ يمكن ان يكون حراما ،الطعام حرام والراديو والتلفزيون حرام وكذا الزوجة والاولاد والجلوس مع الاصدقاء والعمل الشاق والسفر كل ذلك حرام، لأنه يمكن ان يصد عن سبيل الله ، وليس التدخين فقط ..وهذا حمق في التفكير، فليس التحريم في الوسيلة (من سيجارة او جهاز تليفزيون او راديو ..)ولكن التحريم في التكاسل عن العبادة دون عذر شرعي .
15 - وقالوا ان القياس الصحيح ان التدخين حرام مثل المسكرات ، وذلك القياس أسرع طريق لأتباع خطوات الشيطان .أي ان نضيف الي المحرمات ما نراه نحن مشابها لها من وجهة نظرنا ..وبذلك نضيف كثيرا من انواع الحلال الى قائمة المحرمات ونقع في جريمة الاعتداء علي حق الله في التشريع وتحريم الحلال ……
ونفس الكلام ينطبق علي باقي الحجج ،من ان درء المفاسد مقدم علي جلب المنافع ،وانه اذا اجتمع الحرام والحلال في شئ تغلب الحرام ،ومبدأ سد الذرائع أي تحريم الحلال مقدما حتي لا نقع في الحرام ..كل ذلك اعتداء علي حق الله تعالي في التشريع ..
واخيرا:
نحن هنا امام امرين اما ان نتمسك بما قاله الله تعالي ونكون من المؤمنين ،واما ان نعرض عما قاله الله ونتمسك بما قاله فلان وعلان ونعتدي علي حق الله في التشريع ..
وتكفي اية واحدة لكي نتمسك بها ونضحي في سبيلها بكل ما قاله البشر خلافا لهذه الاية ..ولكن ان يتكرر التشريع في عشرات الايات تكرر نفس الحقائق ..ثم تكون الايات الكريمة اكثر من ناحية الكم من فتاوي بعض الفقهاء المتأخرين زمنا ..فهل نترك عشرات الايات القرآنية بسبب اجتهادات خاطئة وقليلة لبعض الفقهاء المعاصرين والمتأخرين؟
رابعا :- تحليل لرأي الفقهاء القائلين بان التدخين مكروه :-
1 ـ هناك اختلاف في درجات الاحكام بين تشريعات القرآن وتشريعات الفقهاء الذين كتبوا التراث التشريعى للمسلمين منذ العصر العباسى .
درجات التشريع القرآن الكريم في الاساس ثلاثة:(1)الواجب المفروض عمله كالعبادات والاوامر الاخلاقيه(2) الحرام الممنوع فعله (3) المباح الحلال وهو الأصل الذي يقع بين المفروض والمحظور. ويتبع الواجب المفروض عمله درجه تعلوه هي التطوع الزائد في تأدية العبادات مثل صلاة الليل وقراءة القرأن والاستماع اليه في خشوع والصدقات الزائده التطوعيه.
والله تعالى يجعل اهل الجنه قسمين :السابقون المقربون من الله تعالى وهم الذين لا يكتفون بعمل الفرض الواجب بل يتطوعون بالمزيد مع اجتنابهم للحرام،ثم اصحاب اليمين وهم اقل مكانه من السابقين .
ويلحق درجة الحرام درجه اسفل منها وهي ارتكاب اكبر الكبائر من الذنوب وهنا يتحول الحرام الى مكروه عند الله تعالى،يقول تعالى (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ )( .الحجرات 7 )وذكر الله تعالى بعض الذنوب الكبرى وهى الكفر وعقوق الوالدين والتبذير وقتل الاولاد وقتل النفس البريئة والزنا واكل مال اليتيم ظلما والتلاعب بالموازين والمكاييل وتتبع خفايا الاخرين والغرور والاستكبار؛ ثم قال عن هذه الكبائر (كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِندَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا) (الاسراء 38) اى ان الزنا مكروه والقتل مكروه والكفر مكروه .
واذا اجتنب الانسان تلك الكبائر فإن الله تعالى يغفر له الذنوب الصغيرة .يقول تعالى (إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا )( النساء 31)اى يدخل الجنة ضمن اصحاب اليمين مثلا .
اذن درجات التشريع فى القرآن خمسة اعلاها التطوع بعد عمل الواجب المفروض،ثم الواجب المفروض ثم المباح ،ثم اسفلها الحرام ،ثم اسفله المكروه وهو أكبر الكبائر .
أما عند الفقهاء فدرجات التشريع خمسة ، اعلاها الواجب المفروض ، ثم المستحب او المندوب ،وهو مباح حلال ولكن ينبغى عمله عندهم،وان لم يصل الى درجة الواجب ،وليس هناك اثم على تركه ،ثم المباح الحلال الذى لا اثم على تركه او فعله ،ثم المكروه وهو مباح ولكن لا ينبغى عمله،ثم الحرام الذى يكون فيه الاثم ..وتلك هى درجات التشريع عند المذاهب الفقهية .
2 ـ وقد بدأت المذاهب الفقهية بالامام ابى حنيفة المتوفى سنة150هـ والذى لم يكتب مؤلفا فى الفقه وان اشتهر بالتحرر الفكرى ،وتلاه الامام مالك المتوفى سنة 179هـ، وكان من اشهر تلامذة ابى حنيفة ومالك معا الامام محمد بن الحسن الشيبانى المتوفى سنة 189هـ وقد تعلم على يد ابى حنيفة فى العراق وصحب مالك فى المدينة والحجاز ،وروى عن مالك كتاب (الموطأ)وهو أول وأقدم كتاب فى الفقه الاسلامى ،ويشتمل على (1008)حديث ومسألة فقهية. ومنهج محمد الشيبانى فى (الموطأ ) أنه يذكر رواية مالك من حديث او فتوي رواية منسوبه للنبي او للصحابة أو أحد الفقهاء السابقين فى العصر الاموي ثم يعلق عليه برأى ابى حنيفة سواء كان موافقا لرأى الامام مالك ام لا ، وبالتالى فأن (الموطأ) هو اقدم كتاب فقهى لدينا يعبر عن فقه مالك وابى حنيفة معا فى بداية العصر العباسى قبل تأسيس المذاهب السنية .
3 ـ وفى (الموطأ ) ظهر لاول مرة مصطلح (المكروه) بالمعنى الفقهى المخالف لمعناه فى القرآن الحكيم .ونعطى له مثلا:
تحت عنوان (باب ما يكره من لبس الحرير والديباج :حديث 870 : يقول محمد بن حسن الشيبانى : اخبرنا مالك ، اخبرنا نافع عن عمر … وذكر حديثا فيه ان النبى عليه الصلاة والسلام رفض ان يلبس الحرير )وعلق محمد بن الحسن الشيبان على الحديث فقال : لا ينبغى للرجل المسلم ان يلبس الحرير والديباج والذهب ، كل ذلك مكروه للذكور من الكبار والصغار ولا بأس به للاناث ) الى ان يقول (وهو قول ابى حنيفة والعامة من فقهائنا )…أى اتفق الفقهاء الاحناف والمالكية فيه .
والعنوان التالى ( باب ما يكره من التختم بالذهب ) الحديث 871 : وفيه يروى الشيبانى حديثا آخرعن مالك عن ابن دينار عن ابن عمر ، ينسبون فيه للنبى انه رفض ان يلبس خاتما من ذهب ، ويعلق عليه قائلا (وبهذا نأخذ ، لا يجوز للرجل ان يتختم بذهب او حرير او اصفر ولا يتختم الا بالفضة ، اما النساء فلا بأس بتختم الذهب لهن ).(الموطأ 310 :311 )
اذن فالمكروه هنا هو ما لا ينبغى فعله طبقا لما قاله محمد بن الحسن الشيبانى اول من كتب فى الفقه فى تاريخ المسلمين .
وقد عاصر الشافعى المتوفى سنة 204هـ الامام محمد بن الحسن الشيبانى ، الا ان الشافعى انشأ مذهبا مستقلا بتلامذته المشهورين ،واهمهم المزنى المتوفى 264هـ وهو الذى اختصر كتاب الشافعى(الام) ، والربيع بن سليمان المرادى المتوفى سنة 270هـ وهو الذى كتب وروى كتاب (الام ) للشافعى وهو اهم ما كتب فى المذهب الشافعى وهو فى سبعة مجلدات .
ويتردد فى كتاب الشافعى قوله ( احب ان يفعل كذا ، واكره ان يفعل كذا ) مثلا يقول عن الحاج (واذا اراد الرجل ان يبدأ الاحرام احببت له ان يصلى نافلة )اى صلاة تطوع (وأحب ان يخرج الى الصفا من باب الصفا )(وأحب للمرأه المشهوره بالجمال ان تطوف وان تسعى ليلا )( وأحب للحاج ان يكثر الطواف بالبيت).
وطالما ان الشافعى (يحب) لمن يحج ان يفعل كذا وكذا فلابد للشافعى ان (يكره ) للحاج ان يفعل كذا ، يقول (وأحب ان يأخذ حصى الجمرات يوم النحر من مزدلفة الا إننى اكرهه من ثلاثة مواضع : من المسجد لئلا يخرج حصى المسجد منه ،وأكره من الحش (اى موضع قضاء الحاجة ) وأكرهه من الجمرة لانه حصى غير متقبل ).[1] (الام للشافعي 2/173 )
أى أن الشافعى يعبر عن مزاجه الشخصى وهواه ووجهة نظره فيما يحب وفيما يكره من للحاج او للمصلى.
وجاء الفقهاء بعد ذلك ينسجون على منواله ويزايدون عليهم ،وتأسست المذاهب الحنفية والمالكية والحنفية والحنبلية، وما كان يحبه الشافعى اصبح مستحبا او مندوبا وما كان يكرهه الشافعى او يقول عنه الشيبانى انه لا ينبغى فعله اصبح مكروها .
4 ـ ثم زايدوا على بعض المكروه فاصبح حراما صنعوا لها أحاديث منسوبة للنبى محمد عليه السلام عبر رواة ماتوا من قبل دون ان يعرفوا شيئا مما نسب اليهم ، والدليل على ذلك ان التختم بالذهب ولبس الحرير الذى جعله الشيبانى ومالك مكروها لا ينبغى عمله ، ما لبث ان تحول الى حرام قطعى ، إذ يحرم عند الفقهاء المحدثين أن يلبس الرجال الحرير وأن يتختموا بالذهب ،هذا مع ان تشريع القرآن الكريم يبيح للناس جميعا لبس الحرير والذهب والاحجار الكريمة ، يقول الله تعالى للبشر جميعا (يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ) (الاعراف 31 :33) ففى الاية الاولى الامر بالتزين والاكل والشرب بدون اسراف ،والاية الثانية تستنكر تحريم الزينة التى خلقها الله تعالى واخرجها من باطن الارض ، وتستنكر تحريم الطيبات الحلال من الرزق ،وتؤكد انها حلال للمؤمنين فى الدنيا وحلال لغيرهم طبعا ،ولكنهم في الاخرة حيث يكونون في الجنة ستكون تلك الزينة وتلك الطيبات خالصة لهم دون المشركين اصحاب النار .والاية الثالثة تذكر ما حرمه الله تعالي في تشريعه : في الفواحش (العلاقات الجنسية خارج الزواج )والاثم (أي الذنوب والمعاصي ) والبغي بغير الحق (أي الظلم ) واتخاذ الهة مع الله والتقول علي الله كذبا في دينه وشرعه ،أي ان القرآن يرد مسبقا علي هؤلاء الفقهاء لانهم يقولون علي الله مالا يعلمون .
اذن فالذهب والاحجار الكريمة والحرير حلال للبشر في الدنيا ،ثم هي يوم القيامة تكون نعيما خالصا للمؤمنين اصحاب الجنة ،يقول تعالي عنهم (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ فاطر 33) (أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِّن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ) :الكهف 31) .
والعجيب انهم يحرمون الذهب والحرير فقط خلافا للقرآن ، ويتناسون الاحجار الكريمة وهي الاعلي قيمة والاغلي ثمنا ،وهذه الاحجار قد امتن الله تعالي علي عباده انه خلقها لهم ،ومنها ما يستخرج من البحر ،يقول تعالي عن نعمة البحر (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ) (النحل 14 ) (وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا) (فاطر 12) فاللؤلؤ والمرجان والدرر وسائر الاحجار الكريمة حلال لمن يرتديها من الرجال والنساء سواء .
الا ان الفقهاء بسبب الظروف التاريخية الاجتماعية كرهوا استئثار الخلفاء الامويين والعباسيين بالسلطة والثروة وتحلي الحكام والقادة بالذهب والحرير ،بينما عاش المثقفون بين اضطهاد وحرمان اذا ثاروا ،لذا ارادوا وعظ الحكام من طرف خفي ،وكانت الفتاوي والاحاديث المنسوبة للنبي افضل الطرق ،ومن هنا تحولت كراهية ارتداء الحرير والذهب الي فتوي دينية ودرجة من درجات الاحكام الفقهية تحمل مصطلح (المكروه ) لأن الفقهاء يكرهونه ، ثم عند ازدياد ترف الحكام واسرافهم في العصور اللاحقة تحول ارتداء الذهب والحرير من مكروه الي حرام ..
5 ـ ونخلص من هذه اللمحة التاريخية الاصولية الي ان مصطلح المكروه في الفقه بدأ رؤية شخصية للائمة ابي حنيفة ومالك والشيباني والشافعي ،ثم اصبح درجة من درجات الاحكام الفقهية لدي الفقهاء اللاحقين ،وبعضهم كان يزايد علي الائمة فيجعل المكروه حراما ،وكل ذلك بالمخالفة للتشريع الاسلامي الذي نزل به القرآن الكريم وطبقه النبي عليه السلام في سنته الحقيقية .
الا ان اختراع درجة المكروه كأحدي درجات التشريع لدي الفقهاء جاء متناسقا مع منهجهم في التشريع الذي اعطوا لانفسهم من خلاله الحق في سن التشريع الالهي عبر ما اسموه بالقياس والمصلحة الي اخره ..وهذا بالطبع خلافا للتشريع القراني الذي اكتمل بنزول القرآن واكتمال الاسلام ،والذي حدد المحرمات من الخبائث وهي مذكورة بالنص ،والذي منع ان يضاف اليها أي تحريم لما احله الله تعالي ..
الا ان الفقهاء حين اباحوا لانفسهم ان يقولوا علي الله ما لا يعلمون (الاعراف 33 ) انطلقوا في تحريم او اباحة كل ما يظهر في عصورهم ،وكل ما يستجد فيها ، وكان الهوي والمزاج الشخصي والرؤية الذاتية هي الاساس الذي يبني عليه الفقيه حكمه اما بالحرام او بالحلال .
وفي مثل هذا الظروف لابد من وجود درجات في الفضاء الواقع بين الحلال والحرام كي تتناسب النسب المتدرجة في هوي الفقيه ، أي كانت حاجتهم ماسه الي مصطلح المكروه ،ثم اخترع الفقهاء المتأخرون درجة (الكراهة التحريمية )أي المكروه جدا الذي قد يرقي الي درجة الحرام ..
وبهذا اتسع المجال امام الفقهاء في التشريع لكل شئ بالتحريم او الاباحة او المستحب او المكروه العادي او المكروه التحريمي ،واتسع ايضا امامهم نطاق الخلاف ،فما يحرمه بعضهم يبيحه الاخرون ،وما يجعله بعضهم حلالا يجعله الاخرون حراما او مكروها ،وبعضهم يتوسط بين من يحرم ومن يبيح بأن يجعله مكروها ليخرج من الخلاف، واكد ذلك الحاجة لوجود درجة المكروه.
وتتسع الدائرة حين يأتي اختراع جديد او اكتشاف جديد يستلزم حكما فقهيا كالقهوة والحشيش فى العصر المملوكى ..ثم الدخان ..
6 ـ وندخل بذلك علي من قال بأن التدخين مكروه ..
فمن قال بكراهة الدخان من المذهب الحنفي الشيخ العمادي ،ومن المذهب المالكي الشيخ محمد عليش ، ومن المذهب الشافعي عبد الله الشرقاوي ،ومن الحنبلية الشيخ مصطفي الرحيباني والشيخ مصطفي البهوتي ،وهؤلاء استخدموا نفس ادلة التحريم واسبابه .
وممن حاول التوفيق بين التحريم والقول بكراهيته الدكتور زكريا البري الذي افتي في الاخبار في 12/10/1972 بان حكم التدخين بين الحرام والكراهية التحريمية .
اما موقف شيخ الازهر الحالي د.سيد طنطاوي فهو يحتاج وقفة ؛ فقد اعلن من قبل ان التدخين مباح للغني وليس للفقير ،ثم حين شن المفتي حملته علي التدخين في مجلة اكتوبر تدخل شيخ الازهر ليخفف من وطاة الحملة ،فقال (تدخين السجائر مكروه ولكنه لا يتساوي مع شرب الخمر والزنا )أي تحول التدخين في رأيه من مباح الي مكروه بمنتهي البساطة .
وهذا يعود بنا الي المزاج الشخصي للفقيه والذي علي هديه يحل ويحرم ويحب ويكره ..
ونستشهد مما قاله عبد النافع (محمد بن الحاجي علي ) مؤلف كتاب (تخليص الانسان من ظلمات الدخان) والذي كتبه سنة 1115 هـ ، يقول في نهايته انه استطلع اراء اهل المروءة والمكارم الجميلة ،وهم عنده العلماء ساكنو مكة في مشاعرهم نحو الدخان ،فكتب كل منهم له رأيه فيه ،فعبروا جميعا عن رأيهم الشخصي ،وسجل ذلك في الصفحة الاخيرة من الكتاب ،ومما قاله بعضهم (اما طعمه فلم اذقه ولله الحمد ،واما ريحه فكريه ينفر الطبع منه ،وقال اخر لاشبهه في خبثه ،وطبعي يستخبثه ويستقذره ،وقال اخر :ان طبعي نفرت منه ،وقال اخر :انا استخبثه وطبعي ينفر منه ..)وهكذا ..تكررت اقاويلهم بكراهيتهم الشخصية لما حكموا بكراهيتهم الفقهية له .
وعلي نفس الاساس من الحب والكراهية اختلفوا في انواع كثيرة من الاطعمة بين الحرام والكراهية والحلال .وذلك موضوع شرحه يطول ،ولو رجعوا الي الالتزام بالمحرمات المحددة في القرآن لرحمونا ورحموا انفسهم من ذلك الخلاف .
خامسا :تحليل لاراء الفقهاء القائلين بأن التدخين مباح :
1 ـ من الفقهاء الذين اباحو التدخين قديما : احمد الشوبري الحنفي المصري وبهائي افندي العثماني ، واسماعيل النابلسي صاحب كتاب (الاحكام ) وكانوا يشربون الدخان في حضرته مع انه لم يشربه ، وابن القاسم العبادي الشافعي، وافتي الشيخ الحلبي بأن الزوج يجب أن يشتري الدخان لزوجته ان اعتادته ، وكان الشيخ سلطان يشتري الدخان لزوجته وبناته ،وافتي الشيخ مرعي الحنبلي في كتابه (غاية المنتهي ) باباحته. وممن كتب أيضا في اباحة الدخان علي الاجهوري ووفا العرض الحلبي ،ثم الشيخ المشهور عبد الغني النابلسي صاحب كتاب (الصلح من الاخوان في حكم اباحة الدخان ) .
2 ـ ومنهج عبد الغني النابلسي في هذا الكتاب انه في البداية ينفي وجود اضرار للتدخين ،ويقول انه ما سمع احدا مات من التدخين ،واذا اصيب احد بضرر منه دون غيره فهو عليه حرام ،ويقول ان فتوي الفقهاء بتحريم التدخين مبنية علي اوصاف قبيحة منسوبة للتدخين ،فتأتي الفتوي مطابقة مع تلك الاوصاف القبيحة ،وقال انه حتي ولو كان هناك ضرر في التدخين فليس ذلك موجبا لتحريمه فان الكثير من المباحات قد يستخبثها البعض ،ولذلك فان قصده من اباحة التدخين هو الخوف علي الشريعة المطهرة حتي لا يدخلها شئ من الزيادة والنقصان بغير ادلة شرعية بل بمجرد القياس العقلي والتوهم النفسي .ثم ذكر منافع التدخين في فصل خاص بذلك ،اورد فيه ثقافة عصره العثماني (عبد الغني النابلسي :الصلح بين الاخوان في حكم اباحة الدخان ،دمشق 1983 ص2 ،3 ،10 ،12 ،25 ).
3ـ ولقد كان عبد الغني النابلسي صوفيا فقيها لا يعتد بآرائه الفقهاء السلفيون الحنابلة المتشددون المعادون للصوفية ،الا ان هناك اماما مشهورا للحنابلة افتي باباحة التدخين ،وهو القاضي محمد بن علي الشوكاني صاحب المؤلفات المشهورة .
وفي كتابه (ارشاد السائل الي دلائل المسائل )يقول في حكم التدخين (الاصل الذي يشهد به القرآن والسنة المطهرة هو ان كل ما في الارض حلال ولا يحرم منه شئ من ذلك الا بدليل خاص ..ومالم يرد فيه دليل خاص فهو حلال استصحابا بالبراءة الاصلية وتمسكا بالادلة العامة كقوله تعالي (خلق لكم مافي الارض جميعا )(قل لا اجد فيما اوحي الي محرما ..) ويصل الي القول بأن شجرة التبغ لم يأت فيها دليل علي تحريمها وليست من جنس المسكرات ولا من السموم ولا من جنس ما يضر آجلا او عاجلا ،فمن زعم انها حرام فعليه الدليل ،ولا يفيد مجرد القيل والقال ، ويقول : وقد استدل بعض اهل العلم علي حرمتها بقوله تعالي (يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث )وادرج التبغ تحت الخبائث ،وهذا غلط ،لأن الذي يستعمل الدخان لا يعتبره من الخبائث ،اذن فالقضية محل خلاف واختلاف في الرأي ،وبعض الناس يستخبث العسل وهو اطيب الطيبات ،وقد روي ان النبي رفض ان يأكل لحم الضب وكان يأكله الصحابه في حضوره ،والانصاف يقتضي الاباحة دون التحريم بالرأي الشخصي الذي يكره البعض الاطعمة فيحكم بحرمتها ،ولذلك فان الدخان مباح برغم استخباث بعضهم له وحكمهم بتحريمه . (الشوكاني :الاجابة علي السؤال رقم 11 من الرسالة الخامسة في الرسائل المنيرة :الجزء الثالث :رسالة ارشاد المسائل الي دلائل المسائل .) .
4 ـ وفي العصر العثماني الذي ظهر فيه النابلسي والشوكاني لم تكن اضرار التدخين قد اتضحت ، وكان في ذلك حجة قوية لمن افتي باباحة التدخين ،وكان سهلا عليه ان يتهم من يحرم التدخين بأنه يحكم بناء علي مشاعره الشخصية او بناء علي اوصاف الاخرين للدخان .
وبالمقارنة بين فتوي النابلسي وفتوي الشوكاني نجد النابلسي اكثر حسما في مناقشة سبب الضرر الذي يجعل سبب التدخين محرما ،بينما استأنس الشوكاني بمقولة ان الدخان لا يضر آجلا او عاجلا في اباحة التدخين .ولو عاش عصرنا وثبت لديه الضرر لاسرع بالحكم بالتحريم بناء علي رؤيته الفقهية الثابته التي تجعل الضرر اساس التحريم .الا ان الشوكاني امتاز علي النابلسي بتقرير مبدأ المباح هو الاصل او مايعبر عنه بالبراءة الاصلية ،وان التحريم هو الاستثناء الذي يحتاج الي دليل .وباعتباره فقيها متمكنا حكم بأن وصف الدخان بأنه ضمن الخبائث هو رأي شخصي ولا تصح الاراء الشخصية في قضايا التحريم في الطعام مع عدم وجود نص قاطع .
5 ـ وبسبب علو النفوذ السلفي في القرن العشرين انتشرت مؤلفات الشوكاني ،وامتد تأثيره الفكري علي الفقهاء اللاحقين ليشمل ذلك رأيه في اباحة التدخين ،والدليل علي ذلك ان كثيرين من الفقهاء المشهورين رددوا حجته في البراءة الاصلية او ان الاصل هو الاباحة ،وتمسكوا بهذه الحجة في عصر اتضحت فيه اضرار التدخين ،الا انهم في مواجهة تلك الاضرار المعلومة قالوا بأن التدخين مع ان الاصل فيه الاباحة الا انه تجري عليه الاحكام الخمسة حسب استعماله من الواجب والمكروه والمندوب او الحرام او الاباحة ،فمن لم يحصل له ضرر فهو له جائز ،ومن ضره استعماله حرم عليه استعماله ،ومن نفعه في دفع الضرر وجب عليه استعماله ،أي انه في الاصل مباح ،ولكن ظروف الاستعمال هي التي تغير الحكم .وبالتالي يظل سبب الضرر قائما ومؤثرا في الحكم علي الدخان به يكون حراما ومباحا .
6 ـ ونستعرض اراء اشهر الفقهاء الذين قالوا بهذا المنطق في القرن العشرين .
ففي مجلة الشباب المسلمين التي تعبر عن التيار السلفي يفتي الشيخ عبد الوهاب النجار احد علماء الازهر في حكم شرب الدخان في مجالس القرآن،فيقول ان حكمه يختلف باختلاف قصد متعاطيه ،فأن كان يتعاطاه للتداوي فليس عليه شئ ولا حرام ،وان كان يتعاطاه لمجرد التلهي كان مكروها بل حرام ، وان كان يتعاطاه لاظهار عدم اللامبالاة بالقرآن او الاستهانة به او الاستهتار به كان كفرا .ثم يقول عبد الوهاب النجار ان شرب الدخان عموما تطرأ عليه الاحكام الخمسة فيكون واجبا اذا كان للتداوى ؛ ويكون حراما في حالة الضرر المؤكد ؛ ويكون مكروها اذا كان الضرر غير محقق ، ويكون مستحبا اذا كان فيه فائده منتظرة ؛ ويكون مباحا اذا لم يكن فيه ضرر ولا نفع ، والافعال تتغير احكامها بتغير المقاصد المصاحبة لها . ( مجلة الشبان المسلمين . اكتوبر 1930 )
اماالشيخ حسن البنا زعيم حركة الاخوان المسلمين فيفتى بنفس الفتوى تقريبا ؛ وان كان ينقل عبارات الامام الشوكانى التى سبقت بالنص ؛ ويضيف عليها ما عرفه القرن العشرون من اضرار التدخين ويضيف اليها الاسراف والتبذير ؛ اى الاضرار الماليه الا انه يقول في النهايه ( والذى يظهر لي ان تعاطي الدخان حلال باصله اذ الاصل في الاشياء الاباحة ؛ وهو حرام لغيره وهو ما يترتب عليه من الاضرار ؛ والقليل منه يلحق بالكثير منعا للقدوة الفاسدة ، واما التداوى بتعاطيه فجائز بالقدر الذى يتم به الغرض ) (المنار 9 / 35 / 595 ) اى ان الشيخ حسن البنا يحاول التوفيق بين رأى الشوكانى في العصر العثمانى والاراء المختلفه في القرن العشرين فيجعل التدخين مباحا حينا ويجعله حراما في اغلب الاحيان ؛ فهى فتوى سياسيه ترضى جميع الاطراف ؛ وتتفق مع مبدأ حسن البنا في محاولة تجميع المسلمين حول هدف واحد هو اقامة الدولة الدينية ؛ وما يستلزمه هذا التجميع من التوفيق بقدر الامكان بين مختلف الاراء والمذاهب والطوائف .
وكان الشيخ حسنين مخلوف اشهر مفتى في مصر والعالم العربى في القرن العشرين ؛ وكان يردد نفس الفتوى في اباحة التدخين بنفس الحجة وهي ان اصل حكمه الاباحة ثم تطرأ عليه الحرمة او الكراهيه بوجود الضرر الكثير او القليل في النفس او المال ،فاذا خلا من هذه العوارض كان تعاطيه حلالا مهما تنوعت صور استعماله ويقول في النهايه (وقد افتينا بذلك غير مرة)( حسنين مخلوف : فتاوى شرعية : فتوى 58 ، ص 107 ، ط 1951 القاهرة. ) ويستفاد من الفقرة الاخيرة من كلام الشيخ مخلوف ان هناك معركة فقهية حول حكم التدخين جعلت الشيخ يكرر فتواه اكثر من مرة.
وشارك الشيخ يوسف الدجوى عضو جماعة كبار العلماء بالافتاء في هذه المعركة .
في البدايه سئل الشيخ الدجوى عن حكم شرب الدخان في مجالس القرآن فأفتى في مجلة نور الاسلام سنة 1928 بانه لاينبغى اطلاق القول بان التدخين حلال وحرام ، ولكن ننظر الي حال المدخن فمن يضره شرب الدخان في صحته او كان محتاجا لثمنه في ضرورات المعيشة فيحرم عليه التدخين ؛ وان لم يكن هناك ضرر فلا وجه للحرمه ؛ وهذا هو حكم التدخين في ذاته ،أما شربه في مجالس القرأن فهو حرام .
ثم سئل عن حكم الدخان في المسجد فافتى بانه حرام ،إلا انه استدرك فقال ان مثل هذه المسألة محل اجتهاد يصح ان تختلف فيها الأفكار .
وعلى هامش معركة التدخين ظهر كتاب يبيح التدخين تحت عنوان (الإعلان بعدم تحريم الدخان) فسئل الشيخ الدجوى في الرد علي ما جاء في الكتاب فتحاشى الشيخ الرد ، وقال (هذا الكتاب ما كان ينبغي ان ينتشر بين الناس ويذاع بين العامة؛ فان هذه المسائل التي ذكرت فيه منها ماهو غير صحيح ومنها ماهو شاذ ليس من الورع تقليده ولا يعمل به، وقد صرحوا بانه لايجوز تتبع الرخص ؛ وما كان منها صحيحا لم يجز ان تفتى به للعامه ؛ فان العامى لايحسن استعماله ) وفي النهايه يقول (انه لا يصح العمل بما في هذا الكتاب ولا قراءته الا للخاصه من ذوى العلم والبصيره) اى انه مقتنع بقوة الحجة للمؤلف ولا يريد نشر هذه الحجج بين الناس .
ولانه تحاشى الرد علي الكتاب ؛ وتحاشى ذكر ما فيه من ادلة فقد الح عليه بعضهم ان يوضح رأيه في حكم التدخين فقال انه غير حرام لذاته ؛ولا يسع عاقل ان يقول انه حرام لذاته الا اذا كان جاهلا او مكابرا او معاندا ؛فيجب ان يقول ان حكمه الاباحه ؛ فأذا اعرض له ما يوجب تحريمه كحصول ضرر واضح بجسم الشارب او عقله كان حراما ؛ كما انه اذا حصل له ضرر واضح اذا تركه كان شربه واجبا، والا كان مباحا .( نور الاسلام 1928 ،هدي الاسلام 6/1/1935) .
أي ان الشيخ الدجوي تحمس اكثر لاباحة الدخان بعد ان قرأ الكتاب الذي يبيح التدخين.
وتكررت نفس الفتوى تقريبا على لسان الشيخ محمد عبد الطيف السبكى رئيس لجنة الفتوى بالازهر ، ونشرتها الاهرام في 7/10/1966 فقال انه ممنوع اذا ترتب عليه ضرر في البدن او في المال؛ ومباح اذا لم يترتب عليه ضرر في البدن او المال ؛ ولا يكون ممنوعا اذا احتاج اليه الانسان في دوائه ؛ ولذلك لان الاصل في الاشياء الاباحه .
7 ـ ونتساءل : هل الاصل في الاشياء الاباحة ؟وهل ممكن ان يتحول المباح الى حرام ومكروه وواجب؟؟
هنا نضع القواعد القرآنية الاتيه :
* ان المحرمات هي الاستثناءات المحدده المذكورة بالنص. وهذه المحرمات قد تكون مباحة في حالة الاضطرار(البقرة : 173).
وفي كل الاحوال فان الله تعالى يعفو عن الوقوع في الخطأ غير المقصود (الاحزاب5).
* إن التيسير اساس التشريع في الاسلام (النساء28)0(البقرة 185)(المائدة6) ( الحج 78).
ومن مظاهر التيسير ان الاباحة هي الاصل ؛وان التحريم هو الاستثناء؛ وان بعض المحرمات يمكن ان تكون حلالا للمضطر وعند الخطأ غير المقصود.
والخطأ غير المقصود اوالمقصود لايحكم عليه الا الله تعالى الذى يعلم ما في غيب القلوب ؛اى ان هذا المجال علاقة خاصة بين الانسان وربه،وليس للمجتمع او السلطة القضائيه او الفقهاء دخل بهذا. واذا زعموا لانفسهم حق التدخل فقد جعلوا انفسهم الهة مع الله ، وفى الاسلام لااله مع الله ؛ولا اله الا الله .
وكما ان بعض المحرمات المستثناه قد تكون مباحة عند الاضطرار وعند الخطأ غير المقصود فان كل
المباح قد يصبح استعماله حراما في حالتين :عند الحصول عليه بطريق غير شرعى ؛وعند استهلاكه باسراف وتبذير ، فرغيف الخبز حلال في ذاته ؛ولكن عندما تحصل عليه بالسرقه يكون حراما، وعندما تستهلكه باسراف وتبذير فان ذلك التبذير يكون حراما .
* ونفس القاعدة السابقة عن المواد الاخرى في الكون والطبيعة والكرة الارضية .
ان الله تعالي قد خلق الكون وسخره لنا (الجاثية 13)ومعنى سخره اى اخضعه لنا؛ولكن يجب ان نستعمله بحكمه والا الحقنا الضرر بانفسنا ؛وهذا متروك لنا ؛ولكن تلك المواد في حد ذاتها محايدة فالسكين تكون نافعة وتكون ضارة ؛والديناميت نشق به الطرق ونخرب به المدن وسكانها ،وحتى استعمالنا للسكين في القتل واستعمالنا للديناميت في الحرب قد يكون مباحا في حالة الدفاع المشروع، اى ان الضرر والنفع كامن في كل المواد، ولكن الانسان هو المطالب ان يرشد استخدامه للطبيعة ومواردها لتكون في مصلحته، فاشد المواد نفعا كالماء والاكسجين قد يتحولان الي وسائل الي القتل .كما ان اشد السموم فتكا يمكن ان نستخلص منها دواءا ،والفاعل هنا وهناك هو الانسان ،وقد يكون فيما يفعل آثما شريرا او خادما للبشرية ومناضلا في سبيل الحق والوطن .اذن فهذا كالمباح قد يكون حلالا عندما تحصل عليه بطريق شرعي ويحرم استعماله عندما يساء استخدامه .
إن الضرر مقياس نسبي بامكان البشر تحديده في كل الظروف ،وكل ما يستعمله البشر من ادوات وطعام ودواء له اثار جانبية ،ومطلوب من البشر ترشيد استهلاكهم لحماية انفسهم وحماية البيئة ، علي ان يكون ذلك بمعزل عن التحريم الديني المحدد سلفا والذي لا مجال فيه لاي بشر ان يزيد فيه او يزايد عليه .
والله تعالي الذي خلق هذا الكون وهو الاعلم بما فيه هو الذي حصر المحرمات وحددها ومنع ان يضاف اليها التحريم للمباح ،وهو الذي انزل القرآن الكريم وكرر فيه تلك المحرمات المحددة ،وانهي التشريع باكتمال القرآن ،وبالتالي فلو كان مسموحا لنا اضافة الاشياء المضرة للمحرمات لذكرها القرآن،او وضع لنا قواعد تبيح لنا اضافة كل ما يضر الي قائمة المحرمات .
هذا مع ان القرآن ذكر قواعد عامة للتشريع منها اباحة كل انواع التجارة مادامت عن تراض (النساء 29 ) أي مادام يرضي عنها المجتمع ويؤسس لها بناء قانونيا ،وبالتالي فاذا كان المجتمع وهيئته التشريعية تري فائدتها في المتاجرة بالدخان وغيره فلا بأس لتحقيق الشرط الاساسي وهو التراضي ،مهما بلغ الاحتجاج من الفقهاء المتزمتين الذين يحكمون خلافا لشرع الله تعالي ويقحمون انفسهم في كل شئ .