«شيئًا فشيئًا كنت أفقد الأمل في الخروج من المعتقل، لا أعرف كيف ستكون نهايتي، ولكن الحتمي أنه قد تم نسياني»، كان هذا ما يتردد في ذهن الشاب الذي ظل معتقلًا لأسبوع كامل وعيناه معصوبتان، ولكن ما يخفف من وطأة ذلك الشعور، ويبعث بعض الأمل من الجديد، هو ترديده لكلمات أغنية حمزة نمرة: «احلم معايا ببكرة جاي و لو ماجـاش إحنا نجيبه بنفسنا.. نبدأ نحاول في الطريق كتر الخطاوي تدلنا على حلمنا.. مهما نقع نقدر نقوم نشق نتحدى الغيوم نلاقي ليلنا ألف يوم بس احنا نحلم».
احلم معايا.. «هيلا هيلا يا مطر»
الشاب المذكور في الفقرة السابقة، كان وائل غُنيم، مؤسس صفحة «كلنا خالد سعيد» التي مثّلت شرارة لثورة 25 يناير 2011، بدعوتها للتظاهر في ذلك اليوم، وهي دعوة أعقبها اعتقال غنيم في الأيام الأولى للثورة المصرية، وتنحي الرئيس المخلوع مبارك في 11 فبراير (شباط) 2011، وهي أحداث وثقّها غنيم في كتابه «الثورة 2.0» الذي أصدره في 2012.
هذا الكتاب لفت فيه غُنيم إلى أنه لم يستخدم أغنية «احلم معايا» في أيام الاعتقال الصعبة فقط، بعدما تسرب إليه شعور الإحباط وفقدان الأمل، وإنما كثيرًا ما كان ينشرها على صفحة «كلنا خالد سعيد»، كلما شعر بأن «أعضاء الصفحة مُحبطون»، لتكون تلك الأغية واحدة من ضمن أغاني نمرة التي لامست إحساس الكثير من الشباب خلال أكثر من سبع سنوات من الثورة المصرية.
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر، ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر
كانت هذه الأبيات على غلاف كتاب «الثورة» لغُنيم» ومثلّت رمزية لثورات الربيع العربي في مواجهة الطغاة، والأبيات للشاعر التونسي أبي القاسم الشابي، واستخدمها ثوار تونس في ثورتهم، قبل أن يتبعهم المصريون في ثورة 25 يناير للانتفاض في وجه مبارك.
وبهذه الكلمات استهل نمرة أغنيته «هيلا هيلا يا مطر»، التي أهداها إلى كل الشعوب العربية، والشعب التونسي خاصةً، في 20 يناير (كانون الثاني) 2011، بعد أقل من أسبوع من نجاح الثورة التونسية في خلع زين العابدين بن علي.
كانت كلمات الأغنية وألحانها تونسية خالصة، بصوت نمرة المصري، وضمّت مشاهد للثورة التونسية، ودعوة للشعوب العربية للتخلص من الطغاة، وأن تتساقط أمطار الحرية: « هِيلاَ هِيلاَ يا مَطَرْ. اِغْسِلي أوْراق الشَجَرْ. الحُلْم مثْل الوَرْد يكْبَرْ. والهِلالْ يصْبَحْ قَمَرْ. اُدْخُلِي بِيُوت القَصَبْ. واسْقِي أزْهار الغَضَبْ. وخَبِّرِي دَمْعِةْ بِلادِي. إنّ ماسِحْهَا حَضَرْ.. وما تْخافِي السَحابْ يا خضْرا الصَفْو مِنْ بَعْد الكدَرْ».
وابتعث نمرة أغنيته إلى «من أحيا فينا الأمل، إلى من فك قيودنا الوهمية» ، واختتمها بأقوال مأثورة لمقاومين عرب وأجانب، تتضمن دعوة ضمنية للثورة من أجل الحرية، من ضمنها قول المقاوم الليبي عمر المختار: «إنني أؤمن بحقي في الحرية، وحق بلادي في الحياة»، وقول تشي جيفارا: «الشعوب وحدها هي من تحرر نفسها» والمصري سعد زغلول: «لا وجود لوطن حر إلا بمواطنين أحرار».
«إنسان» ما بعد الثورة المصرية
وعندما وصلت الأمطار إلى مصر، واندلعت الثورة المصرية، كان نمرة من المشاركين فيها، وفي الجمعة التالية لتنحي مبارك، التي حملت اسم «جمعة النصر» غنّى نمرة أمام مئات الآلاف المحتشدين في التحرير، أغنية «بلدي يا بلدي» متغنيًا بمظاهر جمالها وجمال مناطقها، وحبه في الوطن: «بلدي يا بلدي.. أنا نفسي أروح بلدي.. كله بيروح لحاله واللي يتبقى بلدي».
«بلدي يا بلدي» و«هيلا هيلا يا مطر» كانا ضمن ألبوم «إنسان» الذي أصدر نسخته الكاملة بعد شهور قليل من الثورة، تحديدًا في يونيو (حزيران) 2011، وضمّ العديد من الأغاني التي عكست حالة الأمل والتفاؤل والفرحة والفخر التي شعر بها أغلبية الشعب المصري وبخاصة شبابه عقب الثورة، فها قد جاء الإنسان الجديد «إنسان ليه حلم ليه غاية.. إنسان بيحب ولا يكره، إنسان شايل أمل بكرة، بيبان في الشدة ويطمن، ولا خان ولا عمره هيخون».
وتجسدت معاني الفخر والاعتزاز بالذات في أغنية ميدان؛ «ارفع راسك إنت مصري، إنت واحد من اللي نزلوا في الميدان.. إنت واحد من اللي وقفوا في اللجان.. إنت رجعت المصري بتاع زمان.. بيقولوا مصر هرم ونيل، وبينسوا المصري الأصيل اللي ساعة الجد دايمًا، يقدر يعمل مستحيل»، وشاع الأمل أيضًا في أغنية «حاصر حصارك، انتصارك بكرة جي».
كذلك فإن طعم البُعاد عن مصر الذي بدا «صبارًا» في أغنية «تذكرتي» التي أظهر فيها أوجه معاناة المصريين المغتربين عن بلادهم، يُمكن أن يخُفف بأمل العودة المتجدد إلى مصر من خلال تذكرة السفر «رايح – جاي»، وليست ذهابًا فقط، ليكرر في الأغنية «لكني مش قلقان؛ تذكرتي رايح – جاي»، ويختتمها «البعد عنك خوف وأنا على الرجوع ملهوف، لكن هعود إزاى ومكانى كله ضيوف، ياقلبى ياموجوع يا آه حاضنه دموع. حب البلد بيعيش لما يموت الجوع، يا حضن بيسعني واحتجتله وباعني ساعة ما مد إيديه، شاور وودعني، لكني مش قلقان ؛ تذكرتي رايح جي».
بعد 3 يوليو.. «وأقولك إيه؟ طعم البُعاد شربات»
في العام التالي لتنحي الرئيس المخلوع مبارك، أُجريت في مصر انتخابات رئاسية هي الأنزه والأكثر تنافسية في تاريخ مصر الحديث بحسب المحللين، ومع أن نمرة كان من مؤيدي الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، ولم يكن من مؤيدي الرئيس المعزول محمد مرسي، إلا أنه تضامن مع أنصار مرسي، ومعارضي بيان القوات المسلحة في الثالث من يوليو (تموز) 2013، عقب فض قوات الأمن اعتصامي رابعة والنهضة، في 14 أغسطس (آب) 2013، ولفت إلى أن أحد ضحايا الفض كان صديقه في «25 يناير في التحرير».
وخلال الساعات الأولى للفض خرج نمرة عن تحفظه المعتاد، ليكتب على «تويتر»: «يسقط يسقط حكم العسكر.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. إنه الشؤم يا بلد الظلم»، ولم يكتفِ بذلك، بل شارك نمرة في تظاهرات تضامنية مع قتلى الفض، جرت يوم الجمعة التالية في 16 أغسطس 2013، فيما عُرف بـ«أحداث مسجد الفتح».
اقرأ أيضًا: كما لم تقرأها من قبل.. 11 نقطة فاصلة في قضية «أحداث مسجد الفتح»
وخلال العام التالي لبيان الثالث من يوليو 2013، وما شهده من حالة استقطاب سياسي قوية في مصر، خرج نمرة بأول عمل فني بعد بيان القوات المسلحة، منتقدًا حالة الاستقطاب و«الكُره» و«الظلم» وسيل الدماء التي وصلت إليها البلاد مُحذرًا من استمرار تلك الحالة في أغنية «وأقولك إيه؟»، التي أشار فيها إلى استنفاد الأمل، بعدما كان قويًا في ألبوم «إنسان»؛ «وأقولك إيه طريق الكُره آخرته إيه؟ وهى قلوبنا ماتت ليه؟ !لفين هنروح؟ ما بينا شيطان أملنا ياوطن خلصان، محدش فينا مش خسران ولا مجروح».
ومثّل في مشاهد الأغنية أطيافًا مختلفة سياسية ودينية في المجتمع المصري كما تضمنت الأغنية تمثيل رجال الأمن باعتبارهم جزء أساسيًا من أطياف المجتمع، وجاءت عقب أيام قليلة من الذكرى الثالثة لثورة يناير، ومثّلت الأغنية فئة الممتعضين الكُثر في مصر من الحالة التي وصلت إليها البلاد بعد أشهر قليلة من بيان القوات المسلحة وما تلاه من إجراءات.
وبعد أشهر من « الأمل الخلصان» رحل نمرة عن مصر في 2014 إلى بلاد تتضمن تركيا وأمريكا، ليبدو طعم «البُعاد» حينذاك لذيذًا، وليس بمرارة «الصبار»؛ ليكتب في سبتمبر (أيلول) 2014: « طعم البُعاد شربات» وهو مشروب يرتبط عادة بـ«الأفراح في مصر»، وهو عام قررت فيه الإذاعة المصرية منع بث أغاني نمرة.
وجاءت تلك الكلمات مع ازدياد ملحوظ للرغبة في الهجرة من الشباب المصري، كان «ساسة بوست» قد رصده آنذاك ليجري دراسة ميدانية في 2014 عن دوافع الشباب الجامعي المصري للهجرة خارج مصر، وكشفت أن 66% من العينة راغبًا في الهجرة خارج مصر، وليس مجرد السفر، 74.5% من هؤلاء الراغبين لديهم استعداد للهجرة بأي شكل حتى ولو كان بطريقة غير شرعية، مع أن 98% منهم يعتبرون مستواهم المادي متوسطًا أو مرتفعًا، وتنوعت حينها عوامل النفور من مصر بين فقدان الأمل وانتشار الفساد، وتردي الخدمات التعليمية، وتهميش الدولة لمطالب الشباب.
اقرأ أيضًا: دوافع الشباب الجامعي للهجرة خارج مصر – دراسة
«إسمعني إنت اللي بتضيعني.. مع السلامة»
كتب نمرة «طعم البُعاد شربات» أثناء تواجده في تركيا، خلال فترة إعداده لألبوم «اسمعني» الذي في ديسمبر (كانون الأول) 2014، وتضمن أغنية «مع السلامة» التي أظهرت الخروج من مصر خيارًا قاسيًا واضطراريًا لابد منه؛ «سكة يا عالم آخرها ومفيش قدامنا غيرها».
اللافت أيضًا أن الخروج ليست مجرد سفر مثل الذي كان في «تذكرتي رايح جاي» وإنما أقرب لهجرة، ودّع فيها المسافر «كل حاجة.. قدام باب العمارة» مع حزن الفراق وقلة الحيلة؛ « شايف في عنيكوا دمعة.. شايل منها ف عنّيا ومافيش حاجة بإيديكوا.. ولا فيه حاجة بإيديا» منتقدة قسوة الدنيا «اللي بتجمعنا مرة وتفرق بيننا مية».
أغنية «اسمعني» نفسها مثلّت «صرخة »من الشباب ضد تحكم الكبار في مصيرهم وأحلامهم، وجسدت نوعًا من صراع الأجيال، وهو إحساس شعر به كثيرون من الشباب المصري الذين أحسّوا أن الثورة التي أشعلوها ضاعت في أحضان الكبار؛ «حياتي عمرها ما كانت باختياري غصب عني لقيتك بتاخد قراري بتعاملني كأني مجرد خيال و إن جيلنا ده كله شوية عيال، لا، إحنا ملّينا السكوت، لا خلاص بقولها بأعلى صوت، اسمعني انت اللي بتضيعني للماضي بترجعني وعايز تحبسني فيه، أحلامي، انت اللي قضيت عليها لما اتحكمت فيه، طب فاضل ليا إيه؟».
نمرة في اختيار كلماته كان دقيقًا وحاول بشكل أو بآخر السير على الحبال دون أن يقع، فدائمًا يلجأ لاستخدام ألفاظ عامة دون تحديد مباشر للجهة السياسية المسؤولة والتي ينتقدها ويقصدها في أغانيه، مُتحاشيًا بذلك أي هجوم محتمل من أي جهة في ظل حالة الاستقطاب التي تعيشها مصر.
وتضمن ألبومه أيضًا نوع المواساة و«الطبطبة» على المظلومين في مصر وتوعد للظالمين دون تحديدهم، مثلما في أغنية «يا مظلوم»؛ «يا مظلوم ارتاح عمر الحق ما راح، ليك يا ظالم يوم تشرب أسى وجراح».
كذلك في أغنية «لاتبكِ»؛ «لا تبكِ يا ولدي.. قدْ أُرْمَى خَلْفَ الجُدرانِ، وتحِنُّ لِحُبِّي وحَنَانِي فانْظُرْ في قَلْبِكَ سَتَرانِي، لَنْ يَقْوَى القَيْدُ على الفِكْر.. سأضُمُّكَ والصَدْرُ جَرِيحُ، وسأعْشَقُ والقَلْبُ ذَبِيحُ، مهما عَصَفتْ ضِدِّي الريحُ، لَنْ أَحْنِيَ في يوْمٍ ظَهْرِي».
فيما أوصل نمرة معنى «الفضفضة» لمصر في أغنية «تسمحي»: «تسمحي لى يا أمه من وقتك شوية، انسى جنبك، حِمل شايله تقيل عليا، وزى عادتك تسمعينى، لو بكيت استحملينى، يامه زادت قسوة الأيام علية، كل يوم بقى يشبه اليوم اللى عدى، كلمتين مش مفهومين على دمعة شاردة، حتى لون الدنيا باهت، والمعانى في قلبي تاهت،خوفى لا تطول علينا الشِدة ديه» واختتمها: «بكره هتقومي بالسلامة، يالي شيلتي الهم ياما،ترجعيلنا يامه زي زمان بهية» وسارت كلمات أغانيه في مجملها تبحث عن نور الأمل في آخر النفق، كما ظهر من «بوستر ألبومه».
اقرأ أيضًا: حمزة نمرة: أن تُدير وجهك للنور في آخر النفق
«هطير من تاني.. داري يا قلبي حزننا مكشوف»
بدى نمرة حزينًا ومهمومًا، يمشي في شوارع وأماكن فرغت من محبيها، في أغنيته الأخيرة «داري يا قلبي» تمثيلًا لحالة الهجرة «القسرية»، التي كثرت في السنوات الماضية، ليس في مصر فقط، وإنما أيضًا في معظم دول الربيع العربي التي شهدت مواسم تساقط الأحلام في التغيير، وجسّد نمرة أيضًا بكلماته الحالة الشعورية الحزينة التي يعيشها المغتربون، ومحاولة التعايش معها، والتعامل بمرونة مع ما قد تتلقاه من إحباطات، وأن يتجرع «مرارة» الصبار بالبعاد، دون الحديث عن أمل العودة، بعدما كان «ملهوفًا» لها في ألبوم «إنسان».
«إحساسك كل يوم يقل وتخطي وخطوتك تذل، من كتر ما أحبطوك تمل فين تلقى دواك؟ بتودع حلم كل يوم تستفرد بيك الهموم، وكله كوم والغربة كوم والجرح كبير داري داري يا قلبي مهما تداري، قصاد الناس حزننا مكشوف، وأهو عادي عادي محدش في الدنيا دي، يتعلق بشي إلا وفراقه يشوف».
ويبدو أن أغنية «داري يا قلبي» وما حملته من مشاعر حزن وهمّ لم تمثل سوى غيض من فيض ألبوم نمرة الأجدد «هطير من تاني»؛ فمع مداعبة أكبر صفحات الـ«كوميكس» المصرية في مصر من «كآبة» أغنية نمرة، رد حمزة «لسة التقيل جاي»، وكعادة طابع النكتة في مصر والسخرية حتى من المعاناة؛ عساها أن تخفف ولو قليلًا من طأتها، استمرت الصفحة في نشر مواد ساخرة من مشاعر الحزن التي طغت في الأغنية «اللي جت على جرح» الكثيرين بالعامية المصرية، وتخطى عدد مشاهداتها 3 ملايين مشاهدة، في ثلاثة أيام فقط من عرضها