ذهنية تكفيرية واحدة تقرأ المقدس منذ حروب الردة وحتى جرائم داعش
-
في كتابه “خطاب العنف والدم” يرى الباحث حسام حداد أنه لا يمكن تصور أي مخرج من ثقافة العنف التي تطبع طريقة الكثير ممن يسمون أنفسهم بالفقهاء في التاريخ الإسلامي قديما وحديثا، سوى إحداث قطيعة معرفية مع هؤلاء الذين يسقطون ظروف الماضي على تطورات الحاضر، ذلك أن العقلية هي نفسها ولا حل يرتجى من الدولة الدينية سوى تقويضها وتعويضها بدولة القانون والمؤسسات.
قتلة الأمس في ثياب عصرية
يرى الباحث حسام حداد في كتابه “خطاب العنف والدم” أن عنف داعش الذي أرعب الكثيرين، ليس جديدا على التراث والتاريخ الإسلاميين، ففي عهد أبي بكر الصديق، أول خليفة إسلامي، انتشرت ثقافة الإبادات الجماعية، كما تروي ذلك كتب التراث، لمواجهة ما سُمي بـ”الردة” عن الدين، فكان يتم رجم المرتدين حتى الموت، أو رميهم في الآبار وطمرهم داخلها أحياء، أو حرقهم بالنار.
ومارس هذا العنف أبطال يمجدهم التاريخ الإسلامي. يتناول حداد في كتابه ما أُطلق عليه خطاب العنف والدم، وهو هذا النوع من الفقه الذي يدعو في خطابه إلى استخدام العنف في مواجهته للآخر، أولا خطاب العنف والدم في التراث الإسلامي، ثانيا التأسيس الحديث لخطاب العنف والدم حيث يناقش المفهوم المحوري في فكر كل من المودودي وسيد قطب وهو مفهوم الحاكمية والذي انطلقا منه إلى تكفير المجتمع وتكفير مؤسساته.
كان الحنابلة قديما لا يوجهون قذائفهم وفتاواهم التكفيرية للحكام، لأن عقيدتهم عقيدة حكومية في المقام الأول وتعمل لصالح الحاكم لا المحكومين
أدى ذلك في النهاية إلى إنتاج العديد من جماعات العنف التي تملأ الساحة العالمية، وثالثا خطاب العنف والدم بالجماعة الإسلامية في مصر. ويشير حداد في كتابه الصادر أخيرا عن دار ابن رشد، إلى أن الناظر إلى الدين الإسلامي والنص المحوري له (القرآن الكريم)، يجد فيهما سماحة وسلاما ودعوة إلى الأخلاق والأمن تكاد لا تضاهيها دعوة أخرى، وهذا ما يطرح على الأذهان لماذا كل هذا القتل باسم الإسلام؟
وللإجابة عن هذا، لا بد لنا من الحفر في هذا التراث الإسلامي، ربما نجد ما يُنير طريقنا لمعرفة أسباب هذا التطرف والعنف والجذور والمرجعيات التي أسست له. لم يُشرَّع الجهاد في الإسلام إلا لسببين، الأول الدفاع عن الدولة الجديدة وحمايتها، والدفاع عن حرية الاعتقاد وردّ العدوان، لكنّ هناك الكثير من الأحاديث الواردة في كتب التراث، وبعض الآراء الفقهية والتفسيرية تقول عكس ذلك، بل وصل بعضُها إلى نسخ حكم آيات كثيرة تتحدث عن التسامح.
في مقابل إثبات حكم آية واحدة، آية السيف، الآمرة بالقتال، ولو على النحو المخالف لأهداف الجهاد في الإسلام. ويوضح أنه على الرغم من أن بعض تفسيرات الأئمة لآيات الجهاد في القرآن ارتبطت بمواقف وعلل استوجبت ذلك، تنتفي بانتفاء العلة، فإنها بقيت منذ مئات السنين ليستخدمها الدواعش، ومن على شاكلتهم، متذرعين من خلالها لقتل كل من خالفهم ولو كان مسلما، ما يستوجب تفنيد حججهم.
كذلك وردت أحاديث في صحيح البخاري ومسلم أخطأ في تفسيرها بعض من ينتسبون إلى أهل العلم، وبعض الشباب المتحمس حماسا مندفعا دون علم وبصيرة بعواقب الأمور، كما وضّح المتخصصون، فوجب إيضاحها لئلا يقع شباب المسلمين فريسة في أيدي ضعيفي الدين والعقل.
ويؤكد حداد أن الإسلام يعيش اليوم في أزمة حقيقية، والخروج من هذه الأزمة لا يمكن أن يحدث بمجرد ترديد مقولات جاهزة من قبيل أنه دين يمثل ثقافة التسامح، فمثل هذه المقولات لا تخفي بين طياتها نفاق من يدفعون بها، وإنما هي مقولات عنصرية تريد أن تضع أصحاب هذا الدين فوق الجميع. ولا يمكن تصور أي مخرج من ثقافة العنف السائدة حاليا دون إحداث قطيعة مع الماضي، والتأسيس لدولة مدنية تقوم على ثقافة المساواة وليس على ثقافة التسامح.
الدين هو الأخلاق
ويعتقد حداد أن الدين هو الأخلاق الكلية العامة التي تخاطب البشر جميعا وهي جوهر الدين وكل الأديان وتعبر عنها في الإسلام الآيات الواردة في القرآن المكي، أما الآيات الواردة في القرآن المدني فهي آيات التشريع وهي تشرع لجماعة متحركة بالوقائع والأحداث ومن ثَمَّ فالنص بالضرورة يتضمن بعدا اجتماعيا له علاقة بالواقع الذي يجيب عن أسئلته.
والنص التشريعي في الحالة المدنية له بعد اجتماعي يجيب عنه، وله واقع اجتماعي يتحرك فيه، ومن جهة أخرى هي لحظة الواقع الاجتماعي الذي يتجادل النص معه. ويقول “كانت في مشهد رفع المصاحف، وليس المصحف، في موقعة التحكيم، دلالة واضحة للدور المطلوب منها، وهو تعدد الرؤى والاجتهادات وتباينها ثم اختلافها، في خطوة تكتيكية تخدم المتقهقر، ليلتقط أنفاسه ويعيد ترتيب أوراقه ليتقدم، وتعمل على تراجع المتقدم فتبلبل أفكاره ليتخلف.
ولقد أدرك علي بن أبي طالب حقيقة الفتنة منذ الوهلة الأولى لرفع المصاحف أو للتحكيم، وهو لذلك وجه أصحابه في ما بعد، بعدم مجادلة الخوارج بالقرآن لأنه، كما قال لهم ‘حمال أوجه’ وأضاف بأن الخوارج ‘أحفظ لكتاب الله منكم’ ولكن جادلوهم ‘الحجة بالحجة'”.
وعلى الرغم من أن التأويل المنفتح والجهد المستنير، في قراءة تاريخ الإسلام والقرآن، قراءة منفتحة تحاول جعله صالحا لكل زمان ومكان، إلا أن هذا الجهد، حين يستخدم كتبرير لضرورة دنيوية سياسية، يمثل رفعا آخر للمصاحف في وجوه المناهضين لفكر هذه الجماعات.
كما كان الحنابلة قديما لا يوجهون قذائفهم وفتاواهم التكفيرية للحكام، لأن عقيدتهم عقيدة حكومية في المقام الأول وتعمل لصالح الحاكم لا المحكومين. ولأن هذه العقيدة فرضت على الناس من قبل الحكام، يقوم السلفيون اليوم بنفس المسألة فلا يعارضون الحكام ويدورون في فلكهم ويصوبون قذائفهم وفتاواهم في صدور الناس خصوصا المفكرين منهم.
مثل هذا الفقه المتطرف الذي بُني على روايات ضعيفة وعلى الأعراف وقرارات الحكام يجب أن يُعاد ضبطه مع القرآن، وهو لن ينضبط معه بحال، فالقرآن لم ينص على شيء من هذا تجاه الديانات الأخرى. هذا الفقه إنما هو وليد مرحلة سياسية خاصة هي مرحلة الحروب والغزوات وليس وليد النصوص.