من المحاذير التى تناولتها فى مقالتى السابقة فكرة التوازنات فى معالجة التمييز الدينى فى مصر، وهى سياسة مقيتة تتبناها الدولة المصرية ومفادها بأن هناك تطرف فى الجانبين المسيحى والمسلم وبأن المسئولية بالتبعية يتقاسمها الطرفان والنتيجة تبرئة الدولة من مسئوليتها الدستورية وتبرئة الجناة من الجرائم المرتكبة وتبرئة الأغلبية من مسئوليتها الاخلاقية وضياع العدالة وتحويل قضية التمييز والإضطهاد الدينى إلى قضية مزمنة غير واضحة المعالم.وحول هذا الموضوع لى عدد من الملاحظات:
اولا:هناك فرق بين التمييز ولإضطهاد وجرائم الكراهية وبين التصرفات الفردية، فمثلا ما وقع على السود فى امريكا لا يختلف اثنان على توصيفه بأنه تمييز على أساس اللون وجرائم كراهية على أساس اللون. ليس معنى ذلك أن السود كانوا مجموعة من الملائكة او حتى لم يرتكبوا جرائم بدافع الكراهية أو رد الفعل، ولكن من يقول بأنه كان هناك تمييز ضد البيض هو شخص مهرج عديم المصداقية، ومن يحاول توزيع المسئولية على الطرفين هو شخص غير امين يسعى لتكريسس التمييز وليس لحله.
نفس الشئ ينطبق على الأغلبية المسلمة السنية والأقليات الدينية والمذهبية فى مصر، التمييز يأتى من الأغلبية وحكومة وإعلام وتعليم والنظام العام الذى وضعته الأغلبية والعكس غير موجود ومن يقول به هو شخص مهرج أو متعصب أو كاذب أو جاهل او متجنى، فلا يعقل أن يقال ان هناك تمييز ضد الأغلبية المسلمة السنية من الأقباط أو من البهائيين أو من الشيعة، وليس معنى ذلك أن هذه الأقليات مجموعة من الملائكة ولكن يعنى بأن ما يرتكبه بعض افرادها يصنف أخطاء شخصية، ونفس الشئ ينطبق على الجرائم، فالكثير من الجرائم التى كانت تحدث ضد السود هى جرائم كراهية ومنها بالطبع ما هو جرائم جنائية عادية ولكن ما يحدث من السود ضد البيض لا يصنف جريمة كراهية عنصرية ولكن جريمة جنائية حتى ولو كانت الدوافع كراهية، فتوصيف الجريمة يتم بناء على توصيف الوضع... والوضع هو تمييز من الأغلبية ضد الأقلية.
ثانيا: وهذا يقودنا إلى نقطة هامة وهى أن المنظمات التى قامت لمحاربة التمييز فى امريكا وغيرها لم يكن من مهامها رصد الجرائم الفردية ضد الأغلبية التى يرتكبها افراد من الأقليات وأنما مقاومة التمييز وجرائم الكراهية التى تأتى من الأغلبية ضد الأقلية.أما ما يرتكب ضد الأغلبية من تصرفات أو جرائم فردية فليس مكانها منظمات مناهضة التمييز وأنما القانون العادى لأنها جزء من السلوك البشرى فى كل المجتمعات الإنسانية.
لم اسمع عن منظمة تناهض التمييز الدينى من الأغلبية تجاه الأقلية ومن الأقلية تجاه الأغلبية فى نفس الوقت، فالتمييز الدينى وفقا لتصنيف الجماعات المسيطرة والجماعات التابعة يمارس من الطرف المسيطر ضد الآخر.
ثالثا:مناهضة التمييز هى فى الأساس إدانة للأغلبية المسيطرة ولحكومات الأغلبية ولفكر الأغلبية ولثقافة الأغلبية، ولهذا قلت أن هذا تقوم به شخصيات فذة من الأغلبية،متسقة مع ذاتها ومحبة لوطنها وتمتلك الشجاعة والإصرار على سيادة الحق والعدل، تفرض ذلك على التيار العام فى شعبها سواء كان منع التمييز او تشريع تمييز إيجابى لصالح هذه الأقليات. فهل يتصور أحد أن الأغلبية ستتنازل طوعا عن ميزات حصلت عليها على حساب الأقلية من تلقاء نفسها؟ متى وأين حدث ذلك فى التاريخ؟.
ولكى اكون أكثر وضوحا لك أن تتخيل عزيزى القارئ بأن الدولة قامت بهذا الأستفتاء السلبى وطرحت هذه الأسئلة فى استفتاء عام على الشعب المصرى فى ظل مراقبة محلية ودولية لكى يخرج الأستفتاء معبرا عن إرادة الشعب وكانت الأسئلة:
● هل توافق على فرض الشريعة الإسلامية على كل المصريين بما فيهم الأقباط؟.
● هل ترى أن الأقباط يأخذون أكثر من حقوقهم ويسيطرون على الأقتصاد؟.
● هل تؤيد حق زواج المسلم من القبطية ومنع زواج القبطى من المسلمة؟.
● هل تؤيد حق المسيحى فى اعتناق الإسلام وحق الدولة فى منع المسلم من تغيير دينه؟.
● هل ترى أن الأقباط على علاقة بامريكا التى تمدهم بالاموال لبناء الكنائس فى مصر ومساعدتهم ماليا؟.
● هل تعتقد أن الأقباط يحاولون بناء كنائس كثيرة أكثر من حاجتهم وعلى حساب المساجد؟.
فى تقديرى أن نتيجة الأستفتاء ستكون بالايجاب و بالموافقة على كل هذا التمييز، أما إذا قامت شخصية محترمة من الأغلبية وفرضت على شعبها ما تراه لصالح دولة حديثة وعصرية وتسعى للتقدم من قوانيين لتجريم التمييز ثم فرض التمييز الإيجابى من آجل تكريس المساواة على أساس المواطنة فإن ذلك وإن لم يلقى هوى لدى العوام فإنه سيصب بالتأكيد لصالح تقدم الدولة ووحدتها الوطنية.
رابعا:يخطئ من يظن أن مقاومة التمييز الدينى فى مصر هى إدانة للإسلام ولكن فى الحقيقة هى إدانة للتخلف والتعصب والإرهاب الدينى،فالمعركة ليست معركة مسيحية إسلامية، ولكن معركة العدل ضد الظلم والحداثة ضد الأصولية والتمدن ضد التخلف والتنوير ضد الجهل والجمال ضد القبح.نعم ورقة الدين ونصوصه تستغل كمصدر للتمييز والعنف ولكن ذلك حدث فى كل الأديان من قبل ولم تتخلص المجتمعات الإنسانية من هذه الجرائم بالدفاع عن الدين وتبرئته من اعمال العنف وأنما بتخليص الدين من قبضة مستغليه بفصله عن الدولة والسياسة، ومن هنا لا جدوى من دفاع البعض عن الإسلام بأنه غير مسئول عن هذا التمييز، ولكن من يريد حقا أن يدافع عن دينه عليه أن يبعده عن المجال العام للسياسة وعن النظام العام للدولة التى يجب أن يكون مجالا مدنيا خالصا. على مارد أن تذكر بشكل وأضح فى استراتيجيتها المستقبلية الدفاع عن العلمانية ضد الأصولية التى تحاول خنق الدولة المدنية والقضاء على الحريات العامة فيها،فالدولة العلمانية تمثل الفضاء الحقيقى للتسامح الدينى ومن ثم مقاومة التمييز.
خامسا: لقد حذرت فى مقالتى السابقة من أن غياب الرؤية الواضحة للمجموعة أو عدم إنجاز شئ ملموس لصالح مقاومة التمييز الدينى سيؤدى إلى خروج او ابتعاد العديد من الشخصيات المحترمة وهذا ما حدث بالفعل ونأمل أن يعاد تقويم مسار المجموعة قبل أن يخرج الباقين.
سادسا: حذرنا أيضا من تحالف القبطى الكاره لذاته أو بتعبير دكتور رفعت السعيد " الذى يشعر بالعار من قبطيته" مع المسلم الكاره للأخر والغناء على اسطوانة وأحدة وتشتييت المجموعة فى قضايا هامشية وخلق المشاكل من آجل تخريب المجموعة سواء بارادتهم أو بإرادة من يحرضهم على هذا التخريب.
وخلاصة القول على المجموعة أن تتفق وتوضح بجلاء فى رؤيتها الأستراتيجية التى تناقشها حاليا بأنه لا يوجد تمييز دينى ضد المسلمين فى مصر ومن ثم لا تلتفت إلى بعض التصرفات الفردية من الأقلية، لأن هذه التصرفات ليس مكانها مجموعة مصريون ضد التمييز الدينى وأنما جهات أخرى، ولأن مهمتها الأساسية هى مقاومة التمييز ضد هذه الأقليات وعليها أن تسعى لبلورة خطة واضحة المعالم لمقاومة هذا التمييز ووقتها سوف يفرز العمل الجاد الحنطة من الزوان والسليم من المعطوب.
ولكن قد يقول قائل وما هى الفائدة التى تعود على المسلم من الإنضمام لجماعة هدفها الأساسى مقاومة التمييز من الأغلبية المسلمة ضد الأقليات غير المسلمة؟.
الاجابة مثل الاستفادة التى عادت على الشخصيات البيضاء التى تبنت مقاومة التمييز ضد السود فى امريكا والتفرقة العنصرية فى جنوب افريقيا.
خلصوا بلادهم من هذا العار وساهمو فى تقدم اوطانهم وعملوا ما يتسق وضميرهم الإنسانى وفى النهاية خلدهم التاريخ كعظماء لأنهم دافعوا عن الضعفاء والمضطهدين، وهل هناك مهمة انبل من الدفاع عن المضطهدين والضعفاء؟.
فهل ينتصر البناءون؟
هذا ما نأمله ونعمل من آجله ونتمنى أن نرأه فى المستقبل.