طالما نُعِت الإنسان بالجنون كلما تغير سلوكه عن الجموع، وارتبط المرض النفسي عند الناس قديمًا بأسباب ميتافيزيقية، ودينية، في حين يرى الأطباء النفسيون أن بعض الناس لا يؤمنون بالعلاج النفسي؛ لأنه يكشف لهم مدى عدم معرفتهم بأنفسهم.
وتاريخيًا؛ ارتبط المرض النفسي بالنبذ الاجتماعي، والوصم؛ إذ كانت العائلات تخفي وجود أي فرد من أفرادها يعاني مرضًا نفسيًا، ونتيجة لهذا النبذ؛ دُفع الكثير من المرضى إلى العيش في الشوارع، وكانوا غالبًا ما يعاملون كمجرمين، ويزج بهم في نهاية المطاف إلى السجون.
أفادت إحصائية لمنظمة الصحة العالمية أن 27% من البالغين الذين تترواح أعمارهم بين 16 و60 عامًا، في دول الاتحاد الأوروبي، قد عانوا ولو لمرة اضطرابات نفسية، مثل: القلق، أو الذهان أو الاكتئاب. كما يبلغ عدد مرضى الاكتئاب في العالم 300 مليون مريض، تبعًا لمنظمة الصحة العالمية.
بداية الطب النفسي.. مطاردة الشياطين والأرواح الشريرة
تظل الجماجم التي عثر عليها علماء الآثار، شاهدةً على ما فعله إنسان العصر الحجري، بالمرضى النفسيين من أجل علاجهم. فـ«ثَقب الجمجمة أو النقب» عُرف بوصفه أقدم طريقة علاجية، لعلاج الأمراض الخاصة بالمخ، والتي كانت أقرب إلى التعذيب منها إلى العلاج. واستُخدمت هذه الطريقة في عصور ما قبل التاريخ «حوالي 10 آلاف عام قبل الميلاد»، وقبل معرفة تشريح المخ، وقبل كل شيء.
ووجد الباحثون في شمال وجنوب أمريكا، وبشكل مكثف في بيرو وبوليفيا وفي إفريقيا وأوروبا، جماجم ترجع إلى هذه الفترة الزمنية، وتظهر عليها آثار النقب، إذ كانت الجماجم تُثقب بحسب الاعتقاد السائد آنذاك، من أجل إخراج الأرواح الشريرة التي تسبب التصرفات غير الطبيعية للمريض.
ومنذ القدم، عني الإنسان بتفسير تغير السلوك الفردي، لأسباب عقلانية وغير عقلانية، فقبل الميلاد بـ1500 عام، ذكرت بردية إيبرس -أقدم بردية طبية في التاريخ- أمراضًا تشبه الاكتئاب والخرف والفصام، وكان المصريون القدماء يعتقدون أن المشاعر السيئة تُثقل القلب حرفيًا، وتؤدي إلى انحراف المزاج.
وقد ذكرت الـ«atharvaveda» «مجموعة كتب هندية يرجع تاريخها إلى 1400 عام قبل الميلاد»؛ أن الأمراض العقلية تنتج عن نقص عناصر معينة بالجسم، كما ذكرت وثائق صينية يرجع تاريخها إلى عام 1000 قبل الميلاد؛ حالات خرف، و«جنون»، وصرع. أما النقلة النوعية في تاريخ الطب النفسي، فقد جاءت على يد أبقراط، عام 460 قبل الميلاد، فبعد أن كانت الأمراض تُعزى إلى القوى الخارقة، والشيطانية، فسر أبقراط الاكتئاب والجنون، والهستريا بصورة أكثر موضوعية، وأوضح أن المرض النفسي ما هو إلا خلل وتغيرات جسدية، ولا يحدث بتأثير قوى خارجية.
كما قام ثيوفراسطس بوصف 28 نوعًا لشخصيات الإنسان وطباعه، قبل 250 عامًا من الميلاد. وفي عام 200 بعد الميلاد، ظهر الفيزيائي الروماني جالن، والذي اعتقد أن سبب الاكتئاب، هو عدم توازن أربعة عناصر هي: الدم، والعصارة الصفراوية، وما أسماه بالعصارة السوداء، والبلغم.
وتجدر الإشارة إلى أنه، وبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية في عام 410م، على يد القوط الغربيين، بقيادة آلاريك الأول انتكست واضمحلت العلوم الطبية في أوروبا، لكن الأطباء المسلمين، نجحوا في حفظ الوثائق القديمة في عهد الإمبراطورية البيزنطية، وفي تلك الآونة عادت أوروبا إلى تفسير المرض النفسي، عن طريق السحر وعلم الشياطين.
أما أولى مستشفيات العلاج النفسي؛ فأُقيمت على يد أطباء مسلمين، في بغداد، في أوائل القرن الثامن، وتحديدًا في عام 705م؛ ثم لحقت بها في خلال عقود، مستشفيات في فاس والقاهرة، ثم جاء عهد ابن سينا الذي نشر كتبه الشهيرة: الشفاء، والقانون في الطب، وكتب فيهما وصفًا تفصليًّا عن أمراض: الخرف، والهلاوس، والجنون، والاكتئاب.
حبس وسوء معاملة.. عذابات العلاج النفسي
أقيمت المستشفى الأولى للطب النفسي في أوروبا عام 1330م، وعرفت باسم بيت لحم الملكية، إذ بدأت بمبنى صغير، ثم هُدمت وأعيد بناؤها عدة مرات.
وبالرغم من أن هذه المستشفى، تعد الآن إحدى المستشفيات العريقة، التي تحظى بثقة منظمة خدمة الصحة بالمملكة المتحدة، فإن التاريخ يحكي عن معاملة المرضى فيها بقسوة بالغة، وحبسهم في أقفاص بصورة حيوانية للتمكن من السيطرة عليهم، واستخدام طرق علاجية غريبة، مثل العلاج الدوراني «تثبيت المريض على كرسي، وتعليقه بحبل في السقف، ثم الدوران بالكرسي 100 مرة في دقيقة واحدة»، في هذه المستشفى.
وفي بداية عصر النهضة في أوروبا عام 1500، عاد الاهتمام بالعلوم، والتفسيرات العلمية، للمرض النفسي، بعيدًا عن السحر والشياطين التي كان يفسَر بها في السابق، إلى السطح مرة أخرى، وصدّر هذه النظريات باراسيلسوس وكورنيليوس أجريبا.
وفي 1518 أقيمت الكلية الملكية للأطباء، بأمر من ملك إنجلترا هنري الثامن، ليحمي العامة من الدجالين، وأصبح الطب النفسي فرعًا من الطب، ثم تطور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، فرعًا من علم الأعصاب، ودُمجت نظريات جديدة عن الطب النفسي.
وكتب «روبيرت بيرتون» مؤلَفه «تشريح الميلانخوليا» في عام 1621، عن تعريف الميلانخوليا، أو الاكتئاب، أنواعه، أعراضه، أسبابه، وعلاجه فلسفيًا وطبيًا، ثم ذهب رينيه ديكارت «1637» إلى فكرة انفصال النفس عن الجسد، والتي أدت بدورها إلى اعتبار الصحة الجسمية منفصلة عن الصحة النفسية.
عصر ملاجئ المرضى النفسيين
مع زيادة الوعي بالمرض النفسي، في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولأن المرضى كانوا عبئًا على أسرهم، شُيدت الكثير من ملاجئ الأمراض النفسية، لكن العناية بالمرضى في هذه الملاجئ، لم تختلف كثيرًا عمّا كان عليه الحال في مستشفى بيت لحم المرعبة، مما أدى إلى ازدياد الحالات غير القابلة للشفاء.
لكن على الجانب الآخر، كانت تُحرز بعض التقدمات، التي ساهمت في فهم المرض النفسي، فظهر توماس ويليز طبيب التشريح الإنجليزي، وأحد آباء علوم الأعصاب، ووصف بالتفصيل تشريح المخ، كما أنه صاحب دورة ويليز، التي وصف فيها الدائرة الشريانية الدماغية، ووضع توماس أيضًا، نظريات ربط فيها المرض النفسي بوجود خلل في الموصلات العصبية.
علاج نفسي أكثر إنسانية
أول من قدم تصورًا عن تحسن حالة المرضى بدخولهم مستشفيات للأمراض النفسية، وأسس فكرة العلاج المعنوي، الذي يعد حجر الأساس للصحة النفسية، هو الطبيب الفرنسي فيليب بينيل (1745- 1826)، الذي انتهج طريقة أبوية بعض الشيء، وكان يعامل المرضى كالأطفال، عوضًا عن التعامل معهم كحيوانات ومجرمين.
كما وضع «بينيل» تصنيفًا تفصيليًا للأمراض النفسية، والذي كان بمثابة حجر أساس لعلم تصنيف الأمراض النفسية الذي يستخدم الآن. وسار على خطاه ويليام توك أحد أعضاء الكوكيرز أو جماعة الأصدقاء الدينية، وأسس مستشفى للصحة النفسية.
أما أول استخدام لكلمة طب نفسي أو psychiatry، فكان في عام 1808، على يد الطبيب الألماني «جون ريل»، الذي نشر أول جريدة خاصة بعلم النفس في ألمانيا، وفي عام 1810، قام بتدريس الطب النفسي في جامعات برلين.
وكان الطبيب الألماني «ويليام جريسنيجر» هو أول من بدأ في تنفيذ فكرة دمج المريض النفسي في المجتمع، فضلًا عن نظام ملاجئ العلاج النفسي، واقترح وضع المريض في المستشفى لمدة قصيرة فقط، جنبًا إلى جنب مع الدعم النفسي الطبيعي للمرضى، كما وضع وليام أيضًا علامات واضحة لسلوك المريض النفسي، وميز بين المرض النفسي وأمراض الأعصاب والمخ.
وفي عام 1841، أقيمت الكليّة الملكية للأطباء النفسيين في المملكة المتحدة، وعرفت في البدء باسم جمعية مسؤولي الملاجئ النفسية، وساهمت الكلية الملكية كثيرًا في فهم الطب النفسي، وتمثل الآن 18 ألف طبيب نفسي، كما وضع الطبيب الألماني إيميل كريبلين في 1896 التقسيم الحديث لأعراض المرض النفسي، ومن ضمن إنجازاته أنه ميّز بين الذهان، والبارانويا.
ثم جاء سيجموند فرويد
يمكن القول إن الطب النفسي قبل فرويد لا يشبه الطب النفسي بعده، إذ اشتهر فرويد بنظرياته عن اللاوعي، وقوامها أن تصرفات الإنسان ناجمة عن رغبات اللاوعي، و«مبدأ الهو والأنا»، و«الأنا الأعلى»، كما أسس فرويد علم التحليل النفسي، والعلاج «الكلامي» الذي يعتمد على التواصل بين المريض والطبيب.
فرويد
ثم انشطر التحليل النفسي بعد فرويد إلى عدة مدارس، وتطور في الاتجاه المقابل علم دراسة الجهاز العصبي، ومعرفة المخ فيزيائيًا، وكيف تستطيع الخلايا العصبية التواصل بنبضات كيميائية وكهربية، ومعرفة كيف يحسب المخ وكيف يتذكر ويتعلم. وفي بداية القرن العشرين أصبح التحليل النفسي، وطب الأعصاب تخصصين منفصلين.
وتأثر «كارل يونج» مؤسس علم النفس التحليلي، بفرويد، وجمعتهما علاقة صداقة، مدة خمس سنوات، ولكنها فسدت سريعًا، بسبب اختلاف يونج مع بعض نظريات فرويد.
يونج مقابل فرويد
عارض يونج تفسير فرويد لكل تصرفات المريض، بدوافع جنسية، واتفق يونج مع فرويد أن الأحلام نافذة على اللاوعي، لكن قد يختلف تفسيرها من شخص لآخر، وليس بالضرورة إرجاعها إلى رغبات جنسية، كما عارض يونج بشدة نظرية فرويد التي يعتقد فيها بأن الطفل الذكر يشعر برغبات جنسية قوية تجاه أمه.
وفي عام 1938، أدخل الطبيب الإيطالي أوجو سيرتي العلاج بالصدمات الكهربية، لعلاج مرضى الاكتئاب الحاد، أما النقطة الفارقة في تاريخ العلاج النفسي الدوائي؛ فكانت اكتشاف مركب يسمى الـ«كلوربرومازين» عام 1951، والذي بدأ استخدامه بوصفه مخدرًا، ثم جُرب لعلاج حالات الهياج العصبي.
ونتيجة لذلك، حدثت تغيرات درامية في مسار العلاج النفسي، فسمح العلاج الدوائي للمرضى بمغادرة ملاجئ العلاج، والعودة إلى عائلاتهم، واشتُقت مركّبات أخرى من الكلوربرومازين، وقُدم كأول مضاد للاكتئاب.
أدى وجود الأشعة المقطعية على المخ عام 1970، إلى تطور معلوماتنا عن المخ بصورة هائلة عما قبل، ثم ساعد الرنين المغناطيسي، الذي استُخدم في توضيح التغيرات الباثولوجية في الأنسجة الحية، في تشخيص بعض الأمراض النفسية.
«آرون بيك» أستاذ الطب النفسي في جامعة بنسلفانيا؛ ابتكر طريقة مختلفة للعلاج، وهي ما يعرف بعلاج السلوك المعرفي، الذي يساعد المريض في معرفة طريقة تفكيره، وانفعالاته. وشهد عام 1987 تطورًا كبيرًا في مسار مضادات الاكتئاب، فكان مولد الـ«بروزاك» والذي تميّز بأنه أكثر أمانًا وفعالية من مضادات الاكتئاب القديمة، وفي خلال بضع سنوات أنتِجت مضادات اكتئاب أخرى، وظهرت كفاءتها على أعراض مثل القلق، نوبات الهلع، والوسواس القهري، ومتلازمة كرب ما بعد الصدمة.
كيف سيكون مستقبل الطب النفسي؟
التقدم الكبير الذي أحرزه طب الأعصاب، وعلم الأدوية النفسية والعصبية، والتصوير العصبي، والاختبارات الجينية، ساهم في فهم تركيب المخ وتغيراته، وأصبح لدينا القدرة على معرفة كيف يعمل المخ، وكيف تعمل أجزاء معينة منه بشكل خاص، ومعرفة طرق تحليل صور المخ، وتطوير قدرة الأطباء على «قراءة المخ»، وتغير خريطته، بسبب المرض النفسي.
لكن على الجانب الآخر النقص الشديد في عدد الأطباء النفسيين في البلاد الفقيرة ومتوسطة الدخل، وهجرة الأطباء من البلاد الفقيرة، يُعد سببًا رئيسيًا في عدم تلقي المرضى للعلاج، والرعاية النفسية، إذ إن مستقبل الطب النفسي وتطوره يقتضي توزيعًا عادلًا للأطباء النفسيين بحسب الكثافة السكانية، كالوضع في المملكة المتحدة التي تمتلك أحد أفضل أنظمة العلاج النفسي، ويوجد بها ما يقترب من 5 آلاف طبيب نفسي، لتغطية كثافة سكانية تبلغ 60 مليون نسمة.