محنة أهل القرآن وأهل الإنجيل
د.عبدالخالق حسين
نعيش الآن مرحلة بلغت فيها حدة التناقضات وتصارعها الدموي حداً يهدد بها الحضارة البشرية بالخطر في كل مكان. ففي الوقت الذي بلغت فيه الحضارة أوج التقدم في مختلف المجالات، علوم وتكنولوجيات واختراعات واكتشافات ونهضة الشعوب في نضالها من أجل حريتها وفرض إرادتها على الحكام، نشهد بلوغ الهمجية المتمثلة بالإرهابي الإسلامي ذروتها أيضاً.
وقد سمي هذا الإرهاب بالإسلامي لأسباب لا يمكن نكرانها، فجميع الذين يرتكبونه هم من المسلمين، وينفذون إرهابهم باسم الإسلام، وبتحريض من رجال دين مسلمين، وتحت تأثير نصوص دينية مقدسة من الكتاب والسنة. وما كان لهذا الإرهاب أن يبلغ هذه القوة والخطورة والاتساع لولا صمت رجال الدين المسلمين الذين يدعون الاعتدال والوسطية، و لولا تحالف الحكومات العربية والإسلامية غير المعلن مع الإرهابيين بشكل وآخر، ومطاردة هذه الحكومات للقوى الديمقراطية والتنويرية والإصلاحية في بلدانها.
وما يزيد في الطين بلة، أن لم يكتف "المعتدلون" بالصمت إزاء ما يرتكب من جرائم الإرهاب بحق غير المسلمين وحتى ضد المسلمين الذين يختلفون معهم في المذهب، ولا يشاركونهم في التطرف، بل راح هؤلاء "المعتدلون" يختلقون المبررات والأسباب للإرهاب، فتارة يلقون اللوم على السياسات الخارجية للدول الغربية، وخاصة أمريكا وبريطانيا وموقفهما من الصراع العربي- الإسرائيلي، وتارة على تدخل المجتمع الدولي بقيادة أمريكا في إسقاط أبشع نظامين همجيين عرفهما التاريخ البشري، ألا وهما حكم طالبان في أفغانستان، والبعث الفاشي في العراق.
وما حصل في مومباي ، العاصمة التجارية للهند المسالمة، من "غزوة" الإرهابيين الهمجية من أتباع منظمة (عسكر طيبة) الإسلامية، إلا دليل قاطع آخر على أن الإرهاب لا حدود له، ولا يبحث عن سبب كما يحاول أصحاب "العقلية الذرائعية" إيجاد مبررات له.
ولم ينحصر الإرهاب الإسلامي على فئة إسلامية واحدة، ففي العراق مثلاً ومنذ سقوط الفاشية عام 2003، قامت مليشيات جيش المهدي (الشيعية) بقيادة مقتدى الصدر، والموالية لجمهورية إيران الإسلامية، بجرائم قتل واضطهاد ضد الأقليات الدينية من المسيحيين والصابئة وغيرهم من أبناء العراق الأصليين، وتم تقريباً إفراغ المحافظات الجنوبية من أتباع هذه الديانات. كما وقام أتباع القاعدة (السنية الوهابية) وغيرها من منظمات الإرهاب إسلامي بعمليات إرهابية بشعة في بغداد وشمال العراق ضد المسيحيين والإيزيديين، وحتى ضد من يختلف معهم في المذهب من المسلمين مثل الشيعة والشبك. إذ تفيد الأرقام أن نحو 60% من المسيحيين في العراق قد غادروا البلاد قسراً، ولم يبق من الصابئة المندائيين إلا في حدود خمسة آلاف فقط من مجموع نحو 60 ألفاً قبل سقوط الفاشية.
وكما بينا أعلاه أن هذا الإرهاب ما كان له ليستشري لولا موقف الحكومات العربية والإسلامية المتخاذل، بل والداعم له. إذ لا يمكن مواجهة التطرف الديني بإجراءات بوليسية فقط، بل لا بد من مواجهته بالفكر التنويري الإصلاحي أيضاً، لتحصين المجتمع من وباء التطرف. ولكن الذي يحصل في البلاد العربية والإسلامية هو العكس تماماً، إذ نجد هذه الحكومات وخاصة في مصر مثلاً، تركت المتطرفين من أخوان المسلمين والفئات المتطرفة الأخرى التي تعمل بأوامرهم، يعيثون في البلاد فساداً في ملاحقة الأقباط المسيحيين واضطهادهم، تحت سمع ومرأى الحكومة المصرية. إذ كما يقول الكاتب المصري مدحت قلادة في هذا الخصوص: "فالأحداث المتوالية ضد الأقباط في مصر تؤكد ازدياد العمليات الإرهابية بمباركة السلطة التنفيذية "رجال الأمن" والسلطة التشريعية "النائب في مجلس الشعب، الإخواني بعين شمس" علاوة على إخوان الوطني....." (إيلاف، 3/12/2008).
ومما يؤكد اعتقادنا أن الحكومة المصرية متعاونة مع المتطرفين، هو ما تقوم به الأجهزة الأمنية من مطاردة دعاة الديمقراطية والإصلاح الديني. فإزاء طغيان خطر التطرف الديني الذي يعذيه حزب الأخوان المسلمين، فقد ظهرت حركة أهل القرآن في مصر في الثمانينات من القرن المنصرم على يد رجل الدين الإصلاحي الأزهري، فضيلة الشيخ الدكتور أحمد صبحي منصور، الأستاذ في الأزهر الشريف سابقاً. وهدف هذه الحركة صيانة المجتمع من التطرف، وإعطاء صورة حقيقية للإسلام بوجهه المتسامح الذي يقبل التعايش السلمي مع الآخر من غير المسلمين، ومع المذاهب الإسلامية الأخرى، في كل مكان دون تمييز، وتخليص الإسلام من التعصب والتطرف والانغلاق. وتعتمد هذه الجماعة في فهم الإسلام على القرآن الكريم وحده، لأن حسب اعتقادها أن السنة النبوية أو أحاديث النبي محمد (ص) تعرضت للتشويه حيث كانت تتناقل شفاهاً عبر الأجيال، ولم يتم تدوينها إلا في القرن الثالث الهجري، أي بعد أكثر من مائتي سنة على وفاة الرسول. واستغل وعاظ السلاطين الوضع من المنافقين للسلطات، وخاصة في عهد الدولة الأموية، فاختلقوا أقوالاً كثيرة من عندهم لإرضاء السلطان في تبرير مظالمه، ونسبوها كذباً إلى النبي. بينما تمت كتابة الآيات القرآنية في عهد الرسول نفسه، وتشكلت لجنة من الصحابة قامت بجمع الآيات في كتاب موحد وهو القرآن في عهد الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان.
لذلك فمن المنطق والحكمة الاعتماد على القرآن أكثر من غيره في فهم الإسلام وتفسيره. ولكن مع الأسف الشديد تعرضت هذه الجماعة إلى معارضة شديدة ومضايقات عنيفة ومطاردة من التيارات السلفية وخاصة من قبل الأخوان المسلمين، والحكومة المصرية. إن أول هجمة شرسة تعرض لها القرآنيون كانت عام 1987، حيث استلم أعضاؤها تهديداً بالقتل من الإسلامويين المتطرفين، وزج بهم في المعتقلات من قبل الحكومة. وتكررت هذه الحملة في عامي 2000 و2001، وتعرض مؤسسها الدكتور أحمد صبحي منصور إلى التهديد بالقتل، مما اضطر الرجل إلى الفرار والهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية "بلاد الكفار" ليسلم على حياته وحياة عائلته. وتعاد العملية اليوم وبذات العنف.
والغريب أيضاً، أن الحكومة المصرية تحاول بكل الوسائل الإعلامية إقناع العالم، وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية، تحسين صورتها والظهور بأنها حكومة ديمقراطية وليبرالية علمانية، تدعم حرية الرأي والتعبير، وبأن حقوق الإنسان مصانة في مصر، بدون أي تمييز...إلى أخره من الإدعاءات. بينما الواقع هو على النقيض تماماً، حيث الحريات الديمقراطية معدومة، وسياسة العصا الغليظة هي القاعدة، والسجون والمعتقلات مليئة بسجناء الضمير من الديمقراطيين والليبراليين والإصلاحيين ومنهم أهل القرآن. إضافة إلى ما تعانيه الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى مثل الأقباط والشيعة والبهائية، بل وحتى أهل السنة المعتدلين لم يسلموا من مضايقات الحكومة وتهديدات المتطرفين الإسلامويين لهم.
وآخر عملية ضد القرآنيين كان في أواخر شهر نوفمبر المنصرم، حيث " قامت مباحث أمن الدولة بإلقاء القبض على –الناشط القرآني- رضا عبد الرحمن علي محمد" والتهمة الجاهزة كما ادعت السلطة هي: "تحريف القرآن الكريم ونشره علي النت حيث قام بإضافة بعض الأشياء له من خياله، وكانت مباحث أمن الدولة قد قامت عقب رصد جهاز الحاسب الآلي الخاص به باعتقاله وتفتيش منزله بشارع عمر بن الخطاب بقرية أبو حرير مركز كفر صقر محافظة الشرقية كما تمت مصادرة جهاز الحاسب الآلي وعدد من الكتب." (موقع جريدة الخميس المصرية، http://www.elkhamis.com/takhsheba.aspx?id=11)
وكما بيَن الدكتور أحمد صبحي منصور من مقر إقامته في أمريكا، أن اختطاف السيد رضا عبدالرحمن واعتقاله في مكان مجهول، واتهامه بالردة وأنه "قال لرجال الشرطة لست مسلما" كلها تمهيد لتصفيته جسدياً.
ومن نافلة القول، أن سياسة الحكومة المصرية في مطاردة القرآنيين وغيرهم من الديمقراطيين، تضر بالشعب المصري وتخدم التطرف الإسلامي والإرهابيين، بل وحتى بسمعة ومستقبل الحكومة المصرية نفسها، إذ لا يمكن مواجهة التطرف والإرهاب بدون نشر الفكر التنويري الديمقراطي لحماية الجيل من السقوط في مخال الإرهاب، ضحية لعمليات غسيل الدماغ من قبل فقهاء الموت من قادة الأخوان المسلمين وغيرهم من السلفيين التكفيريين.
وعليه، نهيب بالمثقفين الأحرار في كل مكان، من أنصار حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية في العالم، التحرك السريع ومطالبة الحكومة المصرية بالكف عن هذه السياسة الأخطبوطية ضد المفكرين الأحرار، وإطلاق سراح جميع المعتقلين وسجناء الضمير، من القرآنيين ودعاة الإصلاح والديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان.