مقدمة
1 ـ ( الواد محمود أبو قاعود كان يسير مع صديقه الواد عطوة فى ميدان التحرير بالقاهرة . غلبته الرغبة فى التبول . وقف قائما وتبول فى الشارع علنا جهارا . صرخ فيه صاحبه الواد عطوة : حرام عليك .. وهى كلمة تجرى على ألسنة المصريين و المسلمين دون أن يتبينوا خطورتها. ولأن الواد محمود أبو قاعود يكون دائما فى أحسن حالاته العقلية بعد أن يتبول فقد قال لرفيقه : وماهو الدليل على أن ما فعلته حرام ؟ هل هناك تحريم فى القرآن للتبول العلنى فى الشارع أو فى ميدان التحرير؟ هل أفتى الامام مالك فى الموطأ أو قال الشافعى فى (الأم ) بان ما أفعله حرام ؟ وهل ذكر البخارى أو مسلم أو أحمد أحاديث تحرم التبول فى أى ميدان عام أو على كورنيش النيل ؟ . عجز الواد عطوة عن الاجابة ، وقرر أن يستفتى من يعرفهم من الشيوخ . بعض الشيوخ قال بالتحريم مستعملا القياس ، وبعضهم قال : عيب ، أو لا يصح أو لا يليق أو لا يجوز أو مكروه ..لكن لم يجد أحدهم دليلا من القرآن ، بل لم يجد حتى دليلا مما يسمونه بالسّنة . وقامت معركة فقهية مثل معركة الحجاب و النقاب ورضاعة الكبير ونقل الأعضاء والتبرك ببول النبى وشرب أبوال الابل .. وتطايرت عبارات التحريم والتحليل ..كالعادة فى هذا الزمن الأغبر.).
طبعا هذه قصة وهمية ، ولكن المراد منها أن نثبت أن الحرام و الحلال لا يشمل كل شىء فى تشريع الاسلام ، وهذا ما عجز فقهاء الأديان الأرضية عن معرفته منذ 13 قرنا من الزمان ، وذلك لأنهم لم يقدروا الله جل وعلا حق قدره ، ولم يؤمنوا بالقرآن الكريم حق الايمان ولأنهم لم يؤمنوا بالقرآن وكفى ، فلم يفهموا كيفية الاستباط من القرآن الكريم. ومن يقرأ موطأ مالك و الأم للشافعى و كتب الأحاديث يتعجب من ندرة استشهادها بالقرآن الكريم وتجاهلها لأحكامه ، بل إنه إذا تصادف أن استشهد الشافعى بآية قرآنية فلكى يعلو عليها بفتاويه وبأحاديثه المفتراة.
2 ـ وليس الغرض من هذا المقال البحثى مجرد شرح موجز لفقه التحريم خلال التشريع فى القرآن الكريم ، ولكن أيضا توضيح طريقة البحث القرآنى فى اعداد هذا المقال البحثى ،بأن اتخيل أننى أصطحب معى أبنائى من شباب الباحثين من أهل القرآن المنتظمين فى (قاعة البحث ) فى موقع ( أهل القرآن ) لأسير بهم خطوة خطوة ، ونحن نكتب معا هذا البحث.
3 ـ ومشكلة البحث فى التشريع القرآنى أن السياق القرآنى فى التشريعات فيه تفصيل بالتكرار وفيه تداخل يجعل من الصعب على الباحث القرآنى أن يصل الى الصواب ما لم يتعرف على مفاتيح البحث القرآنى.
ومفاتيح البحث القرآنى تعتمد اولا على الباحث نفسه ؛ على إيمانه بأنه القرآن وكفى ، وليس هناك مصدر آخر للاسلام سوى القرآن الكريم ، ثم دخوله على البحث بدون أدنى فكرة مسبقة يحاول إثباتها ، واستعداده التام للتخلى عن موروثاته وعقائده إذا ظهر له بالبحث القرآنى أنها تخالف القرآن ، وعدم اهتمامه باعتراض الناس لأن توقيره وتقديسه لحق الله تعالى هو الأولى والأهم ، ولأن رضا الله جل وعلا عنده يهون الى جانبه أى إضطهاد أو أذى يلحقه من الناس .
والثانى : ان يعايش الباحث القرآن الكريم معايشة تدبر وتفكر بحيث يترسخ القرآن كله فى عقله فيستطيع أن يستدعى بذاكرته كل أو معظم الايات المتعلقة بالموضوع المبحوث قبل أن يتفرغ لها متدبرا بالورقة والقلم، وأن يتعرف على مصطلحات القرآن الكريم من داخل القرآن الكريم ،ولأن التاصيل القرآنى هدم وبناء فإن على الباحث القرآنى أن يستذكر التراث جيدا بما فيه تاريخ المسلمين السياسى و الحضارى و الاجتماعى والفكرى ، وتراثهم الفقهى وطوائفهم ، ومصطلحات كل طائفة واختلافها أوتناقضها مع مصطلحات القرآن الكريم .
4 ـ والتعرف على مناهج التشريع فى القرآن الكريم قد يكون ذلك صعبا ، ولكن الأصعب منه أن يستخلص موضوعا معينا ( كالتحريم مثلا ) من سبيكة التشريع القرآنى التى تتداخل مع بعضها ، وسط تفصيلات بأنواع التشريعات ودرجاتها و مداراتها ومستوياتها .
والصعوبة الكبرى هنا أن استخلاص فقه التحريم مثلا يستلزم من الباحث ألاّ تغريه التفصيلات والتفريعات الأخرى المتداخلة فى موضوع التحريم ، فيرى نفسه قد خرج عن الموضوع الأصلى ، أو يرى نفسه قد أشار إشارة ضمنية لموضوع فرعى وجاء فى هذه الاشارة بحكم قرآنى مجهول ، مما يعطى القارىء الناقم فرصة الهجوم والتهليل وأن يدخل فى متاهات تصرف القرّاء عن الموضوع الأصلى وهو (مثلا ) التحريم .
والان .. أبنائى الباحثين .. اربطوا الأحزمة واستعدوا الى الاقلاع الى سدرة البحث القرآنى لنتعرف على فقه التحريم فى تشريع القرآن الكريم ..بعون الله جل وعلا وتوفيقه ..
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا..
أولا : المفتاح الأول : (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ) :
1 ـ الأصل فى الاسلام هو ( لا اله إلا الله ) جل وعلا. ومنها يتفرع التشريع . وقد تكررت معانى ( لا اله إلا الله ) مئات المرات ، والمفتاح المطلوب هنا أن نقتصر منها على ما يخص موضوعنا وهو التشريع ،أى نستعرض كل السياقات التى جاء فيها عقيدة (لا اله إلا الله ) ثم نختار منها فقط ما يخص التشريع . ونجدها فى جزء من آية ، يقول فيها جل وعلا عن ذاته:(أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ)( الأعراف 54 ). أى أنه جل وعلا له وحده الخلق ،أى هو الخالق وحده ، وله جل وعلا (الأمر ) وحده ، أى هو وحده الآمر صاحب الأمر.
ومن الضرورى أن نتوقف هنا بالتوضيح القرآنى ، حتى نزداد ايمانا بالله جل وعلا ، وحتى لا نكون من الذين لم يقدروا الله جل وعلا حق قدره.
2 ـ(أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ ) : قد تبدو مفهومة ، فالله تعالى هو وحده الخالق ، فأشد الناس كفرا ـ وهو فرعون موسى على حسب علمنا ـ لم يجرؤ على الزعم بأنه خالق هذا الكون ،أوخالق هؤلاء البشر أو أنه الذى خلق نفسه، ولم يوجد ولن يوجد من يجرؤ على هذا الزعم ، بل لن يجرؤ أكبر كافر وملحد فى أى عصر أن يزعم أنه كان موجودا حين خلق الله تعالى السماوات والأرض والبشر: (مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)(الكهف 51).
ومع أن (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ) حقيقة ينصاع اليها أى عقل فأن الله جل وعلا كرّر التذكير بها ليتخذها حجة فى الرد على من يقدس البشر ويرفعهم الى مرتبة الألوهية مع الله جل وعلا، فيقول جل وعلا عن تلك الآلهة المزعومة :أنها لا تخلق شيئا بل هى مخلوقة: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ )(الأعراف191 ) ويسألهم متحديا :(هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ )( لقمان 11 ) وهو تساؤل لا يخلو من سخرية . وهناك تساؤل آخر ساخر : هل هذه الالهة المزعومة خلقت شيئا بجانب المخلوقات التى خلقها الله جل وعلا ، فوقع أولئك المشركون الكفار فى حيرة بين ما خلقه الله جل وعلا و ما خلقته تلك الآلهة ؟: (أَمْ جَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) (الرعد 16 )، ويسألهم جل وعلا : هل هناك خالق آخر غير الله :(هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ)( فاطر 3 ) ويسألهم هل تم خلقهم بدون خالق أم هم الذين خلقوا أنفسهم ؟:(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور 35 ).وطالما يؤمنون بأنه جل وعلا هو وحده الخالق فكيف يرفعون البشر المخلوق الى درجة الخالق؟ فهل يتساوى الخالق والمخلوق؟:(أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ )(النحل 17 ).
كل هذه التسلؤلات اجاباتها معرفة هى التسليم بانه لا خالق لهذا الكون إلا الله جل وعلا.. وإذن فلماذا يضعون المخلوق الى جانب الخالق ؟
وقد يشعر بعضهم من الملل من قراءة هذه الآيات ، ويعتقد عدم جدوى الاستدلال بها هنا ،لأنه يرى أنها كانت تخاطب الكفرة المشركين فى سالف العصر والأوان.
وأقول أن الايات الكريمة لا تزال تخاطب عصرنا ـ وتخاطب المسلمين بالذات أصحاب الأديان الأرضية الذين إقتطعوا جزءا من التقديس ـ المفروض أن يكون خالصا لله تعالى وحده ـ وأعطوه لمحمد عليه السلام ، ثم للصحابة و للأئمة من الشيعة والسنة ، ثم للأولياء الصوفية.. بدأوا بمحمد فجعلوه شريكا لله جل وعلا فى شهادة التوحيد ، فلم تعد شهادة واحدة توحيدية بل جعلوها ثنائية بأن صمموا على وضع اسم محمد وحده مع الله فى الشهادة ، ثم وضعوا اسمه فى الأذان للصلاة ، ثم فى واجهات المساجد ، وفى داخل الصلاة ، وفى الحج ..ولم يتوقفوا فاتسعت مساحة التقديس لتشمل الصحابة والأئمة والأولياء . ولو فرضنا أنهم أعطوا واحدا فى المائة فقط من التقديس الواجب لله تعالى الى محمد عليه السلام فقط فانهم قد جعلوا محمدا شريكا لله تعالى بنسبة 1% ، وهذا هو الشرك ولو بنسبة 1% . فكيف باتساع الشرك ليصل فوق التسعين فى المائة فى عدد من يشملهم التقديس ، وفى تعمق التقديس لمحمد بالشفاعة والتحكم فى يوم الدين ؟ وكيف بالانتصار للبخارى ضد رب العالمين ؟ .
وأقول أنه من الضرورى فى هذا البحث التذكير بهذه الآيات التى تخاطب اصحاب الديانات الأرضية من المسلمين لأنها تؤكد الفارق بين الايمان الشفهى عندهم بأنه لا اله الآ الله والايمان العملى الفعلى لديهم، وهم يقدسون فعلا البشر والحجر، بل ويعيبون على من يقدس المسيح عليه السلام ، وهم يفعلون نفس الشىء مع محمد عليه السلام، بل ويعبدون مثلهم الأحبار والرهبان والأئمة السابقين .
وأقول إنه من الضرورى للباحث القرآنى أن يزداد ايمانه بأنه لا خالق إلا الله فلا يمكن ان يكون راسخا فى العلم ما لم يكن راسخا فى الايمان بالله جل وعلا الاها لا اله غيره ولا شريك له فى ملكه وفى خلقه وفى امره ، ولو ترسخ الايمان بالله تعالى لديه فقد اقترب من ان يعطى الله جل وعلا حق قدره، ولايكون من قال فيهم رب العزة (مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ) ( الحج 74 ) . والموقف العملى للباحث هنا أنه لا يهتم برأى الناس ورضا الناس لأن الأهم عنده هو رضى الخالق رب العالمين ، والاستمساك بكلام الخالق أى القرآن الكريم حتى لا يكون ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ) ( التوبة 62 ) ( ملاحظة : الرسول هنا ليس شخص محمد ولكنه الرسالة اى القرآن الكريم كلام الله تعالى ، لذا جاء الضمير يعود على مفرد هو الله تعالى فقط فقال (يُرْضُوهُ ) ولم يقل ( يرضوهما )
بهذا الايمان الراسخ يتحرر الباحث القرآنى من عبادة اسماء قدسها المسلمون وأصبحوا يرهبونها ويرتعبون من نقدها و المساس بها مثل أسماء البخارى ومسلم والشافعى ومالك والبدوى و الرفاعى و الدسوقى والغزالى.. وبهذا الايمان الراسخ يتحرر الباحث القرآنى من إتباع تشريعات المسلمين فى أديانهم الأرضية وهم يعتدون على حق الله جل وعلا فى التشريع ، فبسبب هذا التقديس للأئمة وأسفارهم المقدسة فقد جعلوهم أربابا يحرمون ويحلّون ..
أى إن قضية التحريم تبدأ من هنا . فان كنت تؤمن فعلا بأن الله تعالى هو الخالق وأنه وحده جل وعلا (لَهُ الْخَلْقُ) فلا بد أن تخجل من نفسك لو وضعت إسم مخلوق الى جانب الله تعالى فى الشهادة أو الأذان أو فى المسجد أو فى الصلاة ، ولا بد أن تخجل من نفسك وأنت لا تقدّر الله جل وعلا حق قدره ، ولا بد أن تخجل من نفسك وأنت تتبع من قام بالاعتداء على حق الله جل وعلا فى التحريم.
وبعد (أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ) يأتى قوله تعالى (وَالأَمْرُ).
3 ـ وباستعراض كلمة (الأمر) بهذا المعنى فى القرآن الكريم نجد (الأَمْرُ)الالهى يشمل الخلق بالأمر (كن ) تابعا لصفة (الخالق ) جل وعلا ، كما يشمل الأمر فى الدين.
* الأمر بالخلق والايجاد :
وجاء الأمر بالخلق فى سياقات مختلفة ـ لا داعى للتوقف معها ـ كقوله تعالى (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )( يس ـ 82 )(وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(البقرة ـ 117) (قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ)(آل عمران 47 ) (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ )( النحل 40 )(إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ) ( مريم 35 ) (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) ( غافر 68 )
* الأمر الدينى :
وهو موضوعنا هنا . فالدين لله تعالى وحده فله جل وعلا وحده الدين(وَاصِبًا ) أى دائما (وَقَالَ اللَّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ ) ( النحل 51 :52 ).
وهناك سياقات مختلفة للأمر الدينى ، كأن يأتى بالأمر المباشر مستعملا كلمة الأمر كقوله تعالى لابليس فى ( أمر) خاص وليس تشريعا عاما : (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ) ( الأعراف 12 )
وقد يأتى الأمر عاما للبشر ولكن بأوامر خاصة كقوله تعالى : (قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ )( الأعراف 29 )(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ) ( النحل 90 )(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) ( النساء 58 )
وقد يأتى مرتبطا بالحكم لله تعالى وحده ، وباخلاص العبادة له جل وعلا وحده : (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ) ( يوسف 40 ).
ونلاحظ هنا أن الله تعالى له (الخلق ) أى الخالق وحده ، وله الأمر أى الآمر وحده ، ونلاحظ أن جزءا من الأمر يتعلق أيضا بالخلق لأنه تعالى أذا أراد أن يخلق شيئا أمر بوجوده أن (يكون فيكون) ، ومنه تم خلق هذا ( الكون ). وبالتالى فان الجزء الأكبر من (الأمر ) يتبع صفة ( الخالق ) ويبقى جزء يسير للأمر فى الدين يخص أوامر الله تعالى ونواهيه فى امور الدين .
وهذه الجزئية مهمة فى ميدان حرية البشر فى أداء التكاليف والأوامر الدينية و التشريعية، فالأمر الالهى حتمى وملزم فى الخلق فى كل هذا الكون المادى وغيره من العوالم الأخرى فى السماوات والأرض . ولكن هناك حرية للنفس البشرية ـ مثلا ـ فى الطاعة و المعصية والايمان والكفر فيما يخص الأمر الدينى أو التشريع. وهناك حتميات أربع لا شأن للانسان بها و ليس مسئولا عنها لأنها تنتمى للأمر بالخلق وكون الانسان المخلوق حيا يرزق ، وهذه الحتميات الأربع هى ما يخص الميلاد والموت و الرزق و المصائب . وما عداها فللانسان حرية مطلقة فى الطاعة و المعصية وفى الايمان و الكفر ـ أى فيما يخص الأمر الدينى. ولهذا الأمر الدينى يوم هو ( يوم الدين ) يتم فيه حساب البشر على حريتهم فى الطاع و المعصية فيما يخص الأمر الدينى.
ومثلا فان الانسان جسد ونفس . الجسد الانسانى يتبع الأمر بالخلق ، فالقلب يعمل تنفيذا لأوامر الله جل وعلا وكذا المخ والأعصاب و الجهاز الهضمى و التنفسى والدورى ..كلها أجهزة الحياة فى الانسان ولكن لا تأخذ أوامرها من صاحبها الانسان ، بل من الخالق جل وعلا الى أن يأتيها الموت. أما نفس الانسان التى تحتل وتسكن وتدير هذا الجسد وتقوده فهى حرة تماما ، لها أن تختار بين الفجور والتقوى ، وهى قابلة للعمل الصالح أو السىء، ويمكن أن تنفذ الأمر الدينى أو أن ترفضه، بل يمكن أن تزوره افتراءا على صاحب الأمر جل وعلا. ثم تفارق جسدها بالموت ثم تاتى كل نفس ترتدى ما كسبت من عمل صالح أو سىء لتلقى الله تعالى يوم الحساب.
لماذا هذا التفصيل ؟ : للتأكيد على حرية الانسان ومسئوليته فى تنفيذ أو تعطيل أوامر الله تعالى فى الدين ، وبناءا عليه فان الأديان التى يتبعها البشر مهما اختلفت فهى الى قسمين فقط: الدين الحق ، والدين الأرضى بكل تنويعاته، والذى يتحول به العصيان الى تبرير وتسويغ وتشريع ما أنزل الله تعالى به من سلطان.
وما سبق كله هو تلخيص موجز لمئات الايات القرآنية عن الدين والحرية والمسئولية الشخصية فى تطبيق الشرع الالهى . وبهذا التلخيص نستبعد كل تلك الآيات المئات لندخل الى ما يخص موضوعنا:
المفتاح الثانى : التشريع غير المأذون بالتدخل فيه : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ )(الشورى 21 )
الشرع جزء من الدين الالهى ، فالدين الالهى واحد ولكن تختلف الشرائع فى بعض التفصيلات ، وتلك الشرائع تعبر عنها الرسالات السماوية التى نزلت على كل نبى ورسول إلى أن اختتمت بالقرآن العظيم ، يقول جل وعلا : (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ) ( الشورى 13) فالشرع هنا جزء من الدين ، والدين واحد فى أساساته، ويقول تعالى ( ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) ( الجاثية 18 ) فالشريعة القرآنية جزء من الأمر الالهى الدينى: (شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْر)
ولكن المفتاح هنا هو قوله تعالى (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ) وهى تعنى بوضوح أن هناك نوعين من التشريع البشرى غير الالهى : نوع يأذن به الله تعالى ، ونوع لا يأذن به الله تعالى ،أى إنه من المسموح به للبشر أن يشرعوا لأنفسهم فى مساحة أذن الله تعالى بالتشريع فيها ، بالطبع وسط ضوابط منصوص عليها فى القرآن العزيز . وهناك أيضا تشريع بشرى يعتدى على مناطق فى التشريع لم يأذن الله تعالى لأى بشر بأن يقتحمها ، وأولئك المعتدون المشرعون فى الممنوع قد جعلوا أنفسهم شركاء لله تعالى فى ملكه وفى أمره ، وأن الذين يتبعونهم قد جعلوهم شركاء لله تعالى شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله جل وعلا.
ولكى نتعرف على المساحة المأذون فيها بالتشريع البشرى والأخرى غير المأذون فيها بتدخل البشر علينا أن نراجع كلمة (أذن ) أو (الإذن الالهى ) ومشتقاته فى القرآن الكريم.
إذن الله جل وعلا:
جاء إذن الله تعالى فى سياق موضوعات قرآنية شتى مثل الوحى والنفع والضرر والنصر والهزيمة والهداية وفى الشفاعة وفى المعجزات والآيات وفى طاعة الرسول وفى الحتميات وفى دخول الجنة . وكلها خارج موضوعنا لذا نتوقف بالتفصيل مع الإذن التشريعى الخاص بالتحريم..
الاذن فى التشريع : التشريع غير المأذون به ، وغير المسموح به هو ما يخص الحلال والحرام :
جاء الاذن فى التشريع بمعنى الأمر التشريعى الواجب كقوله تعالى فى القتال الدفاعى : ( أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ الحج 39 ـ ) وفى الحج: (وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ الحج 27).
ولكن نختار ما يخص موضوعنا عن علاقة الاذن بالتحريم، وهو قوله تعالى : ( قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ يونس 59 ـ ).
وبالتدبر فى الاية الكريمة تتضح نبرة الاستنكار على من يقوم بالاعتداء على حق الله تعالى فى التحريم و التحليل فيما أنزله جل وعلا لعباده من رزق. ونلاحظ فى قوله تعالى (مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ ) أن كلمة (رزْقٍ ) جاءت عامة تشمل كل الموارد الاقتصادية ، من معادن وعناصر ونبات وحيوان وطاقة ، فكل ذلك (رزق ) يتعيش به الانسان ، أما قوله تعالى (مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم ) ففيها جانب يختص الاعجاز العلمى فى القرآن الكريم يدور حول ماهية تلك الموارد ومن أين نزلت ،أمن الشمس وطاقتها الشمسية أو من أصل الشمس حين انفصلت عنها الأرض.. ومرجع ذلك لأهل الاختصاص ، وهو ليس موضوعنا على أى حال. والجانب الذى يخصنا هو أن الله تعالى وهو الذى رزقنا بهذه الموارد قد حصر وقصر تحليلها وتحريمها على ذاته وحده جل وعلا ، بمعنى أن استعمال مصطلح التحريم والتحليل لا يكون إلا لله تعالى وحده ، فلا يملك أى شخص أن يقول هذا حلال أو حرام هنا ،لأن الله تعالى لم يعط إذنا لأحد فى مجال التحريم والتحليل ،أو بالتعبير الالهى : (قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ ) ومن ثم فان الذى يعطى نفسه سلطة التحريم و التحليل يكون قد افترى على الله تعالى كذبا (أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ) وينتظره الخلود فى النار يوم القيامة (وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
وقد تكرر نفس المعنى فى قوله تعالى (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) ( النحل 116 : 117) ووصف جل وعلا ذلك بالاعتداء فقال للمؤمنين يأمرهم بالأكل من الطيبات ـخارج نطاق الأربع المحرمات ـ ويحذرهم من تحريم تلك الطيبات التى أحلها الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّبًا وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ) ( المائدة 87 ـ )
التحريم حق لله تعالى وحده :
ولأن سلطة التحريم لله تعالى وحده فقد جاء التعبير القرآنى عنها بصياغات خاصة ترتفع بها الى الشأن الالهى الذى لا سبيل للبشر فى التعرض له. ومن أمثلة الصياغات :
1 ـ إعتبار التدخل أفتراءا على الله تعالى واعتداءا على حقه ، كما سبق فى الايات السابقة .
2 ـ التحذير من الاقتراب ـ مجرد الاقتراب خطوة واحدة ـ من هذا الميدان غير المأذون به ، واعتبار الاقتراب من تلك المنطقة المحظورة اتباعا لخطوات الشيطان ينجم عنه الافتراء بالكذب على الله تعالى :(يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُواْ مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلالاً طَيِّبًا وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ )( البقرة ـ 169 ). والقياس بهذا هو اتباع لخطوات الشيطان ،إذ يمهد ويبرر إضافة محرمات حكم الله تعالى أنها من الطيبات الحلال.
3 ـ اعتبار التدخل فى منطقة الحلال و الحرام (زيادة فى الكفر ) كقوله تعالى (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ)(التوبة 37 )
4 ـ تذكير المؤمنين بالقرآن بالعقاب الذى أنزله الله تعالى بأهل الكتاب حين اعتدوا على حق الله تعالى فى التحريم و التحليل (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا) ( النساء 160 ) (وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ الأنعام 146 ـ )(وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ النحل 118 ).
5 ـ ربط الاعتداء على حق الله تعالى فى التحريم بالشرك ، والإخبار مقدما عن ندم المشركين يوم القيامة على وقوعهم فى الشرك والتحريم ( سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ )(الأنعام 148 )(وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ النحل 35 ).
6 ـ التنويه مقدما بفظاعة العذاب الذى سيعانيه فقهاء التحريم الذين أحلوا ما حرّم الله وحرّموا ما أحل الله ، وكيف انهم سيكونون خصوما لله تعالى ، وهو جل وعلا القاضى الأعظم يوم القيامة ، يقول تعالى فى سياق التحريم و التحليل ( إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً أُولَـئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ أُولَـئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ.)(البقرة: ـ 174 ،175 ).
7 ـ الصياغة الخاصة فى تشريع المحرمات ، كأن تأتى باسلوب القصر والحصر أو بقاعدة النفى والاستثناء أو حصر المحرمات داخل سور جامع مانع كاستثناءات واعتبار ما خلاها حلالا يحظر تحريمه..الخ . والتفصيل فى هذا الموضوع سيأتى بعونه سبحانه وتعالى فى المقال البحثى القادم عن ( الدين السنى و التشريع فيما لم يأذن به الله جل وعلا ) .
المفتاح الثالث : التشريع البشرى المأذون فيه : (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ )(الشورى 21 )
التشريع عموما ينقسم الى ثلاثة أقسام : الفرض المأمور به كالعبادات ، والمحرم المنهى عنه كالمحرمات ، وقد رأينا أنها منطقة محظور التعرض لها .. ويبقى ما بين الواجب و الحرام ، وهو ما يمكن تسميته بالمباح ..وفى إطار هذا المباح يوجد ما يعتبره العرف عيبا ( مثلما فعل الواد محمود أبو قاعود فى التبول أمام الناس) أو يكتشف المجتمع أنه ضار كالتدخين وادمان المخدرات ،أو يكون ضروريا لتنظيم أمور المجتمع مثل قوانين المرور والهجرة والصحة والجنسية والتعليم والخدمات والرى والصرف والزراعة والجمارك والضرائب والاسكان والشركات والاتصالات والنشروالاعلام والتقاضى والرعاية الاجتماعية وممارسة العمل السياسى واستغلال الموارد الطبيعية..الخ ..
هنا يمتنع أن نقول (حرام أو حلال ) .. ولكن نستعمل مصطلحات القرآن الكريم فنقول عن الضار الذى نعيبه ونستنكره ( منكر ) ونقول عن المفيد ( معروف ). وهنا أيضا ندخل فى دائرة جديدة من التشريع القرآنى وهى دائرة (الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر ) وهى التى تقوم بسد الفراغ بين الحرام والواجب ، وهى التى جعلها الله تعالى مجالا للتشريع البشرى المأذون به والمسموح به.
المفتاح الرابع : العرف والمعروف والمنكر :(يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ )(الأعراف 157 ).
فى المبحث السابق عن الحلال و الحرام فى تشريع الطعام قلت ( ولأنها قضية عقيدة ـ أى التحريم ـ ولأنها تخص مقام الألوهية فقد جاء اللوم والتأنيب للنبى محمد فى سورة التحريم حين امتنع النبي عن تناول بعض الطعام وحرمه علي نفسه ، فنزل الوحي إليه يؤنبه قائلا (يا ايها النبي لم تحرم ما احل الله لك :التحريم 1)أي ان التحريم حق لله تعالي وحده ويقوم الرسول بتبليغه عن الله ولا يملك النبي الا ان يتبع الوحي ويطيعه.
والرسول هو النبى حين ينطق بالوحى القرآنى ، ولذا فطاعته طاعة للوحى ،وبعد موته فان الرسول هو الرسالة أى القرآن القائم بيننا محفوظا من لدن الله جل وعلا ، وهو النور الذى يتبعه المؤمنون الى قيام الساعة .وهذا الرسول أو تلك الرسالة ـأو القرآن الكريم فيه تحليل الطيبات وتحريم الخبائث ، وسبق التاكيد على أن الطيبات لا تعنى سوى الحلال من الطعام ن وبالتالى فان الخبائث هى المحرمات الأربع المحددة . وهذا معنى قوله جل وعلا عن الرسول محمد خاتم النبيين :(الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ )( الأعراف 157 ). وبمقارنة هذه الاية الكريمة من سورة الأعراف مع الآية الأولى من سورة التحريم التى تؤنب (النبى ) على تحريم ما أحل الله له ، يتضح لنا الفارق بين النبى و الرسول ، فالنبى هو شخص محمد وعلاقاته و تعاملاته فى المجتمع الذى يحيط به ،أما الرسول فهو النبى محمد حين كان ينطق بالرسالة ويطبقها،لذا فان الطاعة تأتى للرسول وليس النبى ، ولذا فان التأنيب يأتى للنبى وليس الرسول.) انتهى ..
ونضيف هنا أن الله تعالى قد وصف فى حديثه لموسى عليه السلام تشريع القرآن الكريم بثلاثة ملامح هى : (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ) ( الأعراف 157 )،أى هى الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وتحريم الخبائث وتحليل الطيبات ، و التيسير ، وعليه فاذا كان التحريم والتحليل محظورا على البشر فان هناك مجالا مسموح فيه للبشر فى تنظيمه وتقنينه حسب المتعارف عليه بينهم على انه عرف أو معروف أو منكر. وفى مكة وقبل نزول تفصيلات التشريع قال تعالى لخاتم الأنبياء ـ عليهم السلام ـ (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ )( الأعراف 199 ) ..
وليس التشريع البشرى المأذون به فى نطاق الأمربالمعروف و المنكر مفتوحا للهوى ولكنه محكوم بالمقصد الأعلى فى تشريع كل الرسالات الالهية وهو أقامة العدل والقسط (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(الحديد 25 )، وهو محكوم أيضا بالتيسير الذى تميزت به الرسالة السماوية (القرآن )، وهو المشار اليها فى الملمح الثالث فى الآية المفتاح هنا : (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ).
المفتاح الخامس : فى تطبيق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) (آل عمران 110 )
المعنى ان المسلمين يمكن ان يكونوا خير أمة أخرجت للناس لو أنهم قاموا بتطبيق الأمر بالمعروف و الايمان بالله تعالى وحده الاها لا شريك له فى ملكه ، وقد كانوا كذلك فى حياة النبى محمد عليه السلام فى المدينة . ولكن حال المسلمين منذ قرون وحتى اليوم يقطع بانهم أبعد عن أن يكونوا خير أمة أخرجت للناس لأنهم فى تطبيقهم للأمر بالمعروف و النهى عن المنكر والايمان الحق بالله تناقضوا مع القرآن الكريم ، ثم سوغوا و شرعوا هذا الخروج عن شرع الله تعالى بوحى مزيف سموه السّنة . وفى عصر النبى محمد عليه السلام كان مجتمع المسلمين ينبض بتطبيق الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، يقوم به المؤمنات والمؤمنات يتواصون جميعا بالحق و الصبر وفقا لما جاء فى سورة العصر ، يقول تعالى (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) ( التوبة 71 ) وفى المقابل كانت الحرية التى تسود الدولة الاسلامية تسمح للمنافقين والمنافقات بحرية الدعوة للمنكر ورفض المعروف: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ) (التوبة 67 ). ثم بموت النبى محمد عليه السلام تغير الحال فشيئا الى أن علا الباطل وتوارى الحق ،بل أصبح الحق القرآنى منكورا..ويعانى من يقول به من دعاة الاصلاح السلمى. وهناك مبحث قادم ـ بعونه تعالى ـ عن تشريع الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر بين القرآن والدين السّنى ..ونقتصر منه هنا على هو ضرورى لموضوعنا فى فقه التحريم ، ونضعه فى نقاط سريعة:
ملامح الأمربالمعروف والنهى عن المنكر :
1 ـ فيما يخص الفرد المسلم فانه امر قولي باللسان فقط ،فاذا اصر الشخص علي موقفه فهذا شأنه طالما ان الضرر لا يمتد الي الغير ،فان امتد ضرره الي الغير وأصبح جانيا مستحقا للعقوبة المناسبة فقد خرج الأمر من اختصاص الفرد الى مهمة الدولة الاسلامية فى مواجهة ذلك الجرم ،فاذا كان جريمة منصوصا على عقوبتها فى القرآن فقد خرج الامر من دائرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الي دائرة العقوبات المستحقة علي جريمة ارتكبها مجرم ،والعقوبات المنصوص عليها في الاسلام تخص السرقة ،وقطع الطريق ،والقتل ،والزنا ،وسب النساء العفيفات. وإذا هناك الضرر لا يتعلق بالجرائم السابقة لكنه يظل ضرا يلحق بالغير أو بالشخص فانه يمكن للدولة الاسلامية تقنين عقوبة مناسبة لهذا الضرر فى إطار العدل .أى هنا ارتباط الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالعدل.
2 ـ وهنا أيضا ارتباط للأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بالحرية ، فهو امر ونهي باللسان ثم اعراض عمن لم يلتزم تطبيقا لقوله تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ :المائدة 105)والنبي عليه السلام قال له ربه عن اصحابه المؤمنين (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي كن لينا مع اصحابك وهينا ،فماذا يحدث اذا عصاه اتباعه المؤمنون ؟.هل يضربهم ؟هل يحكم بكفرهم ؟ نقول الاية التالية ( فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ )(الشعراء 215:216 )أي فان عصوه فليس عليه إلا ان يتبرأمن عملهم المنكر ،لم يقل فان عصوك وفعلوا منكرا فعاقبهم وقم بتغيير المنكر بيدك أو لسانك ، بل حتي لم يقل له فان عصوك فتبرأ منهم ،ولكن تبرأ فقط من عملهم المنكر ،وليس منهم.
3 ـ ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ فى النطاق الفردى ـ ليس وظيفة رسمية او شعبية لطائفة معينة تحتكر لنفسها دون الاخرين رسميا او شعبيا الامر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولكن المجتمع كله يتواصى بالحق ويتواصى بالحق وبالصبر طبقا لما جاء في سورة العصر التي تصف في ايجاز ملامح المجتمع المسلم ، ولذلك فان الله تعالي يهيب بالامة المسلمة كلها ان تأخذ نفسها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يقول تعالي (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران 104)والخطاب السابق لهذه الاية والخطاب التالي بعدها جاء عاما للامة كلها وليس قصرا علي طائفة من الامة دون الاخرين . واذا كان البشرغير معصومين من الخطأ وإذا كان الاسلام يحارب وجود الكهنوت فليس منتظرا ان يحترف بعضهم النصيحة للباقين ويستنكف ان ينصحه احد ،والا كان ممن ينطبق عليه قوله تعالي (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ )(البقرة 44).
وخارج فضيلة الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر فان من وظائف الدولة الاسلامية وجود ما نعرفهم اليوم بالشرطة للقبض على من يقترف المنكر المستحق للعقوبة طبقا للقوانين التى تصدرها الدولة الاسلامية ؛مثل قوانين الضبطية القضائية الاجرائية وقوانين المحاكمة و التقاضى.
الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فى ميدان التقنين والتطبيق.
تفصيلات تطبيق الشريعة الإسلامية ستأتى – بعون الله تعالى – فى بحث قادم . ونوجز منه بعض نقاط خاصة بموضوع الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
1 ـــ ( الأمر ) و ( النهى ) يحمل فى طياته عنصر التطبيق سواء كان فرديا بالقول والنصح والتواصى بالحق ، أوكان ملزما بقانون تشرعه الدولة الإسلامية فى إطار العدل وحفظ الحقوق وعلى رأسها حق الحرية الشخصية وعدم الإضرار.
2 ـــ المعروف والمنكر له مستويان : المستوى القيمى المجرد أى المتعارف على أنه عدل وحق وقسط ... والمستوى العملى ، حيث يتم تطبيق القانون فى إطار المتعارف عليه والمناسب لمن يخصهم الأمر . وعلى سبيل المثال يقول الله تعالى "(وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) ( النساء 6 )أى فللوصى الفقير على مال اليتيم أن (يأكل بالمعروف ) إذا كان الوصى فقيرا،أى تحديد مرتب عادل (مراعاة للعدل كقيمة اسلامية عليا ) ومراعاة للعدل فى التطبيق تقوم به الجهة المختصة فى الدولة الاسلامية فى تحديد مرتب مناسب للوصى بالعملة المحلية المستعملة لأهل البلد بما يتفق مع حال الوصى ودرجة فقره واحتياجاته ، وعلى المستوى العام للدخل ومقدار تركه اليتيم .... وبالتالى فإن القانون هنا يقدر قواعد تقريبية للمرتب الذى يتم صرفه بالمعروف للوصى الفقير ، وللقاضى أن يقرر هذا المعروف وفقا للحالة المعروضة عليه.
3 ـــ المعروف والمنكر أيضا فى مستواه العملى يتعرض للتغيير حسب الزمان والمكان . فالولد محمود أبوقاعود حين تبول فى ميدان عام بالقاهرة كان عمله منكرا ، ولكنه لو فعل ذلك أمام الناس فى قرية متخلفة فى أدغال أفريقيا لكان عرفا معتادا ، ولو قام الواد عطوة بتقبيل زوجته علنا أمام الناس فى قرية مصرية لاستنكر الناس عمله ولكن ذلك لا يستوجب إنكارا فى الغرب ، والتدخين كان عرفا مستحسنا منذ عدة عقود ولما تبين خطره على الصحة العامة إنتقل إلى خانة المنكر،والمخدرات لم تكن مستهجنة قديما فأصبحت الآن من أهم الجرائم .
4 ـــ هذا التغير فى مفهوم المعروف والمنكر ينعكس على تقنينه، ليس فقط فى دائرة العقوبات فيما يخص المنكر ، ولكن فى دائرة المعروف المباح ، والمباح النافع والضرورى للناس .
فالمباح من المعروف يحتاج إلى تنظيم ، ونحن هنا نتحدث عن مصالح الناس المتشابكة فى حياتهم الإجتماعية والإقتصادية ... وهذا المباح هو القسم الأعظم من التشريع المأذون به من الله تعالى للناس ، ( خارج الحلال والحرام والعبادات ) ، وهو فى تنظيمه يخضع لمقصدين أساسيين فى التشريع الإسلامى وهما العدل والتيسير ...
5 ـــ وبالإضافة إلى المباح المشار إليه فإن تقنين المعروف أو العرف له دخل أساس بتفصيلات التشريع المذكور فى القرآن الكريم .
بعض هذه التفضيلات لا تحتاج إلى تقنين من الدولة الإسلامية لأن تطبيقها يعتمد على ضمير المسلم نفسه ، وذلك مثل الفدية التى يدفعها من يحنث باليمين متعمدا (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)( المائدة 89 ) ومثل الوصية الواجبة قبل الوفاة وأن تكون بالمعروف. (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) (البقرة 180 ) ومثل معاملة الزوجة المطلقة بالمعروف سواء واصل حياته معها أو انتهى الطلاق بالانفصال التام : (وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( البقرة 231 ). ولأن التطبيق مرجعيته لضمير المؤمن فقد جاء التاكيد على التقوى .
ولكن تفصيلات قرآنية أخرى تحتاج إلى تقنين الدولة الإسلامية على مستوى التطبيق ،أى يكون القانون البشرى هنا مذكرة تفسيرية لتنفيذ ما جاء فى التفصيلات التشريعية القرآنية ، أى يقوم التقنين بوضع آلية للتنفيذ بما يناسب حال المجتمع ، ثم يقوم القاضى حين يحكم بتنزيل حكم القانون على الحالة المعروضة أمامه. أغلب هذه التفصيلات تاتى فيما يخص حقوق الغير، فعن حق الزوجة المطلقة فى فترة العدة يقول تعالى :( أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ ) ( الطلاق 6 ). يقول تعالى هنا (وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ ) ،أى إن تطبيق الأوامر السابقة يخضع لتشاور ينتج قانونا فى كيفية التنفيذ ،ثم هيئة لتطبيق ذلك المعروف. وفى كل الأحوال يجب مراعاة العدل بالمعنى القيمى وبالمعنى التطبيقى أى ما يناسب الزوجة المطلقة فى السكن و النفقة ، وما يناسب امكانات زوجها.
6 ـــ ونصل فى النهاية إلى حق الدولة الإسلامية فى التشريع والتقنين والتطبيق فى إطار المسموح به والمأذون به من الله تعالى خارج المحرمات والفرائض التعبدية ، وفى إطار المباح والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وهو هامش واسع ومتحرك فى إطار العدل والتيسير ... ولكن بدون إستعمال مصطلح الحلال والحرام ، بل المعروف والمنكر ، وهذا التقنين المأذون به يدخل ضمن بنود الشريعة الإسلامية .
وفى موضوع التدخين ـ مثلا ـ فواجب الدولة الاسلامية سن قانون يعتبره منكرا وليس حراما ، ويتأسس القانون هنا على العدل وتحقيق المصلحة ومنع الضرر، وبما لا يمس الحرية الشخصية ،أى مثلا بتحريمه على الأطقال والقاصرين ، وفى الأماكن العامة ، ووضع عقوبة مالية على المدخن المخالف للقانون. وبالنسبة للمخدرات توضع عقوبات تناسب وتتدرج مع خطورتها ، فليس الحشيش فى ضرره كالأفيون ، وليس الأفيون كالكوكايين والهيروين حيث يتلامس المنكر مع جريمة القتل ، وعلى أهل الاختصاص تحديد ذلك ، ثم يصدر القانون بالديمقراطية ليصبح سارى المفعول.
7 ـــ ولكن ما هى تلك الدولة الإسلامية التى تطبق شريعة الإسلام .
هى دولة الديمقراطية المباشرة ،وليس مجرد الديمقراطية التمثلية النيابية ، وهى دولة حقوق الانسان ، وأهمها حق الانسان المطلق فى اختيار عقيدته يؤمن بما يشاء ويكفر كيف شاء طالما لا يقوم باكراه أحد فى الدين ، وطالما عاش مسالما لا يعتدى على أحد ، وحسابه عند ربه يوم القيامة.
وقد سبق الإسلام فى تعريف الدولة بأنها عقد بين الفرد والنظام الحاكم، وأن هذا العقد يستلزم التزامات معينة من الفرد مقابل قيام الدولة برعاية الفرد وحمايته .
وردت فى السور التى نزلت فى المدينة إشارات إلى وجود عقد أو ميثاق أو عهد بين افراد المسلمين والنبى يتضمن تعهد كل فرد بطاعة القائد وهو النبى محمد عليه السلام ؛ ليس طاعته كشخص وفرد ولكن طاعة القيم الأخلاقية المنبثقة عن إلايمان الحق بالله تعالى واليوم الآخر، تلك هى البيعة العامة . ثم هناك بيعة خاصة طارئة مؤقتة تستلزمها ظروف المواجهة العسكرية حين يتعرض المجتمع المسلم إلى هجوم لابد من صده ، وحينئذ يتطلب الأمر بيعة خاصة للإلتزام بالدفاع عن الدولة.وفى كل الأحوال ( البيعة العامة والبيعة الخاصة ) فإنها بيعة لله تعالى ؛ فمن يبايع النبى – أو القائد – إنما يبايع الله ، أى يلتزم أمام الله تعالى بالوفاء بالعهد والميثاق . وبالتالى فإن ضميره الشخصى هو الرقيب عليه فى مدى هذا الإلتزام بهذا العهد، أى أنه مسئول أمام الله تعالى يوم القيامة فقط فى مدى وفائه بهذا العقد أو العهد أو الميثاق أو البيعة.وفى كل الأحوال أيضا فإن تلك البيعة العامة والخاصة تشمل الرجال والنساء معا بما يعنى المساواة بين الرجل والأنثى .
هذا العهد والميثاق أو البيعة العامة كانت لكل فرد يدخل فى إطار الدولة الإسلامية . وخلافا لما اعتاده العرب وما اعتادته ثقافة العصور الوسطى أعطيت المرأة نفس حق المواطنة الايجابية وحق المشاركة السياسية فى الدولة الإسلامية، فقد كان عليها أن تبايع نفس المبايعة ، وتضع يدها على يد النبى تعطيه البيعة. وهذا ما جاء فى سورة الممتحنة ( 60 /12 )( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) .
ولأنه أمر جديد لم يكن معروفا من قبل فإن الخطاب نزل للنبى محمد يوضح كيفية بيعة النساء للنبى ، فالمؤمنات إذا أتين مهاجرات ليصبحن مواطنات فى الدولة الجديدة فعليه أن يبايعهن على عدم الوقوع فى المحرمات (أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يقعن فى بهتان) والطاعة فى المعروف أى لا يعصين النبى فى معروف ، فإذا بايعن النبى على هذه البنود فعليه أن يستغفر لهن الله على ما سبق من ذنوبهن، لأنهن قد دخلن فى مرحلة جديدة من حياتهن. وهذا ما ينطبق على الرجال أيضا. .
والواضح أن كل بنود البيعة للمؤمنين والمؤمنات تتلخص فى تطبيق الإسلام والإيمان فى العقيدة وفى السلوك . تطبيق الإسلام فى العقيدة بعدم الوقوع فى الشرك والكفر ،أى بعدم الإعتقاد فى إله إلا الله الذى لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، والإيمان والإسلام سلوكا بمعنى طاعة الله تعالى فى التعامل مع البشر بعدم الإعتداء على حياة الأخرين وأعراضهم وأموالهم أى التمسك بالقيم العليا المتعارف عليها من العدل ومنع الظلم .
إذن بنود البيعة تتلخص فى طاعة الله تعالى ، وهنا تكون المساواة بين المسلمين جميعا بما فيهم النبى نفسه، فهم مأمورون جميعا بطاعة الله الواحد عز وجل الذى لا شريك له فى الملك. وعليه فإن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو تناصح بالتمسك بالقيم العليا المتعارف عليها والإبتعاد عن الرذائل المستنكرة من جميع الناس، وهذا التناصح يعنى أن ينصح كل مؤمن أخاه أو أخته ، وأن تنصح كل مؤمنة أخاها أو أختها. وهنا مساواة المؤمنين جميعا رجالا ونساء ؛ كلهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( 103 / 3 ) ،أى ليست هناك طائفة تأمر الأخرين ولا يأمرها أحد.ليس فى الاسلام طائفة تحتكر إصدار الأوامر وتضع نفسها فوق القانون أو فوق الجميع بقوة القانون.
وبالتالى فليس هناك طاعة لشخص أو لحاكم حتى لو كان النبى نفسه . فالأية تقول عن أحد بنود البيعة عن النساء " ولا يعصينك فى معروف " لو قالت الأية " ولا يعصينك " فقط لكان ذلك فرضا بطاعة النبى طاعة مطلقة. ومصطلح النبى يعنى شخص النبى محمد وعلاقاته بمن حوله، لذا كان العتاب واللوم يأتى بصفة النبى بينما الطاعة تأتى مرتبطة بالرسول والذى يعنى أيضا الرسالة والقرآن. ولأن النبى هنا هو شخص النبى محمد فإن طاعته كشخص مرتبطة بأن تكون فقط فى "معروف "، والمعروف هو المتعارف عليه من القيم العليا التى جاء بها القرآن والتى تجلت فى سائر بنود البيعة . وإذا كانت طاعة النبى محمد – وهو القائد – مرتبطة بالمعروف وليست له طاعة كشخص ، فإنه لا يجوز لأى شخص أن يطلب من المؤمنين طاعته دون قيد أو شرط. ولذلك فقد اشتق الفقهاء المسلمون الأحرار قاعدة سياسية تقول " لا طاعة لمخلوق فى معصية الخالق " أى لا يصح الطاعة إلا فى إطار طاعة الله تعالى وحده ، فالمطاع هو الله تعالى وحده، ومن يطع القرآن ـ أو الرسالة الالهية الخاتمة بعد موت الرسول محمد ـ فقد أطاع الله تعالى ( 4 /80 ) وكل من يأمر بما جاء فى القرآن فيجب طاعة ما ينطق به من القرآن ، وليس طاعته هو كشخص. وهذا معنى الأمر بطاعة الله ورسوله وأولى الأمر، ( 4 / 59 ) .
يسرى هذا على البيعة العامة فى الدخول فى مواطنة الدولة الإسلامية كما يسرى على البيعة الخاصة التى تفرضها ظروف الحرب . هذه هى الدولة الاسلامية التى نتحدث عنها ، وعن حقها فى التشريع .
8 ـ ويبقى السؤال الهام فى حق تلك الدولة فى إلزام المواطن بقوانينها فى إطار الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟
فالمفهوم أن الفرد المسلم ملتزم بالشريعة المذكور تفاصيلها فى القرآن الكريم ، فهل هو ملزم أيضا بتنفيذ القانون الذى تسنه تلك الدولة الاسلامية فى إطار المأذون به ؟
نقول نعم وبالتاكيد ،لأن قيام تلك الدولة تم بناء على عقد بين الفرد و الدولة ، ولأن سن القوانين لا بد أن يمر بالشورى أى الديمقراطية المباشرة ، فاذا صدر قانون طبقا لآلية الشورى و الديمقراطية أصبح ملزما للمؤمن :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ) ( المائدة 1 ) وأخيرا لأن تلك القوانين البشرية التى تصدر بهذه الالية تكون شريعة اسلامية ، وبها يظل شرع الله تعالى ساريا فوق الزمان والمكان ، وصالحا لكل زمان ومكان ..
السطر الأخير:
كل ما قلناه هنا عن الشريعة الاسلامية ( بشقيها القرآنى و البشرى ) يتناقض تماما مع الشريعة السنية .. وموعدنا فى المقال التالى ( الدين السنى و التشريع فيما لم يأذن به الله جل وعلا ) .