وداعًا فلسطين، ووداعًا حل الدولتين»؛ هكذا لخص الكاتب البريطاني الشهير «روبرت فيسك» إعلان الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» اعتراف بلاده بالقدس عاصمة أبدية لإسرائيل، في مقاله المنشور في صحيفة «الإندبندنت» البريطانية. وفي رده على سؤال من محطة إذاعية في دبلن طلبت تعليقه على ما أعلنه ترامب، أضاف «ليس بحوزتي مفتاح مستشفى المجانين!».
يؤكد فيسك أن ترامب أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق، وأشار إلى أن الرجل تحاشى نطق كلمة فلسطين، فكان يقول «إسرائيل والفلسطينيون»، مما يعني أن حلم «الدولة الفلسطينية» قد تبخر. يقول فيسك إنه تلقى اتصالاً من امرأة فلسطينية تعيش في بيروت وقالت له في أسى: «هل تذكر فيلم مملكة الجنة Kingdom of Heaven للعبقري ريدلي سكوت، لقد باتت الآن مملكة جهنم!».
لكنها لم تصبح مملكة جهنم للتو، يشدد فيسك، إذ يعيش الفلسطينيون في جهنم منذ 100 عام، منذ إعلان بلفور عن دعم بريطانيا لوطن يهودي في فلسطين، وتعزز ذلك عندما عبرت رئيسة وزراء بريطانيا، تيريزا ماي، عن «فخرها» بهذا الدعم، ليصبح تجريد العرب الفلسطينيين من أراضيهم منهجًا راسخًا. وكالمعتاد، كان الرد العربي واهنًا، محذرًا من «مخاطر قرار ترامب غير المبرر وغير المسؤول»، هذا الرد السقيم الذي جاء على لسان العاهل السعودي، الملك «سلمان»، خادم الحرمين الشريفين، وثالثهما المسجد الأقصى، لكنه – أي الملك سلمان – تجنب الإشارة إليه. وأضاف فيسك، من المؤكد أنه سيتم تشكيل «لجنة طوارئ» في الأيام المقبلة، من قِبل المؤسسات العربية والإسلامية، للتعامل مع الحدث، ولكن كما نعلم جميعًا، لا قيمة لذلك.
يشير فيسك إلى أنه طبّق نظرية التحليل اللغوي للمفكر وأستاذ اللسانيات «نعوم تشومسكي» على خطاب ترامب، فكان أول ما رصده – كما ذكر أعلاه – غياب كلمة «فلسطين». مضيفًا أنه وبالنظر إلى وجود المستعمرات اليهودية في الضفة الغربية، يتضح للجميع نية إسرائيل في عدم السماح بقيام دولة فلسطينية في المستقبل. ولكن هذا لا يمنح لترامب أي عذر. وأضاف فيسك، أن روح إعلان «بلفور» – الذي أشار إلى اليهود و«المجتمعات غير اليهودية القائمة في فلسطين» – قد تجلت في خطاب ترامب، الذي قلل مرتبة التواجد الفلسطيني العربي إلى «فلسطينيين».
ويقول الكاتب أن ترامب استهل خطابه بالمغالطات، عندما تحدث عن «التفكير الجديد جدًا» و«النهج الجديد»، إذ لا جديد في منح القدس لإسرائيل، لأن الإسرائيليين كانوا يؤكدون على هذا منذ عقود. لكن الجديد هو أن ترامب تخلى عن الحياد في مفاوضات السلام، إرضاءً لحزبه وللمسيحيين الإنجيليين والأمريكيين المؤيدين لإسرائيل. ويشدد فيسك على أن الرؤساء السابقين أجلوا تنفيذ قانون مرره الكونجرس عام 1995 بشأن القدس، ليس لأن تأخير الاعتراف بالقدس سيعزز قضية السلام، ولكن لأن الاعتراف ينبغي أن يعطي المدينة باعتبارها عاصمة لشعبين ودولتين – وليس دولة واحدة.
ويضيف فيسك، أن ترامب يُخبرنا أن قراره هذا «في مصلحة الولايات المتحدة»، دون أن يفسر كيف سيعود هذا القرار بالنفع على واشنطن، بعد أن انسحبت أمريكا فعليًا من مفاوضات السلام المستقبلية، وتخلت عن دور الوسيط النزيه. فمن الواضح أن ذلك لن يساعد أمريكا، لأنه سيحد من قوة الولايات المتحدة وهيبتها ومكانتها في الشرق الأوسط، لكنه قد يساعد في تمويل حزب ترامب. ثم يدعي أنه «مثل كل دولة أخرى ذات سيادة»، يحق لإسرائيل أن تقرر عاصمتها، لكن هذا الحق لا يُطبق، عندما يريد شعب آخر – العرب بدلاً من اليهود – اختيار المدينة باعتبارها عاصمة لهم «أو على الأقل شرقها»، ليظل هذا الحق معلقًا حتى يتحقق السلام النهائي.
تدّعي إسرائيل أن القدس كلها عاصمتها الأبدية، ويدّعي نتنياهو أن إسرائيل هي «دولة يهودية»، على الرغم من أن أكثر من 20% من سكان إسرائيل هم من العرب المسلمين الذين يعيشون داخل حدودها، ولكنّ اعتراف أمريكا بهذا الادعاء يعني أن القدس لا يمكن أن تكون أبدًا عاصمة لأمةٍ أخرى. وهنا تكمن المشكلة – ينوِّه فيسك – إذ ليس لدينا فكرة عن الحدود الحقيقية لهذه «العاصمة». وقد اعترف ترامب بهذا الأمر عندما قال «نحن لا نتخذ موقفًا بشأن حدود السيادة الإسرائيلية في القدس»، أو بعبارة أخرى، فقد اعترف ترامب بسيادة إسرائيل على كل القدس، دون أن يعرف بالضبط أين تقع حدود القدس.
في الواقع، ليس لدينا أدنى فكرة عن مكان الحدود الشرقية لإسرائيل. هل تقع على طول الخط الأمامي القديم الذي قسم القدس؟ أم تقع على بعد ميل أو نحوه شرقًا من القدس الشرقية؟ أم أنها تقع على طول نهر الأردن؟ وفي كل الأحوال، وداعًا فلسطين. منح ترامب إسرائيل الحق في مدينة بأكملها، دون أن يكون لديه أدنى فكرة، عن الحدود الشرقية لها ناهيك عن حدود القدس.
البلدة القديمة في القدس
يضيف فيسك، أن العالم سعيد لقبول تل أبيب عاصمة مؤقتة لإسرائيل، والادّعاء بأن أيَّا من أريحا أو رام الله، عاصمة السلطة الفلسطينية بعد وصول عرفات إلى هناك، ما دامت القدس غير معترف بكونها عاصمة إسرائيلية، رغم ادعاء إسرائيل ذلك. ثم يأتي ترامب فيقول إن «الناس من جميع الأديان أحرار في العيش والعبادة في هذه الديمقراطية». بيدَ أن أكثر من مليوني ونصف مليون فلسطيني في الضفة الغربية لا يستطيعون ممارسة شعائرهم الدينية في القدس دون تصريح خاص، كما أن سكان غزة محاصرون، ولا يمكنهم حتى الحلم بالوصول إلى المدينة، وبرغم ذلك؛ يدّعي ترامب أنّ قراره هذا مجرد «اعتراف بالواقع».
يدعي ترامب أن السفارة الجديدة هي «تحية رائعة للسلام»، وبالنظر إلى الملاجئ التي تحولت إليها معظم سفارات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، ستكون السفارة مكانًا محصنًا مع الكثير من المخابئ الداخلية لموظفيها الدبلوماسيين؛ ولكن بحلول ذلك الوقت، سيكون ترامب قد غادر الرئاسة.
كعادته، تفوه ترامب بالهراء – يقول فيسك – إذ قال إنه يريد «صفقة رائعة للإسرائيليين والفلسطينيين، مقبولة من كلا الجانبين»، على الرغم من أن ذلك أصبح مستحيلًا بعد اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل قبل مفاوضات الوضع النهائي، الذي لا يزال العالم يحلم بحدوثه. يتساءل فيسك: إذا كانت القدس من أكثر القضايا حساسية في هذه المفاوضات، وإذا كان هناك خلاف ومعارضة حول الإعلان الأخير – مثلما قال ترامب – فلماذا اتخذ القرار أصلاً؟
يؤكد فيسك أنه لم يعد يتحمل أكاذيب خطاب ترامب، الذي قال فيه إن «مستقبل المنطقة قد أعاقته إراقة الدماء والجهل والإرهاب»، إذ إن من المفترض أن يستجيب الناس للخلافات بالنقاش المنطقي وليس العنف، متسائلًا في سخرية: «ما الذي سينتج إذن عن الاعتراف بالقدس عاصمة إسرائيل؟ حوار هادئ مثلاً؟».
ثم يتساءل فيسك أخيرًا في تعجب عما كان يدور في ذهن ترامب – الذي وصفه بالأحمق البائس – عندما اتخذ هذا القرار؟، ثم يعود ويجيب: بالتأكيد، كان يريد الإيفاء بوعوده الانتخابية. ولكن كيف قرر أن يفي بهذا الوعد في حين لم يستطع أن يقول في أبريل (نيسان) الماضي، إن القتل الجماعي لمليون ونصف المليون من الأرمن في عام 1915 يشكل عملًا من أعمال الإبادة الجماعية؟، فمن الواضح أنه خشي إزعاج الأتراك الذين ينكرون أول محرقة ممنهجة في القرن العشرين. حسنًا، لقد أزعج الأتراك بإعلانه الآن، ويا ليته وضع ذلك في الاعتبار. ولكن انسوا الأمر، فأمريكا ستستغرق سنوات عديدة حتى تتعافى من هذا التصرف الأحمق.