تكافح المملكة العربية السعودية خلال الأشهر الأخيرة من أجل دعم أسعار النفط، وذلك مع اقتراب طرح حصة من أسهم شركة أرامكو بالأسواق المالية العالمية، إذ تسعى الرياض للوصول إلى أعلى سعر ممكن وقت الطرح لترتفع بذلك قيمة شركة النفط العملاقة، إلا أن مساعي المملكة لدعم الأسعار في الوقت الحالي قد تجعلها تفقد ما هو أثمن من مكاسبها من الطرح، إذ إنها ستفقد كثيرًا من حصتها السوقية التي بات يستحوذ عليها دول مثل روسيا وإيران، فهل ستتمكن المملكة من العودة لسابق عهدها بعد إدراج أرامكو؟
بدأ اتجاه السعودية لدعم الأسعار دون الاهتمام بالحصة السوقية منذ نحو عام من الآن، ففي أواخر العام الماضي 2016، حاولت المملكة دفع الدول الأخرى الأعضاء في أوبك للاتفاق على خفض الإنتاج، وبحسب مصادر مطلعة فقد خيرت السعودية أعضاء المنظمة بين انسحابها من أوبك أو الموافقة على الاتفاق، وبالفعل نجحت السعودية في الوصول للاتفاق على الخفض الأوَّل الذي تمَّ في ديسمبر (كانون الأول) 2016، ثم جاء تمديد الاتفاق في مايو (أيار) 2017 ليمتد إلى مارس (آذار) 2018، لكن أيضًا ترى المملكة أن هذا الخفض غير كافٍ، إذ قالت مصادر لوكالة «رويترز» إن السعودية تضغط على وزراء النفط للاتفاق على تمديد تخفيضات الإمدادات لمدة تسعة أشهر إضافية.
الفجوة بين إنتاج روسيا والسعودية تتسع
وفي الوقت الذي سعت فيه السعودية خلف إنجاح اتفاق خفض الإنتاج، لم تتوقف روسيا عن الإنتاج، إذ اتسعت الفجوة بين إنتاج البلدين لتتربع موسكو على صدارة المنتجين، إذ كشفت مبادرة البيانات المشتركة (جودي)، في تقريرها الصادر مؤخرًا عن تراجع صادرات السعودية من الخام إلى 6.549 مليون برميل يوميًا في سبتمبر (أيلول) مقارنة مع 6.71 مليون برميل يوميًا في أغسطس (آب)، وهو المستوى الأدنى منذ ست سنوات، بينما سجل الإنتاج نحو 9.973 مليون برميل يوميًا في سبتمبر (أيلول)، وتراجعت مخزونات الخام في البلاد 1.344 مليون برميل إلى 253.271 مليون برميل في سبتمبر (أيلول).
في المقابل، بلغ متوسط إنتاج النفط الخام في روسيا 10.249 مليون برميل يوميًا في سبتمبر (أيلول)، بزيادة نحو 276 ألف برميل يوميًا، وذلك بالرغم من أن روسيا قلّصت إنتاج النفط خلال سبتمبر (أيلول) بنسبة 1.2% مقارنة بشهر أغسطس (آب) الذي سبقه، عندما بلغ حجم الاستخراج اليومي من النفط الروسي الخام نحو 10.37 مليون برميل.
اقرأ أيضًا:
وجنت روسيا مؤخرًا فوائد هذه الفجوة، إذ أظهرت نتائج أعمال روسنفت – أكبر شركة منتجة للنفط في روسيا – أن صافي ربحها قفز بنسبة 80% على أساس سنوي في الربع الثالث من 2017 إلى 47 مليار روبل (792 مليون دولار)، حيث ارتفعت مبيعات الشركة في الفترة ما بين يوليو (تموز) وسبتمبر (أيلول) من 1.22 تريليون روبل إلى 1.5 تريليون روبل.
هل سيطرت روسيا على جزء من حصة السعودية؟
منذ يناير (كانون الثاني) خفضت الرياض الإنتاج بأكثر مما هو مطلوب لمساعدة أوبك في تحقيق الالتزام التام بالتخفيضات ورفع الأسعار في الوقت الذي تباطأت فيه دول أعضاء أخرى في خفض الإنتاج، وهو الأمر الذي كان فرصة لروسيا أن تحل محل المملكة باعتبارها أكبر مورد للنفط إلى الصين، في حين حل العراق محلها بوصفه أكبر مورد للخام إلى الهند.
وحافظت روسيا على مكانتها أكبر موردي النفط الخام للصين للشهر الثامن على التوالي في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بحسب البيانات التفصيلية لتجارة السلع الأولية التي نشرتها الإدارة العامة للجمارك في الصين، إذ بلغ حجم الشحنات القادمة من روسيا 4.649 مليون طن، أو ما يعادل نحو 1.095 مليون برميل يوميًا.
بينما حلت السعودية في المرتبة الثانية، إذ بلغ حجم إمداداتها في أكتوبر (تشرين الأول) 1.086 مليون برميل يوميًا، ولكن في الأشهر العشرة الأولى من العام، ارتفعت كميات الخام القادمة من روسيا 15.9% على أساس سنوي إلى نحو 49.65 مليون طن، أو ما يعادل 1.19 مليون برميل يوميًا، وهي الفترة التي جرى بها اتفاق خفض النفط.
اقرأ أيضًا:
لا يقف الأمر عند هذا الحد، ففي الفترة من يناير إلى أكتوبر احتلت أنجولا المرتبة الثانية بين أكبر موردي الخام للصين متفوقة بذلك على السعودية بزيادة في الإمدادات بلغت نحو 18% خلال العام، وهو ما يعني أن السعودية خلال آخر 10 أشهر تراجعت من المرتبة الأولى بين مصدري النفط للصين إلى المرتبة الثالثة، وبالطبع يعد ذلك مؤشرًا سلبيًا بالنسبة للحصة السوقية للبلاد، خاصة إذا كانت هذه النسبة المفقودة من أكبر مستورد ومستهلك للنفط الخام في العالم.
الانشغال السعودي بالأسعار كان أيضًا فرصة لتحالفات نفطية جديدة بالنسبة لروسيا، ففي 20 نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، قالت روسنفت – أكبر منتج روسي للنفط – إنها وقعت اتفاقًا لتوريد الخام مع سي.إي.إف.سي تشاينا إنرجي الصينية، ويعزز الاتفاق تفوق روسيا على السعودية بوصفها أكبر مورد للنفط إلى الصين ويسمح لشركة سي.إي.إف.سي، وهي شركة تجارة نفط غير شهيرة، بدخول قائمة أكبر 10 تجار نفط في العالم.
كيف ساهمت السعودية في انتعاش النفط الصخري؟
بالطبع كان موقف الرياض من السعي لدعم الأسعار بأي وسيلة يمثل تحولًا كبيرًا عن الدور الذي لعبته على مدى عشرات السنين والقائم على المناداة بضبط النفس والسعي لإقناع دول أخرى مثل الجزائر وفنزويلا وإيران بأن الارتفاع السريع للأسعار يفيد منتجي الطاقة من المصادر البديلة، ويبدو أن ما كانت تحذر منه المملكة في السابق حدث بمساعدتها في الحاضر، فلا شك أن من أهم المستفيدين من سياسة المملكة الحالية، هم منتجي النفط الصخري.
وزادت عدد منصات الحفر النفطية لشركات الطاقة في الولايات المتحدة، لتقترب في نوفمبر الماضي من أعلى مستوياتها منذ صيف عام 2015، إذ ارتفع العدد الإجمالي للمنصات إلى 747 منصة، ولا يزال عدد المنصات، وهو مؤشر مبكر للإنتاج في المستقبل، أعلى كثيرًا من مثيله قبل عام حينما بلغ عدد المنصات العاملة 474 منصة فقط بعدما عززت الشركات خطط الإنفاق لعام 2017 مع بدء تعافي أسعار الخام من انهيار استمر عامين.
اقرأ أيضًا:
وكشف تقرير دولي صادر عن مركز دراسات أمن الطاقة في مدينة زيوريخ السويسرية أن صناعة النفط الصخري في الولايات المتحدة ما زالت شديدة الحساسية لتقلبات الأسعار على المدى القصير، حيث تعتبر تقلبات أسعار النفط بمنزلة الترمومتر المتحكم بالفعل في إنتاج آلاف من الآبار الصخرية، حيث تستجيب هذه الصناعة في المقام الأول لتطورات ومتغيرات الأسعار في سوق النفط كما تتفاعل مع تحركات العرض والطلب في السوق.
وعموما شجع ارتفاع الأسعار الذي دعمته السعودية هذا العام على زيادة إنتاج النفط الصخري بالولايات المتحدة، مما كبح استعادة التوازن بالسوق لتظل مخزونات الخام العالمية قرب مستويات قياسية مرتفعة.
هل عودة السعودية بعد طرح أرامكو ممكنة؟
في الواقع كانت سرعة تحول المملكة عن سياستها التي كانت قائمة على منح الأولوية لحصتها في السوق، بإنتاج النفط بأقصى قدرة، إلى تأييد تخفيضات الإنتاج في أعقاب قرار طرح أسهم أرامكو، كانت سهلة إلا أن العودة لضخ النفط بعد طرح أرامكو لن يكون بنفس السهولة، فمن الطبيعي أن نسأل الآن عن الدور النفطي للسعودية على المستوى الخاص أو على مستوى أوبك، إذ إن المملكة ستصبح العضو الوحيد في المنظمة الذي له شركة نفط وطنية أسهمها مدرجة في الخارج، وهو يثير تساؤلات أيضًا عن مستقبل أوبك نفسها في ضوء أن المملكة هي القوة الدافعة لها منذ إنشائها قبل حوالي 60 عامًا.
ويرى بعض المحللين أنه بمجرد طرح أسهم أرامكو ستضطر الشركة لأخذ مصالح المستثمرين الخارجيين في الاعتبار، إذ سيتعين عليها أن تبرهن للمستثمرين أنهم سيستفيدون ماليًا من أي خطوة لها، كما أن قواعد الإدراج ومكافحة الاحتكار تمنع تحديد الأسعار وهو ما قد تُتهم به أرامكو إذا استمرت في اتباع سياسة المملكة تجاه أوبك القائمة على تعديل الإنتاج للتحكم في الأسعار، وفي ظل نية السعودية على أن تبقى قرارات الإنتاج في يد الحكومة التي ستملك الغالبية العظمى من أسهم الشركة بعد الطرح، ربما تقع أرامكو في ورطة الدعاوى القضائية تلك وغالبًا ستكون عواقبها وخيمة.
ومعنى هذا أن المملكة لن تكون قادرة على القفز بالإنتاج كثيرًا بعد تحقيق هدف الطرح، بينما يقول بنك جيه.بي مورجان إن السعودية ستكون على موعد بعد الطرح مع المعركة من أجل الحصة في سوق النفط، مشيرًا إلى أن قرار السعودية بزيادة الطاقة الإنتاجية سيكون نتاجًا لتقلص نفوذها في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) بعد الطرح العام الأولي لأرامكو