في يناير (كانون الثاني) عام 1933 تولى النازيون السلطة في ألمانيا، وأثناء الحرب العالمية الثانية كان ما يقرب من 7 ملايين يهودي يعيشون في الدول الأوروبية التي تحتلّها ألمانيا، وخلال السنوات الأولى من حكم النازيين، قاموا بقتل ستة ملايين من السكان الذين يعيشون في أوروبا، وما أسموه بـ«الحل النهائي» للتخلص من الجنس «الأدني»، لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّهم الجنس الراقي وما دونهم غير نافعين، فقاموا بعمل أفران للحرق وغُرف غاز مُسمم لقتل أعداد ضخمة من اليهود، وعُرفت تلك المجازر بـ«الهولوكوست».
«هولوكوست»، كلمة يونانية تعني حرق القُربان المُقدم إلى الرب حرقًا كاملًا حتى يُصبح رمادًا، ولا يُترك أي جزء منه لمن قدم القربان أو حتى للكهنة. كان الهولوكوست قديمًا من أكثر الطقوس قداسة، وكان يُقدم للتكفير عن ذنب أو جريمة. يُترجم الهولوكوست إلى العبرية بكلمة «شواه»، وفي العربية بكلمة «المحرقة».
يوضح د.عبدالوهاب المسيري في كتاب «الصهيونية والنازية ونهاية التاريخ» أن تشبيه الشعب اليهودي بالقربان المحروق يمكن أن يُقصد به أنهم الشعب الأكثر قداسة، وبالتالي يمكن تقديمهم قربانًا للآلهة، ولكن العالم الغربي يقوم بتعريف الهولوكوست على أنها المذبحة الأكثر تنظيمًا والتي تم التخطيط لها بمنهجية، واستخدم النازيون فيها أحدث الوسائل التكنولوجية في القتل والتعذيب.
اقرأ أيضًا: «الهولوكوست».. بين الحقيقة والدعاية الصهيونية
لماذا يحتكر اليهود الهولوكوست؟
يرى البعض أن إسرائيل – وعبر احتكارها تمثيل اليهود عبر العالم – تحاول «احتكار» دور الضحية في التاريخ الحديث، إذ قاموا بتصوير الإبادة النازية على أنها موجَّهة فقط ضد اليهود، ولذلك يرفض المدافعون عن الموقف الصهيوني وصف الإبادة النازية على أنها نمط تاريخي متجاوز اليهودية.
استفادت إسرائيل من الإبادة بالدعاية لنفسها على أنّ اليهود مرفوضون من العالم، وأن الأغيار يتربَّصون لهم لكي يقدِّموهم للمحرقة، وذلك ما اعتمدوا عليه للوحدة بين يهود العالم في إسرائيل وخارجها، وجعلت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية «الخوف من الإبادة» أحد الأسس الاستراتيجية العسكرية لديها، فهناك كثير من الادعاءات التي يقومون بها كي يُقاربوا المسافات بين النازية وبين أي عدو لهم، فعلى سبيل المثال وصف مناحيم بيجن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات حينما كان محاصرًا في بيروت بأنه: «يشبه هتلر في مخبئه».
شكلت إبادة اليهود بعضًا من الطبيعة الاستيطانية التي تحاول مد جذورها في الوطن العربي، وتُشكل أيضًا الإبادة إحساسًا بالخطر لديهم، وذلك للخوف من استعادة أصحاب الأرض لأرضهم وتكرار المذبحة.
لاحظ بعض التربويين الأمريكيين أن التركيز على الإبادة باعتبارها فكرة رئيسية في وجدان أعضاء الجماعات اليهودية يسبب لهم مشكلات نفسية عميقة، إذ لا يمكن أن يعيش الإنسان حياة نفسية سوية وسط بلاد العالم في ظل تملك هذه المعتقدات منه.
لم تكن الإبادة النازية لليهود الأولى من نوعها ولا الأخيرة، فقد خرجت جيوش العالم تحمل أسلحة الدمار والإبادة وحولت الإنسان إلى مجرد مادة بشرية في خدمته، وصُنف البشر إلى نافعين وغير نافعين، وضروريين وفائضين، فتعرض شعوب العالم إلى التهجير والتعذيب والعمل في المعسكرات حتى الموت. إليكم إذًا بعض الإبادات التي نسيها العالم أو تجاهلها.
«الهولوكوست الأول» لألمانيا
نحن نتحدث عن الأرواح التي فُقدت، والأراضي التي سُلبت والماشية التي قُتلت، نحن نتحدث عن الاغتصاب والكرامة المفقودة والثقافة التي تم محوها وجعلتنا لا نستطيع التحدث بلغتنا الأم. *الناشطة الهيريورية والأخصائية الاجتماعية في جامعة نامبيا «إيستر مينجانغ»
على الساحل الجنوبي الغربي لقارة أفريقيا وقف شعب الهيريرو– ناميبيا حاليًا – ضد الألمان عام 1904 بعد استعمار دام أكثر من 20 عامًا. كانت استجابة الجنرال الألماني لوثا فون تروثا لهذا التمرد كالتالي: نُفي عشرات الألاف من الهيريرو إلى صحراء كالاهاري، ومنع عنهم الطعام و قام بتسميم الآبار حتى يموتوا عطشًا وجوعًا في تلك الصحراء لعدة أشهر، ومن تبقى منهم نُقلوا إلى معسكرات في مدينة لودريتز وعملوا في ظروف سيئة تحت التعذيب حتى توفي أكثر من نصفهم.
هناك جدال بين الألمان حول تاريخ ألمانيا الاستعماري، وما أحدثته منذ بدايات القرن العشرين في جرائم إبادة جماعية، وفي وسط ذلك الإنكار ثمة بعض المدن في ألمانيا تقوم بإحياء ذكرى جرائم النازية، ولكن رغم ذلك لا تجد آثارا هامة لضحايا الاستعمار الألماني بخلاف «تمثال الفيل في بريمن» الذي صنعه النحات الألماني فيرتز باهن عام 1931 رمزًا لمناهضة الاستعمار الألماني لأفريقيا، وفي عام 1988 قام اتحاد صانعي المعادن بعمل علامة معدنية بجوار الفيل وذلك للإشارة لمناهضة الفصل العنصري الذي تمارسه «حكومة الأبارتيد» في جنوب أفريقيا، وفي عام 1990 ومع استقلال ناميبيا عن جنوب أفريقيا، أُطلق على التمثال «تمثال بريمن لمناهضة الاستعمار» بعد أن كان تمثالًا لمناهضة الاستعمار الألماني لأفريقيا أصبح لمناهضة الاستعمار بوجه عام.
رفض المسؤولون الألمان وصف عمليات قتل شعب ناميبيا بالإبادة الجماعية والاعتراف بالمذابح التي حدثت حتى يوليو 2015، حيث أصدر وزير الخارجية الاشتراكي فرانك فالتر بيانًا يُشير فيه أنه ينبغي الاعتراف بأن ما حدث في ناميبيا «جريمة حرب وإبادة جماعية»، ويأتي على النقيض كبير المفاوضين الألمان روبرتشت بولنز الذي صرح لصحيفة الجارديان: «إن التعويضات المالية لأقارب شعب الهيريرو ليست واردة»؛ لأن تلك المذبحة لا تُضاهي محرقة اليهود.
وذلك ما أغضب قادة شعب الهيريرو، وقام القائد الأعلى لهيريرو وناماكو«فيكوي روكورو» قائلًا: &l">سيدني شانبرغ وزميله الكمبودي ديث بران. كان هناك صمت تام للمجتمع الدولي أثناء مجازر الإبادة الجماعية، ولم توجه الولايات المتحدة ولا أوروبا الانتباه إلى تلك المجازر، على الرغم من محاولات النشطاء والأكاديميين توجيه انتباههم إلى تلك الفظائع المُرتبكة، لكن في هذا الوقت كانت الولايات المتحدة قد تلقت ضربة قاصمة بحربها في فيتنام، مما أدى إلى تردد الحكومة في إقحام نفسها في المنطقة ثانيةً.
اقرأ أيضا: الديكتاتور«بول بوت».. كيف تقتل نصف شعبك ولا تُحاكم؟
في يوليو عام 1979 قامت فيتنام بغزو كمبوديا وأطاحت بالخمير الحمر، وإنشاء حكومة اشتراكية تتألف من المنشقين من الخمير الحمر، وفر بقية الحزب إلى الغرب داخل الأدغال على طول الحدود التايلاندية. فى عام 1989 سحبت فيتنام قواتها بسبب العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على كمبوديا وانعدام المساعدات من الاتحاد السوفيتي، وشُكلت حكومة ائتلافية مؤقتة. في عام 1991 وُقع اتفاق سلام بين الأطراف المتنازعة. وقد جرت انتخابات عام 1993، وانتُخب الملك السابق الأمير سيهانوك لرئاسة الوزراء.
كان اضطراب ما بعد الصدمة سائدًا جدًا بين الناجين، وذلك لأنهم لم يُعالجوا علاجًا جيدًا خلال التسعينيات بسبب نقص المهنيين في قطاع الرعاية الصحية في البلاد، فضلًا عن تقليد الصمت المحيط بالفظائع. وقد أسهم مستوى الدمار الذي ألحقه الخمير الحمر إسهامًا كبيرًا في زيادة الفقر الذي يواجهه العديد من الكمبوديين اليوم.
في عام 2003، وافقت الحكومة الكمبودية على إنشاء محكمة مدعومة من الأمم المتحدة لمحاكمة الذين ارتكبوا الفظائع بين 1975 و 1979، مما أدى إلى الدوائر الاستثنائية في المحاكم الكمبودية (إيكك). ومما يؤسف له أن العديد من كبار أعضاء الخمير الحمر قد ماتوا أو فروا من البلاد ولم يتمكنوا من ملاحقتهم قضائيًّا.
انقلاب إندونيسيا الدموي
تحالف الجيش الإندونيسي مع الحزب الشيوعي الصيني للانقلاب على الرئيس سوكارنو عام 1965، وقام مؤيدو الحزب الشيوعي بأعمال عنف وتخريب مما دفع الجنرال سوهارتو – قائد جنود الاحتياط بالجيش وخليفة سوكارنو للرئاسة بعد ذلك – إلى قتل ما يقرب من 400 ألف من قيادات وأعضاء ومؤيدي الحزب الشيوعي.
كان ذلك بدعم من الولايات المتحدة، حيث قامت بتدريب المسؤولين الإندونيسيين ونشر جرائم الحزب الشيوعي في البلدان، والتحريض على الكراهية والعنصرية للشعب الصيني، كما أرسلت المخابرات الأمريكية قائمة بخمسة آلاف من أنصار الحزب الشيوعي يجب القضاء عليهم.
فشل القاضي زاك تاكوب في تقديم القتلة للعدالة في المحاكمة التي أُعدت في لاهاي عام 2015، وطلب من الحكومة تقديم الاعتذار لأهالي الضحايا والناجين من تلك المجزرة وتقديم التعويض المناسب لهم. وقد ذكرت تقارير حقوقية 10 بنود انتُهكت ضد المدنيين بما في ذلك التعذيب والقتل والعنف الجنسي، وذكر التقرير استهداف أعضاء الحركات النقابية والأكاديميين والفنانين والأحزاب الديمقراطية، وقادة الطلاب والصحفيين، وتشير التقديرات إلى أكثر من نصف مليون شخص قد قتلوا وأُلقيت جثثهم في الأنهار وعلى طول الطُرقات.
كيف تقتل الوازع الأخلاقي في الأشخاص؟
إنه يجب الآن الحذر ممن يحترمون القانون أكثر ممن ينتهكونه. *الكاتب والفيلسوف دوايت ماكدونالد
إن مُرتكبي المجازر لم يكونوا مرضى نفسيين أو أُناسًا همجيين يمشون في الشوارع ويقتلون كل من يلاقونه، بل كانوا رجالًا يرتدون زيًا رسميًا ولهم مكانتهم الاجتماعية، ويحترمون الدستور والقانون ويتبعون التعليمات بمنتهى العقلانية.
وضع «هربرت كلمان» ثلاثة شروط لكي يختفي الوازع الأخلاقي لمُرتكبي الجرائم وهي:
1-تفويض استخدام العنف من خلال الأوامر الرسمية الصادرة من جهات قانونية.
2-تنميط العمل عبر ممارسات نظامية منضبطة وتوزيع دقيق للأدوار.
3-تجريد ضحايا العنف من الصفات الإنسانية بواسطة التعريفات المذهبية والأيديولوجية.
«يوليوس شترايخر» – قائد عسكري بالجيش النازي وناشر بجريدة «دير شتومر» المُعادية للسامية – كان أشد المُعادين لليهود وكان شخصية انفعالية وكان معروفًا بخطاباته التي يصف فيها اليهود بأنهم «المُصيبة» التي حلت على العالم وتُريد أن تسيطر عليه.
اقرأ أيضًا: هل تعرف كم قتل هؤلاء؟ 197 مليون ضحية لـ5 أشخاص فقط!
تبرأ فريق «الإس إس» – التابع للجيش النازي والمسئول عن حماية أدولف هتلر والعمل كفريق مخابراتي داخل الجيش – من أفعال شترايخر الانفعالية، فقد اعتمدت قيادات «الإس إس» على الروتين التنظيمي والانضباط، وليس الحماسة الشخصية والولاء الأيديولوجي، وكان الإخلاص للمؤسسة هو الذي يكفل التفاني في تنفيذ المهام المُلطخة بالدماء.
يقول دكتور «سرفاتيوس» مُحامي «آيخمان» – ضابط بالقوات الخاصة بالجيش النازي قام جهاز الموساد بالقبض عليه عام 1960 وحُوكم وتم شنقه عام 1962 – «ارتكب آيخمان أفعالًا يُكرم عليها إذا انتصر، وتُنصب له المشانق إذا انهزم».
يُعقب «زيجمونت باومان» في كتاب «الحداثة والهولوكوست» على جملة «سوفاتيوس» ويوضح مدى ثانوية تحديد أخلاقية الأفعال في قول «سرفاتيوس» فالتقييم هنا هو تقييم لمدى الالتزام بالأوامر، حتى أن آيخمان كان يُنكر نيته في فعل أي شيء، وأنه فقط كان «يتبع الأوامر».
ذلك ما وصفته دكتورة «حنا آرنت» بـ«تفاهة الشر» بمعنى أن الشر الذي يُحدثه الأشخاص بدون دافع شخصي منهم أو نية للفعل، وذلك يعني أن هؤلاء الفاعلين للشر هم أُناس نكرات كانوا يتبعون التعليمات، أُناس مسلوبو القدرة على الاختيار وتتوقف أفعالهم فقط على الأوامر الصادرة من الجهات العليا.
مقطع من فيلم حنا آرنت.
السمع والطاعة
الشخص الذي يبغض السرقة والقتل والعنف من الممكن أن يجد نفسه يقوم بمثل هذه الأعمال بسهولة نسبية عندما يؤمر بذلك، فالسلوك الذي لا يرضاه الشخص الذي يتصرف بمحض إرادته من الممكن أن يُنفذه بلا تردد من خلال الأوامر. ستانلي ميلجرام
في عام 1963 قام عالم النفس والاجتماع «ستانلي ميلجرام» بعمل اختبار يقيس مدى الانصياع للسلطة وذلك من خلال إعلان في جريدة «Lunch Room» لطلب مشاركين في تجربة لقياس أثر العقاب على التعلم، يقوم المشاركون بمعاقبة المُتعلم عن طريق صدمات كهربائية تبدأ من 45 فولت حتى 450 فولت، المشاركون يظنون إذن بأنهم يوجهون صعقات كهربائية للمتعلم.
لكن في واقع الأمر لم تكن هناك أي صعقات كهربائية، بل كان هناك تسجيل صوتي معد مسبقًا بصوت الممثل (المتعلم) يصدر فيه صرخات بالتناغم مع صوت الصعقات الكهربائية. بعد عدة زيادات في شدة الصعقة يبدأ الممثل (المتعلم) بالضرب على الجدار الفاصل بينه وبين المشارك عدة مرات ويشتكي من الوضع الصحي لقلبه.
عند هذه النقطة عبّر عدد من المشاركين عن رغبتهم في وقف الاختبار وتفقد وضع المتعلم. كثير من المشاركين توقفوا عند الشدة 135 فولت مشككين في مغزى الاختبار. آخرون استمروا بعد أن تلقوا تطمينات تعفيهم من أي مسؤولية.
كان الكثير من علماء النفس والاجتماع يتوقعون أن 100% من المشاركين سيرفضون التعاون عندما تزداد قسوة الأعمال التي يؤمرون بها، ولكن في واقع الأمر أن نسبة المشاركين الذين أبدوا رغبتهم بعدم المواصلة تناقص إلى ما يقرب من 30%، وكان ذلك صدمة كبيرة لم تتقبلها الكثير من الدوائر الأكاديمية حتى تعرض مليجرام إلى انتقادات ومحاولات لدحض نتائجه.
أثبت مليجرام أن وحشية الأفعال لا ترتبط بالسمات الشخصية للجناة، بل ترتبط أرتباطًا وثيقًا بعلاقة السلطة بالمرؤوسين ، أي أن الوحشية جزء لا يتجزأ من بنية الطاعة المألوفة في حياتنا اليومية.