في عام 2012، انطلق «دان بويتنر Dan Buettner›› الباحث بمجلة «ناشيونال جيوغرافيك›› في رحلةٍ حول العالم؛ للإجابة عن سؤال لطالما حيّر العلماء والفلاسفة، لماذا يعيش الناس في بعض أنحاء العالم لفترة أطول بكثير من غيرهم؟
وللعثور على إجابة عن هذا السؤال، سافر «بويتنر» وفريقه لدراسة المناطق التي أسموها «المناطق الزرقاء» في العالم، وقاموا بتجميع العادات المشتركة، ونمط الحياة الغالب بين هؤلاء المعمرين في كتابه «The Blue Zones Solution»، الذي يوضح فيه الطريق نحو حياة طويلة وصحية.
«المناطق الزرقاء».. ما هي؟ وأين تقع؟
المناطق الزرقاء اسم أطلقه «بويتنر» وفريقه على خمس مناطق في العالم، والتي يوجد نسبة كبيرة من سكانها يعيشون حتى تتجاوز أعمارهم المائة عام؛ هم أيضًا لا يكتفون بالعيش لفترة أطول؛ بل يتمتعون بحياة صحية أفضل، ويستمرون في مزاولة النشاط البدني بشكل جيد خلال الثمانين والتسعين من أعمارهم.
تشمل تلك المناطق الخمس: جزيرة «أوكيناوا» في اليابان، و«سردينيا» في إيطاليا، و«إيكاريا» في اليونان، وشبه جزيرة «نيكويا» في كوستاريكا، بالإضافة إلى مدينة «لوما ليندا» في ولاية كاليفورنيا الأمريكية.
نقاط القوة.. أسرار التمتع بأطول قدر من الحياة الصحية السعيدة
عكف «بويتنر» وفريقه من الباحثين والمتخصصين في علوم الصحة والمجتمع على دراسة الأسباب التي تجعل سكان المناطق الزرقاء يعيشون حتى يتجاوزوا عامهم المائة، ويتمتعون بحياة صحية وسعيدة، وقد قاموا بجمع القواسم المشتركة بين سكان تلك المناطق في عدة نقاط، أُطلِق عليها «نقاط القوة»، وسوف نتعرف إليها في السطور القادمة.
نظام الغذاء.. السر في تقليل اللحوم!
المعمرون ليسوا عادةً نباتيين، ولكنهم يتبعون نظامًا غذائيًّا قائمًا على النبات بالأساس، ويرجع ذلك في الغالب إلى اعتمادهم على تناول الأغذية المزروعة منزليًّا أو محليًّا، فنجد أن سكان «سردينيا»، و«نيكويا»، و«أوكيناوا» يتناولون الأطعمة التي ينتجونها في حدائقهم الخاصة، إلى جانب كميات صغيرة مُكمّلة من الأطعمة البروتينية الحيوانية، والمواد الغذائية الأساسية التي تشمل: البقوليات، والحبوب، والبطاطس الحلوة، وعصيدة الذرة.
ومن الأطعمة البارزة بشكلٍ خاص في الوجبات الغذائية التي توضع على مائدة المناطق الزرقاء:
الفواكه، والخضروات، والمكسرات، والفاصوليا والبقوليات، والحبوب مثل القمح، والذرة المزروعة محليًّا، وزيت الزيتون، ومنتجات الألبان عالية الجودة مثل حليب الماعز، والزبادي، والأجبان محلية الصنع.
كما يتمتع سكان المناطق الزرقاء بوزن صحي، ويبقون نشطين، ويأكلون اللحوم بشكل متقطع، وبعضهم لا يتناولها على الإطلاق، الأمر الذي ينعكس على مؤشراتهم الحيوية؛ إذ يؤدي ذلك إلى انخفاض مستوى الكوليسترول في الدم، ومخاطر الإصابة بارتفاع ضغط الدم، وغيرها من المخاطر الصحية التي تنتج من تناول الأغذية المُعلّبة والمُعالَجة.
على الصعيد البدني.. التكنولوجيا تقتل!
لا يأتي المثل القائل «الحركة بركة» من فراغ، إذ تُساعد ممارسة التمارين المنتظمة والمتوسطة الشدة يوميًّا على خفض فرص الإصابة بأمراض القلب، والأوعية الدموية، وبعض أنواع السرطان، وتحمي أيضًا من الاكتئاب؛ لكن ذلك لا يستدعي أن تكون عداء ماراثون أو رياضيًّا محترفًا، إذ تكفي ممارسة بعض الأنشطة البدنية بشكل منتظم مثل الذهاب في جولة للمشي يوميًّا.
ويمارس سكان المناطق الزرقاء نشاطهم البدني بشكل طبيعي على مدار اليوم، فلا يوجد بينهم على الأغلب من يذهب إلى نادٍ رياضي ويمارس التمارين بالطريقة الاعتيادية التي نتصورها؛ بل يغلب على نمط حياتهم المشي، والقيام بالأعمال المنزلية مثل زراعة الحديقة، والذي يشمل مجموعة من الأنشطة مثل السقي والتعشيب والحصاد.
أما عن ربات البيوت، ففي جزيرة «إيكاريا» اليونانية يعتمدن في أعمالهن المنزلية على أدوات يدوية فقط، ولا يملكن أية أدوات ميكانيكية، فتجدهن يعجن الخبز باليد، ويمارسن الأنشطة البدنية بشكل لا واعٍ كجزء من نمط حياتهن الأساسي.
عِش حياةً ذات معنى
يملك سكان المناطق الزرقاء إحساسًا بالغرض أو الهدف من حياتهم، والذي يُطلق عليه في أوكيناوا «إيكيغاي ikigai»، ويسمونه «خطة الحياة plan de vida» في نيكويا، ويقصد بذلك أن يملك المرء هدفًا يحيا من أجله.
ويساعد إدراك الشخص الغرض من حياته والدافع الذي يجعله يستيقظ كل يوم في الصباح، على جعله أكثر صحةً وسعادةً، كما يُضيف نحو سبع سنوات من العمر المتوقع إلى حياته، بحسب بعض الأبحاث العلمية. ويحرص سكان المناطق الزرقاء كذلك على خدمة مجتمعاتهم، والمشاركة في الأنشطة التطوعية؛ إذ يُساهم العطاء ومساعدة الآخرين في منع الإصابة بالاكتئاب.
الأحبة أولًا
يتميز سكان المناطق الزرقاء بامتلاكهم علاقات عائلية وثيقة مع الأزواج، والآباء، والأجداد، والأحفاد، وتمثل الأسرة الأولوية الأولى بالنسبة لهم، ويحرصون على قضاء الوقت مع أفراد أسرتهم، والتواصل مع أحبتهم مهما كانت درجة انشغالهم.
على سبيل المثال، يحرص سكان مدينة «لوما ليندا» على قضاء العطلة الأسبوعية في ممارسة الأنشطة الجماعية، التي تركز على تقوية علاقاتهم مع الأسرة، والله، والصداقات الحميمية، والطبيعة. يساعدهم ذلك في التخفيف من التوتر والإجهاد المزمن، الذي يملك تأثيرًا سلبيًّا في صحة الفرد يمكن أن يدمر حياته.
فضلًا عن ذلك، لا توجد دور للمسنين في المناطق الزرقاء حيث يعتني أفراد الأسرة الأصغر سنًّا بكبار السن من ذويهم، ويلعب كبار السن دورًا محوريًّا في مجتمعهم، ويتمتعون بكونهم جزءًا مهمًا وفاعلًا في عائلاتهم، كما يملكون شبكة واسعة من العلاقات الاجتماعية، والزوار المتكررين الذين يترددون لزيارتهم وقضاء الوقت معهم، إلى جانب مقدمي الرعاية الصحية، الذين يخلقون جميعًا مناخًا من المودة الحقيقية يحافظ على تمتع المعمرين بحياة هادفة ذات ضغوط أقل وسط عائلاتهم.
ساعة السعادة
يسير سكان المناطق الزرقاء على روتين يضم مجموعةً من الأنشطة اليومية، التي تساعدهم على مواجهة ضغوطات الحياة والتغلب عليها، فعلى سبيل المثال يؤدي سكان «لوما ليندا» الصلوات، في حين يأخذ سكان «إيكاريا» قيلولة نهارية، بينما يخصص مُعمّرو «سردينيا» الإيطالية ساعةً من وقتهم يطلقون عليها «ساعة السعادة»، وفيها يقومون بممارسة هواية يفضلونها، أو نشاط ما يُشعرهم بالسعادة.
الرفيق قبل الطريق
يميل المعمرون كذلك إلى قضاء بعض الوقت مع أقرانهم المقربين، ويجدون السعادة في مشاركة قيم وأفكار بعضهم البعض، ودعم عاداتهم الإيجابية، ويمتازون بكونهم أكثر تفاعلًا مع بعضهم البعض، وأكثر قدرة على التعبير عن مشاعرهم، بما في ذلك الحزن والغضب، وغيرهما من الجوانب الحميمية.
يعزز هذا النظام الاجتماعي السلوكيات الإيجابية، ويقلل من التوتر المزمن الذي يُعد أحد أكبر العوامل المسببة لبعض الأمراض المزمنة مثل أمراض القلب، والاضطرابات النفسية، وأمراض المناعة الذاتية، ومشكلات الجهاز الهضمي.
وبالنسبة للمقيمين في المناطق الزرقاء، يحدث هذا بشكل طبيعي لكون الترابط الاجتماعي عادةً متأصلةً في ثقافاتهم، فعلى سبيل المثال، قد يجتمع البعض في مجموعات لقضاء بعض الوقت والحديث معًا يوميًّا، أو الطبخ، أو جمع محاصيل العنب السنوية، هذا بالإضافة إلى الاحتفالات الدينية والقومية التي تتطلب مشاركة المجتمع كله، كوسيلة للترفيه، وأحد أشكال الدعم الجماعي.
ووفقًا لـ«بويتنر»، قد يكون هذا أقوى شيء يمكنك القيام به لتغيير نمط حياتك للأفضل، إذ تُحيط نفسك بأفراد أسرتك وأصدقائك المقربين الذين يشاركونك قيمك الخاصة. يُشبه الأمر إنشاء نظام دعم صحي لخفض التوتر، كما يُمثل وسيلةً طبيعيةً للتغلب على الضغط النفسي، ويُحسن من جودة الحياة.