فتاوى جاهزة تحدد تصنيف العدو بين قريب أو بعيد
لا فرق عند الجماعات التكفيرية بين 'المرتد' وبين 'العدو القريب' بل إنهما توصيفان لهدف واحد، هذا 'الهدف' الذي يفترض أن يكون شريكهم في المواطنة التي لا يعترفون بها أصلا.
البداية ضد العدو القريب
“وجوب تقديم محاربة العدو القريب قبل العدو البعيد” قاعدة فقهية يبني عليها الإسلام السياسي تصوره لإدارة الصراع مع الأنظمة العربية والإسلامية من جهة، والأنظمة الغربية من جهة أخرى.
هذه القاعدة أصّلت لنفسها من خلال المرجعيات المشتركة لكل الجماعات الإسلامية، من ابن تيمية القائل في “مجموع الفتاوى” إن كفر الردة أغلظ بالإجماع من الكفر الأصلي، مرورا بسيد أمام الشريف وأبوعبدالله المهاجر وسيد قطب، وصولا إلى تنظيم داعش مع استثناء وحيد مرتبط بفترة تزعم أسامة بن لادن لتنظيم القاعدة والذي فرض، من خلاله، على التنظيم تعديل القاعدة الفقهية وضرورة مواجهة “العدو البعيد” وذلك عبر تأسيس “الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين”، قبل أن يعود أيمن الظواهري لتبني نفس الخط الفقهي للتنظيمات الإرهابية مع مقتل زعيم التنظيم أسامة بن لادن.
هذا المعطى الفقهي ظل هو المحدد والموجه لجميع التنظيمات التكفيرية منذ تنظيم سيد قطب 1965 وإلى غاية تنظيم داعش. ويقول منظر الجماعات التكفيرية سيد إمام الشريف، في كتابه “الجامع في طلب العلم الشريف” إن قتال العدو القريب مقدّم على قتال العدو البعيد على اعتباره مرتدا.
ويستشهد بقول ابن تيمية “استقرت السنّة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة الكافر الأصلي من وجوه متعددة، منها أن المرتد يقتل بكل حال ولا تضرب عليه جزية، ولا تعقد له ذمة، بخلاف الكافر الأصلي فقتال المرتدين مقدم على قتال غيرهم لأنهم الأقرب إلى المسلمين”.
ويطنب سيد إمام الشريف، الذي يعد مرجعا لغالبية الجماعات التكفيرية، في جمع وتحشيد الآراء المتشددة والحاسمة في وجوب مقاتلة “المرتد” أي العدو القريب، ومنها أن “المرتد يقتل وإن كان عاجزاً عن القتال، بخلاف الكافر الأصلي الذي ليس هو من أهل القتال، فإنه لا يقتل عند أكثر العلماء”.. حتى أن المطلع على هذه الفتاوى يصل إلى قناعة مفادها أن الإسلاميين “رحماء على الكفار أشداء على المسلمين”.
التنظيمات التكفيرية لن تعجز على إيجاد التأصيلات العقدية والمبررات الفقهية لشرعنة هذا التغيير في تكتيكات المواجهة
ولا فرق عند الجماعات التكفيرية (وفق فتاواهم) بين “المرتد” وبين “العدو القريب” بل إنهما توصيفان لهدف واحد، هذا “الهدف” الذي يفترض أن يكون شريكهم في المواطنة التي لا يعترفون بها أصلا. وكل من لا ينضوي تحت راياتهم ولا يبايعهم على عقيدة التكفير هو حسب فتاواهم مرتد “لا يرث ولا يناكح ولا تؤكل ذبيحته”، بخلاف الكافر الأصلي أي العدو البعيد، مستشهدين في ذلك ومعللين بأن سائر الصحابة بدأوا بجهاد المرتدين قبل جهاد الكفار من أهل الكتاب، وتبريرهم في ذلك أن جهاد هؤلاء حفظ لما فُتح من بلاد المسلمين وأن يدخل فيه من أراد الخروج عنه، فـ”جهاد من لم يقاتلنا من المشركين وأهل الكتاب من زيادة إظهار الدين، وحفظ رأس المال مقدم على الربح” (مجموع الفتاوى).
وبناء على كل ما تقدم من معطيات تخص القاعدة الفقهية التي ترتكز عليها سياسات الجماعات التكفيرية في الجهاد وأولوياته، فإن الغرب الأوروبي قد تلقف هذه الفتوى بكل طمأنينة وانشراح ورحابة صدر، وذلك على اعتبار أنه “عدو بعيد”. ومن هذا المنطلق تعاملت حكومات ودول غربية في مرحلة ما مع هذه التنظيمات كحليف تكتيكي ضد بلدان عربية وإسلامية أو على الأقل كورقات ضغط وابتزاز طالما أن الغرب ليس في سلم أولويات الاستراتيجية الجهادية على كل حال.
والزائر للبلدان الأوروبية في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، يلحظ التجمعات والنشاطات الهائلة للإسلاميين في أوروبا، إذ نراهم متجمهرين في الساحات العامة وهم ينددون بـ”أنظمة الاستبداد” في بلادهم، ومتجمعين في نواد ومنظمات حقوقية يدافعون عن وجودهم، ومستضافين في البلاتوهات التلفزيونية وهم يزمجرون ويتوعدون أنظمة بلدانهم بانتقام الجماهير التي يبشرونها بنسائم الحرية.
كل ذلك يحدث على مرأى ومسمع ومعرفة أجهزة الدول الغربية، والتي لا تمتلك إلا ردا واحدا على كل من ينتقد احتضانها المبالغ فيه لهذه الجماعات وهو: نحن أنظمة ديمقراطية ومن حق كل فرد أو جماعة تطلب اللجوء إلينا أن تعبر عن رأيها بمنتهى الحرية.
الآن وبعد أن بدأ تنظيم داعش يضرب في عمق المدن الأوروبية بلا هوادة ولا توقف، وسالت دماء أوروبية لضحايا أبرياء في عمليات إرهابية موغلة في الوحشية، فإن لسائل أن يسأل: هل ضربت الدول الغربية حقا عرض الحائط بالتحذيرات التي تقول لها بأنك تحفظين في أكمامك بيض الأفاعي؟
الغرب مطالب أكثر من أي وقت مضى أن يتخذ موقفا استراتيجيا حاسما من هذه التنظيمات التكفيرية
ولعل المثال الساطع على هذا التلون المفاجئ لتكتيكات واستراتيجيات الجماعات الإرهابية، وبالاستناد دائما إلى التبرير الفقهي لديهم هو ما جاء في بيان داعش بعد العملية الإرهابية في مانشيستر البريطانية “بمعية الله وفضله، وثأرا لدين الله عز وجل وإرهابا للمشركين وردا لعاديتهم عن ديار المسلمين، تمكن أحد جنود الخلافة من وضع عبوات ناسفة وسط تجمعات للصليبيين في مدينة مانشيستر البريطانية، حيث تم تفجير العبوات في مبنى أرينا للحفلات الماجنة، ما أسفر عن هلاك نحو 30 صليبيا وإصابة 70 آخرين، والقادم أشد وأنكى على عبّاد الصليب وأوليائهم…”.
يبدو أن حكومات غربية كثيرة راهنت، ومن خلال اطلاعها على القاعدة الفقهية القائلة بوجوب مقاتلة العدو القريب أولا، على استغلال الجماعات الإسلامية في الاتجاه الذي يدفع بها إلى خلق مناخ ملائم للفوضى المتحكم بها، غير أن ما لم تستطع هذه الدول استيعابه هو أن التنظيمات التكفيرية، قادرة على إعادة صياغة استراتيجياتها للمواجهة وفق الشروط الذاتية والموضوعية لإدارة الصراع ولن تعجز في إيجاد التأصيلات العقدية والمبررات الفقهية لشرعنة هذا التغيير في تكتيكات المواجهة.
الغرب مطالب أكثر من أي وقت مضى أن يتخذ موقفا استراتيجيا حاسما من هذه التنظيمات التكفيرية وأن يعلم أن الرهان عليها هو رهان خاسر ومكلف أمنيا وسياسيا واقتصاديا وأن القرن الواحد والعشرين هو قرن الدولة الوطنية والمؤسسات القوية في مواجهة تنظيمات عابرة للحدود والهويات والتاريخ والجغرافيا. إنها تنظيمات ترفض الآخر وتتعامل معه بمنطق “الاستعلاء الإيماني”، وترى أن المهادنة مع الغرب إنما هي مهادنة مرحلية في سبيل تحقيق حلم دولة الخلافة.
خاطئة هي السياسات المراهنة على شياطين الشر المطلق، ذلك أن أي فعل مساند للجماعات الإسلامية بهدف إضعاف جهة ما هو إلا بمثابة تقوية عدو يتربص بك. وهذا العدو لا يمكن أن يؤتمن جانبه لأنه لا رادع ولا قانون لديه غير وهم بأن يسود وينتصر.. فكيف للواقع أن يتحالف مع وهم.