الباب السادس : تطبيق الشريعة الحنبلية بالاضطهاد
الفصل الأول : الحنابلة يستأصلون المعتزلة
أولا : رُقى العلم ، وجهل العلم ، وتعليم الجهل
1 ـ نبدأ بهذا ونؤكد عليه بلا ملل لأنها هى المشكلة التى زرعتها الحنبلية منذ العصر العباسى الثانى ، ثم أحيتها الحنبلية الوهابية فى عصرنا الحالى ، ونشهد ثمارها السّامة المريرة فى تدمير العراق وسوريا والصومال وأفغانستان ، وفى الطريق دول الخليج والسودان ومصر وباكستان أن لم يحدث إصلاح حقيقى وعاجل . هى أزمة شباب نشأ فى مجتمعات تسيطر عليها الحنبلية الوهابية ويتعلم فيها الشباب الجهل والأكاذيب المنسوبة لله تعالى ورسوله على أنها هى الاسلام ، ويتعلمون تغيير المنكر والقتل للأبرياء على انه الجهاد ، وأن الإكراه فى الدين هو شريعة الاسلام . هذا ما أسّسته الحنبلية فى العصر العباسى الثانى ، وكان المسلمون على وشك التحرر منه لولا ظهور الوهابية وانتشارها وتسيدها . ولا سبيل للخلاص من هذا الوباء إلا باصلاح دينى تشريعى قانونى يؤسس حرية الرأى والفكر والعقيدة والدين لكل فرد ، وإصلاح تعليمى يتحقق به أفضل تصنيع للإنسان المصرى والعربى .
2 ـ التعليم هو صناعة الترقى بالإنسان .وهو صناعة باهظة التكاليف ولكن عائدها الاقتصادى والحضارى لا يمكن تقديره بثمن . لنفترض أنه فى هذه اللحظة وُلد طفلان ، احدهما فى أمريكا والآخر فى بقعة مجهولة فى غابات الأمازون . الطفلان لهما نفس القابلية للتعليم ، الأمريكى يجد دولة تنفق بسخاء على تعليمه علما حقيقيا ، وتفتح له أبواب الترقى ليصبح عالما فى الذرة أو الفضاء أو فى الجيولوجيا أو الاقتصاد أو التنمية البشرية . الآخر فى غابات الأمازون يعيش على ما إعتاده أهله ، نفس الرمح والصيد ونمط المعيشة التى تعيشها قبيلته دون تغيير عبر آلاف السنين شأن حيوانات الغابة حولهم . هذا هو الفارق بين رُقى التعليم الذى يبنى بالتراكم على الأمس ، وتتطور فيه الاختراعات كل دقيقة وبين جهل العلم فى الحضيض فى القبائل البُدائية . ولكن تظل هذه القبائل البدائية أفضل بالحضيض الذى تعيش فيه من الدرجة الأسفل ، وهى ( اسفل سافلين ) حين يسيطر دين أرضى ويفرض تعليم جهله وأكاذيبه وإفتراءته المتوارثة على أنها دين . هنا نتخيل سيدة مصرية ولدت توأما ، أرسل الأب أحدهما ليتعلم فى أمريكا منذ نعومة أظفاره ، وأرسل الآخر ليتعلم فى الأزهر الشريف جدا ويتخرج فى كلية أصول الدين قسم الحديث والتفسير مثلا . أحدهما بتفوقه يكون مثل د زويل ، وألاخر بتخلفه يكون مثل القرضاوى . هنا يتجلى الأزهر بمناهجه التراثية عبئا على مصر وقنبلة زمنية تهدد بتفجيرها ومصنعا لتعليم الجهل ونشر الجهل ـ وأشهد أنه يقوم بهذه المهمة بكل نجاح بدليل ما يقوم به طلبة الأزهر الآن ( ديسمبر 2013 ) وقد تحولوا الى عصابات تخريب وتدمير ، وهم يحسبون انهم يحسنون صُنعا . هم فى الحقيقة ضحايا لتعليم فاسد ، شأنهم شأن الأغلبية الساحقة من المصريين ( المتدينين ) الذين يؤمنون بالسُّنة على أنها الاسلام .
3 ـ نحن لا نرهق أنفسنا فى كتابة أبحاث تاريخية لمجرد إشباع الرغبة فى إكتشاف المجهول والمسكوت عنه من تاريخنا الذى لم يُقرأ بعد ، ولكن السبب الأهم هو الإصلاح لأننا نعيش فى اسوأ حال ، نكرر فيه عصور الظلام الدينى والفكرى فى ظل الوهابية الحنبلية . لذا فهذه مقدمة لفهم أثر الحنابلة الفاحش فى إجهاض الحياة العقلية للمسلمين ، عندما إستأصلوا المعتزلة فكرا ومنهجا وعندما إستأصلوهم بشرا واشخاصا . بدءوا بالاغتيال المعنوى بالتكفير والتحقير للمعتزلة فكرا واشخاصا ، وبعد الاغتيال المعنوى يأتى الاغتيال المادى بالقتل بتهمة الردة وبسلاح تغيير المنكر وبزعم الجهاد . وحتى لا ننسى فالحنابلة هم أول وأفظع من أرسى الإغتيال المعنوى وجعله طريقا للأغتيال الجسدى . وحتى لا ننسى أيضا فالوهابية الحنبلية فى عصرنا البائس تمارس نفس الاغتيال المعنوى والمادى فى التخلص من خصومها ( فرج فودة مثلا )، وفى تدمير الطوائف الأخرى ، كشيعة سوريا والعراق والخليج . وندخل على إستئصال المعتزلة على يد الحنابلة فى العصر العباسى الثانى :
المرحلة الأولى : الاغتيال المعنوى
1 ـ نعطى دليلا بالتشنيع الذى أشاعه الحنابلة عن شيخ المعتزلة بشر المريسى المتوفى عام 218 ، من خلال روايات كاذبة ومنامات نشروها فى مجالس القصص ، وتداولوها عبر الأجيال ، الى أن سجلها فى القرن الخامس المؤرخ الحنبلى الخطيب البغدادى فى موسوعته ( تاريخ بغداد : ج 7 ص 56 : 67 ) فى ترجمته لبشر المريسى ، وقد ذكرها الخطيب البغدادى باعتبارها حقائق تاريخية يسجلها بالسند معتقدا صدقها بسبب إنتمائه الحنبلى الذى نعرفه من بداية قول الخطيب فى البداية عن بشر : ( بشر من أصحاب الرأى ، أخذ الفقه عن ابى يوسف القاضى ، إلا إنه إشتغل بالكلام ، وجرّد القول بخلق القرآن ، وخُكى عنه أقوال شنيعة ، ومذاهب مستنكرة ، أساء أهل العلم قولهم فيه بسببها ، وكفّره أكثرهم لأجلها .)، الخطيب يسمى عوام الحنابلة وشيوخهم ( أهل العلم ) فالعلم عنده هو الحديث أو صناعة ونشر أكاذيب منسوبة للنبى عليه السلام ، أما الاتجاه العلمى النقدى فهو كما كان يقال عنه (علم الكلام ) ، وعيب بشر المريسى أنه ( إشتغل بالكلام ) وأنه ( جرّد القول بخلق القرآن ) وأن أقواله شنيعة ومستنكرة سببت فى أن ( أهل العلم ) اساءوا القول فيه بسببها ، وحكموا بتكفيره . ولا يصف الخطيب بذاءة الحنابلة بالشناعة لأنه يشاركهم الرأى فى بشر المريسى . ونعرض لبعض ما ذكره الخطيب البغدادى من مزاعمهم وأتهاماتهم لبشر المريسى لنتعرف على جريمة الاغتيال المعنوى لبشر المريسى ، والذى كان ميتا قبلها بقرنين وأكثر ، وبالتالى فالهدف ليس النيل منه وقتله ، ولكن تكفير والإغتيال المعنوى للمعتزلة تمهيدا لإستئصالهم جسديا ، وهذا ما حدث بالفعل ، فى أكبر جريمة بشرية وحضارية مسكوت عنعا فى تاريخنا .
2 ـ عن تكفيره وتكفير المعتزلة تتنوع رواياتهم الكاذبة : قال أحدهم يتهمه بإنكار الالوهية : ( كلمت بشرا المريسى وأصحاب بشر فرأيت آخر كلامهم أنه ينتهى الى أن يقولوا ليس فى السماء شىء .). .!).ويزعم آخر :( سمعت هاتفا فى البحر يقول : لا اله إلا الله ، على ثمامة والمريسى لعنة الله . قال : وكان معنا فى المركب رجل من أصحاب بشر المريسى فخرّ ميتا . ) .
3 ـ وعن الحكم بقتله وقتل أصحابه تتوالى رواياتهم : ( كنت عند ابن عيينة إذ أقبل بشر المريسى فتكلم بذلك الكلام الردىء ، فقال ابن عيينة : اقتلوه . قال ابن خلاد : فأنا فيمن ضربته بيدى.)( وكان أبو زرعة الرازي يقول: بشر بن غياث زنديق .) ( وقال يزيد بن هارون: هو كافر حلال الدم يقتل .)( كنا عند يزيد بن هارون ، وذكروا المريسى فقال : ما يقول ؟ قالوا يقول القرآن مخلوق . فقال : هذا كافر ) ( كنا عند يزيد بن هارون وشاذ بن يحيى يناظره فى شىء من أمر المريسى ، وهو يدعو عليه ، فسمعنا يزيد وهو يقول : من قال القرآن مخلوق فهو كافر . ) ( يزيد بن هارون : حرضت أهل بغداد على قتل بشر المريسى غير مرة . ) ( اجتمع رأيى ورأى ابى النضر هاشم بن القاسم وجماعة من الفقهاء على أن المريسى كافر جاحد ، أرى أن يُستتاب ، فإن تاب وإلا ضربت عنقه .)
4 ـ وفى تحريض السلطة العباسية على قتل أتباع بشر المريسى صاغوا هذه الرواية الكاذبة ، وقد صاغوا لها إسنادا ينتهى الى محمد بن نوح الذى زعموا أنه قال: ( سمعت هارون أمير المؤمنين يقول : بلغنى أن بشر المريسى يزعم أن القرآن مخلوق ، والله علىّ إن أظفرنى به لأقتلنّه قتلة ما قتلتها أحدا قط .! ). الكذب ينضح من هذه الرواية ، فقد كان بشر المريسى فى بغداد فى متناول يد الرشيد لو أراد قتله لقتله دون أن يُقسم بهذه الطريقة:(والله علىّ إن أظفرنى به لأقتلنّه قتلة ما قتلتها أحدا قط .). وبنفس الجرأة الهائلة على الكذب يذكر ابن الجوزى فى المنتظم نفس الرواية ولكن باسناد مختلف ،يقول ابن الجوزى : ( أخبرنا عبد الرحمن بن محمد القزاز قال: أخبرنا أحمد بن علي قال: أخبرنا حمد بن أحمد بن أبي طاهر أخبرنا أبو بكر النجاد حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: حدثني أحمد بن إبراهيم الدورقي قال: حدثني محمد بن نوح قال: سمعت هارون أمير المؤمنين يقول: بلغني أن بشر المريسي يزعم أن القرآن مخلوق لله علي إن أظفرني به لأقتلنه قتلة ما قتلها أحد قط .). المهم هنا أن ( محمد بن نوح ) الذى يزعمون أنه سمع هارون أمير المؤمنين يقول كذا ، لم يسمع هارون الخليفة ، ولم يكن له أن يحضر مجلسا لهذا الهارون الخليفة سواء كان الخليفة هارون الرشيد أو هارون الواثق حفيد الرشيد . موضوع ( خلق القرآن ) صار أزمة فى السنة الأخيرة من خلافة المأمون . وقد أسفر فى النهاية على إصرار إثنين فقط على معارضة المأمون وهما ابن حنبل ورفيقه الشاب محمد بن نوح . ومات فى الطريق محمد بن نوح عام 218 . فى نفس العام الذى مات فيه بشر المريسى ، وترجم لهما ابن الجوزى فى وفيات نفس العام 218 . مات ابن نوح شابا . أى نفترض أن هذا الشاب عاش خمسا وعشرين عاما فإن مولده عام 193 ، أى ولد فى السنة التى مات فيها هارون الرشيد 193 فمتى التقى بالرشيد ؟. . وإذا كان المقصود أنه سمعه من الخليفة هارون الواثق ، فقد مات محمد بن نوح عام 218 ، وتولى هارون الواثق الخلافة عام 227 ،بعد موت ابن نوح بتسعة أعوام ، فمتى إجتمع ابن نوح بهارون الواثق ؟.!
5 ـ لم يتورعوا أيضا عن نسبة الروايات الكاذبة للشافعى فى التحريض غلى قتل مرسى .ومعلوم أن القول بخلق القرآن ظهر بعد موت الشافعى المتوفى عام 204 . والشافعى إنتقل من العراق وإستقر فى مصر من عام 199 ومات فيها قبل موضوع خلق القرآن ب15 عاما تقريبا ، وحتى لو حدث هذا الموضوع فى حياة الشافعى فقد كان وقتها فى مصر منشغلا بتملية كتابه ( الأم ) ، ولا شأن له بما يجرى فى بغداد . إلا أن الأكاذيب الحنبلية تجعل الشافعى عدوا لبشر المريسى بسبب موضوع خلق القرآن ، بل تجعل أم المريسى تحكم بكفر إبنها بسبب خلق القرآن ، يقول أحدهم :( سمعت الشافعى يقول : دخلت بغداد فنزلت على بشر المريسى فأنزلنى فى غرفة له ، فقالت لى أمه : لم جئت الى هذا ؟ قلت أسمع منه العلم . فقالت : هذا زنديق .)، ويقول كاذب حنبلى آخر أن الشافعى قال له:( كلمتنى أم المريسى أن أكلم المريسى أن يكف عن الكلام ، فلما كلمته دعانى اليه فقال : إن هذا دين ، قال فقلت إن أمك كلمتنى أن أكلمك ). ويزعم كاذب حنبلى أن الشافعى دخل على الخليفة ( ولا نعرف من هو هذا الخليفة ) ، تقول الرواية : ( دخل الشافعى على أمير المؤمنين وعنده بشر المريسى ، فقال أمير المؤمنين للشافعى : ألا تدرى من هذا ؟ هذا بشر المريسى .! فقال له الشافعى : أدخلك الله فى أسفل سافلين مع فرعون ، وهامان وقارون . فقال المريسى : أدخلك الله أعلى عليين مع محمد وابراهيم وموسى . قال محمد بن اسحاق : فذكرت هذه الحكاية لبعض أصحابنا فقال لى : ألا تدرى أى شىء أراد المريسى بقوله ، كان منه طنزا ( أى سخرية ) لأنه يقول ليس ثمة جنة ونار . ).
6 ـ وفى مجال التحريض أيضا فهناك روايات أخرى تجعله يهودي الأصل أسلم ليدمر الاسلام .يقول حنبلى كاذب : ( مررت فى الطريق فإذا بشر المريسى والناس عليه مجتمعون، فمرّ يهودى فأنا فسمعته يقول : لا يفسد عليكم كتابكم كما أفسد أبوه علينا التوراة .! يعنى ان أباه كان يهوديا ). هنا نرى يهوديا مهموما بالاسلام والمسلمين يحذّر من خطر المريسى على الاسلام ، حتى لا يفعل بالاسلام مثلما فعل أبوه بالتوراة ، وطبعا لا نعرف بالضبط ما حدث للتوراة وقتها ، وماهو بالضبط الذى فعله والد المريسى ، ومن هو هذا ( الحبر ) اليهودى والد بشر المزعوم ، وأين هذا من نسب بشر الحقيقى الذى يذكره الخطيب نفسه فى مقدمة ترجمة بشر ،إذ يقول عنه : ( بشر بن غياث بن أبى كريمة ، أبو عبد الرحمن المريسى ، مولى زيد بن الخطاب .) . أى اسلم جده الأكبر على يد زيد بن الخطاب أخ عمر بن الخطاب، فأصبح طبقا لتقاليد العصر وقتها منتسبا له بالولاء . ولكن نفهم طبقا للرواية الكاذبة أن أباه كان من أحبار اليهود فى العصر العباسى.!. وتأتى الرواية التالية بكذبة متناقضة تجعل والد بشر المريسى يهوديا صبّاغا فى الكوفة وليس من أحبار اليهود فى العصر العباسى . ويأتى هذا ضمن قائمة من التحقير والتكفير والتفسيق تنم عن كراهية حنبلية هائلة لبشر المريسى ، يقول الكاذب الحنبلى : ( رأيت بشر المريسى ـ عليه لعنة الله ـ مرة واحدة ، شيخا قصيرا دميم المنظر ، وسخ الثياب وافر الشعر ، أشبه شىء باليهود . وكان أبوه يهوديا صباغا فى الكوفة . ثم قال : لا يرحمه الله ، وقد كان فاسقا . ).
7 ـ وفى مجال التحريض أيضا يقومون بشيطنة بشر المريسى وجعله من أتباع الشيطان ، وينسبون لابليس وحيا يقوله لهم عن بشر . وقد يكون هذا مضحكا للعقلاء فى عصرنا ، ولكنه كان مُقنعا للعوام وثقافة الحنبلية فى العصر العباسى وعصرنا . يقول حنبلى كاذب : ( رأيت ليلة جمعة ونحن فى طريق خراسان .. ابليس فى المنام ، قال : وإذا بدنه ملبس شعرا ، ورأسه الى أسفل ، ورجليه الى فوق ، وفى بدنه عيون مثل النار . قلت له : من أنت ؟ قال : أنا ابليس . قلت له : وأين تريد ؟ قال : بشر بن يحيى ، رجل عندنا بمرو يرى رأى المريسى ، وما من مدينة إلا ولى فيها خليفة . قلت : من خليفتك بالعراق ؟ قال : بشر المريسى . دعا الناس الى ما عجزت عنه ، قال : القرآن مخلوق . )، ويقول كاذب حنبلى آخر ( رأيت فى المنام إبليس رجلاه فى الأرض ورأسه فى السماء ، اسود مثل الليل ، وله عينان فى صدره ، فلما رأيته قلت : من أنت ؟ قال : هو ابليس . فجعلت اقرأ آية الكرسى . قال فقلت له : من أقدمك هذه البلاد ؟ قال : الى بشر بن يحيى ، رجل من الجهمية ( المعتزلة )، قلت : من إستخلفت بالعراق ؟ قال : ما من مدينة ولا قرية إلا ولى فيها خليفة . قلت : فمن خليفتك بالعراق ؟ فقال : بشر المريسى . دعا الناس الى أمر عجزت عنه . ) .
ثانيا : ـ عصر الخليفة العباسى القادر بالله بين الإغتيال المعنوى وإبادة المعتزلة
1 ـ تولى الخلافة عام 381 . وفيه راجت إشاعات الحنابلة عن المعتزلة بحيث أصبح تكفيرهم من أسس الدين السائد. وقد تأثر بهذا المؤرخ الحنبلى الخطيب البغدادى وسجلها فى ترجمته لبشر المريسى وغيره . كما تأثر بهذا المناخ الخليفة العباسى القادر بالله . وقد أدرك الخطيب البغدادى خلافة القادر بالله لأن الخطيب مات عام 436 ، ومات الخليفة القادر عام 422 . وقد ترجم له أيضا فى ( تاريخ بغداد ) وقال عنه : ( رأيت القادربالله دفعات ، وكان أبيض حسن الجسم كث اللحية طويلها يخضب. ) ومدحه الخطيب فقال عنه : ( وكان من أهل الستر والديانة وإدامة التهجد بالليل وكثرة البر والصدقات على صفة اشتهرت عنه وعرف بها عند كل أحد مع حسن المذهب وصحة الاعتقاد .) الوصف بحُسن المذهب وصحة الاعتقاد يعنى عند الخطيب البغدادى : الالتزام بالدين الحنبلى ، وغير ذلك فهو ( البدعة ). وقد كتب القادر بالله يدافع عن مذهبه الحنبلى ، يقول عنه الخطيب: ( وكان صنف كتابًا فيه الأصول ذكر فيه فضائل الصحابة على ترتيب مذهب أصحاب الحديث ، وأورد في كتابه فضائل عمر بن عبد العزيز، أفكار المعتزلة والقائلين بخلق القرآن . وكان الكتاب يقرأ في كل جمعة في حلقة أصحاب الحديث بجامع المهدي ويحضر الناس سماعه. ). وكوفىء هذا الخليفة على حنبليته يصناعة حديث يشير الى تزكيته ، ورواه الخطيب : ( لا تهلك هذه الأمة حتى يكون فيها إثنا عشر خليفة كلهم يعمل بالهدى ودين الحق ، منهم رجلان من أهل بيت النبى ، يعيش أحدهما أربعين سنة والآخر ثلاثين سنة . ) واستمرت خلافته 41 سنة وعشرة اشهر واحدى عشر يوما . ( تاريخ بغداد ج 4 ص 37 : 38 ) .
2 ـ وفي عام 408، يقول ابن الجوزى تحت عنوان : ( استتاب القادر المبتدعة): ( استتاب القادر بالله أمير المؤمنين فقهاء المعتزلة الحنفية، فأظهروا الرجوع ، وتبرأوا من الاعتزال . ثم نهاهم عن الكلام والتدريس والمناظرة في الاعتزال والرفض والمقالات المخالفة للإسلام .وأخذ خطوطهم بذلك ، وأنهم متى خالفوه حلّ بهم من النكال و"RTL"> 5 ـ وشهد نفس العام 420 حربا فكرية بمنشورات وأجتماعات رسمية فى تحريم وتجريم المعتزلة وغيرهم لاستئصالهم فى العراق . فى أحداث 18 شعبان يقول ابن الجوزى : ( جُمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء في دار الخلافة ، وقرئ عليهم كتاب طويل ، عمله الخليفة القادر بالله ، يتضمن الوعظ وتفضيل مذهب السنة والطعن على المعتزلة وإيراد الأخبار الكثيرة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة...) . ( وفي يوم الخميس لعشر بقين من شهر رمضان: (جُمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء والوعاظ والزهاد إلى دار الخلافة ، وقرأ عليهم أبو الحسن بن حاجب النعمان كتابًا طويلًا عمله الخليفة القادر بالله ، وذكر فيه أخبارًا من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته ، وما روي عنه في عدة أمور من الدين وشرائعه . وخرج من ذلك إلى الطعن على من يقول بخلق القرآن وتفسيقه ، وحكاية ما جرى بين عبد العزيز وبشر المريسي فيه ثم ختم القول بالوعظ والأمر .) ، وتكرر هذا فى شهر ذى القعدة :( وفي يوم الإثنين غرة ذي القعدة: جمع القضاة والشهود والفقهاء والوعاظ والزهاد إلى دار الخلافة وقرئ عليهم كتاب طويل جدًا يتضمن ذكر أبي بكر وعمر وفضائلهما ووفاة النبي صلى الله عليه وسلم والطعن على من يقول بخلق القرآن ، وأعيد فيه ما جرى بين بشر المريسي وعبد العزيز المكي في ذاك ويخرج من هذا الوعظ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وأقام الناس إلى بعد العتمة حتى استوفيت قراءته ، ثم أخذت خطوطهم في آخره بحضورهم وسماع ما سمعوه..). هنا نرى تأثرهم بالروايات الى صنعها الحنابلة فى إغتيال شخصية بشر المريسى بعد قرنين من وفاته . أى أن هذه الحرب الفكرية نجحت أخيرا فى إستئصال المعتزلة .
5 ـ ومات الخليفة القادر عام 422 وتولى بعده إبنه الخليفة القائم ابن الخليفة القادر، الذى اصدر عام 433 منشورا رسميا بصياغة دين الدولة العباسية وقتها إشتهر باسم ( الإعتقاد القادرى ) . يقول ابن الجوزى : ( وفى هذه السنة: قرئ الاعتقاد القادري في الديوان.) . ( ..أخرج الإمام القائـم بأمـر اللـه أميـر المؤمنين أبو جعفر ابن القادر بالله في سنة نيف وثلاثين وأربعمائة الاعتقاد القـادري الـذي ذكره القـادر. فقـُرئ فـي الديـوان وحضـر الزهاد والعلماء وممن حضر الشيخ أبو الحسن علي بن عمر القزويني ، فكتب خطة تحته قبل أن يكتب الفقهاء ، وكتب الفقهاء خطوطهم فيه: أن هذا اعتقاد المسلمين ومن خالفه فقد فسق وكفر . ). وجاء فيه عن القرآن :( ومن قال أنه مخلوق على حال من الأحوال فهو كافر حلال الدم بعد الاستتابة منه . ).
ثالثا : بقايا المعتزلة بعد ( الاعتقاد القادرى )
1 ـ مات الخليفة القائم عام 467 ، وفى أواخر خلافته إنتهى نفوذ بنى بويه ، وتحكم الأتراك السلاجقة فى الخلافة ، وكان نظام الملك الوزير المشهور للسلاجقة واسع الأفق فتشجع فى بغداد بعض المعتزلة الساكتين فاعلنوا عن أنفسهم . وقتها كانت هناك فرقة حنبلية ارهابية فى بغداد يتزعمها أحد العوام واسمه عبد الصمد ، تقوم بتطبق تغيير المنكر بأن تطارد من تتهمه بالتشيع أو الاعتزال ، وتُجبرهم على الصلاة فى المسجد الجامع ( جامع المنصور ) الذى يسيطر عليه الحنابلة ، يقول ابن الجوزى فى أحداث عام 456 : ( وفـي يـوم الجمعـة الثانـي عشـر مـن شعبـان هجـم قـوم مـن أصحـاب عبـد الصمد ،على أبي علي بن الوليد المدرس لمذهب المعتزلة فسبوه وشتموه لا متناعه من الصلاة في الجامع وتدرسيه لهذا المذهب.) سمح نظام الملك ـ وكان أشعريا ـ بتدريس الاعتزال ، وكان قد زار بغداد . ) . فهجم عبد الصمد بأعوانه على المدرسة والمدرس لاجبارهم على الصلاة فى الجامع الحنبلى ، ولأنهم يتعلمون مذهب الاعتزال . وتشجع المدرس المعتزلى فلعنهم : ( فقال لهم: لعن الله من لا يؤثر الصلاة ولعن الله من يمنعني منها ويخيفني فيها.) ويرى ابن الجوزى إن المدرس المعتزلى كان يقصد عوام الحنابلة الذين يستحلون دماء المعتزلة ، يقول عن المدرس المعتزلى : ( إيماء إليهـم وإلـى أمثالهـم من العوام ، لما يعتقدونه في أهل هذا المذهب من استحلال الدم ونسبتهم إلى الكفر. ) فهجم عليه رعاع الحنبلية فصرخ مستغيثا بأهل الحى فخاف الحنابلة فتركوه . يقول ابن الجوزى : ( وأوقعوا به وجرحوه وصاح صياحًا ، خافوا اجتماع أهل الموضع معه عليهمن فتركوه . ثم أغلق بابه . ) وقام الحنابلة بالتشنيع على المعتزلة فى الجامع الكبير فى بغداد ( جامع المنصور ) . يقول ابن الجوزى : ( واتصل اللعن للمعتزلة في جامع المنصور. وجلس أبو سعد بن أبي عمامة فلعن المعتزلة . ).
2 ـ ظهر الشيخ المعتزلى أبو يوسف القزوينى بعد خفوت مفعول الاعتقاد القادرى. وهو مولود عام 392 ، وتوفى عام 488 فى خلافة المسترشد العباسى ، أى عاش ستا وتسعين سنة ، وكان عمره 28 عاما وقت محنة المعتزلة فى خلافة القادر بالله العباسى عام 420 ، ولهذا هاجر الى مصر الفاطمية ، وظل فيها اربعين عاما ، ثم عاد الى بغداد متشجعا بالتغيير الذى أحدثه الوزير نظام الملك فى بغداد فأخذ يعلن مذهبه . يقول عنه ابن الجوزى : ( أحد شيوخ المعتزلة المجاهرين بالمذهب الدعاة . قرأ على عبد الجبار الهمذاني . ورحل إلى مصر ، وأقام بها أربعين سنة . وحصل أحمالًا من الكتب فحملها إلى بغداد. .. وفسّر القرآن فـي سبعمائـة مجلـد . ) هنا شيخ معتزلى يجاهر بأنه معتزلى . يقول ابن الجوزى عنه :( وكان يفتخر ويقول: "أنا معتزلي " ، وكان ذلك جهلًا منه لأنه يخاطر بدمه في مذهب لا يساوي . ) ابن الجوزى يعتبر إعلانه عن مذهبه مخاطرة بحياته فى سبيل مذهب لا يساوى .!. الطريف هى هذه الرواية التى تعكس سماحة الوزير نظام الملك وقد دخل عليه أبو يوسف القزوينى فوجد عند شيخا حنبليا وآخر أشعريا . تقول الرواية : ( دخـل أبـو يوسـف علـى نظام الملك ، وعنده أبو محمد التميمي ورجل آخر أشعري ، فقال له: أيها الصدر قد اجتمع عندك رؤوس أهل النار. فقال: كيف ؟ فقال: أنا معتزلي وهذا مشبه وذاك أشعري ، وبعضنا يُكَفِّر بعضًا.) .
3 ـ كانت هذه الإنفراجة المعتزلية مرتبطة بعصر وشخص الوزير نظام الملك ، إنتهت بعد إغتياله فى رمضان عام 485 . شفاء الناس من التخلف الحنبلى إحتاج الى إستمرار لسياسة نظام الملك فى التسامح وفى إنشاء المدارس والانفناح على الإتجاهات العقلية ، نظام الملك هو الذى أنشأ المدرسة النظامية فى بغداد ، وهو الذى أعاد بعضا من حرية الفكر ، وهو الذى قام بتحجيم الحنابلة فاستحق نقمتهم . عادت الأمور الى ما كانت عليه بسبب عامل آخر هو إنتشار التصوف . قام الحنابلة بتجهيز المناخ لانتشار التصوف ، وهو الأكثر من الحنبلية فى التعبير عن خرافات وعقليات العوام ، ولأن الحنبلية قامت بارهاب أصحاب الفكر من داخل دين السُّنة نفسه . أقاموا محنة للطبرى وللأشاعرة . نتوقف معهما فى المقال القادم .
الفصل الثانى : الحنابلة ومحنة الطبرى
تسيد عقلية العوام الحنبلية
1 ـ سبق الإستشهاد بما قاله ابن الجوزى فى المنتظم فى حوادث عام 408 : ( وامتثل يمين الدولة وأمين الملة أبو القاسم محمود أمر أمير المؤمنين ، واستن بسننه في أعماله التي استخلفه عليها من خراسان وغيرها في قتل المعتزلة والرافضة والإسماعيلية والقرامطة والجهمية والمشبهة ، وصلبهم ، وحبسهم ، ونفاهم ، وأمر بلعنهم على منابر المسلمين ، وإيعاد كل طائفة من أهل البدع وطردهم عن ديارهم. وصار ذلك سنة في الإسلام.). وقد كان مستحيلا قتل السكان الشيعة وطوائفهم ( الرافضة والاسماعيلية ). إقتصر القتل على النشطاء منهم . وكان مستحيلا إستئصال كل المثقفين المعتزلة ومن يقاربهم من ( الجهمية والمشبهة ) لأن التقية واردة ، والتظاهر بالتوبة وارد ، كما أن العقائد لا يمكن إبادتها بقوة السلاح .إنّ الذى قضى فعلا على الفكر المعتزلى والحياة العقلية والتقدم العلمى هو تسيد العوام الحنابلة بجهلهم وفرض هذا الجهل باسم ( الٍسُّنّة ) والاسلام .
2 ـ ولكن تركزت سطوة الحنابلة أكثر فى بغداد والعراق ، فإستمر العلم الحقيقى بعض الشىء خارج العراق فى الشرق ومصر والاندلس . وكان يُنادى فى بغداد عام 279 بتحريم كتب الفلسفة ، وفي نصف رمضان عام 311 أحرق الحنبلة العوام أكواما من الكتب الفلسفية والدينية والمصاحف مما سمّاه ابن الجوزى ( أربعة أعدال من كتب الزنادقة ، فسقط منها ذهب وفضة مما كان على المصاحف ، له قدر .). وبينما كان رعاع الحنابلة يحاصرون ابن جرير الطبرى حتى مات عام 310 ، فإن البيئة العلمية خارج بغداد ظلت يتخرج فيها ( أفراد قلائل ) من ( أفذاذ ) العلماء الذين يفخر بهم التاريخ الانسانى برغم أنف الحنابلة . على سبيل المثال ، فى شرق العراق ظهر الفارابى ت 329 والرازى الطبيب ت 311 وابن سينا ت 428 والبيرونى 440 . وفى مصر ابن الهيثم ت 430 وفى النهاية ابن النفيس ت 607.
3 ـ وتبدو سطوة الحنابلة فى أنهم جعلوا تعلم الحديث ( سماع الحديث وحفظه ) هو بداية العلم للجميع ، واساس الشهرة و الوسيلة للتوظيف، وكان هذا خلافا لما كان عليه الأمر فى العصر العباسى الأول حيث كان الرواد من غير المسلمين ، ومن كان مسلما لم تكن له مشاركة فى سماع الحديث لانشغالهم بالعلم الحقيقى وترجمة التراث الفلسفى اليونانى . ولكن نلاحظ بدءا من القرن الرابع تعلم العلماء الحقيقيين للحديث ، فابن الهيثم نشأ فى البصرة وتعلم فيها الحديث ثم إنتقل الى مصر فأبدع . ودرس ابن النفيس فى دمشق الفقه الشافعى وكتب فى التفسير ثم انتقل الى القاهرة ليبدع ، أما ابن رشد الاندلسى فقد كان قاضيا للقضاة فى إشبيلية وفقيها فى المذهب المالكى وطبيبا ، وأبرع فيلسوف فى عصره . وقد أحرق الحنابلة هناك كتبه ورموه بالالحاد ، ومات عام 595 .
4 ـ وبمرور الزمن إنعدم وجود هؤلاء (الأفراد القلائل الأفذاذ )، وإنمحى التنوير وعمّت ظلمات الحنبلية ، بل وتصدرت خرافات العوام الساحة العلمية. وبعد الخطوة العلمية الهائلة التى حققها ابن سينا والرازى وابن الهيثم والببرونى والخوارزمى ..الخ تصدّر أهل الفقه والحديث الساحة فى العلوم الطبيعية يملأونها بخرافات عقولهم العامية ، ويحصنونها بأحاديث ، بدأ ذلك البخارى بأحاديث سجود الشمس عند عرش الرحمن والتداوى ببول الإبل ، وسار على الطريق آخرون.ودرسنا هذا العفن فى مقررات التفسير والحديث فى الأزهر من أن الأرض يحملها حوت إسمه ( بهموت فمشكل )، وأن الشمس تدور حول الأرض ،وأن عدد الكواكب ستة ، بالاضافة الى رضاعة الكبير !.
5 ـ عقلية العوام هذه كانت لا تفرّق بين الرعاع وعلية القوم إذ ساوى بينهم دين الحنبلية . ونأخذ مثالا على ذلك بالوزير أبى شجاع المتوفى عام 488 ، والذى كان أبوه وزيرا ، ثم أصبح وزيرا للخليفة المقتدى العباسى ، أى نشأ فى طبقة عالية ، ولكنه تعلم الحنبلية وأخلص لها فكان فى وزارته معبرا عنها ملتصقا بالعوام الحنابلة . وقد ملأ ابن الجوزى ترجمته بالمدح والتقريظ وتعداد مناقبه ، وبين السطور نعرف صلته بالعوام وإنتماءه لهم مع انه وزير ابن وزير . يقول عنه ابن الجوزى:( وأوطـأ العـوام والصالحيـن مجلسـه ، وكـان يحضـر الفقهـاء الديوان في كل مشكل . )أى فتح للعوام مجلسه، وكان يستشير فقهاء الحنابلة فى سياسته . وفى نفس الوقت تعصب ضد (أهل الذمة )، يقول ابن الجوزى:( وألبس أهل الذمة الغيـار وتقـدم إلـى ابـن الخرقـي المحتسـب أن يـؤدب كـل مَنْ فتح دكانه يوم الجمعة ويغلقه يوم السبت من البزازين وغيرهم وقال: هذه مشاركة لليهود في حفظ سبتهم.) وكالفقهاء الحنابلة كان موسوسا :( وكانت به وسوسة في الطهارة.). وقد تشجع العوام بسطوتهم فى غيابه فأسقطوا هيبة الدولة ممّا جعل الخليفة يغضب عليه ويأمره بالحزم معهم ، فاضطر للتصرف معهم بما يستحقون ، فانقلبوا عليه ، واتهموه بالتشيع وأصبحوا خصوما له . يقول ابن الجوزى : ( كان الوزير أبو شجاع كثير البر للخلق كثير التلطف بهم ، فقدم من الحج وقد اتفـق نفـور العـوام نفـورًا أريقـت فيهـا الدمـاء وانبسـط ، حتـى هجموا على الديوان وبطشوا بالأبواب والستور ، فخرج من الخليفة إنكار عليه ، وأمره أن يلبس أخلاق السياسة لتنحسم مادة الفساد ، فأدَّب وضرب وبطش ، فانبسطت فيه الألسنة بأنـواع التهـم ، حتـى قـال قـوم: هـا هـو إسماعيلـي ،وهبـط عندهـم مـا تقدم من إحسانه.).وعزله نظام الملك فحاز عطف العوام :( ولما عزل الوزير أبو شجاع خرجِ إلى الجامع يوم الجمعة فانثالت عليـه العامـة تصافحه وتدعو له .. ) فأمر نظام الملك بنفيه من بغداد : ( ثم وردت كتب نظام الملك بإخراجه من بغداد فأخرج إلى بلده ، فأقام مدة ، ثم استأذن في الحج ، فأذن له فخرج.) ( ..وجاور بالمدينة ، فلما مرض مرض الموت حُمل إلى مسجـد رسـول اللّـه صلـى اللـه عليـه وسلـم فوقـف بالحضـرة وبكـى وقـال: يـا رسول الله قال اللهّ عز وجل {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤك فاستغفروا اللّه واستغفر لهم الرسول لوجدوا اللّه توابًا رحيمًا} وقد جئت معترفًا بذنوبي وجرائمي أرجو شفاعتك وبكى. ).أى كان معتقدا فى الشفاعة حتى آخر عمره .
ثانيا : عقلية العوام وتسليح العوام
1 ـ نُعيد مقالة ابن الجوزى عن العوام فى وزارة أبى شجاع : ( كان الوزير أبو شجاع كثير البر للخلق كثير التلطف بهم ، فقدم من الحج وقد اتفـق نفـور العـوام نفـورًا أريقـت فيهـا الدمـاء وانبسـط ، حتـى هجموا على الديوان وبطشوا بالأبواب والستور ، ). ابن الجوزى كالعهد به يفتقر للأمانة التاريخية فيما يخص الحنابلة ، وهو هنا يوجز الحديث فى التخريب وسفك الدماء الذى قام به عوام الحنابلة ، والذى إمتد من الشارع الى الديوان والبلاط العباسى فسبّب غضب الخليفة ودفعه لتعنيف الوزير ، والذى كان سببا فى أن عزله نظام الملك . المستفاد هنا ليس فقط سطوة العوام الحنابلة حتى فى تعاملهم مع السُّلطة العباسية بل أيضا فى تسلحهم بما يمكّنهم من إقتحام أسوار القصور العباسية والديوان الحكومى .
2 ـ قبلها وقت سيطرة أبى طاهر جلال الدولة البويهى على الخلافة العباسية ( 416 : 435 ) وفى السنة الثانية فى خلافة القائم الذى تولى بعد موت أبيه القادر العباسى ، أراد الملك البويهى إذلال الخليفة القائم ، فنزل ببعض حاشيته فى 11 شوال عام 423 فـي يـوم الأربعـاء فى بستان قصر الخلافة ، واخذ يشرب الخمر وتعزف له الموسيقى ، يقول ابن الجوزى: ( وعرف الخليفة ذلك فشق عليه وأزعجه ) وارسل الخليفة له القاضى والحاجب برجاء الاكتفاء بالانبساط دون الخمر والزمر فرفض، واستمرت المفاوضات وانتهت برحيل السلطان بسبب تجمهر العوام وهم مسلحون ، يقول ابن الجوزى :( واجتمع من العامـة علـى دجلـة خلـق كثيـر ، يهـزأون بالقـول ، ويخرجـون إلى الحرق، ومعهم سيوف وسكاكين مستورة .). هؤلاء العوام أعطاهم القادر بالله العباسى سلطة القضاء على المعتزلة ، فقاموا بحماية إبنه القائم . والسؤال الآن : ماذا يفعل الطبرى فى شيخوخته أمام هؤلاء العوام الحنابلة المسلحين ؟
3 ـ عن حالة الخلافة العباسية فى عهد بنى بويه الديالمة نقرأ ما حدث للخليفة المستكفى من إهانته وعزله وسمل عينيه ونهب داره عام 334 ، يقول ابن الجوزى : ( وفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الآخرة: انحدر معز الدولة إلى دار الخلافة ، فسلم على الخليفة، وقبل الأرض ، وقبل يد المستكفي ، وطرح له كرسي فجلس، ثم تقدم رجلان من الديلم فمدا أيديهما إلى المستكفي وطالبا بالرزق، فلما مدا أيديهما ظن أنهما يريدان تقبيل يده ، فناولهما يده ، فجذباه فنكساه من السرير، ووضعا عمامته في عنقه ، وجراه .ونهض معز الدولة واضطرب الناس ،ودخل الديلم إلى دور الحرم ، وحُمل المستكفي راجلًا إلى دار معز الدولة ،فاعتقل بها ، وخُلع من الخلافة .ونهبت الدار حتى لم يبق بها شيء . وسُمل المستكفي. وكانت مدة خلافته سنة وأربعة أشهر ويومين. وأحضر الفضل بن المقتدر يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الآخرة ، فبويع ولُقّب المطيع لله.). وولّوا خليفة جديدا أسموه ( المطيع ) وظل فى الخلافة حتى عام 363 . هذا الخليفة (المطيع ) كان يرتعب من الحنبلية . يروى ابن الجوزى فى سيرته عن أحدهم : ( سمعت المطيع لله يقول: وقد أحدق به خلق كثير من الحنابلة حزروا ثلاثين ألفًا ، فأراد أن يتقرب إليهم فقال: سمعت شيخي ابن بنت منيع يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: إذا مات أصدقاء الرجل ذلّ.).!!..
محنة الطبرى بين عقلية العوام وهمجية العوام :
1 ـ لقد أدت شهرة الطبري إلى حقد أئمة الحنابلة السنيين عليه فتعصبوا ضده، وأثاروا عليه غوغاءهم . ومن طبيعة العوام ألّا تستريح للعلماء المجتهدين. وإذا كان لأولئك العوام سُلطة فالضحايا هم العلماء المجتهدون حتى من داخل نفس الدين والمذهب . يقول ابن كثير في تاريخه عن الطبري" كانت وفاته وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر وثلاثمائة ، وقد جاوز الثمانين بخمس سنين،ودفن في داره ، لأن بعض عوام الحنابلة ورعاعهم منعوا دفنه نهاراً، ومن الجهلة من رماه بالإلحاد، وحاشاه من ذلك كله، بل كان أحد أئمة الإسلام علماً وعملاً بكتاب الله وسنته رسوله، وإنما تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود الظاهري حيث كان يتكلم فيه ويرميه بالعظائم. ) . إبن كثير كان يعرف قدر الطبرى ، وقد تأثر ابن كثير بالطبرى فى تاريخه ( البداية والنهاية ) : ( تاريخ ابن كثير ) وفى تفسيره ( تفسير ابن كثير ). وابن كثير هنا يصف الحنبلة بالعوام والرعاع وبالجهلة ، مع إنه كان حنبليا . 2ـ وربما بسبب حنبليته فإن إبن كثير أعرض عن تفصيلات محنة الطبرى التى ذكرها المؤرخ صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي، الذى يذكر أن الطبري حين قدم بغداد من طبرستان تعصب عليه ابن الجصاص وابن عرفة والبياضي وأثاروا عليه عوام الحنابلة ، فسألوه في المسائل الخلافية ، ولما لم ترضهم إجابته رموه بمحابرهم ، وكانت ألوفاً ، فهرب منهم إلى داره . فردموا داره بالحجارة، حتى صارت الحجارة على باب داره كالتل العظيم، وركب نازوك صاحب الشرطة ففرق الناس عن داره بعشرات الألوف من الجنود، واضطر الطبري للاعتكاف في داره، وعمل كتابه المشهور في الاعتذار إليهم، ومات، وعثروا على ذلك الكتاب مدفوناً في التراب فأخرجوه ونسخوه بعد موته..!! ويذكر المؤرخون أن العوام منعوا دفنه علناً، فدفنوه سراً، ثم أتى الناس أفواجاً إلى قبره فيما بعد يترحمون عليه...!! المؤسف هنا أن الطبرى فى هذه المحنة كان عمره 85 عاما ، وعومل بهذا الشكل فى شيخوخته .!
2 ـ الغريب أن الخطيب البغدادى يتجاهل تفصيلات محنة الطبرى مع أنه أوسع له فى ترجمته فى تاريخ بغداد . كل ما قاله عن محنة الطبرى قول أحدهم : ( ما أعلم على أديم الأرض أعلم من محمد بن جرير ( الطبرى ) ، ولقد ظلمته الحنابلة .! )، وسئل أحدهم : ( هل سمعت من محمد ين جرير شيئا ؟ فقال : لا ، إنه ببغداد ، لا يُدخل عليه لأجل الحنابلة ،وكانت تمنع منه . فقال : لو سمعت منه لكان خيرا لك من جميع من سمعت من سواه .) ( تاريخ بغداد للخطيب : ( 2 / 164 ـ ).
3 ـ الأغرب هو موقف ابن الجوزى الذى إنتصر للحنابلة ضد الطبرى المظلوم ، مع أن ابن الجوزى عالة على الطبرى فى التاريخ والتفسير والحديث . ولكن تعصب ابن الجوزى للحنابلة فاق الحدّ . فى حوادث عام 309 : وفي ذي القعدة، يروى ابن الجوزى : ( أحضر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري دار علي بن عيسى لمناظرة الحنابلة فحضر ولم يحضروا ، فعاد إلى منزله . وكانوا قد نقموا عيه أشياء. ) ، أى نقم عليه الحنابلة رأيه فى موضوع الاستواء على العرش ( مثلا ) فحضر لمناظرتهم فتهربوا من مناظرته. لقد تحدى الطبرى أئمة الحنابلة،وبدلا من المناظرة أرسلوا له جيوشهم من الرعاع تحاصره فى بيته الى أن مات .!.وحين يأتى ابن الجوزى الى وفيات 310 ، وترجمته للطبرى، نجده قد تجاهل تفاصيل محنة الطبرى. قال عنه : ( استوطن ابن جرير بغداد إلى حين وفاته. وكان قد جمع من العلوم ما رأس به أهل عصره . وكان حافظًا للقرآن بصيرًا بالمعاني عالمًا بالسنن فقيهًا في الأحكام عالمًا باختلاف العلماء خبيرًا بأيام الناس وأخبارهم . وتصانيفه كثيرة منها: كتاب التاريخ وكتاب التفسير وتهذيب الآثار إلا أنه لم يتمم تصنيفه ، وله في أصول الفقه وفروعه كتب كثيرة .) ، وبعد تفصيلات عن علمه وشعره ومؤلفانه يقفز ابن الجوزى مباشرة الى وفاته كما لو كانت وفاة عادية ، يقول : ( توفي أبو جعفر الطبري وقت المغرب من عشية الأحد ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلثمائة ، ودفن وقد أضحى النهار يوم الاثنين برحبة يعقوب في ناحية باب خراسان في حجرة بإزاء داره . وقيل: بل دفن ليلًا ،ولم يؤذن به أحد ..) ثم يضطر للقول : ( أنه إنما أخفيت حاله لأن العامة اجتمعوا ومنعوا من دفنه بالنهار، وادعوا عليه الرفض ، ثم ادعوا عليه الإلحاد . ) . هنا يقول ( العامة ) ولا يقول الحنابلة . ويعبر ابن الجوزى عن تعصبه الحنبلى فيهاجم الطبرى كأنه يبرر ما حدث له :( .. كتب ابن جرير في جواب هذا إلى نصر الحاجب: " لا عصابة في الإسلام كهذه العصابة الخسيسة ". وهذا قبيح منه ، لأنه كان ينبغي أن يخاصم من خاصمه ، وأما أن يذم طائفته جميعًا وهو يدري إلى من ينتسب فغاية في القبح . ) أى فطالما قال الطبرى هذا عن الحنابلة فهو يستحق ما جرى له على أيديهم .
أخيرا
ومع شهرة الطبرى فى عصرنا فإن محنة الطبرى من المسكوت عنه ، بسبب تسيد الحنبلية الوهابية .!
الفصل الثالث : الحنابلة وإضطهاد الأشاعرة
مقدمة :
1 ـ فى الدولة الدينية تتأسّس المزايدة الدينية ، والأكثر تشددا هو الذى يفوز بالمزايدة على ( المعتدلين ) أو المنافقين المتظاهرين بالاعتدال . والعادة أن الأكثر تشددا هو الأكثر جهلا ، وهو يستر جهله برفض وحظر وتحريم ما لا يعلمه . وبالتالى فبعد التخلص من العدو الخارجى تبدأ المزايدة داخليا يقوم بها الأعلى صوتا والأكثر تزمتا وبطشا ، وفى النهاية مع ترسُّخ الجهل هو الذى يفوز ، ويهبط بالجميع من الحضيض الى أسفل سافلين .
2 ـ لا ينطبق هذا فقط على الصراعات داخل الدول الدينية بل أيضا على الجماعات الدينية ، وهذا يشمل حركة الحنابلة التى زايدت على الدولة العباسية الكهنوتية ، وإستأصلت المعتزلة ( العدو الخارجى ) ثم بدأت ( تطهيرا ) داخل الدين السّنى نفسه بجعل أعظم مؤلف سُنى وهو محمد بن جرير الطبرى عبرة لكل من تسوّل له نفسه أن يفكّر ، أو أن يعلو بفكره وإجتهاده فوق سقف العقلية العامية ، حيث كان العوام وأئمتهم هم القوة الغالبة . واجه العوام ما إعتبروه عدوا آخر فى الداخل ، وهم الأشاعرة الذين وقفوا ضد العدو الخارجى ( المعتزلة ) وشنّوا ضدهم حربا فكرية ساندت الحرب الإستئصالية الجسدية . لم يسترح العوام الحنابلة للاشاعرة السنيين وما لديهم من فكر وقدرة على التنظير والجدل ، فأصبح الأشاعرة الضحية التالية بعد المعتزلة .
أولا : أبو الحسن الأشعرى ( 260 : 331 )
1 ـ ـ فى وقت محنة المعتزلة وتعرضهم للإضطهاد ، وبعد أن إنقرض الأئمة الكبار للمعتزلة وصار العصر كله ضدهم إنتهز الفرصة فقيه معتزلى مغمور كان تلميذا للجبائى المعتزلى فإنشق عن المعتزلة ، فبرز إسمه وأسس له شهرة ، وتبعه آخرون . لقد إنشقّ أبو الحسن الأشعرى عن المعتزلة مستغلا محنة المعتزلة وأملا فى شهرة أكبر من شيخه الجبائى المعتزلى ، الذى لم يكن شيئا مذكورا بالمقارنة للأئمة السابقين للمعتزلة . وبعد أن أدى الأشعرى مهمته قوبل بفتور من عوام الحنابلة ، ثم تحول النفور الى إضطهاد للأشاعرة أدى فى النهاية الى إستئصالهم فكريا ، ليغطى الجهل الحنبلى على الساحة .
2 ـ وهو (علي بن إسماعيل ) من نسل ( بلال بن أبي بردة الأشعرى ) أحد الولاة الأمويين الظالمين ، وابوه ( أبو بردة ) القاضى الذى شهد زورا لصالح معاوية وزياد بن أبيه ضد ( حُجر بن عدى ) مما أدى لقتل ( حُجر بن عدى ) أول قتيل مظلوم بسبب حرية الرأى . والجد الأكبر هو ( ابوموسى الأشعرى ) والى العراق فى عهد عمر والذى عزله عمر ، ثم كان ممثل ( على ) فى التحكيم ، فخان ثقة ( على ) وتلاعب به ( عمرو بن العاص). لا نؤاخذ أبا الحسن الأشعرى بخطايا أجداده ، ولكن ما فعله مع المعتزلة وإنشقاقه عنهم فى محنتهم يوضح أن"> 4ـ ولقد عبّر ابن الجوزى بتعصبه الحنبلى عن موقف عوام الحنابلة من أبى الحسن الأشعرى . يقول عنه فى المنتظم فى : ( تشاغل بالكلام ،) وهذا فى الاصطلاح الحنبلى أنه أضاع وقته فى علم محرم باطل . ، ويقول ابن الجوزى : ( وكان على مذهب المعتزلة زمانًا طويلًا ، ثم عنّ له مخالفتهم . وأظهر مقالة خبطت عقائد الناس وأوجبت الفتن المتصلة . ) . أى يعتبر مذهب الشاعرة خبطا فى عقائد الناس وسببا فى الفتن . ويؤاخذه ابن الجوزى بكونه معتزليا سابقا ، وأنه وافق المعتزلة بالقول فى خلق القرآن : ( .. والمعتزلة قالوا هو مخلوق فوافق الأشعري المعتزلة في أن هذا مخلوق، وقال: ليس هذا كلام الله إنما كلام الله صفة قائمة بذاته ما نزل ولا هو مما يسمع. ) . ويقول ابن الجوزى إن الأشعرى خاف على نفسه من الحنابلة فاستجار ببعضهم ليحميه من القتل : ( وما زال منذ أظهر هذا خائفًا على نفسه لخلافه أهل السنة، حتى أنه استجار بدار أبي الحسن التميمي حذرًا من القتل . ) وأنه بعد أن إنشق عن المعتزلة وجد من يحميه : ( ثم تبع أقوام من السلاطين مذهبه فتعصبوا له ، وكثر أتباعه حتى تركت الشافعية معتقد الشافعي رضي الله عنه ودانوا بقول الأشعري.). أى إن أتباع المذهب الشافعى إتبعوا الأشعرى وتركوا الحنابلة . وأورد ابن الجوزى قول أحدهم عن الأشعرى : ( .. ولم يزل معتزليًا أربعين سنة يناضل عن الاعتزال، ثم قال بعد ذلك: قد رجعت عن الاعتزال..! ) وقال آخر : ( كان الأشعري تلميذ الجبائي يدرس عليه ويتعلم منه لا يفارقه أربعين سنة.) . أى لم يغفر له الحنابلة أنه كان معتزليا من قبل . و يقول ابن الجوزى عنه بما يُشبه الاحتقار:( وتوفي ببغداد..وقبره اليوم عافي الأثر لا يُلتفت إليه.).وكان الخطيب البغدادى أقل تعصبا من ابن الجوزى ، فقال عن الأشعرى : ( صاحب الكتب والتصانيف فى الرد على الملحدة وغيرهم من المعتزلة والرافضة والجهمية والخوارج وسائر أصناف المبتدعة. )( تاريخ بغداد 11 / 346 : 347 ). لم يؤاخذه الخطيب بماضيه السابق ، وإقتصر على مدحه ونضاله ممّن جعلهم ملحدين ومبتدعين . ولكن الغلبة كانت للعوام الحنابلة وشيوخ وعظهم كابن الجوزى .
ثانيا : إرهاب الأشاعرة .
1 ـ وُلد الأشعرى فى خلافة المعتمد العباسى ، ومات فى خلافة المتقى . أى عاصر قوة النفوذ الحنبلى ، والذى وصل ذروته فى خلافة القادر وابنه القائم . ثم حدث انحسار مؤقت فى النفوذ الحنبلى مع بداية سيطرة السلاجقة ونفوذ الوزير القوى نظام الملك وإتجاهاته السنية المعتدلة والتى تلتقى مع الأشاعرة ، لذا تشجع التيار المعتزلى على الظهور فاشتبك مع الحنابلة ، وزاد فى حدة المواجهة أن بعض مناصرى الاعتزال الذين إختفوا أوتواروا عادوا للظهر فى إطار الأشعرية ، يواجهون من خلالها تخلف الحنابلة وسطوتهم . وهذا موضوع طويل يخرج عن عنوان بحثنا ، ولكن نعطى لمحة عن الصراع الحنبلى الأشعرى من خلال ما أورده ابن الجوزى فى تاريخ المنتظم.
2 ـ وفي شوال عام 469 كانت ( الفتنة بين الحنابلة والأشعرية ) ، وبدأها عبد الرحيم القشيرى المعتزلى ، وهو ابن عبد الكريم القشيرى الصوفى صاحب ( الرسالة القشيرية ) المشهورة . جاء عبد الرحيم القشيرى الى بغداد ووعظ فى المدرسة النظامية التى أسسها نظام الملك ، وشنّ هجوما على الحنابلة ، وأيده الصوفية وأبو اسحاق الشيرازى والشريف أبو جعفر فى مسجده بالرصافة، وطلبوا تأييد نظام الملك ، بما يعنى أنها خطّة مدبرة لمواجهة الحنابلة قام بها رموز الأشاعرة والصوفية والشيعة وبقايا المعتزلة . وقام عوام الحنابلة بهجوم مسلح على الشريف أبى جعفر أسفر عن قتيل ، حدثت مواجهة مسلحة ، ووصل الخبر الى الوزير نظام الملك فارسل رسالة غاضبة للوزير فى بغداد ، وخاف الخليفة المقتدى العباسى من غضب نظام الملك ، وعقد الوزير بأمر من الخليفة إجتماعا لتطيبب خاطر الشريف أبى جعفر ، حضره القشيرى والشيرازى وكبير الصوفية ، وقال القشيرى للوزير : ( أي صلح بيننا ؟ إنما يكون الصلح بيـن مختصميـن علـى ولايـة أو دنيـا أوقسمـة ميـراث أو تنازع في الملك . فأما هولاء القوم فهم يزعمون أننا كفار ونحـن نزعـم أن مـن لا يعتقـد مـا نعتقـده كافـر، فـأي صلـح بيننـا ؟ ) وقال عن الخليفة العباسى المقتدى : ( وهـذا الإمـام مفـزع المسلمين ، وقد كان جده القائم والقادر أخرجا اعتقادهما للناس وقرىء عليهم فـي دواوينهـم ). أى يذكّر بما فعله القادر بالله العباسى وإبنه القائم بالمعتزلة .وهذا يشير الى أن القشيرى كان فى حقيقته معتزليا تظاهر بأنه اشعرى لينتقم من الحنابلة . وبعد مداولات تم إحتواء الموقف المتفجّر ، ومات بعدها الشريف أبو جعفر مسموما . ويقول ابن عقيل شيخ ابن الجوزى : ( كـان النظـام ( الوزير نظام الملك ) قـد نفـذ ابـن القشيري إلى بغداد فتلقاه الحنابلة بالسب ،وكان له عرض ( أى كان يخاف على عرضه وشرفه ) فأنف من هذا ، فأخذه النظام إليه . ونفذ لهم البكري وكان ممن لا خلاق له وأخذ يسب الحنابلة ويستخـف بهـم.). أى ارسل نظام الملك بالقشيرى ليواجه خنابلة بغداد ، فقالبلوه بالسبّ والشتم فلم يحتمل ، فأمره نظام الملك بالرجوع،وأرسل الى حنابلة بغداد من يماثلهم فى القدرة على السّب وهو البكرى .
3 ـ وقد مات البكرى عام 478 وإسمه ( أبوبكر الفوركى ) . وقد قال ابن الجوزى فى ترجمته ( متحاملا عليه ) : ( وكان متكلمًا مناظرًا واعظًا..وكان يعظ في النظامية فوقعت بسببه الفتنة في المذاهب ..وكان مؤثرًا للدنيا طالبًا للجاه لا يتحاشى من لبس الحرير ... قـال شيخنـا أبـو الفضل بن ناصر: كان داعية إلى البدعة .. ) وذكر ابن الجوزى ما فعله البكرى هذا حين خطب فى جامع المنصور ( اكبر جامع فى بغداد ) ومعه العسكر الأتراك . ) وأن نظام الملك أرسله الى بغداد عوضا عن القشيرى : ( .. وكان هذا البكري فيه حدة وطيش ، وكان النظام قد أنفذ ابن القشيري فتلقاه الحنابلة بالسب ) ( فأخـذه النظـام إليـه، وبعـث إليهـم هـذا الرجـل ، وكـان ممن لا خلاق له ، فأخذ يسب الحنابلة ويستخف بهم ، وكان معه كتاب من النظام يتضمن الإذن له في الجلوس في المدرسة ، والتكلم بمذهب الأشعرية ، فجلس في الأماكن كلها .وقال: لابد من جامع المنصور. ) وهكذا خطب فى جامع المنصور تحت الحراسة ، وأخذ يسب الحنابلة فى عقر دارهم ، فحدثت مواجهة . . يقول ابن الجوزى : ( أنه لما أنفذ نظام الملك بأبي نصر ابن القشيري تكلـم بمذهب أبي الحسن فقابلوه بأسخف كلام على السن العوام ، فصبر لهم هنيئة ، ثم أنفذ البكري سفيهـًا طرقيـًا شاهد أحواله الإلحاد فحكى عن الحنابلة ما لايليق بالله سبحانه فأعزى بشتمهم . ) ويجعل ابن الجوزى موت البكرى عقوبة الاهية بسبب تهجمه على الحنابلة ، فيقول : ( فرماه الله في ذلك العضو بالخبيث فمات . ).
4 ـ وفى سنة 470 طلب أبو اسحاق الشيرازى ( الأشعرى ) من الوزير نظام الملك بأن تقف المدرسة النظامية بحزم ضد حنابلة بغداد ، فرفض نظام الملك ، وأرسل اليه رسالة مفادها بأن سياسة السلطان تستوجب الحياد بين المذاهب ( .. ونحن بتأييد السنن أولى من تشييد الفتن، ولم نتقدم ببناء هذه المدرسة إلا لصيانة أهـل العلـم والمصلحـة ، لا للاختلاف و تفريـق الكلمـة . ) وطلب نظام الملك ترك الحنابلة على معتقدهم . وسمع الحنابلة بهذا ففرحوا ، يقول ابن الجوزى :(.. فتداول هذا الكلام بين الحنابلة وسروا به وقووا معه . ). ولكن قام الأشاعرة فى المدرسة النظامية بمسيرة يقودها شيخ اسمه الاسكندرانى ، وانتهت المسيرة الى سوق الثلاثاء فى بغداد حيث أعلن الاسكندراى تكفير الحنابلة . حدث هذا فى يوم الثلاثاء الثانى من شوال عام 470 . فهاجمه الحنابلة فهرب منهم الى المدرسة النظامية مستغيثا بأهل المنطقة ليحموه من الحنابلة ، وحدثت معركة أسفرت عن قتلى . وتدخلت السُّلطة بجنودها فهزموا عوام الحنابلة وصدوا هجومهم . وتدخل القضاة وأعوانهم من ( الشهود ) لإخماد الفتنة .
5 ـ كان هذا مجرد صحوة قبل الموت للأشاعرة ، ظهرت بتشجيع نظام الملك ، وانتهت بوفاته . وحتى فى حياته فإن نظام الملك كان حريصا على إستتاب ( نظام الملك ) وكان يناصر الأشاعرة بالقدر الذى لا يتعرض فيه النظام للخطر والفتن . وبالتالى عادت سلطة الحنابلة وعوامها ، ولم يقض عليها بالتدريج سوى دين التصوف الذى سرى بين العوام وإستمالهم بعيدا عن السنة الحنبلية .
ثالثا : المزايدة داخل الحنبلية
ومن هنا نلاحظ ظاهرتين فى تاريخ سنوات القرن السادس ، حيث كان ابن الجوزى يؤرخ الأحداث شاهدا على العصر :
1 : الظاهرة الأولى خفوت الوجود للأشاعرة وإضطهاد ما يقى من رموزهم كما حدث لأبى الفتوح الاسفرايينى الذى تعرض لللإضطهاد عام 521 لأنه أنكر حديث البخارى: ( ما كذب إبراهيم إلا ثلاث كذبـات. ) ، وترتب عليه منعه من الوعظ وإستتابته واتهامه بتهم كاذبة ، وطرده من بغداد ،(فنصـره قـوم مـن الأكابـر يميلـون إلـى اعتقـاده فأعـادوه ..وزادت الفتـن فـي بغـداد وتعـرض أصحـاب أبي الفتوح بمسجد ابن جردة فرجموا ورجم معهم أبو الفتوح .وكان اذا ركب يلبس الحديد ومعه السيوف المجذبة تحفظه . ثم اجتـاز بسـوق الثلاثـاء فرُجم ، ورميت عليه الميتات .). وفى النهاية منعه الخليفة المسترشد من الوعظ وتعصب ضده الوزير ابن صدقة،يقول ابن الجوزى:( وكان الحنابلة يصيحون على عادتهم : هذا يوم سني حنبلي لا قشيري ولا أشعري، ويصرخون بسبّ أبى الفتوح (الاسفرايينى)، فمنعه(الخليفة ) المسترشد من الجلوس ، وأمر أن لا يقيم ببغداد. وكان ابن صدقة ( الوزير ) يميل إلى مذهب أهل السنة فنصرهم. ). ومات ابو الفتوح الاسفرايينى عام 538. وفى المقابل مال الأتراك السلاجقة للحنبلية ، وفى حوادث نفس عام 538 يذكر ابن الجوزى : ( قـدم مـع السلطـان فقيه كبير القدر اسمه الحسن بن أبي بكر النيسابوري وكان من أصحاب أبي حنيفة وكانت له معرفة حسنة باللغة وفهم جيد في المناظرة وجالسته مدة وسمعت مجالسه كثيرًا، فجلس بجامع القصر وجامع المنصور، وأظهر السنة ، وكان يلعن الأشعري جهرًا علـى المنبـر،ويقـول: كـن شافعيـًا ولا تكـن أشعريـًا وكنـت حنفيـًا ولا تكـن معتزليـًا وكـن حنبليًا ولاتكن مشبهًا..ومـدح الأئمـة الأربعة وذم الأشعري. ) وتعبير ( السّنّة ) عند ابن الجوزى يعنى الحنبلية .
2 : الظاهرة الثانية : هى المزايدة على التشدد داخل الحنابلة أنفسهم . إذ بعد أن خلت لهم الساحة اصبحوا كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله . كان أبو الوفاء بن عقيل أستاذا فكريا لابن الجوزى ، وربما كان هو الوحيد الذى نجا من لسان ابن الجوزى ، وكان ينقل من كتاباته النقدية معجيا ، ونرى هذا فى المنتظم وفى ( تلبيس ابليس ). ومع تفوقه فى التعصب والتزمت الحنبلى كما تشهد عليه آراؤه التى حكااها ابن الجوزى إلّا إنه إمتاز ببعض العلم فوق مستوى الرعاع الحنابلة ، ومن هنا جاءت محنته من أتباعه .يقول ابن الجوزى فى أحداث عام 461 وفـي ربيـع الآخـر: ( جـرت فتنـة لأجـل أبـي الوفـاء بـن عقيـل . وكـان أصحابنا قد نقموا عليه تردده إلى أبـي علـي بـن الوليـد لأجـل أشيـاء كـان يقولها ، وكان في ابن عقيل فيه فطنه وذكاء فأحب الاطلاع على كل مذهب. ) بقصد الردّ عليهم طبعا ، ولكن هذا لم يعجب عوام الحنابلة وأئمتهم . ولأن أستاذهم أبا الوفاء زار شخصا ( مشبوها ) عند الحنابلة ، أو كما يقول عنهم ابن ( الجوزى ) ( أصحابنا ) فكانت محنة أبى الوفاء بن عقيل، و فيها لم تشفع لابن عقيل زعامته أو سنّه وشيخوخته . إذ يكفى كما قال ابن الجوزى هذا الفعل الشنيع : ( وكـان أصحابنا قد نقموا عليه تردده إلى أبـي علـي بـن الوليـد لأجـل أشيـاء كـان يقولها )، وبعد اربع سنوات انتهى الأمر عام 465 ، إذ أعلن أبو الوفاء بن عقيل توبته فصالحه الحنابلة أتباعه .! يقول ابن الجوزى : ( ثم دخلت سنة خمس وستين وأربعمائة.. فمن الحوادث فيها أنه يوم الحادي عشر من محرم حضر أبو الوفاء ابن عقيل الديوان ومعه جماعـة مـن الحنابلـة واصطلحوا . ) وكتب ابن عقيل توبته : ( بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم. يقـول علـي بـن عقيـل بن محمد: إني أب">الفصل الرابع : الحنابلة وإضطهاد أهل الكتاب
مقدمة
1 ـ : سبقت الاشارة الى حُسن معاملة الخلفاء العباسيين لأهل الكتاب فى العصر العباسى الأول ، خصوصا المأمون والمعتصم ، وأنّ الخليفة المتوكل الذى بدأ به العصر العباسى الثانى هو الذى ارسى دين الحنابلة وبدأ نشره وتطبيق معالمه، وكان منها إضطهاد أهل الذمة وإلزامهم بلبس معين للتحقير ، مما أدى الى إسلام الكثيرين ( أو دخولهم فى الدين الحنبلى الذى يرفع شعار الاسلام ) ، هربا من الاضطهاد وأملا فى الاحنفاظ بوظائفهم ، وأصبح أولئك ومن جاء بعدهم ( حنابلة ) يمارسون إضطهاد أهل الكتاب على أنه شعيرة دينية . وقلنا إن العوام من المسلمين دخلوا فى الحنبلية افواجا ، وتبوءوا بها موقع الصدارة والتاثير ، سواء من أصبح منهم من أهل الفقه والحديث ( بمجرد تأليف وتدوين وحفظ وإستظهار الأكاذيب المنسوبة للنبى عليه السلام ) أو بقيادة الغوغاء والرعاع فى الشارع باسم الحنبلية ، حيث تضاءلت الفوارق بين قطاع الطرق ( العيارين ) وجماعات الحنابلة .
2 ـ ونعطى نماذج لما تعرض له أهل الكتاب من إضطهاد فى العصر العباسى الثانى ، من عوام الحنابلة ومن السلطة العباسية .
أولا : فى عصر تحكم القادة الأتراك : ( 232 : 320 )
1 ـ فى خلافة المعتمد ، وفى عام 271 ( وثب العامة على النصارى ، وخربوا الدير العتيق الذي وراء نهر عيسى ، وانتهبوا كل ما كان فيه من متاع ، وقلعوا الأبواب والخشب ، وهدموا بعض حيطانه وسقوفه ، ونبشوا الموتى. ) هنا سلب ونهب إمتد الى نبش قبور الموتى . وتدخلت السلطة العباسية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه : ( فصار إليهم الحسين بن إسماعيل صاحب شرطة بغداد من قبل محمد بن طاهر ، فمنعهم من هدم ما بقي منه . ..والعامة تجتمع في تلك الأيام حتى كاد يكون بينهم قتال . ثم بنى ما كانت العامة هدمته . ) هنا نرى سطوة عوام الحنابلة فى عصر تسلط القواد الأتراك على الخلفاء العباسيين .
2ـ وأشتعل غضب الحنابلة فى العام التالى 272 عندما رأوا بعض أهل الكتاب يركبون الدواب خلافا للسُّنة الحنبلية التى أرساهل المتوكل ، فاستأنفوا هدم وسلب نفس البيعة ، يقول ابن الجوزى باسلوب التبرير : ( .. أن العامة تجمعوا في ربيع الأخر، فهدموا ما كان بني من البيعة التي ذكرنا خرابهم إياها في السنة الخالية ، وانتهبوا مالًا عظيمًا منها ، لأنهم أنكروا عليهم ركوب الدواب .) . ابن الجوزى هنا ـ كالعهد به ـ يذكر ( أن العامة ) ولا يقول الحنابلة ..ويبرر الجريمة بأن العوام أنكروا على الضحايا ركوب الدواب ، وهو مُحرّم عليهم فى الدين السُّنى الحنبلى .
3ـ وإسترد الخليفة المعتضد العباسى بعض النفوذ واستخدمه فى فرض هيبته على القادة الأتراك ، ولكن غضب العوام الحنابلة كان فوق هيبة المعتضد المشهور بقسوته المفرطة . وحدث عام 284 أنه ( أخذ نصراني فشهد عليه أنه قد شتم النبي صلى الله عليه وسلم ) أى تم إتهامه بشهادة بعض الحنابلة بهذه التهمة فحبسوه ، وثار العوام الحنابلة يطالبون بقتله بلا محاكمة ، يقول ابن الجوزى عن هذا المتهم : ( فحُبس،) وتجمعت مظاهرات الحنابلة تطالب بقتل المتهم : ( ثم اجتمع من الغد العوام بسبب النصراني، فصاحوا بالقاسم بن عبيد الله ، وطالبوه بإقامة الحد على النصراني .) ولم تستجب لهم السلطة العباسية ، فنظّم الحنابلة مظاهرة شعبية إتّجهت مباشرة الى قصر الخلافة ، يصف ابن الجوزى وقائع ما حدث ، يقول : ( فلما كان يوم الأحد لثلاث عشرة بقيت من الشهر اجتمع أهل باب الطاق وما يليها من الأسواق ن ومضوا إلى دار السلطان ن فلقيهم أبو الحسين بن الوزير ، فصاحوا به ، فأعلمهم أنه قد أنهى خبره إلى المعتضد ، فكذّبوه ، وأسمعوه ما كره ، ووثبوا بأعوانه حتى هربوا منهم، ومضوا إلى دار المعتضد ، فدخلوا من الباب الأول والثاني فمُنعوا ، فوثبوا على من منعهم ، فخرج إليهم من سألهم عن خبرهم فأخبروه ، فكتب به إلى المعتضد ، فأدخل إليه جماعة منهم ، وسألهم عن الخبر ، فذكر له ، فأرسل إلى يوسف القاضي ، لينظر في الأمور ، فمضى معهم الرسول إلى القاضي، فكادوا يقتلونه ويقتلون القاضي من كثرة الزحام ، حتى دخل القاضي بابًا وأغلق دونهم . ) . لا يمكن أن يقوم العوام الحنابلة بهذه المظاهرات بلا قيادة وتدبير ، ولا يمكن أن يكونوا بهذه الجُرأة على المعتصد بكل هيبته وعنفوانه إلا لأنهم يقومون بالمزايدة عليه فى الدين الحنبلى ، الدين الرسمى للدولة ، والذى أصبح للعوام فيه حق المشاركة فى السُّلطة بمجرد المزايدة على السلطان . وهو درس ـ لو تعلمون ـ عظيم .!
4ـ وتعلم هذا الدرس إبن الخليفة المعتضد الذى تولى الخلافة طفلا تحت رعاية وسيطرة أمّه ( شغب ) ، وهو الخليفة المقتدر العباسى . كان أهم طبيبين له هما سنان بن ثابت وبختيشوع بن يحيى ، ولكنه فى مواجهة العوام الحنابلة كان يُزايد عليهم فى التعصب ضد أهل الكتاب ، لذا أصدر عام 296 ، مرسوما منعهم من التوظيف وألزمهم بلبس زى التحقير ، يقول ابن الجوزى : ( وفي هذه السنة أمر المقتدر أن لا يستعان بأحد من اليهود والنصارى فألزموا بيوتهم وأخذوا بلبس العسلي والرقاع من خلف ومن قدام وأن تكون ركبهم خشبًا .) . هذا ، مع أنه كان يستعين بطبيبين نصرانيين فى قصره.
ثانيا : فى عصر تحكم بنى بويه ( 334 : 447 )
1 ـ يتميز هنا عصر الخليفة القادر ( 381 : 422 ) الذى أحيا التعصب الحنبلى وإستخدمه فى القضاء على المعتزلة ومحاربة التشيع ، وكان طبيعيا أن يشمل أهل الكتاب بنقمته . يقول ابن الجوزى فى أحداث عام 392 : ( فمن الحوادث فيها: أن العوام ثاروا في يوم الإثنين سابع ربيع الآخر بالنصارى ، فنهبوا البيعة بقطيعة الدقيق ، وأحرقوها ، فسقطت على جماعة من المسلمين رجالًا وصبيانًا ونساء فهلكوا..). هنا مظاهرة حنبلية قامت بنهب وإحراق ( بيعة ) أى كنيسة . وقد تجمعوا حولها بينما هرب المسيحيون للنجاة بأنفسهم من أسلحة الغوغاء . وبسبب الهرج والمرج وتقاطر الرعاع من كل حدب وصوب والتنافس فى النهب والسلب وسط الحرائق سقطت حيطان الكنيسة وسقفها ( على جماعة من المسلمين رجالًا وصبيانًا ونساء فهلكوا..). هذا ما يقوله ابن الجوزى ، ولو أنصف لقال إنها سقطت على جماعة من الحنابلة القائمين بالسلب والنهب رجالا ونساءا .
2 ـ وفى خلافة القادر أيضا وفي شوال عام 403 ثارت فتنة أخرى . كان لأحد المتنفذين الأتراك وهو ( المناصح أبو الهيجاء ) كاتب مسيحى وهو أبو نصر بن اسرائيل ، وصارت له مكانة بسبب عمله مع سيده أبى الهيجاء . وقد توفيت زوجة هذا الكاتب ، فأقيم لها مشهد عزاء طبقا للتقاليد المرعية لدى الطائفة المسيحية ، وسارت الجنازة فى حراسة وحماية (غلمان ) أو جنود ومماليك أبى الهيجاء ، فإعترض عليها أحد الحنابلة ممّن ينتمى للهاشميين فاشتبك فى عراك مع من يحرس الجنازة ويحميها من غلمان المناصح أبى الهيجاء . ولأن هذا ( الغلام ) جندى عسكرى لا يعرف التفاهم ، وربما لا يعرف اللغة العربية أصلا ، فقد ضرب الشريف الحنبلى المعترض واسال دمه ، فكانت الثورة والفتنة التى دفع ثمنها المسيحيون الآخرون بلا ذنب إقترفوه . يقول ابن الجوزى يحكى الموضوع من وجهة نظره : ( توفيت بنت أبي نوح الأهوازي الطبيب زوجة أبي نصر بن إسرائيل كاتب المناصح أبي الهيجاء، فأخرجت جنازتها نهارًا ، ومعها النوائح والطبول والزمور والرهبان والصلبان والشموع )، هنا يضع ابن الجوزى بين السطور مبررات الثورة على الجنازة ، وهى أنهم أخرجوها ( نهارا ) أى كان يجب إخراجها ليلا ، كما لو كانت جريمة أو عارا يجب إخفاؤه ، ومعها ( ومعها النوائح والطبول والزمور والرهبان والصلبان والشموع ) . وبهذا يكون طبيعيا أن يعترض عليها الحنابلة ،وأن يرجم الجنازة : ( فقام رجل من الهاشميين فأنكر ذلك ، ورجم الجنازة ، ) ، أى بدأ بالهجوم ورجم الجنازة والمشيعين لها دون ان يأبه بالحراس الذين تسير الجنازة فى حمايتهم ، لذا قام جندى من الغلمان بواجبه :( فوثب أحد غلمان المناصح بالهاشمي فضربه بدبوس على رأسه فشجه، فسال دمه . ). لا شأن للنصارى بما حدث ، ولكنهم يعرفون أنهم الذين سيدفعون الثمن ، فكان لا بد أن يفروا بها خوفا على حياتهم . ولكن هذا الفرار خوفا وهلعا ليس مسموحا به ، فلا بد من الاستسلام للعقاب ، يقول ابن الجوزى : ( وهرب النصارى بالجنازة إلى بيعة دار الروم ، فتبعهم المسلمون، ونهبوا البيعة وأكثر دور النصارى المجاورة لها . ) وهرب صاحب الجنازة الى بيته فطاردوه، فهرب منهم مستخفيا الى قصر سيده التركى يحتمى به : ( وعاد ابن إسرائيل إلى داره فهجموا عليه ، فهرب منهم ، وأخرج ابن إسرائيل مستخفيًا حتى أوصل إلى دار المناصح . ) . نسى العوام الجندى أو ( الغلام ) الذى ضرب الشريف وشجّ رأسه ، وتعلقت همتهم بصاحب الجنازة يريدون تسليمه ، وإشتعلت المظاهرات ، وتصدى لها الغلمان أو الحراس المسلحون التابعون للأمير التركى ، وزايدوا علي جنود الخلافة ـ كالعادة ـ برفع المصاحف وغلق أباب المساجد ، ووصلت مظاهراتهم للخليفة القادر الحنبلى يزايدون عليه ، فزايد عليهم ، وأمر القائد التركى بتسليم النصرانى المظلوم الذى إستجار به خوف القتل ، ورفض القائد التركى ، فهدّد الخليفة القادر بمغادرة بغداد ، وقام باصلاح اليخت أو المركب الخاص به ، أو ( الطيار كما كان يُطلق عليه وقتئذ ) . وتفاقم الأمر وتدخل العسكر التركى لحفظ الأمن ، فقتلوا رجلا حنبليا فانتقم الحنابلة ـ كالعادة ـ بقتل قوم من النصارى ، ثم انتهى بتسليم النصرانى ابن اسرائيل الى دار الخلافة لتهدئة الحنابلة ، وبفرض نفس العقوبة على أهل الكتاب . يقول ابن الجوزى :( وثارت الفتنة بين العامة وغلمان المناصح ، وزادت ،ورفعت المصاحف في الأسواق ، وغلقت أبواب المساجد. وقصد الناس دار الخليفة على سبيل الاستنفار. وركب ذو النجادين أبو غالب إلى دار المناصح فأقام بها. ووردت رسالة الخليفة إلى المناصح بإنكار ما جرى وتعظيم الأمر فيه وبالتماس ابن إسرائيل وتسليمه . فامتنع المناصح من ذلك ، فغاظ الخليفة امتناعه ، وتقدم بإصلاح الطيار للخروج عن البلد وجمع الهاشميين إلى داره. واجتمعت العوام في يوم الجمعة وقصدوا دار المناصح ودفع غلمانه فقتل رجل ذكر أنه علوي ، فزادت الشناعة ، وامتنع الناس من صلاة الجمعة . وظفرت العامة بقوم من النصارى فقتلوهم ، وترددت الرسائل إلى المناصح إلى أن بذل حمل ابن إسرائيل إلى دار الخلافة ، فكف العامة عن ذلك ، وألزم أهل الذمة الغيار . ثم أفرج عن ابن إسرائيل في ذي القعدة. ).
3 ـ وقبيل موت الخليفة القادر ، وفي يوم الجمعة لثمان بقين من ربيع الأول عام 422 ، يقول ابن الجوزى عن الصراع بين الحنابلة والشيعة : ( تجددت الفتنة بين السنة والروافض واشتدت ، وكان سبب ذلك الخزلجي الصوفي الملقب بالمذكور . أظهر العزم على الغزو واستأذن السلطان فكتب له منشور من دار الخلافة ...) وينتهى الخبر بهجوم الحنابلة على الشيعة فى الكرخ . وانتهزها الحنابلة فرصة لنهب دور اليهود بزعم أنهم يساعدون الشيعة ، يقول ابن الجوزى : ( .. فنافرهم أهل الكرخ ورموهم وثارت الفتنة ومنعت الصلاة .. ونهبت دور اليهود وخانتاراتهم وطلبوا لأنه قيل عنهم أنهم أعانوا أهل الكرخ. ).
4 ـ وتولى القائم العباسى بعد أبيه القادر عام 422 ، وسار على سُنّة أبيه الحنبلية . وعن آخر رجب عام 429 ، يقول ابن الجوزى إن الخليفة القائم : ( جمع الأشراف والقضاة والشهود والفقهاء والوجوه إلى بيت النوبة ، واستدعى جاثليق النصاري ورأس جالوت اليهود ، وخرج توقيع الخليفة في أمر الغيار (أى لبس أهل الذمة ) وإلزام أهل الذمة إياه . وكـان فـي التوقيـع: " بسـم اللـه الرحمـن الرحيـم، أمـا بعـد فإن الله تعالى بعزته التي لا تحاول وقدرته التي لا تطاول اختار الإسلام دينًا وارتضاه وشرفه وأعلاه وبعث به محمدًا واجتباه وأذل من ناواه...وقد كان الخلفاء الراشدون فرضوا على أهـل الذمـة المعاهديـن حدودًا معقودة على الاستشعار والأخبات والاستكانة والتفرد عن المسلمين ، إعظامًا للإسلام وأهله . ولما تطرق على هذه السنة الإغفال واستمر فيها الإهمال اطرحت هذه الطائفة دواعي الاحتراس وتشبهت بالمسلمين في زيهم ، فرأى أمير المؤمنين الإيعاز إلى جميع أهل الذمة بتغيير اللباس الظاهر مما يعرفون به عند المشاهدة .فليعلم ذلك من رأي أمير المؤمنين " . فقالوا: السمع والطاعة.).! .
5 ـ وفى عام 437 ( ونفر العامة على اليهود ، وأحرقوا الكنيسة العتيقة ونهبوا دور اليهود. ). وفى خلافة القائم إشتهر وزيره ابن المسلمة بحنبليته المتطرفة ، وقد عرضنا له من قبل . وبتوجيهاته يقول ابن الجوزى عن المحتسب أبى منصور السيارى: ( احتسب أبو منصور بن ناصر السياري على أهل الذمة ، وألزمهم لبس الغيارات والعمائم المصبوغات ، وذلك عن أمـر السلطـان ) وتدخلت محظية الخليفة فأنقذتهم : ( فصرفـت ذلـك عنهـم خاتون ومنعت المحتسب.). وبتدبير ابن المسلمة تكوّن تنظيم شعبى حنبلى من العوام يقوده أحد العوام مجهول النسب ، معروف باسمه الأول فقط ، وهو عبد الصمد . وخطّط ابن المسلمة ليعيد أهل الكتاب الى نفس زى التحقير بالضغط على الخليفة القائم ومحظيته . نفهم هذا من خلال ما يقوله ابن الجوزى فـي أحداث شهـر رمضـان 450 :( تجـدد للعـوام المتدينيـن المتسميـن بأصحـاب عبد الصمد إلزام أهل الذمة بلبس الغيار. ) هنا يطلق ابن الجوزى على رعاع وعوام الحنابلة التابعين لعبد الصمد إسم ( العوام المتدينين ) وهم عوام متدينون لأنهم يدينون بدين الحنبلية وتعصبها ، ومن تعصبهم الضغط على السلطة لاتخاذ إجرتءات ضد اهل الكتاب : يقول ابن الجوزى : ( تجـدد للعـوام المتدينيـن المتسميـن بأصحـاب عبد الصمد إلزام أهل الذمة بلبس الغيار. وحضر الديوان رجل هاشمي منهم يعرف بابن سكرة ، فخاطـب رئيـس الرؤسـاء ابـن المسلمـة فـي ذكر ما عليه أهل الذمة من الانبساط . وكلّمه بكلام فيه غلطـة فأغاظـه ، فكتـب إلـى الخليفـة بذلـك، فخـرج مـا قـوى أمـر ابن سكرة . ) .
ثالثا : فى عصر تحكم السلاجقة
1 ـ كانت العادة ـ ولا تزال فى مجتمعات الحنابلة ـ بناء المساجد بالقرب من دور العبادة لأهل الكتاب ، للتشويش عليهم فى تأدية عبادتهم والتحرش بهم . كما كان من السّنة الحنبلية منع أهل الكتاب من تعلية بيوتهم فوق بيوت المسلمين . و فى عام 478 ( خرج توقيع من المقتدي بأمر الله ينقض ما علا من دور بني الحرر اليهود ، وسد أبواب لهم كانت تقابل الجامع ، وأخذ عليهم غض الصوت بقراءة التوراة في منازلهم ، وإظهار الغيار على رؤوسهم . )
2 ـ وواضح أنّ إلزام أهل الكتاب بلباس التحقير كان يتم نسيانه ، ويجرى التذكير به وتنشيطه حسب الظروف ، لذا إتخذه بعض الخلفاء سبيلا لابتزاز أثرياء أهل الكتاب ، نفهم هذا مما يقوله ابن الأثير فى أحداث عام 515 : ( وفيها ألزم السلطان أهل الذمة ببغداد بالغيار، فجرى فيه مراجعات انتهت إلى أن قرر عليهم للسلطان عشرين ألف دينار، وللخليفة أربعة آلاف دينار.)
3 ـ وفى عام 573 ، تعرض أهل الكتاب فى بغداد لمأساة ، بسبب يهود مدينة المدائن . فقد كان هناك مسجد حنبلى داخل حىّ اليهود ، يعلو فيه صوت الأذان والتسبيح على عادة الحنابلة فى طقوسهم المظهرية . وبسبب وجود المسجد بجانب كنيس لليهود وفى وسط تجمع سكنى لليهود كان واضحا قصد الحنابلة التحرش باليهود بتحويل الأذان والتسبيح الى وسائل إزعاج للجيران اليهود وتشويش عليهم فى صلاتهم فى كنيسهم ، فاشتكى بعضهم ، وجاء الرد غليظا من الحنابلة المسيطرين على المسجد ، فحدثت مشادة إستغلها الحنابلة فى المدائن للمجىء الى بغداد لاثارة السلطات ضد يهود المدائن . ويحكى ابن الجوزى الموضوع من وجهة نظره : ( وجاء قوم من أهل المدائن بعد العيد فشكوا من يهود بالمدائن ، وإنه كان لهم مسجد يصلي فيه الجماعة ، ويكثر فيه التأذين ، وهو إلى جانب كنيسة اليهود . فقال بعض اليهود : قد آذيتمونا بكثرة الأذان . فقـال المـؤذن : " مـا نبالـي تأذيتـم أم لا.!. فتناوشـوا ، وجـرت بينهـم خصومة استظهر فيها اليهود ، فجاء المسلمـون يستنفـرون ويستغيثـون ممـا جـرى عليهـم مـن اليهـود إلـى صاحـب المخـزن ( المسئول فى قصر الخلافة فى بغداد ) فأمر بحبس بعضهم، ثـم أطلقهـم . ) وثار الحنابلة ، وكالعادة نظموا مظاهرة يوم الجمعة تزايد فيها على الخليفة وتشوش على صلاة الجمعة فى مسجده حيث الحراسة المشددة : ( فخرجوا يوم الجمعة إلى جامع الخليفة فاستغاثوا قبل الصلاة فخفف الخطيب الخطبة والصلاة فلما فرغ قاموا يستغيثون ) وتدخل جنود الحراسة فضربوا المشاغبين الحنابلة ، فتطورت المظاهرة ودخلت فى طور التدمير لمسجد الخليفة والهتاف ضده والمظايدة عليه بنصرة الاسلام ـ كالعادة ـ ثم كالعادة هاجموا اليهود فى المنطقة ونهبوا دكاكينهم . يحكى ابن الجوزى : ( فخرج جماعة من الجند فضربوهم ومنعوهم من الإستغاثة ، فانهزموا ، فلما رأى العوام ما فُعل بهم غضبوا نصرة للإسلام ، واستغاثوا ، وتكلموا بالكلام السيئ ، وقلعـوا طوابيـق الجامـع ، وضربـوا بهـا الجنـد ، فوقـع الآجـر علـى المنبـر والشبـاك ، ثم خرجوا فنهبوا دكاكين المخلصين لأن أكثرهم يهود . ووقف حاجب الباب بيده سيف مجذوب ليرد العوام ، وحمل عليهم نائبـه ، فرجمـوه. ) ، واشتعلت بغداد ( بفتنة طائفية ) وفيها تم نهب كنائس النصارى ومزقوا التوراة ، فاختفى اليهود هلعا :( وانقلـب البلـد مـن ذلـك وجـاء قـوم إلـى الكنيسـة التـي بدار البساسيري فنهبوها ونقضوا شبابيكهـا وقطعـوا التـوراة وأخرجوها مقطعة الأوراق وما تجاسر يهودي يظهر . ). وكالعادة قام الخليفة القائم يزايد على عوام الحنابلة ، فأمر بهدم كنيس اليهود بالمدائن وتحويله الى مسجد ، ونصب بالقرب منها منصة لتعليق المصلوبين : ( وتقدم أمير المؤمنين بنقـض الكنيسـة التـي بالمدائـن ، وأمـر أن تجعل مسجدًا. ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها أقوام مـن العياريـن...) .
هذا تقريبا ما قاله ابن الأثير : ( وفيها كانت فتنة ببغداد، وسببها أنه حضر قوم من مسلمي المدائن إلى بغداد، فشكوا من يهودها، وقالوا: إنا مسجد نؤذن فيه ونصلي، وهم مجاور الكنيسة، فقال لنا اليهود: قد آذيتمونا بكثرة الآذان، فقال المؤذن: ما نبالي بذلك، فاختصموا، وكانت فتنة استظهر فيها اليهود، فجاء المسلمون يشكون منهم، فأمر ابن العطار، وهو صاحب المخزن، بحبسهم، ثم أخرجوا، فقصدوا جامع القصر، واستغاثوا قبل صلاة الجمعة، فخفف الخطيب الخطبة والصلاة، فعادوا يستغيثون، فأتاهم جماعة من الجند ومنعوهم، فلما رأى العامة ما فعل بهم غضبوا نصرة للإسلام، فاستغاثوا، وقالوا أشياء قبيحة، وقلعوا طوابيق الجامع، ورجموا الجند فهربوا، ثم قصد العامة دكاكين المخلطين، لأن أكثرهم يهود، فنهبوها، وأراد حاجب الباب منعهم، فرجموه فهرب منهم، وانقلب البلد وخربوا الكنيسة التي عند دار البساسيري، وأحرقوا التوراة فاختفى اليهود، وأمر الخليفة أن تنقض الكنيسة التي بالمدائن وتجعل مسجداً ونصب بالرحبة أخشاب ليصلب عليها قوم من المفسدين، فظنها العامة نصبت تخويفاً لهم لأجل ما فعلوا، فعلقوا عليها في الليل جرذاناً ميتة، وأخرج جماعة من الحبس لصوص فصُلبوا عليها.).
أخيرا
هى نفس ملامح ما يُسمى بالفتنة الطائفية التى عرفتها مصر من عهد السادات ، وحتى الآن .
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ..!!