أفريقيا.. يزهد فيها الجيران العرب ويتنافس عليها العالم

في الثلاثاء ٠٣ - أكتوبر - ٢٠١٧ ١٢:٠٠ صباحاً

أفريقيا.. يزهد فيها الجيران العرب ويتنافس عليها العالم

  • يستدعي التقرير الذي طرحته الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية قبل أيام، حول جهودها في دعم الدول الأفريقية بالمساعدات الفنية والتنموية تساؤلا حول مدى قدرة تلك الأنشطة وغيرها على بناء “قوة ذكية” تساعد على عودة مكانة مصر في القارة ولبحث سبل تأمين مصالح البلاد المائية ومواجهة تعنت أديس أبابا في الملف المائي بالحد من تأثيراته السلبية على بقية دول منابع نهر النيل، إضافة إلى مساعي تعزيز الجهود لمكافحة الإرهاب العابر للحدود عبر القارة الأفريقية، وسط تصاعد التنافس الدولي على الاستثمار في مختلف المجالات في القارة الأفريقية، سياسيا وعسكريا واقتصاديا ودينيا.

استفاقة استراتيجية نحو العمق الأفريقي

القاهرة- تعد القارة الأفريقية قبلة رئيسية لمختلف القوى الدولية، من الصين إلى أميركا مرورا بإيران وتركيا، إلى جانب الحضور التقليدي الفرنسي. وفي مقابل التمركز الدولي في أفريقيا، سجّل غياب واضح للحضور العربي في القارة، حتى على مستوى التعاون بين دول شمال أفريقيا ودول بقية القارة.

لكن، في السنوات الأخيرة بدأت تظهر ملامح استفاقة نحو أهمية الجيران الأفارقة وضرورة تحقيق الاختراق الدبلوماسي ومراجعة العقلية التقليدية في النظر إلى التعاون الأفريقي.

وأحسّت مصر هذه الأهمية في أوج أزمتها مع إثيوبيا ودول حوض النيل، خاصة وأن الدول الأفريقية، دول الجنوب والغرب أساسا، أظهرت تماسكا وتعاونا وثيقا بخلاف علاقاتها مع دول شمال القارة، التي تميل تاريخيا وثقافيا وسياسيا نحو منطقة الشرق الأوسط والدول الأوروبية.

موازين القوى التي تغيرت في الشرق الأفريقي دفعت إثيوبيا لفرض خياراتها على القاهرة وتكريس واقع سد النهضة

من هنا، بدأت القاهرة تفكر في بناء “قوة ذكية” تفتح لها أبواب التواصل مع دول أفريقية لمواجهة تهديدات صاعدة مثل سد النهضة الإثيوبي والإرهاب العابر للحدود والتنافس الإقليمي والدولي وحتى مواكبة تغيرات البيئة الأفريقية واحتياجاتها الجديدة.

تغير موازين القوى

إذا كانت القوة الذكية تمزج -عند استخدام الدول لها للدفاع عن مصالحها- بين الأدوات الصلبة؛ العسكرية والاقتصادية، ذات الطابع الجبري، والناعمة؛ القيمية والثقافية، ذات الطابع الإقناعي الطوعي للتأثير في الآخرين، فإن مصر تملك جانبا من أدوات ومقدرات تلك القوة.

وبخلاف امتلاكها لمؤسسة عسكرية تعدّ الأكثر قوة وتماسكا في المنطقة، لا تزال لديها أنشطة أمنية واقتصادية وتنموية ودينية في القارة ورصيد معنوي نتيجة لعوامل تاريخية.

تتجلى أكثر ممارسات القوة الذكية عند النظر لتعزيز الحضور الرئاسي في قمم الاتحاد الأفريقي، والذي أخذ طابعا منتظما في ظل حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي، بعدما تجاوزت القاهرة أزمة تجميد العضوية إثر ثورة 30 يونيو 2013. وكانت مصر إبان الحقبة الناصرية تمكنت من بناء علاقات متينة مع أغلبية الدول الأفريقية.

سد النهضة أثار أزمة بين مصر وإثيوبيا

علاوة على مساعي القاهرة لاحتضان مقر المركز الأفريقي لإعادة الإعمار والبناء للدول الخارجة من النزاعات، والمشاركات الأمنية الصلبة لمصر في بعثات الأمم المتحدة حفظ السلام في أفريقيا أو الأطر الأمنية الإقليمية (القوة الأفريقية الجاهزة أو القدرة الأفريقية للرد الفوري في الأزمات)، بخلاف دور القطاع الخاص المصري في مشروعات التنمية الأفريقية، لكن تلك الجهود المصرية تواجه عوائق داخلية وخارجية تحد من فاعليتها في ممارسة القوة الذكية في أفريقيا.

خارجيا، تتعرض مصر لمنافسات إقليمية من داخل القارة، ومثال ذلك دولة جنوب أفريقيا التي تفوق مواردها مصر، بحكم أنها ثاني أكبر الاقتصادات في القارة بعد نيجيريا التي تركز على صندوق النهضة الأفريقية والتعاون الدولي وتقديم مساعدات تنموية وسياسية بدأت بالجنوب الأفريقي كمجال للنفوذ الحيوي، ثم امتدت في الآونة الأخيرة نحو وسط وشرق القارة، خاصة الصومال وجنوب السودان والتي تمثل بدورها نطاقا متداخلا مع المصالح الأمنية والمائية المصرية.

موازين القوى التي تغيرت في الشرق الأفريقي خلال العقد الأخير، دفعت دولا مثل إثيوبيا لمحاولة فرض خياراتها السياسية والتنموية الإقليمية على القاهرة عبر تكريس واقع سد النهضة.

بل المفارقة أن كمبالا أيضا نافست القاهرة، عندما سعت الأخيرة إلى احتضان مقر المركز الأفريقي لإعادة البناء والإعمار، حتى أن الاتحاد الأفريقي أوصى في العام 2012 بأن على كل من مصر وأوغندا حل نزاعهما وديا بشأن موقع المركز، بما دعا القاهرة إلى انتهاج حل وسط يقضي بأن يكون مقر المركز في القاهرة، بينما فرعه في جينجا بأوغندا.

تكتمل حدة التنافس الأفريقي مع مصر مع تكالب قوى جديدة على أفريقيا مثل الصين وتركيا والهند وإيران عبر المساعدات التنموية والشراكات الاستثمارية وتعزيز النفوذ الصلب من خلال صراع القواعد العسكرية في جيبوتي وإريتريا على البحر الأحمر، جنبا إلى جنب مع سعى هذه القوى لترويج ناعم لنماذجها السياسية والقيمية والثقافية والتنموية، بل والطائفية أحيانا، كما حال المد الشيعي الإيراني في غرب أفريقيا.

في السنوات الأخيرة بدأت تظهر ملامح استفاقة نحو أهمية الجيران الأفارقة وضرورة تحقيق الاختراق الدبلوماسي ومراجعة العقلية التقليدية في النظر إلى التعاون الأفريقي

بموازاة ذلك، ثمة ميزات نسبية تملكها القاهرة مقارنة بهذه القوى المنافسة، لكن بعضها يبدو مفعلا والآخر معطلا والثالث يراوح بين الأمرين لضعف الموارد ومأزق الأداء البيروقراطي المصري.

ورغم ميزة الترانزيت الجيوسياسي للموقع الجغرافي المصري الذي يصل بين تفاعلات أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط، إلا أن ذلك لم يحظ بالتفعيل الذي يستحقه، فلا تزال المبادلات التجارية المصرية مع أفريقيا محدودة، وتصل إلى نحو خمسة مليارات دولار.

تحديد الأولويات

رغم أهمية التحركات الرئاسية المصرية في الملف الأفريقي لاستعادة مكانة القاهرة في القارة، تظل المعضلات قائمة حول كيفية بناء استدامة مؤسسية لا ترتبط فقط بالتوجهات الرئاسية تجاه أفريقيا، وطرح ميز نسبية وتوفير بيئة جاذبة تكفل لهذا البلد تأمين مصالحه الحيوية، والتي بات التنافس عليها متصاعدا سواء من قوى إقليمية أو دولية.

وتواجه الميزة الفنية والخبراتية المصرية التي قد تسهم في إعادة بناء مؤسسات الدول الأفريقية من عقم وتشتت وتداخل في الوظائف وضعف في تحديد الأولويات داخل القارة، وعكس إنشاء الوكالة المصرية للشراكة من أجل التنمية في العام 2013، بدلا من صندوقي التعاون الفني مع أفريقيا والكومنولث والدول الإسلامية، محاولة مصرية لتطوير كفاءة النفقة والتركيز على أولويات مصالحها في البيئة الأفريقية، خاصة مع دول حوض النيل والساحل والصحراء.

جاء ذلك بعد أن انتشرت مساعدات الصندوق الفني للتعاون مع أفريقيا في 44 دولة بالقارة، بما أضعف من فعاليتها، وبالمنطق ذاته تبدو القاهرة في حاجة إلى تقويم مدى فعالية أداء مؤسسات بيروقراطية منتشرة في أفريقيا مثل، السفارات والمكاتب التجارية لإعادة تفعيل دعم أولويات مصالحها، في ضوء محدودية الموارد والأزمة الاقتصادية التي تواجهها البلاد.

توجه السيسي لدول الجوار الأفريقي خطوة مهمة لتحسين التواجد المصري في أفريقيا

وإذا كان تصاعد العامل الديني والتنظيمات الإرهابية في الصراعات الأفريقية يطرح فرصا لمصر، خاصة مع إرسال مؤسسة الأزهر 75 بالمئة من مبعوثيها إلى القارة، إلا أن ذلك يحتاج إلى تطوير أكثر جرأة يتلاءم مع طبيعة البيئة الأفريقية.

كذلك، فإن الرهان على المجتمع المدني في ممارسات القوة الذكية صار عنصرا أساسيا لا يمكن تجاهله في أفريقيا، لكن لا تزال القاهرة تميل إلى الاعتماد في الشأن الأفريقي على أدوات لصيقة بمؤسسات الدولة الرسمية، بسبب معضلات تتعلق بضعف أدوار المجتمع المدني المصري والقيود المطروحة عليه، بخلاف عزوف غالبيته أساسا عن الاهتمام بمصالح مصر في القارة، والتركيز أكثر على قضايا الداخل.

ومارست النخب والقوى السياسية المصرية دبلوماسية شعبية بعد ثورة 25 يناير، إلا أنها لم تملك مقومات الاستدامة والمأسسة، ولم ترتبط ببناء رؤية متكاملة للمسار الثاني للسياسة المصرية تجاه أفريقيا في التعامل مع منظمات المجتمع المدني الأفريقي والأجنبي التي تغلغت أنشطتها في الدول الخارجة من النزاعات في القارة الأفريقية.

وتستند القوة الذكية للدولة في تقييم مساراتها وتحديد أولوياتها بالنسبة للمصالح الوطنية على مراكز فكر ومؤسسات بحثية متطورة.

ولدى مصر مؤسسات أكاديمية وجامعية عديدة عاملة في الشأن الأفريقي، لكنها تعاني ثغرة محورية تتعلق بضعف الدراسات الميدانية التي يمكن أن ترصد عن قرب احتياجات المجتمعات الأفريقية، بالتالي تعزز فاعلية التعاطي المصري مع القارة.

المشكلة تكمن أيضا في مأزق الذهنية المصرية تجاه أفريقيا، فهناك مدركات سلبية بائدة ومختزلة لدى الرأي العام حول القارة، كموطن للفقر والجوع والصراع، دون إدراك أن ثمة دولا مستقرة وأكثر ديمقراطية وتملك اقتصادا متطورا، كما أن الشأن الأفريقي ينظر له في مصر على أنه يخص اهتمام الدولة وأجهزتها، وليس المجتمع ذاته، بما أوجد ضعفا للتفاعل والنقاش حول قضاياها في المجال العام المصري.

اجمالي القراءات 2447