"ليلة القدر" وختم القرآن الكريم في الحرم الشريف بمكة سنة 479 هـ
شهد ابن جبير الحفل المقام في الحرم بمكة بمناسبة ختم القرآن الكريم وسجل ذلك فى رحلته ( رحلة ابن جبير ) في أحداث سنة 479 هـ .
كانت ليلة جمعة "27رمضان"
ويعبر ابن حبير عن تأثره بحضور تلك الليلة في الحرم فيقول "كانت الليلة الغراء والختمة الزهراء ،والهيبة الموقرة الكهلاء والحالة التي تمكن عند الله في القبول والرجاء, وأي حالة توازي شهود ختم القرآن ليلة سبع وعشرين من رمضان خلف المقام الكريم &e; وتجاه البيت العظيم, وإنها لنعمة تتضاءل لها النعم تضاؤل سائر البقاع للحرم" .
وقد بدأ الاستعداد لهذه الليلة قبل ذلك بيومين أو ثلاثة, فأقيمت إزاء حطيم أمام الشافعية خشب عظام بائنة الارتفاع موصول بين كل ثلاث منها بأذرع من الأعواد الوثيقة فاتصل منها صف كاد يمسك نصف الحرم عرضاً ووصلت بالحطيم الأول ثم عرضت بينها ألواح طوال مدت على الأذرع المذكورة , وعلت طبقة منها طبقة أخرى حتى استكملت ثلاث طبقات فكانت الطبقة العليا منها خشبا مستطيلة مغروزة كلها مسامير محددة الاطراف لاصقا بعضها ببعض كظهر السهم , نصب عليها الشمع والطبقتان تحتها ألواح مثقوبة ثقبا متصلا وضعت فيها زجاجات المصابيح ذوات الأنابيب المنبعثة من أسافلها .
وتدلت من جوانب الألواح والخشب ومن جميع الأذرع المذكورة قناديل كبار وصغاروتخللها أشباه الأطباق المبسوطة من الصفر, قد انتظم كل طبق منها ثلاث سلاسل تقلها في الهواء وخرقت كلها ثقبا ووضعت فيها الزجاجات ذوات الأنابيب من أسفل تلك الأطباق الصفرية, لا يزيد منها أنبوب عن الآخر في الحجم , وأوقدت فيها المصابيح فجاءت كأنها موائد ذات أرجل كثيرة تشتعل نوراً .
ووصلت تلك بالحطيم الثاني الذي يقابل الركن الجنوبي من قبة زمزم خشب على الضفة الأولى المذكورة سابقاً واتصلت إلى الركن الجنوبي وأوقد المشعل الذي في رأس القبة وصففت شباكها شمعاً مما يقابل البيت المكرم .
وحف المقام الكريم بمحراب من الأعواد المشرجية المخرمة محفوفة الأعلى بمسامير حديدة الأطراف بنفس الكيفية وقد علاها الشمع, نصب على يمين المقام ويساره شمع كبير الجرم في أتوار "شمع دانات" تناسابها كبراً, وصفت تلك الأتوار "الشمعدانات" على الكراسي التي يصرفها السدنة مطالع عند الإيقاد, وجلل جدار الحجر المكرم كله شمعاً في أتوار من الصفر فجاءت دائرة نور ساطع واحدقت بالحرم المشاعيل وأوقد جميع ما ذكر .
وبعد ذلك الوصف التفصيلي للتجهيزات التي تمت في الحرم بدأ ابن جبير يتحدث عن وقائع الاحتفال بليلة القدر وختم القرآن .
وقد تجمع صبيان مكة وأحدقوا بشرفات الحرم وقد وضعت بيد كل واحد منهم كرة من الخرق المشبعة وقوداً فوضعوها متقدة في رؤوس الشرفات وأخذت كل طائفة منهم ناحية من نواحيها الأربع , وأخذت كل طائفة من الصبيان تتبارى مع الأخرى في سرعة إيقادها فيخيل للناظر أن النار تثب من شرفة إلى شرفة لخفاء أشخاص الصبيان وراء الضوء وفي أثناء عملهم يرفعون أصوات قائلين :"يا رب يا رب" على لسان واحد فيرتج الحرم لأصواتهم !!
فلما تكامل إيقاد الجميع يغشى الأبصار شعاع تلك الأنوار فلا تقع لمحة طرف إلا على نور تشغل حاسة البصرعند استمالة النظرة فيتوهم المتوهم – لهول ما يعانيه من ذلك – إن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء !!
وتقدم قاضي الحرم فصلّى فريضة العشاء الأخيرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة إليها، وسكت أئمة الحرم عن القراءة في تلك الليلة تعظيما لختمة المقام وحضروا متبركين بمشاهدتها .
وكان المقام المطهر قد أخرجوه ووضع في محله الكريم مصلى مستور بقبته التي يصلي الناس خلفها , فختم القاضي بتسليمتين , وقام خطيباً مستقبل المقام والبيت العتيق .
فلم يتمكن من سماع الخطبة أحد بسبب الازدحام وضوضاء العوام . ( فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة التراويح وانفض الجميع ونفوسهم قد استطارت خشوعاً وأعينهم قد سالت دموعا, وشعر الجميع بالقبول من الله وأن تلك الليلة هىّ ليلة القدر . ) ..