يوم الخميس 25 ايلول/سبتمبر انهار احد اكبر مقدمي الخدمات المصرفية في الولايات المتحدة الأمريكية و العالم انه مصرف "WAMU"
قبيل هذا الانهيار بثلاثة اسابيع فقط كما اشار تقرير The Financial Times كان المصرف قد عين مديراً جديداً و نشر بيانات مالية تعكس اداءً ضعيفاً و لكن ليس كارثي للربع الاخير ، إلا ان انهيار هذا البنك الضخم جداً و إن كان بطيء بمقاييس هذه الازمة البنكية فقد جاء كارثياًُ ذلك انه جاء وفق مبدأ سقوط حجارة الدومينو ؛ يكفي ان نعلم ان المودعين سحبوا من البنك 16.7 مليار دولار خلال آخر عشرة ايام فقط! و ماذا يمكن أن يؤدي لانهيار اي بنك في العالم اكثر من ذلك؟
فجأة خسر المستثمرون و حملة الاسهم معاً أسهماً سوقية بلغت قيمتها الاسمية 46.6 مليار دولار! اما في حالات الافلاس السابقة فقد تركت بعض القيم لحملة الاسهم الآن فقد طالت الخسائر الجميع ، فشركة Capital Group لوحدها خسرت 15% من هذه القيمة التي كانت تملكها ، ان ما يجب ان ننتبه إليه هنا أن حملة الاسهم لهذه البنوك يتوزعون على مختلف القطاعات الاقتصادية العالمية فليس هناك قطاع اقتصادي او بنك عالمي غير مستثمر مباشرة او بشكل غير مباشر في البنوك و القطاعات التي ستطالها الازمة مما يعني ان استمرار الازمة سيفضي إلى ان تطال الخسائر كل الفعاليات الاقتصادية في العالم و تضرب اقتصاد العالم كله و تصيبه بخسائر هائلة.
ان ازمة الرهن العقاري هذه التي تعصف بالمصارف الامريكية و تفلسها انعكست ايضاً و بقوة على كبريات شركات التأمين التي تقدم ايضاً خدمات تأمين الودائع للبنوك مثل شركة تأمين الودائع الاتحادية JP-Morgan و التي دفعت 1.9 مليار دولار لتغطية الودائع في هذا البنك لتصبح حاملة لاكبر حزمة قروض يتولاها التأمين و يعدها للبيع ، و استمرار الازمة سيضاعف العبء ليس فقط على البنوك بل وعلى شركات التأمين كذلك ؛ لانها هي الاخرى لن تجد من يشتري هذه القروض المتعثرة التي كان عليها ان تعوضها و بالتالي ستدخل بدورها دائرة مصير الافلاس هي و حملة سندات هذه القروض و الذين ليس لهم في هذه الحالة ان يتوقعوا عودة حصة جيدة من استثماراتهم هذه!
أين يمكن ان تتوقف هذه الكارثة ؟ ان الحديث عن اقتصاد مالي متداخل بهذا المستوى يجعلنا لا نشك لحظة واحدة انها تماماً مثل كرة الثلج التي يزداد حجمها كلما تدحرجت بحيث تبتلع كل ما يمكن ان يواجهها اننا هنا بصدد الحديث عن ازمة تعصف بعصب الحياة الاقتصادية انه الجهاز المصرفي و لذا نحن لسنا ازاء ازمة قطاع بل ازمة الجهاز المالي للولايات المتحدة و بالتالي العالم اننا نتكلم عن القطاع المصرفي و المسؤول عن خلق اكثر من 80% من عرض النقد ، لهذا ليس السؤال الاستنكاري الذي يجب ان يطرح لماذا قدم الرئيس بوش خطته الانقاذية الضخمة هذه بل السؤال لماذا تأخر كل هذا الوقت رغم ان مؤشرات هذه الكارثة بدأت منذ شهور سابقة؟!!!!!
ان انهيار WAMU اسهم به و بدرجة كبيرة تغاضي الخزينة الامريكية عن دعم بنك Lehman Brothers الضخم الذي سبقه بالسقوط ، فليس من المنطق ان يقف عامل الانقاذ منتظراً المزيد من الانهيار قبل ان يتدخل لانقاذ ما يمكن انقاذه ، فإذا كانت هذه الاستراتيجية تقوم على الانتظار لتغطية الوارث بمعنى حصاد الاصول لهذه البنوك بقيمة الاصول بعد افلاسها فهو ليس فقط سيهدر بقية مطلوبات هذه البنوك بل و سيسهم في انهيار البناء الاقتصادي بالكامل و حدوث ضمور هائل في القيم السوقية لمختلف الفعاليات المالية و الاقتصادية.
إلتقط المستثمرون في ول ستريت انفاسهم بعد اعلان الرئيس جورج دبليو بوش عن خطة الانقاذ التي وصلت تكلفتها إلى اكثر من 700 مليار دولار و التي اعادت المعنويات إلى حملة الاسهم المرعوبين حول العالم ، خصوصاً بعد الانهيارات الانسحابية التي بدأت تشهدها الاسواق المالية في آسيا و اوربا كانعكاس للازمة في الولايات المتحدة في وقت سابق ، لا توجد مؤسسة مالية حول العالم لا تملك سندات و اسهم متعلقة بدرجة ما بالشركات المعنية بالازمة و بالتالي فانها عرضة لمواجهة الازمة و لتحمل خسائر تنعكس على ادائها في اوطانها ، اول بوادر التأزم في مالية هؤلاء هو تجميد استعمال تلك الاسهم كضمانات مالية ؛ إن سهم شركة ما تواجه افلاساً محتملاً بالتأكيد لا يصلح كضمان مالي في اي من المعاملات!
ربما ليس مستغرباً ان يحاول رئيس اتحاد البنوك العربية التطمين بالزعم بأن الازمة لن تؤثر على بنوكنا و ان معظم استثماراتها تتجه للداخل، لكنه لا يستطيع ان ينكر انه لا يكاد يوجد بنك واحد في عالمنا العربي لا يدير محفظة اوراق مالية في الاسواق الامريكية او ليس لديه ودائع في النظام المصرفي الامريكي تقتضيها طبيعة النشاط المصرفي العالمي لتسيير معاملاته ، إلى اي مدى بنوكنا خارج الازمة ؟ ربما يجيبنا على ذلك اتجاه اسعار اسهم البنوك العربية كلها إلى التراجع ساحبة معها اسواقنا المالية كما اشارت CNN "تراجعت أسواق المال العربية إلى قيعان جديدة ، وخاصة في الخليج، الذي شهدت مؤشراته سيطرة كاملة للون الأحمر، وسط خسائر قاسية سيطرت على قطاعي "العقارات" و"البنوك" في مختلف الأسواق، وذلك مع استمرار القلق حول مصير بعض النشاطات الاستثمارية التي تجمع هذين القطاعين في عدة دول بالمنطقة"، و يجيبنا عليه ايضاً كنتاج للازمة سحب الكثير من الصناديق الاستثمارية الاجنبية اموالها من اسواقنا المالية اما لمواجهة الازمة هناك او تحسبنا لما هو اسوء ربما بدأ هذا السحب لكن لو توسع بتوسع الازمة سيسبب كارثة لاسواقنا المالية التي تحاول المستحيل لتتوازن، اذن الاقتصاد العالمي يعمل وفق نظرية الاواني المستطرقة و لا يوجد اقتصاد خارج العالم.
بطبيعة الحال انعكست هذه الانهيارات البنكية بقوة على ول ستريت اننا هنا نتكلم عن خسائر في السوق قد تصل إلى ألف مليار دولار و تتجاوز ذلك ايضاً ، ان بعض المحللين في الولايات المتحدة مثل جيمس بوليتي يعتبرون الحكومة الامريكية مطالبة ببذل الطاقة القصوى لانقاذ الرأسمالية العالمية ، انه يذكرني هنا بما سبق و روج له الشيوعيون السوفيت عندما اعتبروا ان ازمة الكساد العظيم مطلع الربع الثاني من القرن العشرين سقوط نهائي للرأسمالية ، و بغض النظر عن مدى فعالية الرؤية الكنزية في تخليص اقتصاد السوق من تلك الازمة او ما احدثته هذه الرؤية الجديدة من تغير هائل في طبيعة النظام و آليات عمله إلا ان ما يهمنا هو ان هذا النظام امتلك من المرونة في الرؤية و آلية العمل ما اهله في حينها لادارة الازمة بفعالية كبيرة و تجاوزها نحو ميلاد نظام نسميه مختلطاً في علم الاقتصاد اكثر ملاءمة و تطوراً و مرونة ، على العكس تماماً من الرؤية المنطلقة من تابوهات و مسلمات عقائدية ادت بالنظام الشيوعي الذي يفترض انه نتاج رؤية ديناميكية ترى ان الثابت هو التغيير إلى الانهيار التام و المفاجئ على طريقة الجلطة الدماغية القاتلة!
إذن فإن الخروج من الازمة الحالية ربما تتيحه مرة اخرى المرونة العالية للنظام الاقتصادي الامريكي بل و تدفعه نحو هيكلة تجعله اكثر ملاءمة و فعالية ، مرة اخرى بعيداً عن الرؤية النمطية الكلاسيكية للرأسمالية السمثية (نسبة لآدم سميث الأب الروحي للاقتصاد الرأسمالي) و أكثر قرباً تعظيم دور الدولة و اجهزتها.
لكن قبل ان ننتقل إلى آثار الازمة على عالمنا العربي و كذلك الحلول المحتمل ان تنتهجها الحكومة الامريكية عبر خطة الانقاذ القادمة و الاضخم في التاريخ الانساني و الدروس الناجمة عن هذه الازمة لا بد اولاً ان نقف على حقيقة ازمة الرهن العقاري هذه و كيف تسببت بهذه الكارثة؟ و نفهم المزيد حول ما المحتمل حدوثه لو ان الحكومة الامريكية قررت ان تقف موقف المتفرج و تترك الاقتصاد يعمل لوحده وفق مبدأ الرأسمالية الكلاسيكية "دعه يعمل دعه يمر ، و السوق يصحح نفسه بنفسه" هذا ما سنبدأ بمناقشته في الجزء القادم من هذا التقرير.
يتبع