أثار المقال السابق عن (الصيام فى تشريع القرآن ـ 1 ـ ) ردود أفعال صاخبة فى موقعنا (أهل القرآن ) استدعت أن اكتب هذا المقال للتوضيح .
تركز النقاش حول قوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) وما قلته من أن الذى يطيق الصوم يعنى يستطيع الصوم ويقدر عليه ولكن يعانى من مشقته فله أن يفطر وأن يدفع فدية طعام مسكين ، وهو نفس ما جاء فى الاية الكريمة (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) ، وهذا يخالف المعنى السائد وهو (من لا يطيقون الصيام فقط هم الذين لهم رخصة الفطر ودفع الفدية).
وأرد بتوفيق الله جل وعلا وحمده وعونه.
أولا : معنى ( الذين يطيقونه )
المعنى التراثى
رجعت اليوم الى تفسير ابن كثير متوقعا أن يأتى بما تعلمناه فى الأزهر من خلال تفسير النسفى وغيره بأن معنى ( يطيقونه ) هو ( لا يطيقونه ) أى وجود (لا ) محذوفة . ولكن فوجئت بأن ابن كثير قد أتى بمفاجأة بين ثنايا ركام هائل فى تفسيره ، يقول (وَرُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيّ وَالسُّدِّيّ وَعَطَاء الْخُرَاسَانِيّ مِثْله ثُمَّ بَيَّنَ حُكْم الصِّيَام عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ الْأَمْر فِي اِبْتِدَاء الْإِسْلَام فَقَالَ " فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَر " أَيْ الْمَرِيض وَالْمُسَافِر لَا يَصُومَانِ فِي حَال الْمَرَض وَالسَّفَر لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّة عَلَيْهِمَا بَلْ يُفْطِرَانِ وَيَقْضِيَانِ بِعِدَّةِ ذَلِكَ مِنْ أَيَّام أُخَر. وَأَمَّا الصَّحِيح الْمُقِيم الَّذِي يُطِيق الصِّيَام فَقَدْ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْن الصِّيَام وَبَيْن الْإِطْعَام إِنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ وَأَطْعَمَ عَنْ كُلّ يَوْم مِسْكِينًا ، فَإِنْ أَطْعَمَ أَكْثَر مِنْ مِسْكِين عَنْ كُلّ يَوْم فَهُوَ خَيْر ، وَإِنْ صَامَ فَهُوَ أَفْضَل مِنْ الْإِطْعَام ، قَالَهُ اِبْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَمُجَاهِد وَطَاوُس وَمُقَاتِل بْن حَيَّان وَغَيْرهمْ مِنْ السَّلَف ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِين فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ") . اى يقول إن الصحيح القادر على الصوم إن شاء صام وإن شاء أفطر ودفع الفدية . ثم أكّد بعدها أن معنى يطيقونه أى يتجشمون الصعاب فى صومه(قالَ يَقُول " وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ " أَيْ يَتَجَشَّمُونَهُ )أى هو نفس الذى قلت (يقدرون عليه ولكن بصعوبة ومشقة). .http://quran.al-islam.com/Tafseer/DispTafsser.asp?nType=1&bm=&nSeg=0&l=arb&nSora=2&nAya=184&taf=KATHEER&tashkeel=0
المعنى اللغوى :
وأتى الاستاذ محمد مهند مراد أيهم فى تعليقه بتفسير لغوى ، قال :
(اصل الفعل طاق ,وهو القدرة على التحمل مع عدم الاجهاد (أي ضمن الطاقة الطبيعية .) وبإضافة الهمزة وهي همزة التعدية وهي التي تجعل الفعل اللازم متعديا , ويتغير المعنى تغيرا جزئيا ,كفعل جهد بمعنى بذل الجهد وأما فعل أجهد بمعنى جعله يبذل جهدا مضاعفا فيكون معنى طاق أي تحمل ولكن الفعل أطاق أي جعله يتعدى الحد الطبيعي للطاقة فيرهقه الصوم وبذلك يكون المعنى: أنه على الذين يستطيعون الصوم ولكن هذه الاستطاعة تكون اكبر من الجهد الطبيعي, وبما أنها اتت بعد الترخيص للمريض والمسافر, فيكون المعنى: أن على الذين يكون الصوم أو قضاؤه بعد رمضان يحملهم فوق طاقتهم فدية طعام مسكين : ( وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )
المعنى ( الهندسى )
وفى تعليق آخر جاء الاستاذ محمود دويكات بشرح إستقاه من تخصصه الهندسى ، قال : (في الهندسة الانشائية عندما يتم تصميم عنصر انشائي .. عمود مثلا .. فإن المهندس يحسب كميتين: الاولى اسمها سعة العمود capacity و الثانية قوة أو طاقة العمود strength .. فإذا كانت سعة العمود مثلا 150 طن .. فإن قوته أو طاقته تكون أعلى (180 طن) .. يعني أن العمود إذا تم تحميله بمقدار سعته فإنه لا ينهار و لكن أي زيادة بعدها فإن أداء العنصر يكون في خطر.... أما إن تم تحميله بمقدار طاقته فأنه ينهار عندها ... الفرق بين الطاقة و السعة مقسوما على السعة هي عبارة عن معامل الامان لذلك العنصر... هذا هو الفرق بين السعة و الطاقة .. .. و هكذا نفهم قوله تعالى ( لاَيُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) بقرة/286 و قوله تعالى (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) بقرة/286 .... و بالتالي فإن قوله تعالى عن الذين يطيقونه أن الذين يقدرون على الصوم ولكن بمشقة بالغة قد تعرض حياتهم لخطر أو حرج . .. بمعنى أخر الذين وصل بهم الصيام الى طاقتهم و قدرتهم القصوى....و كما قال الدكتور أحمد .. يترك تقدير ذلك لتقوى الانسان )
والمعنى القرآنى :
قلت فى المقال السابق : (من كان يطيق الصوم ـ أى يقدر عليه ـ ولكن شاء الفطر فعليه أن يدفع فدية (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ). والفقه السّنى يحرّف معنى الآية الكريمة، فيقولون أن معناها أنه على الذين ( لا يطيقون ) الصيام ،أى يقولون بوجود(لا ) النافية ويزعمون أنها محذوفة. وهذا تحريف للقرآن الكريم بأن يزيد فى لغة القرآن الكريم ماليس فيها. ثم أن هذا المعنى المحرف لا يستقيم مع التيسير ، وهو القاعدة فى الصوم، ولا يستقيم مع سياق الآية قبلها حيث أباحت الفطر للمسافر والمريض ثم ألحقت به فطر من يطيق الصوم ويقدر عليه مع دفعه الفدية ، ولا يستقيم مع سياق الآية بعدها حيث يجعل الله تعالى التفضيل لمن يصوم وهو يطيق ـ اى يقدر ـ على الصيام ، كما لا يستقيم مع فهم كلمة (يطيق ) ومشتقاتها التى جاءت ثلاث مرات فى نفس سورة البقرة ، مرة بالاثبات فى موضوع الصوم :(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ )، ومرتين بالنفى : (قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِه) ( البقرة 249 ، 286 ). أى لو كان الله تعالى يريد أن يقول (وعلى الذين لا يطيقونه فدية ) لقالها وأثبت كلمة(لا ) ، ولكنه جل وعلا قال بالاثبات وليس بالنفى ، ليفيد فى معرض التيسير أنه على من يقدرعلى الصوم ويطيق الصوم ولكن يريد الافطار فعليه تقديم فدية طعام مسكين .
• ومفهوم بعدها أنه ـ من باب أولى ـ فالذى لا يستطيع الصوم يمكنه الافطار ودفع الفدية ، فاذا تطوع المفطر فى رمضان بزيادة الفدية فهو خير له ، ولو كان يستطيع الصوم ولكن بمشقة بالغة ولكنه تطوع بقبول مشقة الصوم فهو خير له ، وفى الصوم فائدة على كل حال (وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ).
وأقول أيضا :
1 ـ إن الخلاف ينحصر فى معنى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ) هل تعنى ( الذين يطيقونه ) أو ( الذين لا يطيقونه )؟ أى هل للذى يطيق الصيام ويقدر عليه ولكن بمشقة يمكنه الفطر ودفع فدية تعويضا ؟ أم أنه مفروض عليه الصيام لأن معنى الآية أن الذى (لا ) يطيق الصوم و(لا ) يستطيعه هو فقط المباح له الفطر ، مقابل أن يدفع الفدية؟
الفيصل هنا فى قوله جل وعلا : (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ) (البقرة 286 ).
فالقاعدة القرآنية الحاكمة أن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ، وقد تكررت هذه القاعدة فى قوله تعالى ضمن الوصايا العشر التى تلخص تعاليم الاسلام (لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( الأنعام 152 ) وفى قوله تعالى عن المؤمنين الفائزين بالجنة :(وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)(الأعراف 42 )أى ليس مطلوبا منهم أعمالا خارقة ليدخلوا الجنة ، بل مجرد ما فى وسعهم .وبعد الحديث عن صفات المتقين اصحاب الجنة قال الله سبحانه وتعالى عن حساب الآخرة(وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)(المؤمنون 62). وفى التشريعات الجزئية كالرضاع ، نقرأ قوله تعالى (لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا ) ( البقرة 233 ) وفى تشريع نفقة الزوجة المطلقة أثناء عدتها يقول جل وعلا:(لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا )(الطلاق 7) وقوله تعالى للرسول محمد عليه السلام عن القتال (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ )(النساء 84 ) وعن الاستعداد الحربى للردع وتاكيد السلم (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ) (الأنفال 60).
فما معنى قوله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا ) ؟ معناها فى نفس الآية الكريمة : (رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ). أى يستحيل فى شرع الله تعالى وجود تكليف فوق الطاقة الانسانية ، وفوق التحمل الانسانى وفوق ما يسعه الانسان .
إذن فالذى (لا يطيق الصوم ) ليس مفروضا عليه الصوم أساسا ،وليس مفروضا عليه الفدية وهو خارج الموضوع من البداية . أما الذى ( يطيق )الصوم ويقدرعليه ولكن بمشقة فله رخصة الفطر ، وعليه تقديم الفدية . ولزيادة التوضيح نقرأ قوله تعالى (لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ ) ثم فيما جاء فى المقال السابق عن قاعدة التخفيف والتيسير ورفع الحرج التى هى اساس فى الاسلام وتطبيق تشريعاته.
2 ـ إن للقرآن الكريم أساليب مختلفة فى التعبير ، منها الاسلوب المجازى والتصويرى فى الدعوة والحديث عن الاخرة والترغيب والترهيب ، ومنها الاسلوب التقريرى العلمى المحدد الذى لا مجال فيه للخلاف فى الرأى ، وهو الاسلوب المعتاد فى التشريعات . وفى كل الأحوال فلا يمكن أن يقول الله جل وعلا شيئا بالاثبات ويريد به عكسه وهو النفى . لا يمكن أن يقول :(وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ ) وهو يقصد ( الذين لا يطيقونه ) . ومن يقم باضافة (لا ) فقد ارتكب جريمة التحريف فى كتاب الله جل وعلا.
3 ـ وفى المقال السابق جاء تحليل آيات تشريع الصوم فى رمضان من حيث درجات التشريع الثلاث ؛الأوامر و القواعد والمقاصد ، وقلنا أن الأمر التشريعى بالصوم يخضع للقواعد التشريعية فى التيسير والتخفيف ، ثم يخضع تنفيذ القواعد للتقوى وهى المقصد الأساس والهدف. وأضيف هنا أن تشريع الصوم بالذات جاء مزدانا بقواعد التيسير ،بل سجلها قاعدة صريحة فى قوله جل وعلا (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ).
بل إن تفصيل التيسير كان الأغلب فى تشريع الصوم ، فقد أغفل الله تعالى تعريف الصوم وكيف أنه كان مفروضا على السابقين لأن ذلك كان مفهوما وقت نزول القرآن الكريم فلا حاجة للتعريف به ، ولكن فى تشريع التخفيف والتيسير جاء التفصيل بحيث زادت كلماته على عدد الكلمات التى جاءت سياق الأمر التشريعى و المقصد التشريعى . ولو راجعناها لوجدنا عدد كلمات الأوامر 48 بينما عدد كلمات التيسير 83 . وهذه ظاهرة تستدعى التدبر والاعتبار. كان ممكنا أن يكتفى رب العزة بالآية الأولى فى تشريع الصوم وهى تقرر حقيقتين :أن الصيام مفروض علينا بنفس ماكان مفروضا على من كان قبلنا ، وان المقصد التشريعى من الصيام هو التقوى .. ولكن جاءت التفصيلات بعدها لتؤكد على التيسير ثم لتنصّ عليه بأن الله جل وعلا يريد بنا اليسر ولا يريد العسر. ومن معالم هذا اليسر أن من كان يطيق الصوم ـ أى يتجشم التعب فى الصوم ـ فيمكنه أن يفطر ويدفع الفدية دون أن يقضى ما أفطره كالمسافر والمريض.
ثانيا : الرد على الأسئلة
(ا )
الكاتب الاسلامى الاستاذ ابراهيم دادى كتب أسئلة ، وأنقلها هنا مع الرد على كل منها :
1. إذا كان الله تعالى قد فرض الصيام على المؤمنين لعلهم يتقون،(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ) لعلكم، (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فكيف يترك لهم الخيرة على طاقة الصوم من عدمه؟
أقول : إن الله تعالى قد فرض الصيام على المؤمنين لعلهم يتقون،وقد ترك للمؤمن الخيرة فى الصوم أو الفطر ، وأذا كان متقيا ويتجشم صعوبة فى الصوم فيمكنه أن يفطر ويدفع الفدية ويظل متقيا. المتقون فقط هم أصحاب الجنة ، والمتقون يوم القيامة درجتان : السابقون المقربون الأعلى منزلة ، ثم الأقل منزلة وهم أصحاب اليمين . وبالنسبة لمن يطيق الصوم بصعوبة ومشقة ويصوم فهو من المتقين السابقين، ومن يطيق الصوم بمشقة ويفطر ويدفع الفدية فهو من أصحاب اليمين . وهذا بالطبع إذا حافظ كل منهما على الايمان والعمل الصالح والتزم بالتقوى طيلة حياته .
2. نجد أن المولى تعالى قد عفى وأعطى الخيرة للمريض والمسافر أن يفطر، على أن يقضي أيام فطره في أيام أخر، فهي تعتبر دينا عليه، فلماذا لم يجمع الكل على الطاقة ( الاختيارية) فيفتدي الجميع بإطعام مسكين؟ ما دام الأمر اختياريا، حسب ما يفهم من رأي الدكتور أحمد.
وأقول : يقول تعالى (فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) أى من (اصبح مريضا أو على سفر) ، كان هنا بمعنى أصبح. أى جاء العذر طارئا لمن يصوم واعتاد عليه ولا يجد فيه صعوبة . عليه أن يصوم أياما أخر بعدة ما أفطر. أما الآخر الذى يتجشم المشقة فى الصوم ويطيقه بصعوبة فلا نتصور ان يفطر ثم يقضى ما أفطره ، ولكن يعوض ذلك بالفدية. وفى كل الأحوال فالاختيار قائم للجميع . يمكن من يطيق الصوم بصعوبة أن يصوم ، ويمكن للمسافر والمريض الصوم إذا كان فى وسعهما ، ويمكن للجميع التطوع بالفدية وأضعافها . وهذا ما قاله رب العزة (فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ )
3. كيف يمكن للمسكين المتقي أن يفتدي عدم الصوم بإطعام مسكين؟ هذا إذا كان الصوم اختياريا.؟.
ليس عليه دفع الفدية إذ لا يكلف الله جل وعلا نفسا إلا وسعها ، ولا يكلف نفسا إلا ما آتاها .
4. هل على الذي يطيق الصوم أي يستطيع الصوم، ولا يصوم ويفتدي ذلك بإطعام مسكين، هل يمكنه الرفث إلى نسائه إذا كان هو وزوجه اختارا فدية إطعام المسكين؟
لا تسرى عليه أحكام الصوم ، فيمكنه الرفث الى زوجه نهارا وليلا كيف شاءا .
5. هل يمكن للمطيق بفدية إطعام مسكين، وصوم بعض الأيام من رمضان؟
نعم
6. هل يمكن مثلا أن يطعم مسكينا لمدة 15 عشر يوما، ويصوم ما بقي من رمضان؟
نعم
7. ما حكم مؤمن متق له مرض مزمن، ولا يستطيع صوم شهر رمضان المفروض، ولا أن يقضيه في أيام أخر، فهل يدخل ضمن المطيق للصوم المفتدي بإطعام مسكين، أم له رخصة أخرى وما هي؟
لا يكلف الله جل وعلا نفسا إلا وسعها ، له ان يفطر لعدم الاستطاعة وليس لمجرد المرض الطارىء. وعليه أن يعطى الفدية كالمعتاد .
8. وباختصار شديد كيف كان العرب يفهمون من فعل ( يطيقونه)؟
أى يفعل مع المشقة .
9. هل ثبت تاريخيا أنه في عهد الرسول كان المؤمنون يطيقون الصيام ومع ذلك لا يصومون ويطعمون مسكينا؟
التدوين للسيرة بدأ فى العصر العباسى ،أى بعد موت النبى محمدعليه السلام بنحو قرنين من الزمان ، وركز على ما أسموه بالمغازى ، أى الغزوات ، ولم يهتم برصد الحياة الاجتماعية و الدينية ، وقد تكفلت ببعض ذلك الأحاديث التى تم اختراعها لتقنن للعصر العباسى وثقافته المختلفة والمخالفة لعصر النبوة ، لذا صيغت تلك الأحاديث لتعبر عن العراق وبقية البلاد المفتوحة وليس عن المدينة ، ولتعبر عن القرن الثانى للهجرة وما تلاه وليس زمن النبوة.
10 . يقول المولى تعالى: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(180).آل عمران. فما معنى : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) هل يدخل في ذلك بخلهم لأنفسهم لعدم الصوم مع المقدرة واختيار الفدية؟ ) .
وأقول : قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) لا علاقة له بقوله تعالى (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ). ولقد تحدثت فى موقعنا فى إحدى الحلقات المذاعة المسموعة عن (الحميم ) ، وآلية العذاب التى تحيط ـ أى تطوق ـ أهل النار . فقوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) تشير الى هذه الدائرة الجهنمية التى ستحيط باهل النار ، وكيف تتحول أعمالهم السيئة الى نار تكون ضمن النسيج الجسدى الملتهب فيهم . وقد تكرر مرتين قوله تعالى (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) ( التوبة 49 ، العنكبوت 54 ) وقال جل وعلا فى تقرير حرية الايمان وحرية الكفر ومسئولية الانسان على اختيلاره يوم القيامة (وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا) ( الكهف 29 ) أى فالنار تحيط بهم وتطوقهم .
(ب )
وثارجدل حول معنى كلمة (أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ) .
والمعنى واضح ،فلا يعنى اياما قليلة ، ولكن يعنى أننا نعد شهر رمضان يوما بيوم حتى نكمل عدته ، أو بالتعبير القرآنى عن شهر رمضان (وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ )أى عدد أيامه إن كان الشهر كاملا (30 يوما ) أو ناقصا ( 29 ) طبق الحساب الفلكى للأشهر القمرية.
(ج )
وسؤال آخر من الاستاذ الصنعانى (كنت أريد منكم بمناسبة الصيام حكم المفطر عمداً )
للدين السنى والفقه السنى حكم هنا ما أنزل الله تعالى به من سلطان ، وسنعرض له فى مقال خاص عن الصوم فى الفقه السنى.
ولكن فى الاجابة على السؤال أقول : هنا محل التقوى وموقف كل انسان منها فى حالة الصوم . هناك من يعصى ويفطر عمدا ولا يصلى ولا يلتزم باى فريضة تعبدية. طبقا للتشريع الاسلامى فليست هناك عقوبات على حقوق الله جل وعلا من العبادات والعقائد . حق الله جل وعلا مؤجل الى الله تعالى وحده يوم القيامة حيث الخلود فى الجنة أو الخلود فى النار. ولا يصح لأى سلطة ان تتدخل فى هذا وإلا نازعت الله جل وعلا فى الوهيته وملكوته .ولا يصح لأى سلطة أن ترغم الناس على الصلاة أو الصوم أو الحج أو التبرع للصدقات . ولا يصح لأى سلطة بشرية أن تعاقب أحدا لأنه أفطر فى رمضان أو لأنه لا يصلى أو لايحج ..الخ ..وما يفعله مطوعة السعودية ضلال فى ضلال فى ضلال .
هناك من يفطر ويدفع الفدية ويراعى ربه فى عقيدته وسلوكه ويؤدى العبادات المفروضة بالحد الأدنى . هذا من المتقين (أهل اليمين ) إذا حافظ على ذلك حتى الموت ...
وهناك من يصوم طبقا لما وجدنا عليه آباءنا ، أى يصوم كعادة اجتماعية ، لذا تراه يصوم ولا يصلى ،أو يصلى فى رمضان فقط ، وفى كل الأحوال فالصوم هو الهدف بالنسبة له ،اى لا يصلح شيئا فى سلوكياته إلى أن يموت كما هو ، أى هو صوم بلا تقوى.. أى مجرد جوع وعطش .إذا ظل هكذا الى أن يموت محافظا على سلوكياته السيئة وعقائدة المخالفة للاسلام من تقديس للبشر والحجر فسينطبق عليه قوله تعالى (كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ ) (البقرة 167 ) أى يحبط الله جل وعلا أعماله ( الصالحة ) فلا يبقى له إلا عمله السىء و عقيدته الفاسدة فيدخل النار خالدا مخلدا ،يتحسر على ما قدم من عمل لم ينفع وما هو بخارج من النار. وتأمل قوله تعالى لخاتم الأنبياء (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) ( الزمر 65 )
ثالثا : ( ضياع التقوى وتحول الصوم الى عادة اجتماعية مقدسة ).
1 ـ لقد تحول رمضان ـ بفعل الدين السنى ـ الى مجرد عادة اجتماعية ، ومجرد شهر للجوع والعطش دون أن يفلح هذا الصوم فى ترقية المسلمين خلقيا وقيميا ، والتقوى هى الرقى الخلقى فى التعامل مع الناس واخلاص العقيدة والعبادة لرب الناس جل وعلا. ضاعت التقوى من صيام المسلمين فانتشرت بينهم عبادة الأضرحة وتقديس البشر والحجر والانهماك على المعاصى وسوء الخلق وسفك الدماء البريئة ـ كل ذلك وهم يصومون كل رمضان خلال 14 قرنا . ويتحول شهر رمضان الآن ـ بفضل الارهاب الذى ينتسب زورا الى الاسلام ـ الى شهر دموى، يقوم الارهابيون ( الصائمون ) بقتل الأبرياء عشوائيا ،تقربا الى الله ـ جل وعلا ـ بزعمهم خلال شهر الصيام .
2 ـ الدين السنى بالذات هو المسئول عن ضياع التقوى من الصيام . وهذا يستلزم وقفة .
قلنا هناك درجات ثلاث للتشريع الاسلامى ؛الأوامر و القواعد والمقاصد ، وقلنا أن الأمر التشريعى بالصوم يخضع للقواعد التشريعية فى التيسير والتخفيف ، ثم يخضع تنفيذ القواعد للتقوى وهى المقصد الأساس والهدف . ولكن الدين السّنى تلاعب بها وأورد المسلمين مود التهلكة .
ونعطى أمثلة :
* فى القتال :
جاء تشريع القتال فى سورة البقرة (الايات 190 : 194 )، يقول تعالى فى بدايته : (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) هنا تجد الأمر التشريعى (وَقَاتِلُواْ ) يخضع للقاعدة التشريعية ، وهى أن يكون القتال فى سبيل الله جل وعلا أى أن يكون دفاعا عن النفس ،اى قتالا لمن يبدأ بقتالنا ، وليس اعتداءا على من من لم يعتد علينا ، وتأتى الآية الكريمة تربط الأمر التشريعى سريعا بالقاعدة التشريعية فتقول (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) ثم تأتى التفصيلات فى الآيات التالية ومنها ما يؤكد رد العدوان بالمثل كقوله تعالى (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ )
ثم يأتى المقصد التشريعى وهو الأعلى والحاكم فى التشريع ، وهنا فالمقصد التشريعى من القتال الدفاعى هو منع الفتنة فى الدين ، والفتنة ـ فى التعامل بين البشر ـ تعنى فى مصطلح القرآن الكريم الاكراه فى الدين ،او استعمال القوة لحمل الناس على اتباع عقيدة معينة ، يقول تعالى عن مشركى قريش (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ )( البقرة 217 ). وهذا محرم فى الاسلام (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ) ( البقرة 256 ) ،لأن الهدف هو أن تتوفر الحرية الكاملة لكل انسان ليختار ما يشاء من عقائد ليكون مسئولا عن اختياره الحر يوم القيامة ، وحتى لا تكون له حجة يوم الدين . ولذلك لا بد أن يكون الدين لله تعالى يحكم فيه يوم القيامة بعد أن يكون كل انسان قد اختار بحرية ما يريد ويكون مسئولا عن اختياره. ومن هنا نفهم قوله تعالى فى المقصد التشريعى من القتال ضد المشركين الذين اعتادوا إكراه الناس فى دينهم (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ).
فإن انتهوا عن تسلطهم واعتدائهم فلا مجال لقتالهم (فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) (فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ ) .
وهذا المقصد الخاص فى تشريع القتال (أى منع الفتنة فى الدين ) يؤكده المقصد العام وهو التقوى، لذا تأتى الآيات مذيلة بالتقوى فى التشريع الاسلامى ، ونجدها هنا فى قوله تعالى(فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ).
فماالذى فعله الدين السنى فى درجات التشريع الاسلامى فى القتال ؟
قام بالتركيز على الأوامر وتطرف فيها وأهمل القواعد والمقاصد .
فى موضوع القتال إقتصر على الأمر (وَقَاتِلُواْ) متناسيا قوله تعالى (فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) . وبالتالى أصبح القتال ليس فى سبيل الله ولكن فى سبيل الدنيا باحتلال بلاد الآخرين وارغامهم على دخول الدين وسلب أموالهم واغتصاب نسائهم واسترقاق ذريتهم تحت مصطلحات السبى والغنائم والجهاد ، وهذا ما فعله الصحابة فيما يسمى بالفتوحات (الاسلامية ) حيث قاموا بالاعتداء على من لم يعتد عليهم بحجة (تخييرهم) بين ثلاث (الاسلام أو الجزية أو الحرب ) هو إكراه وبلطجة وابتزاز واعتداء ، والله جل وعلا لا يحب المعتدين. ولهذا انتهت الفتوحات بالتنازع على الغنائم والفتنة الكبرى و الحروب الأهلية؛ ذلك النفق الذى دخله المسلمون ولم يخرجوا منه ، ولن يخرجوا منه الا بابتعادهم عن أديانهم الأرضية التى نشأت لتسوغ ثقافة الاعتداء والفتنة الكبرى.
إغفال قاعدة (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ) تجعل القتال فى الفتوحات العربية قتالا فى سبيل الشيطان ، حيث لا وجود لاحتمال ثالث هنا ،فإما أن تقاتل دفاعا عن النفس فيكون قتالا مشروعا وفى سبيل الله جل وعلا الذى لا يحب الظالمين والمعتدين ، وإما أن يكون للاعتداء على الغير ظلما وعدوانا ، أى فى سبيل الشيطان ، وهذا التحديد الصارم جاء فى قوله تعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ)( النساء 76 ) .
وطبعا لا تسأل عن التقوى هنا .. فقد ضاع أساسها وهو القاعدة .
نفس الحال فى موضوع الحجاب للنساء .
جاء الأمر التشريعى بأنه خمار يغطى الصدر وليس الرأس والوجه والشعر (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ) ( النور 31 )، جاء أمرا ضمن أوامر أخرى فى نفس الآية ، وهى تخضع كلها لقاعدة تشريعية هى التحذير من الاقتراب من الزنا ، وليس مجرد الزنا ( وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ) ( الاسراء 32 ). والعادة أن المقصد الأسمى هو التقوى.
مالذى فعله الدين السنى فى درجات التشريع الاسلامى هنا ؟
قام بالتركيز على الخمار فاصبح ( حجابا ) مخالفا لمعنى كلمة حجاب ومشتقاتها فى القرآن الكريم والتى تعنى العازل أو الستارة ، ثم حوّله الى تدين سطحى مظهرى يغلفه الرياء والتظاهر والنفاق ، والاتهام الضمنى للأخريات بعدم التمسك بالدين. ثم بالغوا فى الحجاب فاصبح نقابا يعبىء المرأة فى كيس تنظر منه الى العالم خلال ثقب أو ثقبين . هذا التطرف فى الأمر بالخمار وتحويله الى نقاب أتاح للمرأة إذا أرادت الزنا أن تفعل ما تشاء دون أن يتعرف عليها أحد . أى أن التطرف فى الأمر أضاع القاعدة التشريعية وأضاع المقصد التشريعى .
بنفس الطريفة تعامل الدين السّنى مع تشريع الصيام
قام بالتركيز على الصيام مع إغفال للقواعد الميسرة للصوم ، ومع تجاهل كامل وتام للتقوى . لذا أصبح الصيام هدفا فى حد ذاته ، فطالما تصوم فلا عليك مهما فعلت . ولأن الصيام شديد التداخل بالحياة الاجتماعية فقد أصبح التمسك به شعيرة اجتماعية مجردة عن التقوى الاسلامية ، ينشأ عليها الطفل المسلم يتعلم الصوم ويؤديه كعادة اجتماعية يتميز بها المسلمون عن غيرهم ، ونمت الى جانبها عادات أخرى من الطعام والشراب و قضاء وقت رمضان ، وتلك العادات الاجتماعية الأخرى قامت عليها حرف ومهن وصناعات ومواسم وعيد لانقضاء شهر الصوم سموه عيد الفطر وزكاة للفطر. أى تأسس صيام آخر متخم بكل شىء عدا التقوى ، ومن الطبيعى بعدها أن ننظر بهلع عندما نعرف قواعد التيسير فى الصيام وأن منها أن الذى يقدر على الصوم ويطيقه بمشقة فله أن يفطر ويدفع فدية طعام مسكين. أصبح النظر الى تلك التيسيرات ضارا (بقدسية) الصيام نفسه الذى أضحى هو الهدف والمقصد ، فالأهم أن تصوم حتى لا تخرج عن إجماع المجتمع الصائم . وزاد من المشكلة تعنت الدين السنى فى عقوبة من يفطر (عمدا ) .. وجاء العصر المملوكى بعد العصر العباسى فأصبح تطبيق الصيام السنى عادة اجتماعية ـ ولا يزال .
ومن الأمثال الشعبية المتداولة في العصر المملوكي : (يا طالب الشر بلا أصل، تعالى للصايم بعد العصر) ( الأبشيهي .المستظرف 37. ) ومعنى ذلك أن الأصل كان الإهتمام بالصيام، إلا أنهم تحملوه مضطرين مقهورين، فكان رمضان – خاصة في نهاية اليوم فيه – مسرحاً للمشاجرات والإنفلات العصبي بحجة الصوم والحرمان – ولا يزال ذلك مرعياً حتى اليوم..
نكرر أن الهدف من الصوم ليس مجرد الحرمان وإنما هو التقوى، فإذا لم تتحقق التقوى لصائم فلا جدوى لصيامه.وبغياب التقوى فقد تحول الصيام السنى إلى عكس ما يهدف إليه الصوم الإسلامي. فرمضان أصبح شهر الأطعمة المشتهاة في الإفطار والسحور وهو شهر تدخر له أطعمة بعينها أصبحت علماً عليه وعلما عليها،وهو شهر يسهر فيه الناس الليل مع ما حرم الله من لهو وصخب وينامون فيه النهار – أو يتكاسلون – لكى يمضي اليوم – النهار – سريعاً ليستقبلوا الليل بملذاته وامتلائه. وهو شهر المشاجرات والمنازعات لأتفه الأسباب – أو بدون أسباب ،ويجد الناس في صومهم حجة للغضب بمبرر وبدون مبرر.. فالدين السنى جعل من الصوم مجرد عادة اجتماعية تتكرر شهراً كل عام ترتبط بذكريات الأكل والسهر وموعد الأفطار والمسحراتي واستقبال الفجر عند الأضرحة، واعتمدوا في ذلك على ما يجتره الإنسان – من ذكريات طفولته في رمضان مع أبيه واخوته وتقاليدهم عند الإفطار وعند السحور وتزاور الأهل والأصحاب .. وأين التقوى في ذلك كله؟ أصبحت في رمضان مجرد سبحة تتراقص بين أصابع التدين السطحى والقلب غافل.
والنساء أكثر اهتماما برمضان – فلأنه أضحى شهر الإمتلاء – فعليهن عبء تجهيز الطعام بأصنافه وشتى مسمياته، والنساء أقدر على تذكر المظاهر الرمضانية الطفولية – ورمضان لا يعني أكثر من تلك الذكريات الاجتماعية..
تقول إحدى الصحفيات عن ذكرياتها في رمضان – ونحن بذلك نؤكد أن رمضان أصبح لدينا فعلا مجرد مناسبة اجتماعية (تناهى إلى أذني صوت دقات الطبلة تتردد أصداؤها في الحي من بعيد، تعالت الدقات مقترنة بصوت المسحراتي المؤثر " يا عباد الله.. وحدوا الله " اضطرب قلبي بمشاعر متناقضة وأنا أذكر أن الليلة هى أولى ليالي شهر رمضان، امتلأت الحجرة المظلمة حولى بالأطياف القادمة من زمن مضى ولن يعود،زمن الطفولة والفوانيس الملونة المضاءة بالشموع، وأغنية وحوي يا وحي ترتفع بها أصواتنا الرفيعة أنا وإخوتي في صحن البيت، وياميش رمضان يملأ جيوبنا ، وصواني الكنافة والقطائف والفطائر في المطبخ ندور حولها ونمد إليها أصابعنا الصغيرة في تلصص لنلعق السكر المعقود من خلف ظهر الوالدة الطيبة،ودوي مدفع الإفطار وصوت الآذان يتردد من فوق مآذن العباسية، والسفرة معدة وصوت الوالد القوي يرتفع بالدعاء، " اللهم إني لك صمت وعلى رزقك أفطرت " وصوت الراديو وهو يتعالى بأغنية يا ألف مرحب يا رمضان ، وروائح البخور تصل إلى أنوفنا من البيوت المجاورة لسبيل أم عباس ، وضحكاتنا المكتومة ونحن – الإخوة الأربعة – نعاكس بعضنا في الخفاء، واجتماعنا بعد الإفطار حول الوالد الجالس فوق سجادة الصلاة وبين يديه المصحف يقرأ القرآن..دقات طبلة المسحراتي كانت وما تزال تملأ أذني وأنا جالسة على مقعدي محدقة في الكلام ، ومع إيقاع الطبلة الرتيب رأيت أطياف الماضي وهى تتلاشى كالدخان واحدا بعد الآخر .. فمع مضى الأيام والسنوات انسحب الوالد من الحياة ولحق به الخال .. وانكسر جمع الأحبة) ( حسن شاه . جريدة مايو عدد 19 السنة الأولى 6 / 7 / 1981. ) .
وكل عام وانتم بخير..